|
|
العدالة والتنمية، هبة من السماء للنظام المخزني
بقلم: محمد بودهان (16 ـ 10 ـ 2013) ظل النظام المخزني، منذ تشكّله بالمغرب إلى سنة 1912، يعيش تحت حصار القبائل (بلاد السيبة) التي كانت تهدد وجوده، وتحدّ من نفوذه الذي لم يكن يسري إلا على أقل من سدس الأراضي المغربية، كما جاء في الكتاب الاستخباراتي لـ"شارل دو فوكو" Charles De Foucault الذي كتبه سنة 1884 تحت عنوان "استكشاف المغرب" Reconnaissance au Maroc. وقد كان هذا المخزن مضطرا، لضمان استمراه وبقائه، إلى عقد تحالفات، هشة وظرفية، مع جزء من هذه القبائل التي كانت هي عدوه التاريخي اللدود. لكن مع فرض الحماية الفرنسية في 30 مارس 1912 على المغرب، التي رحّب بها النظام المخزني الذي وقّع على شروط هذه الحماية، التي حي حماية له، سيدخل هذا النظام المخزني مرحلة جديدة من تاريخه، إذ ستنشئ له فرنسا دولة حقيقية بمؤسسات حقيقية، وتضمن له، لأول مرة في تاريخه، السيطرة على كامل التراب المغربي بعد أن كان الجزء الأكبر من هذا التراب، قبل 1912، تحت سيطرة القبائل. ورغم الصراعات السياسية التي تلت الاستقلال، والتي كانت بطلتها "الحركة الوطنية" وحزبها (حزب الاستقلال) الذي كان يشكل تهديدا حقيقيا للسلطة المخزنية، إلا أنه مع تولي الحسن الثاني السلطة خلفا لأبيه محمد الخامس ابتداء من 1961، استطاع، بذكائه ودهائه ومكيافيليته، أن ينتصر على الجميع، وبجميع الطرق والوسائل، ويعطي للنظام المخزني ولادة جديدة، بأسس جديدة وشرعية جديدة. وحتى المحاولتان الانقلابيتان في 1971 و1972، أعطيتا دعما جديدا للنظام المخزني، إذ نبّهتا الحسن الثاني إلى ما تشكله مؤسسة الجيش من خطر محتمل على النظام، فسارع إلى تحييد هذه المؤسسة بإلغاء وزارة الدفاع وفسح المجال لرجالات الجيش، حتى لا يهتموا بالسياسة، للاشتغال بالأعمال والتجارة والمال. آخر منجزات الحسن الثاني لتحصين النظام المخزني وتقوية صرحه وأسسه، كانت هي تنصيب حكومة التناوب في أبريل 1998، والتي كانت عنوانا على نهاية المعارضة الحزبية للنظام المخزني، ودخول الجميع تحت خيمته الواسعة، والأكل من خيراته والتمتع بنعمه وعطاياه. سار النظام المخزني في عهد محمد السادس على هذا النهج الذي رسمه الحسن الثاني، باعتماد نفس الطرق والأساليب في تدبير الشأن العام للدولة، مع تغييرات طفيفة في الشكل والمظهر، دون المساس بروح النظام المخزني وجوهره. كانت الثورات الشعبية، التي انطلقت من شمال إفريقيا بتونس في 2010، قبل أن تنتقل إلى أقطار أخرى بالمشرق العربي، وما صاحبها من ظهور لحركة 20 فبراير بالمغرب، أول امتحان عسير يمر به النظام المخزني في عهد محمد السادس. كان امتحانا عسيرا لأن الأمر لا يتعلق بالمعارضة التقليدية التي كانت تصارع القصر من أجل الظفر بنصيبها من السلطة، بل الأمر يتعلق بوجود وشرعية هذه السلطة نفسها، والتي جرفتها الثورات الشعبية بتونس ووضعت حدا لها بشكل فاجأ كل المراقبين والمحللين السياسيين. هذا ما كان يخشاه النظام المخزني بالمغرب. كان يخشى أن تتحول حركة 20 فبراير إلى ثورة شعبية جارفة، لا تهدأ ولا تتوقف إلا بتغيير نظام السلطة على غرار ما حدث بتونس. توفّق النظام المخزني، بفضل ما يتوفر عليه من آليات دفاعية فعّالة وملائمة، من التخفيف من وطأة حركة 20 فبراير، وذلك بخلق نوع من الانتظارية والانشغال بمناقشة مضامين الدستور الموعود به، بعد الإعلان في خطاب 9 مارس 2011 عن اعتزام وضع دستور جديد للمملكة، ظن الجميع أنه سيكون قطيعة مع الدساتير السابقة التي تكرس الاستبداد والحكم الفردي. ما بين 9 مارس وفاتح يوليوز 2011، تاريخ الاستفتاء على الدستور الجديد، كانت العاصفة قد هدأت، و"الخطر" قد تراجع وابتعد، واستعاد المخزن زمام المبادرة والسيطرة على الوضع. وفي 25 نوفمبر 2011، ستجرى الانتخابات التشريعية التي ستعطي النصر