|
|
متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟
بقلم: محمد بودهان (12 ـ 09 ـ 2016) تقديم: من كان يخطر بباله، وفقط قبل عدة سنوات، مجرد إمكانية التساؤل: هل الدارجة لغة متفرعة عن العربية أم لا؟ ذلك أن عروبية الدارجة كانت موضوعا محسوما كبديهية لا تناقش. لكن يبدو أن هناك من أخذوا يضعون اليوم هذه "البديهية" موضع تساؤل ونقاش، وهو ما بدأ، نتيجة لذلك، ينزع عنها شيئا فشيئا طابعها "البديهي"، نظرا أن ما هو بديهي لا يُطرح للنقاش والتساؤل، باعتباره حقيقة ثابتة، واضحة، بسيطة وأولية. لقد كان من المنتظر والمفترض أن يتصدى المتخصصون اللسانيون لموضوع الدارجة، ومناقشة أصلها الجغرافي والبشري واللسني. لكنهم لم يفعلوا لأنهم حسموا في أنها لغة عروبية في أصلها ومنشئها، وبالتالي فمن العبث وضياع الوقت إثارة مسألة بديهية ومحسومة بالنسبة لهم. لن أكرر في هذه المناقشة ما سبق أن كتبته في موضوع: "هل الدارجة المغربية أداة للتعريب أم وسيلة للتمزيغ؟"، المنشور ضمن كتاب "في الهوية الأمازيغية للمغرب"(1)، ولا ما سبق أن شرحته في موضوع: "من هم الناطقون بالدارجة في المغرب؟"(2)، حيث خلصت إلى أن الدارجة «منتوج أمازيغي»، وأنه «حتى على فرض أنها لغة عربية، فإنه لا يمكن نفي أن صانعي هذه الدارجة "العربية" هم أمازيغيون، ما دام أنها ترجمة للأمازيغية إلى العربية، وأنه لا يمكن أن ينجز هذه الترجمة إلا الأمازيغيون الذين يجيدون الأمازيغية». سأتناول إذن في هذا الموضوع الجديد، حول الدارجة المغربية، أسئلة جديدة حول العلاقة الممكنة بين هذه الدارجة واللهجات العروبية المفترض أن الدارجة هي إحداها أو تطور لها، بعد أن أصبح من الصعب على المدافعين عن عروبة الدارجة الاستمرار في القول بأنها تمثّل المستوى العامّي للعربية الفصحى، كما يقول غالبية اللسانيين، وذلك بعد أن أثبتنا لهم أن العربية لا تتضمن إلا مستوى واحدا هو المستوى الفصيح الكتابي، الذي يُتعلّم في المدرسة أو ما يقوم مقامها، ولا تعرف مستوى عامّيا أو شعبيا أو وسيطا، كما في العديد من اللغات الحية والمكتوبة، مثل الإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية... ذلك لأن هذه المستويات، لاستعمال نفس اللغة، تفرضها وتخلقها إكراهات الاستعمال الشفوي اليومي لتلك اللغة. والحال أن العربية لا تستعمل في التخاطب الشفوي اليومي بحكم أنها لغة كتابة فقط. فمن أين ستكتسب إذن مستويات الاستعمال الشفوي في التخاطب اليومي وهي فاقدة لهذه الوظيفية التخاطبية الشفوية؟ستنصبّ إذن هذه المناقشة الجديدة لموضوع الدارجة على الأسئلة الجديدة التالية:ـ هل الدارجة تطور خاص لإحدى اللهجات العروبية؟ـ ألا يمكن أن تكون الأمازيغية ترجمة للدارجة وليس العكس؟ـ ما معنى التطابق والترجمة والبصمة اللسنية الأمازيغية؟ـ لماذا تحضر الأساطير والمعتقدات الأمازيغية في الدارجة؟ـ لماذا أبدع الأمازيغ الدارجة، التي هي أمازيغية بألفاظ عربية؟ـ ما هي العوامل الثلاثة للتعريب الطوعي للأمازيغ؟ـ لماذا يفهم المغاربة اللهجات العروبية الخليجية؟ـ وأين اختفت اللهجة العروبية التي جاء بها بنو هلال؟ـ وأين اختفت لهجة الموريسكيين الأندلسيين؟ـ إذا كانت الدارجة ذات أصل أمازيغي، فلماذا لا تختلف باختلاف الجهات مثل أمها الأمازيغية؟ـ ولماذا لم يبدع المسلمون العجم دارجتهم مثل الأمازيغ؟ـ ولماذا لا يطالب الأمازيغ بترسيم الدارجة وكفى؟ ـ وأين المشكل إذا كان أجدادنا الأمازيغ قد اختاروا الانتماء إلى العروبة؟ ـ لماذا يستوي الأميّون والمثقفون في نفس الفهم العامّي للدارجة؟ هل الدارجة تطور خاص لإحدى اللهجات العروبية؟إذا كانت الدارجة لغة مستقلة عن العربية، ولم تعد بنتا لها ومستوى عامّيا لاستعمالها، فمن أين تستمد إذن عروبتها؟ يجيب المدافعون عن الأصل العربي للدارجة بأنها تستمد عروبتها من كونها إحدى اللهجات العروبية، التي ليست بالضرورة هي الفصحى، والتي انتقلت إلى المغرب مع العرب الذين استقروا بهذا البلد.لكن عيب هذا الجواب أنه عاجز عن الإجابة عن العديد من الأسئلة، التي يطرحها نفس الجواب، من قبيل:لماذا لا نجد لهذه اللهجة العروبية ـ الدارجة ـ أصلا ولا أثرا لها بموطنها الأصلي المفترض بالجزيرة العربية (بلدان الخليج)، والذي تكون منه انتقلت إلى شمال إفريقيا والمغرب على الخصوص؟ فتعابير الدارجة، مثل:ـ لحم خضر (لحم نيء)،ـ حل الباب (افتح الباب)،ـ جرى عليه من الدار (طرده من الدار)،ـ عندك تنسى (وإياك أن تنسى)،ـ حظ راسك من الشفارة (احترس من اللصوص)،ـ مشاو لو حوايجو في الكار (ضاعت أغراضه في الحافلة)،ـ فات عليه تران (فاته القطار)،ـ كيف راك داير؟ (كيف حالك؟)،ـ غير كنضحك معاك (أضحك معك فقط)،ـ دّيها فراسك (لا تتدخل في ما لا يعنيك)،ـ لما طايب (الماء فائر)،ـ ...ومئات أخرى غيرها من التعابير، لا تستعمل في أي بلد من بلدان المشرق العربي، ولا يفهم معناها أي عربي ينتمي إلى هذه البلدان، لأنها، رغم استعمالها لمعجم عربي، تختلف جذريا عن اللهجات العروبية المشرقية، إما في التركيب أو في المعنى أو في كليهما. وهو ما يثبت أن الدارجة المغربية لغة مستقلة ومختلفة عن اللهجات العروبية بالشرق الأوسط. وأصل هذا الاختلاف والاستقلال هو الخصوصية اللسنية الأمازيغية التي تحكم تراكيب ومعاني الدارجة، مما جعل منها، بسبب هذه الخصوصية، عبارة عن ترجمة حرفية للتعابير الأمازيغية إلى العربية، وهو ما أصبحت معه تلك الترجمة تعبيرا أمازيغيا، في التركيب والمعنى، وعربيا في الألفاظ والكلمات. وهذا دليل على أن أول من تكلم الدارجة وأبدعها، أي ترجم الأمازيغية إلى العربية، لا يمكن أن يكون عربيا بل هو أمازيغي يجيد الأمازيغية، وهو من أنتج هذه الدارجة المغربية التي لا تفهم في أي بلد عربي، لأنها، في معانيها وتراكيبها، ليست لهجة عربية. وحتى إذا اعتبرناها تجاوزا لغة عربية، فستكون عربية أمازيغية، أي عربية الأمازيغ وليست عربية العرب.