|
|
لغز نشأة اللغة الإنسانية
بقلم: محمد بودهان
(21 ـ 08 ـ 2023) قد تبدو اللغة، في الظاهر، من الأمور المعطاة بشكل بديهي وجاهز، وذلك لأننا نستعملها بيسر وباستمرار طيلة حياتنا، ودون أن نكون قد بذلنا أي جهد (بالنسبة إلى اللغة الأمّ) لاكتسابها وتعلّمها. مما يجعلها من أقرب الأشياء إلينا لأنها لا تفارقنا منذ السنوات الثلاث الأولى من حياتنا، حتى غدا الإنسان يُعرّف بها باعتباره "حيوانا ناطقا"، فضلا على أن أداة استعمالها، كلغة منطوقة، هي اللسان الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد. لكن من جهة أخرى، تكون هذه اللغة الأقرب إلينا هي أبعد الأشياء عنا. وما يُبعدها عنا هو عدم فهمنا للكثير من خباياها وأسرارها، وخصوصا سبب وكيفية ظهورها ونشأتها في البداية. سؤال "كيف" و"لماذا" ظهرت اللغة لدى الإنسان كان موضوع الكثير من المؤلفات والدراسات العلمية، وخصوصا بعد ظهور نظرية التطور الداروينية منذ 1859. ذلك أن هذه النظرية أثبتت، بالنسبة إلى متبنّيها، أن اللغة هي مرحلة في عملية تطوّر الإنسان، وبالتالي فلا بد أن لها بداية "تاريخية". كتاب: "لسان آدم": في 2009 صدر بالولايات المتحدة كتاب للساني "ديريك بيكرتن" Derek Bickerton بعنوان "لسان آدم، كيف صنع الإنسان اللغةَ وكيف صنعت اللغة الإنسانَ" Adam’s tongue – How humans made language, how language made humans. تناول المؤلف في هذا الكتاب، الذي هو موضوع هذه المقالة، إشكالية بداية اللغة الإنسانية من منظور نظرية جديدة، تقدّم "سيناريو" جديدا لما قد يكون وراء ظهور اللغة الأولى الأقدم والأسبق protolanguage منذ حوالي مليوني سنة حسب تقدير الكاتب. "بيكرتن" انطلق من سؤالين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، الأول يتعلّق بالإنسان، وهو: لماذا وكيف ظهرت اللغة عند الإنسان الذي كان نوعا من الرئيسيات primates؟ والثاني يتعلّق بالحيوان، وهو: لماذا لم تظهر اللغة عند الحيوانات التي كانت تنتمي، هي أيضا، إلى صنف الرئيسيات، مثل القردة؟ وبالتالي فإن النظرية التي تدّعي أنها نجحت في تفسير ظهور اللغة عند الإنسان، هي التي يجب، حسب "بيكرتن"، أن تنجح أيضا في تفسير لماذا لم تظهر هذه اللغة عند الحيوان، وإلا كانت خاطئة ومعيبة. أنظمة التواصل لدى الحيوانات: يقرّ "بيكرتن"، كغيره من الباحثين، وكما أثبتت ذلك الملاحظات الميدانية، بوجود "أنظمة للتواصل لدى الحيوانات" animal communication systems. هذه الأنظمة من التواصل غالبا ما تتخذ، لدى الثدييات، شكل أصوات أو صيحات تصدرها تلك الحيوانات، وبأشكال مختلفة حسب الوضعيات التي تدلّ عليها تلك الأصوات. وهي تسمح للحيوانات المنتمية إلى نفس الصنف بنوع من "التفاهم" فيما بينها، حول ما يتعلّق على الخصوص بالتحذير من الكواسر، وبإقامة علاقات جنسية قصد الإنجاب، وبتمتين العلاقات الاجتماعية بين أفراد القطيع... وقد لوحظ، كما يعرض ذلك "بيكرتن"، أن القردة من نوع vervet لا تمتلك، خلافا لغيرها من القردة، صنفا واحدا من الأصوات التي تنبّه بها رفاقها إلى وجود حيوان مفترس يقترب منهم، بل تمتلك ثلاثة أصوات "متخصّصة" في التحذير من النسر، وأخرى من النمر وثالثة من الثعبان. وما يميّز هذه الأنظمة من التواصل الحيواني، هو أنها تتعلق دائما بما هو حاصل "هنا" و"الآن". فالصوت الذي يحذّر من النمر، لا دلالة له خارج "الهروب وتسلّق الشجرة" في تلك اللحظة وفي ذلك المكان. بعيدا عن ذلك المكان وفي وقت آخر، يكون ذلك الصوت التحذيري بلا معنى ولا يثير أية استجابة من طرف جماعة القردة. وهو ما يستتبع أنه لا يمكن "استذكار" ذلك الموضوع غدا وفي مكان آخر، كـ"القول": "ذلك النمر الذي حذرتنا منه البارحة". وهذا عائق كبير يمنع هذه الأنظمة التواصلية أن تكون لغة، لأنها تفتقر إلى خاصية "الإحلال" displacement الحاضرة في اللغة الإنسانية، والتي تجعل الكلمات قادرة على ذِكر موضوع ليس له وجود فيزيقي حاضر هنا والآن، واستحضاره عبر الكلمة الدالة عليه رغم أنه غائب. واضح أن الخطوة الأولى الضرورية للانتقال من هذه الأنظمة التواصلية للحيوانات إلى اللغة الإنسانية هو التحرّر من "سجن" ـ كما يسمّيه "بيكرتن" ـ هنا والآن، باعتماد عنصر الإحلال ضمن هذه الأنظمة. هناك إذن، مرة أخرى، سؤالان: لماذا لم تستطع مختلف الرئيسيات تخطّي حاجز هنا والآن لتمرّ إلى مرحلة الإحلال، تمهيدا لظهور اللغة عندها؟ وما الذي جعل هذا التخطّي ممكنا عند ذلك النوع من الرئيسيات التي ستشكّل النوع الإنساني، ليصبح ظهور اللغة ممكنا كنتيجة لذلك التخطّي؟ الجواب الذي يعطيه "بيكرتن" هو أن تلك الرئيسيات الأولى لم تكن في حاجة إلى اللغة. فكل ما كانت في حاجة إليه للاستمرار في البقاء، والتكاثر، واكتساب قدرات تجعلها أصلح للحياة fitness، هو أنظمتها التواصلية، التي تقوم بدورها أحسن قيام، مما جعل عملية الانتخاب الطبيعي تحافظ عليها ولم تتدخّل لتطويرها أو تغييرها. وفي المقابل، فإن ظهور اللغة عند الإنسان، بدءا من الانتقال إلى مرحلة الإحلال، كان حاجة حيوية عليها يتوقّف بقاؤه واستمراه في الوجود، بعد أن لم يعد نظام التواصل السابق ملائما لضمان هذا البقاء وهذا الاستمرار في الوجود. فما هي هذه الحاجة؟ نظرية بناء مجال العيش: هنا تدخل نظرية "بيكرتن" لتفسير كيف انتقل "الإنسان" إلى مرحلة الإحلال الضرورية لوجود لغة إنسانية بدافع حاجة ملحة إلى هذه اللغة. يسمّيها "نظرية بناء مجال العيش" niche construction theory. ومؤدّاها أن كل كائن حي لا يكتفي فقط بالتأثر بالوسط الذي يعيش فيه والتكيّف معه، بل يعمل كذلك، في حدود ما يستطيع، على التأثير فيه وتكييفه مع حاجاته التي يتوقف بقاؤه على إشباعها. هذا التبادل للتأثر والتأثير، والتكيّف والتكييف، بين الكائن الحي والوسط الذي يحيا فيه، هو ما يشكّل عملية بناء مجال العيش لهذا الكائن الحي. ويوضّح "بيكرتن" أن هذا المجال يتكوّن من ثلاثة عناصر: أولا، طبيعة المكان الذي يعيش فيه الكائن الحي (شجرة، نهر، بحر، أرض صحراوية، أرض رطبة، أرض جافة، إلخ...)؛ ثانيا، نوع الطعام الذي يتغذى به (لحم، نبات، الاثنان...)؛ ثالثا، طريقة الحصول على هذا الطعام (قنص، رعي، أكل جثث الحيوانات الميتة ـ جيف...). فمجال العيش، كما يشرحه "بيكرتن"، هو حصيلة التفاعل بين هذه المكونات الثلاثة. وقد أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية الخاصة بتطور الإنسان، أن هذا الأخير، الذي بدأ يشكّل، قبل ملايين السنين، نوعا متميزا عن باقي الرئيسيات التي يشترك معها في الانحدار من نفس الجد، كان يقتات من نبات الأرض وأوراق وثمار الأشجار، كوجبة