الكبير لحزب العدالة والتنمية الإسلامي. وبناء على مقتضيات الدستور الجديد، سيعبّن الملك، في 29 نوفمبر 2011، الأمين العام لهذا الحزب، السيد عبد الإله بنكيران، رئيسا للحكومة، التي ستُنصّب في 3 يناير 2012. وفي الوقت الذي كانت فيه التوقعات تذهب إلى أن العدالة والتنمية، إذا أصبح هو الحزب الحاكم، سيقف عقبة كأداء في طريق المخزن، بسبب ما يعرف به الحزب من رفض للتسلط، ودعوة إلى تطبيق الشريعة، ودفاع عن المحرومين والضعفاء والفقراء، فإذا بهذا الحزب سيثبت، من خلال ممارسته "للسلطة"، أنه المذلل لكل العقبات التي كانت تقف في طريق المخزن منذ خروج حركة 20 فبراير إلى الشارع، وأنه الداعم للتسلط المخزني، والمعادي للحرومين والضعفاء والفقراء الذين لم تزدهم حكومة بنكيران، بما قررته من زيادات في الأسعار، إلا فقرا وضعفا وحرمانا. ففي عهد هذه الحكومة، تمت الزيادة في الأسعار، والزيادة في سجن الصحفيين، والزيادة في ضرب المعطّلين، والزيادة في التطبيع مع إسرائيل، والزيادة في عدد الوزراء... وفي عهدها اعتقل قاصرون بسبب قبلة حب، وصدر العفو على مغتصب الأطفال العراقي صلاح الدين، أو الإسباني دانييل كالفان. عندما نتأمل منجزات ومواقف حكومة بنكيران الأولى، في علاقتها (المنجزات والمواقف) بالنظام المخزني، منذ تنصيبها إلى حين تنصيب الحكومة الثانية في العاشر من أكتوبر 2013، نخلص إلى أن حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة، هو، بالنظر إلى ما يمثّله من دعم وما يقدمه من شرعية للسلطة المخزنية لا يخفيان على أحد ، بمثابة هبة من السماء جاءت خصيصا لإضفاء المزيد من الشرعية والمشروعية على المخزن، اللتيْن فقد الكثير منهما جراء ثورات الربيع الديموقراطي وانتفاضة 20 فبراير. الأدهى في العلاقة التي تجمع العدالة والتنمية بالمخزن، أن هذا الأخير أصبح اليوم يمارس سياسته المخزنية، بمضمونها التقليدي اللاديموقراطي، باسم الديموقراطية، أي باسم صناديق الاقتراع التي حملت حزب العدالة والتنمية إلى "الحكم". ومعلوم أن أخطر أشكال الاستبداد هي التي تمارس باسم الديموقراطية، لأن رفضها سيعني رفض الديموقراطية ومعارضة الإرادة الشعبية التي اختارت العدالة والتنمية. وبفضل هذا الحزب سيسترجع المخزن كل هيبته، التي كانت حركة 20 فبراير قد زعزعتها، ويعود إلى إدارة شؤون الدولة بأساليبه المخزنية التقليدية المعروفة، كما يبدو ذلك جليا من خلال تشكيلة أعضاء الحكومة الجديدة للعاشر من أكتوبر 2013، والتي هي علامة بارزة، وبالبنط العريض، على العودة المظفرة للهيمنة المطلقة للمخزن من جديد، ضدا على زخارف دستور فاتح يوليوز 2011 التي لم تنجح في إخفاء هذه الهيمنة أو حتى التخفيف منها. فالمخزن لم يمت، كما قال القيادي في حزب "الاتحاد الاشتراكي" السيد محمد اليازغي، بل هو حي، وبعافية وصحة جيدة. إن طبيعة تشكيلة حكومة بنكيران الجديدة، والتي هي نتيجة لانسحاب حزب الاستقلال من الأغلبية الحاكمة، قد تدفعنا إلى التساؤل عما إذا لم يكن ذلك الانسحاب أمرا مدبّرا لفسح المجال لعتاة رجالات دار المخزن للسيطرة على الحكومة باسم الديموقراطية المفترى عليها. لأن الرابح الأول من هذا الانسحاب هو المخزن الذي أصبح حضوره طاغيا في هذه الحكومة الجديدة، من خلال المناصب التي يشغلها خدامه المعروفون، من غير رئيس الحكومة، الخادم الأول للسلطة المخزنية بلا منافس ولا منازع. إذا كانت "الحماية" الفرنسية قد أنقذت المخزن المغربي من القبائل المتمردة عليه والرافضة لسلطته (بلاد السيبة)، والتي كانت تشكّل تهديدا حقيقيا لوجوده واستمراره، فإن حزب العدالة والتنمية يشكّل "الحماية" الثانية لهذا المخزن، الذي أنقذه هذا الحزب من تبعات ثورات الربيع الديموقراطي التي اجتاحت بعض بلدن شمال إفريقيا، وخصوصا أنها انتزعت الخوف من المواطنين الذين خرجوا إلى الشارع يحتجون