نلاحظ إذن أن ما قلناه، في مقالات سابقة، عن كون الدارجة غير تابعة للفصحى ولا نابعة منها، يصدق أيضا على علاقتها بأية لهجة عروبية عامّية تستعمل ببلدان المشرق العربي. وأمام هذا الواقع الذي ينفي عن هذه الدارجة أي انتماء عربي، سيلجأ المدافعون عن أصلها العربي إلى حيلة أخرى "ذكيةّ" لإنقاذ عروبة الدارجة. تتمثل هذه "الحيلة" في القول إن الدارجة المغربية، إن كانت مختلفة حقا عن اللهجات العروبية العامّية، فذلك أمر طبيعي ناتج عن تطورها الذاتي المستقل عن تطور أخواتها بالمشرق العربي، بسبب انقطاع التواصل وبُعد المسافة بين المغاربة والمشارقة. يجب الاعتراف أن هذه "الحيلة" لا تخلو من وجاهة وجدية. ذلك أن اللغات، وخصوصا اللهجات منها، تتطور وتتغير في العديد من مقوماتها الأصلية، مثل المعجم على الخصوص، وحتى التراكيب في حدود وشروط معينة. إذن، حسب هذا الحل/الحيلة، اختلاف الدارجة المغربية عن اللهجات العروبية العامّية هو شيء طبيعي، وبالتالي لا ينفي ـ بل يؤكد ـ الأصل العربي لهذه الدارجة.لكن هذا الحلّ يؤدي إلى مأزق لا مخرج منه، لأنه لا يستطيع أن يفسّر لماذا تطورت الدارجة المغربية، المفترض أنها لهجة عروبية، فقط بالشكل الذي جعل منها نسخة مترجمة لمعاني وتراكيب الأمازيغية؟ فعندما نقارن بين تعابير الدارجة وتعابير الأمازيغية، مع تجاهل ـ طبعا ـ للتراكيب المشتركة بين كل اللغات، سنكتشف أن أزيد من تسعين في المائة من تعابير الدارجة مطابقة، في معناها أو مبناها أو في كليهما، لتعابير الأمازيغية.من أمثلة المطابقة في المعنى:ـ "لحم خضر" (لحم نيئ، غير ناضج، يحتاج إلى طبخ ـ حرفيا: لحم أخضر اللون): تركيب عام مشترك بين العربية والأمازيغية وغيرهما من اللغات، لكن لا معنى ولا استعمال له في أية لهجة عروبية. إذا كانت هذه العبارة غير مستعملة وغير ذات معنى في أية لهجة عروبية، اللهم إذا قصد بها لون اللحم إذا صار أخضر، وهو ما لا علاقة له بمعنى النيوءة التي تدل عليها العبارة في الأمازيغية والدارجة، فهذا يعني أن أصل هذا المعنى ليس عربيا ولو أن الألفاظ المكونة للعبارة عربية. فمن أين اكتسبته إذن الدارجة؟ اكتسبته من الأمازيغية. وما هو الدليل على ذلك؟ الدليل أنه مستعمل في الأمازيغية كخاصية لسنية تنفرد بها، وتتصل بالانزياح الدلالي للفظ "أزكزا" (أخضر)، الخاص بلون النباتات، والذي انتقل إلى معنى "النيئ" في عبارة "أكسوم د أزكزا" (لحم خضر)، لأن اللحم النيئ يكون، في هذه الحالة من النيوءة، لا زال "أخضر"، أي "حيا" و"يانعا" مثل النبات الأخضر، وهو ما يعطي لعبارة "أكسوم د ازكزا" (لحم خضر)، معنى "النيء" و"غير الناضج". وهذا الانزياح الدلالي، الخاص بلفظ "أزكزا" (أخضر) الأمازيغي، لا وجود له في اللهجات العروبية، المفترض أن الدارجة تنتمي إليها (سنناقش في ما يأتي فرضية ما إذا كانت الأمازيغية هي التي اقتبست التعبير من الدارجة وليس العكس). فمعنى لفظ "أخضر" في العبارة الدارجة (لحم خضر) مطابق إذن لمعناه الأمازيغي، وليس لمعناه العربي، الفصيح أو اللهجي، الذي لا علاقة له بهذا المعنى في العبارة الدارجة، لأن هذه الأخيرة هي ترجمة حرفية لأصلها الأمازيغي. وهو ما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يجيد لغته الأمازيغية، التي ترجم معانيها ترجمة حرفية إلى العربية.ـ "قتل راسو" (انتحر ـ حرفيا: قتل رأسه): تركيب عام مشترك، كذلك، بين العربية والأمازيغية وغيرهما من اللغات (بالفرنسية نفس التركيب مثلا في عبارة: il a touché sa tête). لكن لا معنى ولا استعمال له في أية لهجة عروبية. ومن يدع العكس فليأتنا بدليل منطوق أو مكتوب. وما قلناه عن عبارة "لحم خضر" يصدق كذلك على عبارة "قتل راسو"، التي لا تفسير لها إلا أنها ترجمة حرفية إلى العربية لأصلها الأمازيغي: "إنغا إخف نس" (inva ixf nns). فازدواج مدلول "إخف" (ixf) في الأمازيغية، الذي يعني، حسب السياق، رأس الشيء والجزء الأعلى منه، أو ذات الإنسان (النفس)، هو الذي يعطي لعبارة "قتل راسو" الدارجة معناها الأمازيغي الذي يفيد "قتل نفسه"، أي انتحر، وليس "قتل رأسه"، حسب ما تفيده هذه العبارة في العربية. فمعنى لفظ "راسو" في العبارة الدارجة (قتل راسو) مطابق إذن لمعناه الأمازيغي، وليس لمعناه العربي، الفصيح أو اللهجي، الذي لا علاقة له بهذا المعنى في العبارة الدارجة، لأن هذه الأخيرة هي ترجمة حرفية لأصلها الأمازيغي. وهو ما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يجيد لغته الأمازيغية، التي ترجم معانيها ترجمة حرفية إلى العربية.ـ "رد البال" (انتبه، احذر، احترس): تركيب عام مشترك، أيضا، بين العربية والأمازيغية وغيرهما من اللغات. لكن لا معنى ولا استعمال له كذلك في أية لهجة عروبية. ومن يدع العكس فليأتنا بدليل منطوق أو مكتوب. وما قلناه عن "لحم خضر" وقتل راسو" يصدق كذلك على عبارة "رد البال"، التي لا تفسير لها إلا أنها ترجمة حرفية إلى العربية لأصلها الأمازيغي: "أرّ د تاونكيمت" (arr d tawngimt). فمعنى فعل "رد" في العبارة الدارجة (رد بالك) مطابق إذن لمعناه الأمازيغي، وليس لمعناه العربي، الفصيح أو اللهجي، الذي لا علاقة له بهذا المعنى في العبارة الدارجة، لأن هذه الأخيرة هي ترجمة حرفية لأصلها الأمازيغي. وهو ما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يجيد لغته الأمازيغية، التي ترجم معانيها ترجمة حرفية إلى العربية.ومن أمثلة المطابقة في التركيب (وغالبا في المعنى أيضا نظرا للعلاقة بين التركيب والمعنى):ـ "غير تكلمت معه بدا يبكي" (بمجرد ما تكلمت معه بدأ يبكي): أداة الاستثناء العربية "غير" التي تبتدئ بها هذه العبارة الدارجة، لا تستعمل، في أية لهجة عروبية، بهذه الصيغة التركيبية، حيث تكون في أول الجملةَ متبوعة بفعل. وهذا التركيب، الغريب عن أية لهجة عروبية، هو الذي يجعل عبارة "غير تكلمت معه بدا يبكي" فاقدة للمعنى وللاستعمال في أية لهجة عروبية. ومن يدع العكس فليقدم دليلا منطوقا أو مكتوبا. فـ"غير"، هنا في هذه الجملة، هي ترجمة حرفية للأداة النحوية الأمازيغية "غاس" (vas)، التي تتضمن معنى الاستثناء ولكن بمدلول قريب من "فقط"، "بمجرد". فالتركيب الذي صيغت به العبارة الدارجة "غير تكلمت معه بدا يبكي"، مطابق إذن لنفس التركيب في الأمازيغية "غاس سّيولغ ديدس إسنتا إتالا" (vas ssiwlv dids issnta italla)، وليس لتركيب العربية، الفصيحة أو اللهجية، التي لا تقبل قواعدها مثل هذه الصيغة التركيبية. فالعبارة الدارجة هي إذن ترجمة حرفية لنفس العبارة في أصلها الأمازيغي، وبنفس صيغتها التركيبية الأمازيغية. وهو ما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يجيد لغته الأمازيغية، التي ترجم معناها وتركيبها ترجمة حرفية إلى العربية.