أساسية لنظامه الغذائي. في حين كان أكله للحم الطرائد الصغيرة التي يقدر على اصطيادها عرضيا وثانويا. هذا المجال للعيش، بالمفهوم الذي شرحه "بيكرتن"، سيتغيّر بتغير في المناخ الذي أدّى، وخصوصا في المناطق الإفريقية التي كان يعيش فيها هذا النوع من الرئيسيات، إلى انحسار في النباتات والأشجار والغابات التي كانت مصدرا لطعامه، والتي تحولت إلى أراضٍ شبه عارية )السافانا( savanna، قليلة الأشجار والنبات. فكان عليه، ليحافظ على بقائه، أن يتكيّف مع هذا الوسط الجديد ببناء مجال جديد للعيش، بعد أن اكتسب المشي منتصبا على قدمين bipedalism، وأصبح قادرا على استعمال الحجارة للحفر والكسر والدفاع (استعمال الحجارة للحفر والكسر شيء موجود إلى اليوم عند أنواع من القردة). وهو ما فرض عليه، تحت الإكراهات الجديدة للمجال الجديد للعيش، تغييرا في نظامه الغذائي لينتقل من نباتي أصلا إلى لاحم اضطرارا، لأن نبات "السافانا" لا يوافق عاداته الغذائية التي اكتسبها منذ ملايين السنين عندما كان يتغذى بأوراق الأشجار وثمارها، فضلا على أن الرعي بحقول "السافانا" يجعل منه فريسة سهلة للحيوانات الأخرى الأقوى منه. يبقى إذن أن الغذاء الوحيد المتاح في "السافانا" هو لحم الحيوانات. لكن ذلك لم يكن سهلا، سواء لأن الطرائد أسرع أو أقوى فلا يمكنه اصطيادها، أو لأنه، في حالة اصطيادها، لا يستطيع الحفاظ عليها أمام حيوانات أخرى أشرس وأقوى تنتزعها منه. لم يبق أمامه إلا حل وحيد، وهو الاقتيات من الجيف scavenger، أي جثث الحيوانات الميتة. لكن حتى الحصول على هذا الغذاء لم يكن سهلا وأمنا، إذ هناك حيوانات أخرى مفترسة تستأثر بطعام جثث الحيوانات الميتة، مما يجعل بقاءه مهدّدا بالفناء والانقراض بسبب الجوع. لكن ربما، كما يشرح "بيكرتن"، إذا كان عدد الأفراد كبيرا، فقد يمكّنهم ذلك من التغلب على الحيوانات المنافسة والمعادية، وإبعادها عن الجثة الميتة. "اللحظة السحرية": لنفترض، كما كتب المؤلف، أن أحد هؤلاء الأفراد عثر على جثة "ماموت" mammoth ضخم ويريد الأكل منه لإطفاء حرقة جوعه كما يفعل أي حيوان جائع. لكن الحيوانات الأخرى، التي لا يقدر على مواجهتها، تحول دون ذلك. فالحل بالنسبة إليه، حتى ينجح في إبعاد تلك الحيوانات المنافسة والمعادية ويأكل من لحم الماموت الميت، هو حشد وتجنيد recruitment عدد أكبر من رفاقه والتوجه بهم إلى مكان الطعام. لكن كيف يمكن، في غياب لغة للتفاهم، تجنيد الآخرين عبر إخبارهم أن هناك طعاما في المكان الفلاني حتى يتوجهوا إليه؟ هذا الفرد قد يحاول إصدار صوت شبيه بصوت الماموت مع الإشارة بيديه في اتجاه مكان وجود الجثة الميتة، كما لو أنه يقول: "هناك ماموت ميت ذو لحم وفير، اتبعوني". قد تنجح المحاولة، ويتبعه رفاقه ليفاجأوا بكومة من اللحم، تطوف حولها حيوانات ما أن ترى أفراد الجماعة تسرع الخطى نحوها وبأحجار في أيديها حتى تبتعد مكرهة وتُخلي لهم المكان. مع نجاح المحاولة لمرات عديدة، سيتحوّل إصدار صوت شيبه بصوت الماموت إلى "دالّ" على وجود لحمه في المكان الذي يقود إليه صاحب الصوت رفاقَه. ومع التكرار الناجح للعملية، فقد لا يعود ذلك الصوت "دالا" على وجود لحم الماموت فقط، بل قد يعني وجود جثة أي حيوان ميت. ومع الممارسة لأمد طويل للتجربة، قد يكتسب أفراد المجموعة النطق بأصوات "متخصصة" مختلفة حسب اختلاف جثث الحيوانات التي تشير إليهم تلك الأصوات. في الظاهر قد لا يبدو في هذه العملية أي تقدّم إلى الأمام في طريق اللغة بالمقارنة مع نظام التواصل لدى الحيوانات. لكن التقدم الكبير، كما يذكّر "بيكرتن"، هو تلك المسافة بين زمان ومكان إصدار الصوت الدال على وجود الجثة الميتة، وزمان ومكان وجودها بالفعل عند وصول أفراد الجماعة إليها. هذا يعني أن الصوت استعمل للدلالة على شيء كان غائبا في تلك اللحظة التي نُطق فيها بذلك الصوت. وهذا هو الإحلال، الذي سبق شرحه، والذي هو شرط ملازم للغة الإنسانية، يجعل استعمال الكلمات للدلالة على أشياء غائبة أمرا ممكنا وسهلا. ولا يهمّ في هذه البداية أن تلك الأصوات، التي يستعملها أفراد المجموعة للدلالة على وجود جثث حيوانات ميتة، تربطها علاقة طبيعية، وليست اعتباطية كما في اللغة، بأصوات الحيوانات الميتة، إذ الأولى تقليد للثانية. فما يهمّ، في هذه البداية، كما يشدّد على ذلك "بيكرتن"، هو التحرّر من "سجن" هنا والآن، وهو ما يفتح الطريق الملكي للسير في اتجاه اللغة. الخلاصة أن اللغة ظهرت كحاجة مرتبطة ببقاء النوع الإنساني، أي بدون تلبيتها كان هذا النوع سيختفي وينقرض. كانت هناك أولا حاجة إلى الغذاء. ثانيا، هذا الغذاء (جثث الحيوانات الميتة carcasses) لا يمكن للفرد الواحد أن يحصل عليه، بل لا بد من تجنيد عدد أكبر من الأفراد. ثالثا، من أجل هذا التجنيد، كان لا بد من استعمال تواصل "يخبر" بوجود غذاء ليس حاضرا هنا والآن. وهذا ما يسميه "بيكرتن" بـاللحظة السحرية" the magic moment. وهكذا دخل الإحلال في التواصل، وهو شرط في أية لغة. لكن الاعتراض هو: لماذا لم يظهر الإحلال عند الرئيسات الأخرى أيضا، حتى تكون النظرية صحيحة علميا، حسب المعيار الذي حدّده "بكرتن" نفسه لصحة أي تفسير لنشأة اللغة؟ يجيب "بيكرتن" بأن تلك الرئيسيات الأخرى لم تكن في حاجة إلى ذلك، لأن مجال عيشها، في الأشجار والغابات، كان مختلفا عن "السافنا" savanna التي كانت تشكّل مجال عيش النوع الإنساني بعد التغيرات المناخية التي عرفها ذلك الجزء من إفريقيا حيث كان يعيش. وهكذا، فالقرد الذي يعثر، مثلا، على وفرة من النبات أو الثمار، ليست له أية مصلحة في أن "يخبر" رفاقه باكتشافه، بل تقتضي هذه المصلحة ألا يَعلم الآخرون بهذا الغذاء حتى يستأثر به هو وحده. هنا تنتفي الحاجة إلى "التجنيد" التي كانت وراء البدايات الأولى لظهور اللغة عند النوع الإنساني. ولماذا لم يتصرّف أفراد هذا النوع كما تصرّف أفراد القردة؟ لأن الذي يكتشف جثة ميتة ـ خلافا لما هو نبات وثمار ـ لا "يخبر" رفاقه بدافع الإيثار وحب الخير لهم، بل لأنه لا يستطيع بمفرده، كما سبق بيان ذلك، الأكل من ذلك الغذاء، مما يجعله معرضا لجوع قد يفتك به لا محالة. فمن مصلحته إذن، حفاظا على حياته من الهلاك، تجنيد رفاقه ليشكّلوا قوة تتغلب على الحيوانات الأخرى، وهو ما يمكّنه من الأكل من ذلك الغذاء الذي اكتشفه هو، وفي ذلك بقاؤه وبقاء جماعته. وهذا التجنيد يتطلّب، كما رأينا، استعمال تواصل جديد "يخبر" بشيء لا يوجد هنا والآن. يعلّق "بيكرتن" أن في هذه البداية لظهور اللغة، كان عدد "الكلمات" أو الإشارات signs محدودا جدا، بل يمكن القول بأنه لم يكن يتعدّى عشر "كلمات"، كما كتب. وكانت هذه "الكلمات" تُستعمل، تماما كما في أنظمة التواصل عند الحيوانات، بمفردها لتدلّ على وضعية ما في كليتها holistic، مثل أن تعني "الكلمة": "هناك وراء التلّ لحم كثير، اتبعوني"، "اجمعوا الحجارة لمواجهة الضباع"... ففي هذه المرحلة لم يكن هناك تركيب بين الكلمات لإنتاج جمل ذات معنى، إذ كانت "الكلمات" تُستعمل مستقلة دون رابط بينها. وهذا ما يسمّيه "بيكرتن" باللغة الأولى والأقدم والأسبق protolanguage، والتي من المحتمل أن تكون قد دامت حوالي مليون سنة، حسب تقدير "بيكرتن"، قبل الانتقال إلى لغة حقيقية تستعمل جملا حقيقية. لكن الأهم، كما أوضح، ليس هو عدد هذه "الكلمات"، بل الإمكانية الهائلة التي يتيحها الإحلال (عدم الارتباط بهنا والآن) لخلق "كلمات" جديدة، وخصوصا أن اللغة، كما يقول الكاتب، تتوفر على خاصية النمو الذاتي autocatalyctic. نقد "بيكرتن" لنظريات حول نشأة اللغة: نعم، قد تبدو اللغة كما لو أنها تقوم على أسس بيولوجية، كما ذهب إلى ذلك تشومسكي وآخرون. فالسرعة والسهولة التي يكتسب بها الأطفال اللغة قد توحيان بأنها مجرد مرحلة ضمن مراحل النمو البيولوجي للطفل. وفي هذا الاتجاه يتحدّث تشومسكي عن وجود "نحو عام فطري" خاص بالنوع الإنساني، هو الذي يفسّر القدرة الفطرية للإنسان على اكتساب اللغة. لكن إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فينبغي لها، حسب معيار "بيكرتن"، أن تفسّر لنا أيضا لماذا لا تمتلك الرئيسيات الأخرى مثل هذا النحو العام الفطري؟ إذا كانت مثل هذه النظريات، التي ترجع اللغة إلى معطى بيولوجي وفطري، عاجزة عن الإجابة عن هذا السؤال، فذلك لأنها تنطلق من واقع اللغة كما هي اليوم، والتي لا شك أن اكتساب الأطفال لها هو استعداد فطري. لكن الإشكالية الحقيقية ليست هي حالة اللغة كما هي اليوم، أو حتى منذ عشرات القرون، بل لماذا وكيف ظهرت بعد أن كانت غير موجودة. فالجينات genes، ليست هي التي تحدّد، وبصفة مطلقة وخطّية، ما سيكون عليه، بعد مئات الآلاف من السنين أو أكثر، سلوكُ behavior الكائنات الحية التي تحمل تلك الجينات. فإذا افترضنا أن هذا السلوك سيكون مطابقا لنفس السلوك لدى نفس النوع من الكائنات منذ مئات آلاف السنين أو أكثر، فكان يجب، كنتيجة لذلك، كما يقول "بيكرتن"، أن تكون كل الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، لم تغادر بعدُ ـ ولا يمكنها ذلك ـ المادة الأولى للحياة primordial soup التي كانت تضم الجينات "التاريخية" الأولى منذ أزيد من ثلاثة مليارات سنة، تاريخ ظهور الحياة على الأرض. فجينات الكائنات الحية لا تختزن إذن مختلف السلوكات التي قد تظهر لدى هذه الكائنات، بعد مئات آلاف من السنين. بل هي تتضمّن فقط إمكانية ظهورها إذا ما توفرت شروط ذلك الظهور، وهي الشروط التي تفضي إليها إكراهات مجال العيش وليس الجينات. وعندما يظهر، نتيجة لهذه الإكراهات، سلوك جديد لدى نوع ما من الكائنات الحية، يكون مفيدا لبقائها وتكاثر نسلها offspring، يتدخّل عامل الانتخاب الطبيعي natural selection، الذي يرمي دائما إلى الإبقاء على العناصر الأصلح للبقاء وتجويدها، للحفاظ على هذا السلوك وتحسينه وتطويره وتكرار ممارسته. ومع مرور السنين (تقدّر بالملايين) سيصبح هذا السلوك "المكتسب" سلوكا فطريا وغريزة تحدّدها وتعيد إنتاجها