مطالبين بإسقاط الاستبداد والفساد، وهو ما كان يشكّل تهديدا جديا للنظام المخزني الذي اعتاد ضبط الشارع بإشاعة الخوف من الاعتقالات والهراوات. لكن فوز حزب العدالة والتنمية وتوليه "الحكم"، أعاد الهيبة ـ كما قلت ـ إلى المخزن، والخوفَ، إلى المواطنين، من الخروج إلى الشارع، وذلك باستعماله المفرط للهراوات، وللاعتقالات، وللمحاكمات. إذا كان بعض المحللين يعتبرون حكومة بنكيران الثانية تعبيرا عن قمة العبث السياسي بالمغرب، فذلك لأنهم لا يدركون المعنى الذي يخفيه هذا العبث الظاهر، والمتجلي (المعنى) في تقوية السلطة المخزنية كغاية الغايات. عندما نأخذ هذه الغاية بعين الاعتبار، فإن كل ما يبدو عبثا يصبح ذا معنى ودلالة. إذا كان للنظام المخزني أن يختار، من بين كل الأحزاب المغربية، الحزب الذي يخدمه أكثر وأفضل وأفيد وأحسن وأسرع وأخلص وأصدق، فلن يختار غير العدالة والتنمية الذي يمثّل، سياسيا، "البركةَ" التي يكلأ بها اللهُ المخزن المصون. وإذا كان له أن يختار، من بين كل مناضلي هذا الحزب/البركة، الشخص الأقدر على استثمار هذه البركة بشكل أفضل وأحسن وأفيد، فلن يختار غير السيد عبد الإله بنكيران، الرجل المعجزة الذي حقّق للمخزن، بالزيادات المتتالية في المحروقات بهدف التخفيف، وعلى حساب جيوب المواطنين طبعا، من وطأة الأزمة الاقتصادية والمالية التي تسبب فيها التدبير المخزني نفسه، حقق له ما لم يكن يحلم به هذا المخزن نفسه، ودون أن يكون هناك احتجاج شعبي في الشارع كما حدث في يونيو 1981 بعد الزيادة في ثمن الخبز، أو "الكوميرة" كما سماه إدريس البصري آنذاك. قد تخطئ التحاليل التي ترى أن حزب العدالة والتنمية، بانضمامه إلى صف المخزن، قد خسر رأسماله الشعبي. وهو ما سيجعل المغاربة لا يصوتون عليه في الانتخابات القادمة. هذا تحليل خاطئ لأنه ينظر إلى مسألة الربح والخسارة الانتخابيين بمنظار المنطق والعقلانية كما هو الشأن بالنسبة لأحزاب ألمانية أو فرنسية أو هولندية أو أمريكية...، حيث يعاقب الناخبون أحزابهم التي أساءت التدبير والتسيير في فترة توليها المسؤولية. لكن في بلد كالمغرب، حيث لا تخضع السياسة لنفس المنطق والعقلانية المعروفين، ولا تعتمد الانتخابات، كنتيجة لغياب هذا المنطق والعقلانية، على نفس المعايير المنطقية والعقلانية، فإن فوز حزب العدالة والتنمية بالرتبة الأولى، مرة أخرى، أمر غير مستبعد. أليس هو حزب "البركة" الذي يقوده الرجل المعجزة؟ لا ينبغي أن يفهم من هذا التحليل أننا كنا ننتظر من حزب العدالة والتنمية أن يغير النظام المخزني أو يقلبه، ولما لم يفعل فنحن ننتقده. لا أبدا. ما كنا ننتظره، وكما أعلن عن ذلك في برنامجه الانتخابي، هو أن يحدّ من استبداد المخزن، ويضطره إلى التنازل عن جزء من سلطاته، ويحارب الفساد بشكل جدي وحازم، كما كان يكرّر ذلك مسؤولو الحزب في كل مناسبة. لكن النتيجة والممارسة نراهما أمامنا: فالحزب، بالطريقة التي مارس بها السلطة، وبتنازلاته عن الكثير من الصلاحيات التي يمنحها له الدستور، قوّى ودعّم السلطة المخزنية، وبشكل لا يثير أي اعتراض على هذه السلطة، لأنه شكل "ديموقراطي" ما دام الحزب الذي يقود الحكومة هو حزب اختاره الشعب الذي منحه أصواته وثقته. أما الفساد، فبدل محاربته والحدّ من انتشاره كما كان منتظرا، انتعش في عهد حكومة بنكيران بعد أن طمأن هذا الأخير الفاسدين والمفسدين بعدم متابعتهم إعمالا لمبدأ "عفا الله عما سلف"، كما سبق أن صرّح بذلك. بل إن هذه الحكومة، عوض أن تقدم المفسدين إلى العدالة، عملت على حمايتهم وتشجيعهم بتقديم المبلّغين عنهم إلى هذه العدالة. الخلاصة أن حزب العدالة والتنمية، الذي كان يجاهر ليل نهار بأنه سيعمل على تطبيق شرع الله انسجاما مع مرجعيته الإسلامية، لم يعمل في الحقيقة إلا على تطبيق شرع الفساد والاستبداد انسجاما مع المرجعية المخزنية.
|
|