ـ "عندك تنسى" (إياك أن تنسى): هذا التركيب، بهذه الصيغة التي تبتدئ فيه العبارة بأداة "عندك" الظرفيةَ متبوعة بفعل مضارع، لا معنى ولا استعمال له في أية لهجة عروبية. فسواء اعتبرنا "عندك" ظرف زمان أو مكان مضافين، فلن يكون للعبارة معنى في أية لهجة عروبية. فمعناها في الدارجة لا تستمده إذن من أصلها العربي المفترض، لأن هذا الأصل لا يقبل هذا المعنى المصاغ بهذا التركيب، وإنما تستمده من أصلها الأمازيغي الذي هو العبارة "غورك أتتّود" (vurk ad tettud)، والتي ترجمت حرفيا إلى العربية فأعطت التعبير الدارج "عندك تنسى". فالتركيب الذي صيغت به العبارة الدارجة "عندك تنسى"، مطابق إذن لنفس التركيب في الأمازيغية "غورك أتتّود" (vurk ad tettud)، وليس لتركيب العربية، الفصيحة أو اللهجية، التي لا تقبل قواعدها مثل هذه الصيغة التركيبية. فالعبارة الدارجة هي إذن ترجمة حرفية لنفس العبارة في أصلها الأمازيغي، وبنفس صيغتها التركيبية الأمازيغية. وهو ما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يجيد لغته الأمازيغية، التي ترجم معناها وتركيبها ترجمة حرفية إلى العربية.ـ "باقي ما وصل" (لم يصل بعدُ): هذا التركيب، المشكّل من اسم الفاعل وأداة النفي "ما" ثم الفعل الماضي، لا معنى ولا استعمال له في أية لهجة عروبية. وحتى إذا حاولنا تحوير العبارة إلى معناها الحرفي في العربية كأن نقول: "بقي لم يصل" أو "بقي ما وصل"، فلن يكون لها، كذلك، معنى ولا استعمال في أية لهجة عروبية، لأن معناها لا تستمده من التركيب العربي، مثل "بقي لم يصل"، الذي لا معنى له، وإنما تستمده من تركيبها الأمازيغي الأصلي الذي ترجمت منه حرفيا إلى العربية: "إيسول أور إلكم" (isul ur ilkm). فالتركيب الذي صيغت به العبارة الدارجة "باقي ما وصل"، مطابق إذن لنفس التركيب في الأمازيغية "إيسول أور إلكم" (isul ur ilkm)، وليس لتركيب العربية، الفصيحة أو اللهجية، التي لا تقبل قواعدها مثل هذه الصيغة التركيبية. فالعبارة الدارجة هي إذن ترجمة حرفية لنفس العبارة في أصلها الأمازيغي، وبنفس صيغتها التركيبية الأمازيغية. وهو ما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يجيد لغته الأمازيغية، التي ترجم معناها وتركيبها ترجمة حرفية إلى العربية.الخلاصة إذن هي أن التعابير الدارجة، أي اللغة الدارجة، بمعناها ومبناها، لا يمكن أن تكون تطورا لإحدى اللهجات العروبية المفترض أنها انتقلت إلى شمال إفريقيا وأعطت الدارجة، وإلا فما هو سر تطورها بالضبط في اتجاه تراكيب ومعاني اللغة الأمازيغية؟ ليس هناك من تفسير لذلك سوى أن الدارجة لم تأت إلى الأمازيغيين من خارج الأمازيغيين، بل هي من إبداعهم وإنتاجهم، كما يدل على ذلك كون معانيها وتراكيبها هي نفسها معاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، التي استمروا في استعمالها في الدارجة لكن بألفاظ عربية.وحتى يقنع التعريبيون أن الدارجة هي تطور لإحدى اللهجات العروبية، وينفوا عنها أصلها الأمازيغي، يقارنونها باللغات الأوروبية ذات الأصل اللاتيني، مثل الفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية، فيقولون إن الدارجة هي لغة عربية ولكنها ليست هي العربية الفصحى، مثلما أن الفرنسية هي لغة لاتينية ولكنها ليست هي اللغة اللاتينية. هذه مقارنة مهمة ومفيدة لموضوعنا، وهي حجة أخرى على أن أصل الدارجة أمازيغي وليس عربيا.فحتى إذا لم نكن متأكدين أن الفرنسية تتشكل، على غرار الدارجة، من معجم لاتيني مصاغ في قوالب ومعاني وتراكيب اللغة المحلية للسكان الأصليين لفرنسا، مثل الكلتية (Langue celtique) والباسكية (Langue basque)، فإنها، بالتأكيد، هي لاتينية الفرنسيين وليست لاتينية الرومان ولا لاتينية اللاتين (Les Latins)، أي ذلك الشعب الذي ينتمي في الأصل إلى المنطقة الإيطالية المعروفة تاريخيا بـ"اللاتيوم" (Latium)، والذي تنسب إليه اللغة اللاتينية، مثل العرب الذين ينتمون في الأصل إلى بلاد الجزيرة العربية، والذين تنسب إليهم اللغة العربية. الفرنسية هي لاتينية الفرنسيين، بمعنى أن الفرنسيين، ولو أن للغتهم هذه أصولا لاتينية، هم الذين أبدعوها واستعملوها وتكلموا بها، وليس الرومان واللاتين، الذين يكونون قد هاجروا إلى بلاد فرنسا واستقروا بها، ونقلوا إليها ونشروا بها لغتهم اللاتينية لكونهم أصبحوا يشكّلون الأغلبية الديموغرافية، كما يزعم التعريبيون بالنسبة للدارجة التي يقولون إنها لغة عربية يتكلمها العرب، الذين أتوا بها من البلاد العربية، والمشكّلون للأغلبية الديموغرافية بالمغرب. وكون الفرنسية هي لاتينية الفرنسيين، وليست لاتينية الرومان واللاتين، لا يتنافى ـ بل يدعم ويؤيد ـ مع ما كتبناه وكررناه وشرحناه، من كون الدارجة، إذا اعتبرناها تجاوزا لغة عربية، فهي عربية الأمازيغ وليست عربية العرب. فالرهان، هنا، في ما يخص انتماء الفرنسية أو الدارجة، ليس فقط رهانا لسانيا، بل هو رهان هوياتي في المقام الأول: من هو الشعب الذي يتحدث الفرنسية بالبلاد الفرنسية؟ هل هو شعب روماني لاتيني (شعب اللاتيوم) لأن للفرنسية أصولا لاتينية؟ الجواب أنه شعب فرنسي في هويته التي يحددها موطنه الجغرافي، وليس شعبا رومانيا أو لاتينيا، بغض النظر أنه قد يوجد ضمن هذا الشعب الفرنسي من تعود أصولهم العرقية إلى الرومان واللاتين. ومن هو الشعب الذي يتحدث الدارجة في المغرب؟ هل هو شعب عربي، كما يدّعي التعريبيون، لأن للدارجة أصولا معجمية عربية؟ الجواب أنه شعب أمازيغي ـ أو شمال إفريقي بالنسبة لمن له حساسية مع كلمة "أمازيغي" ـ في هويته التي يحددها موطنه الجغرافي بشمال إفريقيا، وليس شعبا عربيا، بغض النظر أنه قد يوجد ضمن هذا الشعب الشمال الإفريقي من تعود أصولهم العرقية إلى العرب.إذن، وكما نلاحظ، "الاستنجاد" بحالة اللغات الأوروبية ذات الأصول اللاتينية لإثبات الهوية العربية للدارجة المغربية، وللانتماء العربي للمتحدثين بها كلغتهم الفطرية، يثبت، عكس ذلك، أن المغاربة ليسوا عربا، وأن دارجتهم ليست عربية لأنها من صنعهم وإبداعهم، ولم تأت إليهم من البلاد العربية، مثلما أن الفرنسية لغة من إبداع الفرنسيين ولم تأت إليهم من بلاد "اللاتيوم".