الجينات، باعتبار «أن الغريزة ـ كما كتب "بيكرتن" ـ هي مجرد سلوك مطبوع في الجينات»genes (page 106) instinct is simply behavior stamped into the ، أو، كما كتب في مكان آخر، أن «الغريزة هي مجرد سلوك متحجّر، سواء تعلق الأمر بالنمل أو بالإنسان» Instinct is just fossilized behavior, regardless of whether we're talking of ants or humans (page 142). وهذا ما مرّت به اللغة الإنسانية في تطوّرها. فإذا كان الفرق بين الإنسان والقرد "الشامبانزي" champanzee، على المستوى الجيني، يقلّ اليوم عن 1.5%، فلا شك أنهما كانا يحملان في البداية، أي قبل أن يتفرّعا إلى نوعين مختلفين، نفس الجينات لانتمائهما إلى نفس النوع. والنتيجة أن اللغة، لو كانت ذات أساس بيولوجي تحدّده الجينات، لظهرت عند القرد كما ظهرت عند الإنسان ما داما أنهما كانا يحملان جينات متماثلة. لكن لما ظهرت اللغة ـ في شكلها البدائي الأول تحت إكراهات مجال العيش الذي كان يحيا فيه النوع الإنساني وهو "السافانا" ـ كسلوك جديد مفيد للبقاء والتكاثر، سيتكلّف الانتخاب الطبيعي بتطويرها وتحسينها وتنميتها وإعادة إنتاجها، وهو ما جعل منها، بعد مئات الآلاف من السنين (أو أزيد من مليون سنة)، نوعا من الاستعداد الفطري يسهّل اكتسابها وتعلّمها. ومن بين انتقادات "بيكرتن" لتشومسكي، ما ذهب إليه هذا الأخير من كون ظهور اللغة كان نتيجة لقدرة الإنسان على التفكير thinking. وبالتالي إذا كان الإنسان "حيوانا ناطقا" فلأنه كان قبل ذلك يفكّر. وهذا ما يرفضه ويدحضه "بيكرتن"، مبيّنا أن هذه النظرية التي تعطي الأولوية للتفكير كسبب لظهور اللغة، إذا كانت تبدو اليوم صحيحة بالنظر إلى أنه لا يمكن فصل استعمال اللغة عن التفكير، فإن ذلك ليس صحيحا البتة قبل ظهور هذه اللغة نفسها. بل كان وجود هذه الأخيرة هو شرط لقيام التفكير. لماذا؟ لأن التفكير يتوقّف على استعمال المفاهيم concepts، وهذه الأخيرة تتوقّف على استعمال الكلمات كحاملة لهذه المفاهيم، وهو ما يفترض مسبقا وجود لغة تستعمل هذه الكلمات. وبهذا يكون تشومسكي، حسب "بيكرتن"، ذا موقف مثالي يعتبر التفكير سابقا عن اللغة وسبب ظهورها، دون تقديم أي دليل على ذلك سوى القول بأنها معطى بيولوجي لكنه لم يبيّن كيف ظهر ذلك عند الإنسان دون غيره من الرئيسيات. أما نظرية "الدماغ الكبير" المفترض لدى الإنسان، والذي كان شرطا، حسب هذه النظرية، لظهور اللغة الإنسانية، فيعتبرها "بيكرتن" مغالطة خصّص لها فقرة بعنوان "مغالطة الدماغ الكبير" The big-brain fallacy. هي مغالطة لأن حجم الدماغ، كما يشرح المؤلف، لم يكن سببا لظهور اللغة بل نتيجة لها. وهذا ما قصده بالعنوان الفرعي لكتابه: "كيف صنع الإنسان اللغة، وكيف صنعت اللغة الإنسان". فإذا كان الإنسان قد صنع اللغة لحاجة حيوية إلى التجنيد، كما رأينا، فأين يتجلّى صنع اللغة للإنسان؟ يتجلّى في تنمية وتحسين وتطوير تفكيره، وهو ما كان وراء كبر حجم دماغه الذي أصبح يحتاج إلى مزيد من الخلايا العصبية neurons التي تتطلبها عمليات التفكير. ويتجلّى كذلك في كل ما أنتجه من فكر وثقافة وحضارة وعمران، ومعتقدات وعلوم واختراعات وسلاح...، وفي كل ما تسبّب فيه من حروب وتلوّث وإنهاك للطبيعة وتدمير لمواردها... فكل هذا ما كان ليوجد لو لم توجد أولا اللغة.
|
|