ألا يمكن أن تكون الأمازيغية ترجمة للدارجة وليس العكس؟بتبيان أن الدارجة، باستعمالها لمعاني وتراكيب الأمازيغية، لا يمكن أن تكون تطورا لإحدى اللهجات العروبية المفترض أنها جاءت من بلاد الجزيرة العربية، سيلجأ المدافعون عن عروبية الدارجة إلى "حيلة" أخرى، مفادها أن الأمازيغية، ولكونها لغة ضعيفة مقارنة مع العربية كلغة أقوى منها، فلا يمكن أن تكون هي المؤثرة في الدارجة بالشكل الذي يجعل هذه مجرد ترجمة للأمازيغية، وإنما العكس هو الصحيح، أي أن اللغة الأضعف (الأمازيغية في هذه الحالة) هي التي تأخذ من اللغة الأقوى. وبالتالي، فإذا كان هناك تطابق بين تعابير الأمازيغية وتعابير الدارجة، فهذا يعني أن الأمازيغية هي التي ترجمت وأخذت هذه التعابير من الدارجة.ـ أولا، تأثير اللغة الأقوى على اللغة الأضعف، معطى حقيقي وتاريخي وعلمي، ثابت ومؤكد. لكن هذا المعطى لا يدعم، كما يعتقد التعريبيون، فرضية الأصل العروبي للدارجة، بل يكذّبها وينسفها من أساسها، ويثبت الأصل الأمازيغي لهذه الدارجة. كيف ذلك؟صحيح أن الأمازيغيين أرادوا تعلم اللغة الأقوى والتحدث بها، وهي العربية، كلغة دين وكتابة وثقافة، مع ما يرافق ذلك من تحول جنسي قومي وهوياتي، متمثلا في الرغبة في تقليد أصحاب هذه اللغة القوية والتشبه بهم والتماهي معهم، وهم العرب، لاستمداد القوة من قوتهم، اللغوية والدينية والرمزية. فالهدف من تعلم الأمازيغيين للعربية والتحدث بها، حتى وإن كان الدافع الأصلي دينيا، هو أن يظهروا كعرب يستعملون لغتهم العربية. لكن بما أن هذه العربية كانت قد فقدت وظيفة استعمالها الشفوي في التخاطب لما وصلت إليهم بشمال إفريقيا، فلم يكن من الممكن لهم إذن تعلمها كلغة تخاطب، ولا استعمالها للتواصل الشفوي في الحياة اليومية. فكل ما كان بإمكانهم أن يفعلوه، حتى يستخدموا العربية في التخاطب اليومي، هو أن يستعملوا ألفاظا من العربية الفصحى، التي لم تعد مستعملة في التخاطب الشفوي، مع صياغتها في قوالب لغتهم الأمازيغية التي يعرفونها ويجيدونها. فصنعوا بذلك لغة "عربية" جديدة بمعجم العربية الفصحى، لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية. هذه اللغة "العربية" الجديدة هي الدارجة المغربية، التي اعتقد صانعوها الأمازيغيون أنها اللغة العربية التي نجحوا في تعلمها وفي استعمالها باعتبارها اللغة الأقوى. ومع انتشار هذه الدارجة، لنفس السبب الذي شرحناه، انتشر معها كذلك الاعتقاد أنها لغة عربية، وأن متحدثيها، الذين هم أمازيغيون في الأصل والحقيقة، هم عرب، ليتحقق بذلك الهدف من صنع واستعمال الدارجة، وهو التحول جنسيا إلى الجنس العربي، تماهيا ـ مع ـ وتقليدا لمن كان يُعتقد أنهم الأقوى، لغويا ودينيا وعرقيا ورمزيا وسياسيا، وهم العرب.وينتج عن هذه السيرورة لنشأة الدارجة كمنتوج أمازيغي، أن العربية، لو كانت لغة التداول الشفوي في الحياة اليومية، لتعلمها الأمازيغيون ولاستعملوها كلغة في حياتهم اليومية بدل الدارجة، ولما وجدنا اليوم، في هذه الحالة لاستعمال العربية كلغة الحياة اليومية، أثرا لسنيا للأمازيغية وللأمازيغ في هذه اللغة العربية، يدل على أن متكلمي هذه اللغة هم أمازيغيون. وهذا واضح من مثال اللغة الإسبانية والإنجليزية والبرتغالية في القارة الأمريكية. فالأمريكي أو المكسيكي أو البرازيلي، ذو الأصول الهندية (نسبة إلى الهنود الحمر، السكان الأصليين لبلدان القارة الأمريكية)، والذي يجهل لغته القومية الأصلية، ولا يعرف ولا يستعمل إلا إحدى هذه اللغات ذات الأصل الأوروبي، لا يمكن التعرّف على أصله الهندي هذا، بناء على استعماله للإنجليزية أو الإسبانية أو البرتغالية. لماذا؟ لأنه يستعمل هذه اللغات بنفس معانيها وتراكيبها التي تستعمل بها في مواطنها الأصلية بأوروبا، وهو ما لا يسمح بافتراض أن مستعملي هذه اللغات بالقارة الأمريكية هم من الهنود الحمر، لأنه لا يمكن القول إن هذه اللغات، ذات الأصول الأوروبية، والمستعملة اليوم بالقارة الأمريكية، هي ترجمة، في معانيها وتراكيبها، للغة المحلية للسكان الأصليين، مما قد ينتج عنه أن صانعي ومتحدثي هذه اللغات هم من الهنود الحمر. وهذا عكس الدارجة التي تحمل البصة "الوراثية" اللسنية (ADN اللسني) الخاصة بالأمازيغية، مما يؤكد أن صانعيها والمتحدثين بها هم في الأصل أمازيغيون، واصلوا، عبر الدارجة، استعمال أمازيغيتهم، بمعانيها وتراكيبها، مع تغيير كلماتها بكلمات عربية، مما يُظهر ـ الظاهر فقط ـ هذه الدارجة كما لو كانت لغة عربية. ولهذا فهذه الدارجة مختلفة، في معانيها أو تراكيبها أو هما معا، عن كل اللهجات العروبية لأنها ليست منها ولا تنتمي إليها، كما سبق أن شرحنا.فليست إذن الدارجة هي التي كانت اللغة الأقوى، والتي أراد الأمازيغيون، بسبب ذلك، تعلمها واستعمالها، بل لغة القرآن التي هي العربية الفصحى. أما الدارجة فلم تكن موجودة بعدُ إلا بعد أن أوجدها الأمازيغيون أنفسهم حتى يظهروا أنهم عرب، وأنهم يتكلمون العربية.ـ ثانيا، هؤلاء الذين يقولون إنه من الممكن ـ بل من الأرجح ـ أن تكون تعابير الدارجة، المتطابقة في معناها ومبناها مع تعابير الأمازيغية، هي الأصل الذي اقتبست منه الأمازيغية هذه المعاني والتراكيب، لا يعرفون اللغة الأمازيغية ولا يتقنونها. وجهلهم بهذه اللغة هو الذي جعلهم يفترضون أن الأمازيغية هي التي تكون قد أخذت من الدارجة باعتبارها لغة عربية، ظنا منهم، بسبب جهلهم بالأمازيغية، أن هذه التعابير المتطابقة بين اللغتين، الأمازيغية والدارجة، لا تتجاوز عددا محدودا، لا يختلف عن الحالات المماثلة من التأثير والتأثر بين لغتين متجاورتين، حيث تأخذ اللغة الأضعف من اللغة الأقوى. لكن لو كانوا يجيدون الأمازيغية، إجادة تسمح لهم بالمقارنة بين معانيها وتراكيبها ومعاني وتراكيب الدارجة، لاكتشفوا أن التطابق، في المعاني والتراكيب بين اللغتين، لا يقدّر بعشر حالات ولا بخمسين حالة، ولا بمائة ولا بمائتين...، بل هو عام يسري على أزيد من تسعين في المائة من تعابير الدارجة، مع تجاهل التراكيب المشتركة بين كل اللغات، والتي لا تدخل، طبعا، في الحسبان. فالمقارنة، بين متني الأمازيغية والدارجة، يبيّن أن إحداهما تكاد تكون نسخة مترجمة حرفيا من الأخرى. وكما شرحنا، تشكّل الأمازيغية المتن الأصلي الذي ترجمه الأمازيغيون إلى العربية، مما أعطى لغة عربية في ألفاظها، وأمازيغية في معانيها وتراكيبها، وهي ما نسيمه الدارجة، التي هي من إبداع الأمازيغيين عندما تكلموا العربية بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، لأن العربية، كما سبق القول، لم تكن لغة تداول شفوي في الحياة اليومية. النتيجة، إذن، هي أن العلاقة بين الأمازيغية والدارجة هي علاقة سببية وتكوينية: فلولا وجود الأمازيغية ووجود الأمازيغيين الذين يتكلمونها، لما وجدت الدارجة قطعا، لأن أصل معانيها وتراكيبها هو اللغة الأمازيغية، ولأن صانعيها هم الأمازيغيون. فالأمازيغية ومستعملوها الأمازيغيون يشكّلون السبب، الذي لولاه لما كانت هناك دارجة كنتيجة لهذا السبب.أما إذا قلنا، كما يفعل المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، إن الأمازيغية هي التي أخذت معانيها وتراكيبها من الدارجة، فهذا يعني، نظرا للنسبة الكبيرة لتطابق معاني وتراكيب اللغتين، أنه لولا وجود الدارجة لما وجدت قطعا الأمازيغية. فهل هناك عاقل يمكنه، ليس فقط الدفاع عن هذه الفرضية الخرقاء، بل مجرد تصورها والتفكير فيها؟ما معنى التطابق والترجمة والبصمة اللسنية الأمازيغية؟نظرا أن التطابق، بين تعابير الأمازيغية والدارجة، دليل أن تعابير هذه الدارجة تحمل نفس البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، باعتبارها ترجمة حرفية لتعابير هذه الأخيرة إلى العربية، فإنه يجدر توضيح مفاهيم التطابق، والترجمة، والبصمة اللسنية الأمازيغية.فالتطابق، في المعنى أو المبنى أو في كليهما، بين تعابير الأمازيغية والدارجة، لا يعني أن كل تعبير بالدارجة هو دليل على أنه ترجمة لنفس التعبير من الأمازيغية. فمثلا العبارة الدارجة: "شرب لما" (اشرب الماء)، لا يمكن أن نقول عنها إنها دليل على أنها ترجمة لمقابلها الأمازيغي "سو أمان" (su aman). لماذا؟ لأن إذا صحّ أنها ترجمة من الأمازيغية، فيصحّ أن تكون كذلك ترجمة من الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية (Bois de l'eau, drink water, bebe agua). فمثل هذه التعابير، ذات المعاني والتراكيب المشتركة بين غالبية اللغات، لا تعتمد إذن دليلا على أن أصل التعابير الدارجة أمازيغي. تعابير الدارجة التي تقوم دليلا على الأصل الأمازيغي لهذه الدارجة، هي تلك التي تحمل البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، كما في تعابير من قبيل: "قبط طريق لمراكش"، "مشاو لو حوايجو فتران"، "جابها فراسو"، "دزت فوجه صاحبك"، "غير هدر معه بقى يبكي"، "كيف كيجيك هاذ لولد"، "جابوه لمحكمة بدراع عليه"، "طيّح الهدرا لخوه"، "ضرب كيلو حوت أو باقي فيه جوع"، "دّيها فراسك"، "فات عليه لكار"، "لبنت ولات مرا ونص"، "زيت العود"، "أنا براسي ما فاهم والو"، " حظ راسك لايفوزو بيك"، "كلا لعصا بزاف"، "كاين شتا برّا"، "خرجو لو لولاد صالحين"، "فوت علي عند لمغرب"، "شد الباب موراك"، "طيّب لي راسي بلهدرا"...، ومئات أخرى من مثل هذه التعابير التي لا يمكن أن يكون قد نطقها للمرة الأولى إلا من كان يجيد الأمازيغية، لأن معناها أو مبناها أو هما معا أمازيغيان، ويشكّلان علامة مسجلة للأمازيغية كبصمة لسنية خاصة بها، ولهذا فلا معنى ولا استعمال لمثل هذه التعابير في أية لهجة عروبية.ولتوضيح أكثر لمفهوم البصمة اللسنية الأمازيغية، نتأمل هذه الجملة: "طاحت عليه الدار". فهذا التعبير، رغم أن له مقابلا في الأمازيغية، إلا أنه لا يمكن الاستشهاد به كدليل على أنه ترجمة لهذا المقابل الأمازيغي إلى العربية. لماذا؟ لأنه لا يحمل البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، لكونه تعبيرا مشتركا بين اللغتين، وغيرهما من اللغات، كما في الفرنسية مثلا: La maison s'est écroulée sur lui . لكن عندما نقول: "طاحت عليه الدار بخمسين مليون"، فهنا يصبح التعبير أمازيغيا مائة في المائة، لأنه يحمل البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية، والتي هي غريبة عن أية لهجة عروبية، مما يجعل التعبير فاقدا لأي معنى في هذه اللهجة العروبية، لأن الجملة هي كلام أمازيغي بألفاظ عربية. فلا يعود فعل "طاح" يعني معناه العربي الذي هو "سقط"، كما في "طاحت عليه الدار"، بل يكتسب، في عبارة "طاحت عليه الدار بخمسين مليون"، معناه الأمازيغي، والذي يدل على كلفة بناء الدار. وهو دليل قاطع أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة هو أمازيغي تكلم أمازيغيته بألفاظ عربية. كذلك عندما نقول، قاصدين زوجة وزوجها، "طيبت لو لحم بلقوق" (طهت، حضّرت له لحما بالقوق)، فلا يمكن الاستشهاد بهذه العبارة كدليل على أنها ترجمة حرفية لمقابلها الأمازيغي. لماذا؟ لأن معناها وتركيبها، كما هما أمازيغيان فهما كذلك عربيان. فالعبارة لا تحمل إذن البصمة اللسنية الخاصة بالأمازيغية. لكن عندما نقول "طيبت لو راسو بلهدرا" (أزعجته وأثقلت عليه بثرثرتها ـ حرفيا: طبخت رأسه بالكلام)، فهنا تكون الجملة أمازيغية مائة في المائة رغم صياغتها بألفاظ عربية، لأنه لا معنى لها في جميع اللهجات العروبية، إذ لا معنى "للطبخ" بواسطة الكلام في هذه اللهجات، ولا لجعل رأس الإنسان موضوعا لهذا "الطبخ". لكن في الأمازيغية، يشكّل هذا "الطبخ"، الذي يكون مفعوله رأس الإنسان، ووسيلته الكلام للدلالة على الهذر الممل والثرثرة المزعجة، بصمة لسنية خاصة بها، مما يؤكد أن من نطق للمرة الأولى بهذه العبارة هو أمازيغي تكلم أمازيغيته بألفاظ عربية، أي ترجم "تسّنو اس أكايّو س واوال" (tssnw as agayyu s wawal) إلى العربية، مع الاحتفاظ على نفس المعنى الأمازيغي الذي لا يستقيم مع أية لهجة عروبية. ونفس الشيء عندما نقول "غدّا نقبطو لفلوس ديال لكرا" (غدا سنقبض نقود الكراء): فلا يمكن الاستشهاد بهذه الجملة الدارجة كدليل على أنها مترجمة من الأمازيغية، لأنها تعبير مشترك بين اللغتين، وحتى بين غيرهما من اللغات، كما في الفرنسية عندما نقول (Demain, nous recevrons l'argent du loyer). لكن عندما نقول: "غدّا نقبطو طْريق لكازا" (غدا نسافر إلى الدار البيضاءـ حرفيا: غدا نقبض الطريق إلى الدار البيضاء)، فهنا يكون التعبير أمازيغيا مائة في المائة رغم صياغته بألفاظ عربية، لأنه لا معنى لهذا التعبير في جميع اللهجات العروبية، إذ الطريق لا "يُقبض" في أية من هذه اللهجات. فإذا كان له معنى في استعماله الدارج، فذلك لأنه ترجمة حرفية لمعناه الأمازيغي كما هو في التعبير الأمازيغي الأصلي: "أزكّا أنامز أبريد غور كازا" (azkka ad namç abrid vur kaça). وذلك لأن في الأمازيغية وحدها من دون اللهجات العروبية، يعني فعل "أمز" amç (قبض)، عندما يكون مفعوله هو الطريق، "الانطلاق نحو..."، السفر إلى..."، التوجه إلى..."، ولا علاقة له بما يفيد الاستلام والإمساك، أي القبض بمعناه الحقيقي. كل هذا يؤكد، وبالمطلق، أنه لا يمكن أن يكون قد نطق للمرة الأولى بعبارة "نقّبطو طْريق" إلا من كان أمازيغيا ويجيد الأمازيغية، إذ اكتفى بترجمة كلامه الأمازيغي حرفيا إلى العربية. وهو ما يثبت، مرة أخرى، أن الذين أبدعوا الدارجة هم بالضرورة أمازيغيون.وتظهر البصمة اللسنية الأمازيغية، كذلك، في المسميات الدارجة للحرف والصنائع، مثل: "تنجّارت" tanjjart) (النجارة)، "تكبّاست" tagbbaãt (مهنة الكباس، الذي يعمل في الجبس)، "تاكزّارت" tagzzaryt (الجزارة)، "تحفّافت" tapffaft (الحلاقة)، "تاوزيريت" tawzirit (مهنة الذي يعمل وزيرا)، "تامغربيت" tamvrbit (الخصوصية المغربية)... فرغم أن الجذور والألفاظ التي صيغت منها هذه الأسماء هي عربية، إلا أن شكل الصياغة أمازيغي، ولا وجود له في أية لهجة عروبية، مما يعطي لهذه الأسماء، المشتقة من كلمات عربية، معاني أمازيغية ـ وليست عربية ـ في الدارجة. وهو ما يعني أن الذي استعمل هذه الأسماء للمرة الأولى في الدارجة لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا.ومما يعبّر أيضا، وبشكل بارز ولافت، عن حضور البصمة اللسنية الأمازيغية في الدارجة، شيوع استعمال الأداة النحوية الأمازيغية "بو" bu، بصيغة المذكر المفرد فقط، والتي تعني في الأمازيغية "ذو، صاحب"، كما في تعابير: "بولحية"، بوزبال"، "بوكرش"، "بوحمرون"... هي أداة نحوية أمازيغية أصيلة وليست استعمالا دارجا للفظ "أبو" العربي، كما يعتقد التعريبيون بسبب تقارب المعنى بين "بو" الأمازيغية و"أبو" العربية كما نجدها في: "أبو الهول"، "أبو جهل"، "أبو لهب"، "أبو نواس"، "أبو هريرة"، "أبو الفنون" (المسرح)، "أبو ضحكة" (أغنية لفريد الأطرش، مع أنه لا يصحّ اتخاذ اللهجة المصرية ـ وكذلك الشامية ـ، بسبب تأثير اللهجة المحلية الأصلية عليها، مقياسا للمقارنة بين الدارجة واللهجات العروبية، التي يجب أن تخص فقط لهجات الخليج لبلدان الجزيرة العربية، باعتبارها لهجات عروبية حقيقية وأصلية)... والدليل أنها أمازيغية أصيلة هو أنها تؤنث وتُجمع في الأمازيغية، عكس لو افترضنا، كما يفعل التعريبيون، أن أصلها هو "أبو" العربية، حيث لا يمكن جمع العبارة الدارجة "بولحية" ولا تأنيثها، إلا إذا استعملنا ألفاظا أخرى، فنقول: "أصحاب اللحى"، "صاحبة اللحية"، "صاحبات اللحى" أو "مولات اللحية"، "مّالين اللحية". وفي هذه الحالة نلاحظ أن "أصحاب" و"صاحبة"، و"مولات" و"مّالين"، ليسا جمعا ولا مؤنثا لأداة "بو"، بل هما شيء آخر مختلف وإن كان يؤدّي نفس المعنى. أما في الأمازيغية فجمع "بو" هو "أيت" ayt، ومؤنثها هو"مْ" m (حرف ميم ساكنة) التي تجمع على "إستم" istm. فنقول "بو تاميمت، م تاميمت" bu tamimt, m tamimt (صاحب، صاحبة العسل = بائع، بائعة العسل)، "أيت تاميمت، إستم تاميمت" ayt tamimt, istm tamimt (أصحاب، صاحبات العسل = بائعو، بائعات العسل)، "بويسركاس، ميسركاسbu ysrkas, m isrkas (كثير الكذب، كذّاب ـ كثيرة الكذب، كذّابة)، "أيت إسركاس، إستم إيسركاس" ayt isrkas, istm isrkas ، (كثيرو الكذب، كذّابون ـ كثيرات الكذب، كذّابات) "بو تيكّاز، متيكّاز" bu tiggaz, m tiggaz (صاحب الوشم ـ ذات الوشم)، "أيت تيكّاز، إستم تيكّاز" ayt tiggaz, istm tiggaz (أصحاب الوشم ـ ذوات الوشم)... فهذه الأداة "بو" هي إذن أمازيغية أصيلة وأصلية، وتستعمل في الدارجة، تماما كما تستعمل في الأمازيغية دون تغيير أو ترجمة، متبوعة بلفظ عربي يكون ترجمة حرفية لمقابله الأمازيغي، كما في عبارات: "بولحية" (صاحب اللحية) "بوكرش" (ذو البطن المنتفخ = طمّاع غير قنوع)، "بوراس" (صاحب الرأس الكبيرة)، "بوحمرون" (ذو الحمرة ـ وصف أمازيغي لمرض الحصبة)، "بوصفير" (ذو الاصفرار ـ وصف أمازيغي لمرض اليرقان)...، التي (عبارات) هي ترجمات حرفية لأصلها الأمازيغي: "بوتامارت" bu tamart، "بو أديس" bu wadis، "بوكايّو" bu wgayyu، "بوزكّاغ" bu wzååav، "بووراغ" bu wrav، مع الاحتفاظ بأداة "بو" في شكلها ونطقها الأمازيغيين. فهذه الأداة ـ "بو" ـ المستعملة في الدارجة ليست إذن ترجمة لها من الأمازيغية، بل هي نفسها أمازيغية شكلا ومعنى ونطقا. أما الترجمة فتخص الجمع والمؤنث، فنجمع مثلا في الدارجة عبارة "بولحية" بـ"مّالين اللحية"، ونؤنثها بـ"مولات اللحية". ومما يثير الضحك والاشمئزاز في نفس الوقت أن التعريب الأعمى، المرضي والهوسي، الأهوج والأرعن، حوّل "باب بوجلود"، الحي العتيق المعروف بمدينة فاس، إلى "باب أبي الجنود"، مع الحرص على كتابة "أبي"، التي جاءت مضافا إليه، طبقا للقاعدة النحوية والإملائية السليمة للأسماء الخمسة التي ينتمي إليها لفظ "أبو". وكل هذا "الضبط" لقواعد الأسماء الخمسة، هو: ـ أولا، من أجل الإقناع، وبالكذب والتزوير، أن فاس مدينة عربية بناها وسكنها العرب، كما تدل على ذلك أسماء أبوابها التاريخية مثل "باب أبي الجنود"، الذي يبيّن أن الذي أطلق هذه التسمية على هذا الباب لا يمكن أن يكون إلا عربيا يتقن العربية الفصحى، و"نحويا" يجيد حتى إعراب الأسماء الخمسة. ـ ثانيا، من أجل إتلاف كل أثر لسني قد يدل على أن التسمية (بوجلود) هي في الأصل ترجمة من الأمازيغية، مما يعني أن فاس بناها وسكنها الأمازيغ الذين أطلقوا على هذا الباب تسمية أمازيغية، ترجموها حرفيا إلى العربية بعبارة "بوجلود"، مع الاحتفاظ على الأداة الأمازيغية "بو" كما هي في أصلها، حسب ما شرحنا سابقا. بالفعل، اسم "بوجلود" هو ترجمة إلى العربية لأصله الأمازيغي "بويلماون" bu ylmawn (إلم ilm، جمع إلماون ilmawn= جلد، جلود). وإذا عرفنا أن "بويلماون" كان يطلق عند الأمازيغيين قديما على حفل كرنفالي جماعي بلباس تنكري من جلود الحيوانات، قبل أن يقتصر هذا اللباس فقط على جلود أضاحي العيد، وهو حفل إن اختفى اليوم بعدة مناطق من المغرب، كما في الريف الذي كان حاضرا به بشكل كبير، كما يحكي ذلك "مولييراس" في الجزء الأول من كتابه حول "المغرب المجهول"، فإنه لا زال يمارس بمنطقة سوس كل سنة بمناسبة عيد الأضحى، إذا عرفنا ذاك، فسيكون التفسير الوحيد لتسمية ذلك المكان بمدينة فاس بـ"بوجلود"، هو أنه كان في الماضي، على الأرجح، ساحة لإقامة كارنفال "بويلماون" الأمازيغي. عبارة "بوجلود" الدارجة هي إذن ترجمة لأصلها الأمازيغي "بويلماون" bu ylmawn، ومنها تستمد معناها اللغوي والتاريخي، في حين أن عبارة "أبي الجنود" لا تحمل أية دلالة تاريخية ولا حتى لغوية، لأن عبارة "أبي الجنود" لا معنى ولا استعمال لها في العربية. فلو كانت هذه العبارة هي "قائد الجنود" أو "أمير الجنود"، لكان لها على الأقل معنى مقبول لغويا في العربية. ولهذا فإن استبدال "بوجلود" بـ"أبي الجنود" هو شيء مخجل ومضحك في نفس الوقت: مخجل لأنه يخفي وراءه قدرا كبيرا من العنصرية التي تبرّر إبادة كل ما له علاقة بالأمازيغية أو يذكّر بها ويحيل عليها مثل عبارة "بوجلود". وهو مضحك، لأن هذه العبارة ـ "أبي الجنود" ـ لا يصدّقها ولا يستعملها إطلاقا سكان فاس ـ ولا أي مغربي آخر ـ المعنيون بالموضوع، والذين لا زالوا يستعملون دائما عبارة "بوجلود"، المترجمة من أصلها الأمازيغي، ولا يكترثون بعبارة "أبي الجنود" المفروضة كتابيا، والتي لم يسبق أن سمع بها ولا استعملها أجدادهم، قبل طاعون التعريب الذي انطلق في مرحلته الجنونية مع استقلال المغرب. الأداة الأمازيغية "بو"، المستعملة في الدارجة، هي إذن بصمة لسنية أمازيغية أصلية وعريقة، ولا يمكن أن تكون ذات أصل عربي، لأنها غير معروفة وغير مستعملة وغير ذات معنى في أية لهجة عروبية، قديما وحديثا. وبالتالي فإن أول من استعمل ونطق العبارات الدارجة التي تتضمن أداة "بو"، مثل "بولحية"، "بونيف" (ذو النيف الكبير)، بوفلجة" (صاحب انفراج واسع بين اثنين من أنيابه)، "بوحبة" (صاحب الدملة)... لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا ترجم أمازيغيته إلى العربية، محتفظا بأداة "بو" كما يستعملها في أمازيغيته. لن أتحدث عن المظاهر الأخرى للبصمة اللسنية الأمازيغية، التي تؤكد الأصل الأمازيغي لتعابير الدارجة، والتي (المظاهر) مرّ أن شرحتها في كتابات سابقة حول الموضوع، مثل غياب المثنى في الدارجة، ووجود الزمن الحاضر فيها، وقدرتها على استيعاب أفعال للغات أجنبية وتصريفها واستعمالها كما لو كانت جزءا من الدارجة، مثل: "واش كومونديت أش تاكل ولاّ باقي؟" (تدريج الفعل الفرنسي Commander)، "راه كيدوّش" (تدريج الفعل الفرنسي Se doucher)، "تيراو عليه بالكابوس" (تدريج الفعل الفرنسي Tirer )، "كيعرف إيدريبلي بلكرا" (تدريج الفعل الفرنسي Dribbler)... وهذه خاصية لسنية أمازيغية بامتياز، ولا وجود لها في العربية وباقي اللهجات العروبية إلا في حالات نادرة جدا تعد على رؤوس الأصابع (انظر تفصيل هذه الخاصية الأمازيغية، التي انتقلت إلى الدارجة، في مقال "عبقرية اللغة الأمازيغية وسر صمودها"(3)).وتجدر الإشارة إلى أنه رغم أن الدارجة الحالية دخلت عليها تعابير جديدة، انتقلت إليها من العربية المدرسية، ومن التلفزيون المغربي والفضائيات العربية، وفقدت بذلك بعضا من أصالتها المغربية التي اكتسبتها من اللغة الأمازيغية، مثل اختفاء عبارة "الماء باردين" (نعم "باردين" بالجمع، لأن "الماء" اسم جمع في الأمازيغية، فترجمت العبارة إلى العربية بمعناها الأمازيغي وقاعدتها النحوية الأمازيغية)، التي كان أبناء جيلي يسمعونها كل صيف في الأسواق الأسبوعية عندما كان "الكرّاب" (الساقي أو البائع المتجول للماء الشروب) ينادي بأعلى صوته: "لما باردين"، إلا أن البصمة اللسنية الأمازيغية، رغم كل ذلك، لا تزال تشكّل دائما الروح اللسنية لهذه الدارجة، حتى أننا نلمسها، نظرا للعلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر والشخصية، في تفكير المغاربة وسلوكهم، المختلفين عن تفكير وسلوك عرب الشرق الأوسط.لماذا تحضر الأساطير والمعتقدات الأمازيغية في الدارجة؟وحضور البصمة اللسنية الأمازيغية في الدارجة لا يقتصر على المعنى والتركيب، المكوّنين الجوهريين للغة، بل قد نجده حتى في الأفكار والمفاهيم والمصطلحات، التي تعبّر عن تصور خاص بالشعب الأمازيغي للظواهر وللطبيعة وللأشياء وحتى للدولة. فعبارة "عروست شتا" ـ أو "عروست نّوْ" ـ (قوس قزح ـ حرفيا: عروسة المطر)، التي لا تزال شائعة الاستعمال بالجهة الشرقية من المغرب وبالجزائر، هي ترجمة لأصلها الأمازيغي، الذي هو "تيسليت ن ونزار" (عروسة المطر). فهذا المفهوم، "تيسليت ن ونزار"tislin n unçar ، أي "عروسة شتا" (المطر) في ترجمتها الحرفية إلى الدارجة، يعبّر عن تصور أسطوري لدى الأمازيغيين، مفاده الاعتقاد أن تلك الألوان الجميلة الزاهية (قوس قزح)، التي تزيّن السماء بعد نزول الغيث، تمثّل العروسة الجميلة ذات الملابس المزوّقة والأنيقة، التي كان أجداد الأمازيغ يزفّونها إلى إله المطر، تعبيرا عن امتنانهم له وعرفانا منهم بجميله وفضله(4). ولهذا فهي تحمل اسمها الأصلي المطابق للمسمّى، أي "تيسليت ن ونزار" tislit n unçar (عروسة المطر)، الذي ترجم حرفيا إلى الدارجة بعبارة "عروست شتا".وواضح أن هذا الاعتقاد الأسطوري لا أثر لوجوده في التراث العربي ولا المشرقي بصفة عامة، وبالتالي فلا يمكن أن يكون مصدره هذا التراث أو هذا المشرق. فهو اعتقاد أسطوري محلي أمازيغي. وهو ما يعني أن عبارة "عروست شتا"، المستعملة في الدارجة، هي ترجمة حرفية لأصلها الأمازيغي إلى العربية، وأن أول من نطق بها واستعملها لا يمكن أن يكون إلا أمازيغيا يستعمل ويجيد الأمازيغية.وقريب من المفهوم الأسطوري لـ"عروست شتا"، هناك مفهوم "عرس ذّيب"، الذي هو، أيضا، ترجمة حرفية إلى العربية لنفس المفهوم الأمازيغي الذي هو "تامغرا ن ووشّن" tamvra n wuccn (عرس الذئب). ويطلق هذا المفهوم على حالة الاضطراب الجوي المفاجئ، الذي ينذر بأمطار عاصفية ورياح هوجاء مدمرة، لكن، وبشكل مفاجئ كذلك، سرعان ما تهدأ الرياح وتصفو السماء وتنقشع السحب وتسطع الشمس. لماذا يطلق في الأمازيغية على هذه الحالة من الاضطراب العرضي العابر "تامغرا ن ووشّن" tamvra n wuccn (عرس الذئب)؟ لأن "تامغرا ن ووشّن" tamvra n wuccn ، هذه، قصة معروفة في التراث الشفوي الأمازيغي القديم، الذي تلعب فيه الحيوانات، وخصوصا الذئب والثعلب والقنفذ، دور "البطولة". ومضمون القصة أن الذئب، بعد أن ألحّ عليه والداه أن يتزوّج، وهو الذي كان برفض دائما الزواج، اشترط عليهما، كشرط تعجيزي يرمي من ورائه الإفلات من الزواج، أن يقام حفل زواجه في يوم ممطر ومشمس معا. فأصبحت هذه "الخدعة" (الجمع بين نقيضين طقسيين)، التي لجأ إليها الذئب، تطلق على حالة الطقس المشابهة لشرط الذئب، أي الحالة التي تسطع فيها الشمس بمجرد أن تبدأ الأمطار في النزول، للدلالة على أن تلك الحالة عبارة عن مجرد "خدعة" تشبه "عرس الذئب"، كما أراده واشترطه.وغني عن البيان أن هذه القصة، وما أعطته من وصف لحالة عابرة و"مخادعة" من الاضطراب الجوي، لا وجود لها في التراث العربي، لا الشفوي ولا المكتوب. فهي تراث محلي أمازيغي. ولهذا فعبارة "عرس ذّيب" لا معنى ولا استعمال لها، مثل "عروست شتا" كذلك، في أية لهجة عروبية. فهي ترجمة إلى العربية لأصلها الأمازيغي "تامغرا ن ووشّن" tamvra n wuccn. وما كان يمكن أن يقوم بهذه الترجمة إلا من كان أمازيغيا ويجيد الأمازيغية.ومن المصطلحات الأمازيغية التي حظيت باهتمام كبير بعد ترجمتها إلى العربية، وكانت موضوع العديد من الدراسات والبحوث، الاسم الحقيقي للدولة الحقيقية للمغرب، وهو مصطلح "المخزن"، المترجم من أصله الأمازيغي، الذي هو "أكادير" agadir أو "أجدير" ajdir. فاسم "أكادير" كان يطلق، كما هو معروف، على مكان يُختار بموقع محمي ومحصّن، يخصص لتخزين وحفظ المؤن والبذور والأسلحة والأدوات الفلاحية للقبيلة، مشكلا بذلك ما يسميه A.Adam "Grenier collectif fortifié"، أي مخزنا جماعيا محصّنا(5).وكان تنظيم "أكادير" يخضع لقوانين عرفية دقيقة، صارمة وآمرة يمتثل لها الجميع، تُلزم بانتخاب مجلس يشرف على تسيير "المخزن الجماعي" (أكادير)، يتكون من ستة إلى ثمانية أعضاء، منهم الرئيس "أمغار"amvar والأمناء "إنفلاس"inflas ، كانت لهم صلاحية التقرير في كل ما يهم مصلحة القبيلة والجماعة. وهذا ما جعل من "أكادير" "مخزنا" للممتلكات القبيلة، ومقرا لاتخاذ القرارات التي تهم مصلحة هذه القبيلة. فباعتباره مؤسسة عمومية، اقتصادية واجتماعية، وحتى سياسية، فقد كان يشكّل دولة القبيلة. فترجم معناه حرفيا إلى العربية بـ"المخزن"، أي مكان التخزين والحفظ، إحالة على وظيفته الأولى. ثم عُممت التسمية، تمشيا مع التطور السياسي الذي عرفه تاريخ المغرب، إلى جهاز الدولة باعتبارها هي أيضا "أكادير"، لامتلاكها، هي كذلك، موارد عمومية وصلاحية اتخاذ قرارات تهم الجماعة كلها. وليس صدفة أن المكان الذي كان مقرا لحكومة جمهورية الريف كان يسمى بـ"أجدير"، كما هو معلوم.فالذي وضع إذن مصطلح "المخزن" بالعربية للمرة الأولى وترجمه من الأمازيغية، لا بد أنه كان أمازيغيا ويعرف جيدا الأصل الأمازيغي لهذا المصطلح، والذي هو "أكادير". ولا يمكن أن يكون هذا المفهوم ـ المخزن ـ قد جاء إلى المغرب من البلاد العربية، لأنها لم تعرف مثل هذه المؤسسة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، ولا أثر لها إطلاقا في التراث والتاريخ العربيين. فمصدرها إذن محلي أمازيغي، وليس عربيا. فإذا كانت التسمية عربية (اسم مكان من فعل "خزن")، فمعناها ومضمونها أمازيغيان، لأنها مترجمة من الأمازيغية.لماذا أبدع الأمازيغ الدارجة، التي هي أمازيغية بألفاظ عربية؟وحتى نفهم جيدا طبيعة حضور البصمة اللسنية الأمازيغية في الدارجة، وحقيقة التطابق، في المعاني والتراكيب، بين اللغتين، علينا أن نفهم دافع الأمازيغيين إلى ترجمة أمازيغيتهم إلى العربية، لتعطي تلك الترجمة ذلك المنتوجَ اللسني الذي نسيمه بالدارجة.لأن العربية لغة القرآن، وبها يُفهم الإسلام وتمارس شعائره وفرائضه، فقد اقتنع الأمازيغ أن معرفة العربية هي جزء من معرفة الإسلام. لهذا أحبوا هذه اللغة، وأحبوا أصحابها العرب كذلك لأن نبي الإسلام عربي، وأقبلوا على تعلّمها، وأبدوا رغبة قوية وصادقة في استعمالها والتواصل بها، كما يفعل مستعملوها الأصليون، أي العرب. ولأن هذه العربية كانت قد فقدت وظيفة استعمالها في التخاطب اليومي، فلم يكن أمامهم من حلّ، حتى يظهروا كمتكلمين بالعربية التي أحبوها، سوى استعمال ذلك القدر من الكلمات العربية، التي تعلموها عبر التعليم الديني وحفظ القرآن والانتشار ـ المحدود طبعا ـ للكتابة، لكن في تراكيب وبمعاني لغتهم الأمازيغية، التي هي لغة تستعمل في التخاطب اليومي عكس العربية. فكانت بذلك "عربيتهم" ترجمة حرفية، مبنى ومعنى، لأمازيغيتهم، أي تعبيرا بالأمازيغية لكن بكلمات معجمية لا تنتمي إلى القاموس الأمازيغي الأصلي. ولأن الكلمات عربية، فقد اقتنعوا هم أنفسهم أنهم إنما يتحدثون "العربية"، رغم أن التركيب والمعنى أمازيغيان. فصنعوا بذلك عربية جديدة، أو أمازيغية جديدة، هي ما نسيمه الدارجة.وإذا كانت المقارنة بين الدارجة المغربية واللهجات العامّية الخليجية (المتداولة ببلدان الجزيرة العربية) تؤكد لنا، بما لا يدع مجالا للشك، أن الدارجة أقرب إلى الفصحى في معجمها من هذه العامّيات العروبية، فليس ذلك، كما يذهب المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، لأن هذه الدارجة هي لغة عروبية، ولذلك فهي قريبة من اللغة العربية الأصل، التي هي الفصحى. فهذا التفسير، الذي يتبجّح به التعريبيون كدليل على أن الدارجة تجمعها قرابة لسانية قوية بالعربية، تثبت أنها تنتمي إلى هذه اللغة العربية، يعجز عن تفسير لماذا تكون الدارجة هي الأقرب إلى العربية من اللهجات العروبية الخليجية، مع أن المنطق يقتضي أن تكون هذه هي الأقرب من الدارجة إلى العربية، نظرا لوحدة الموطن الجغرافي (بلاد الجزيرة العربية) لكل من العربية وتنوعاتها اللهجية العروبية، ونظرا للوحدة الأصلية والتاريخية للسان المتداول بهذا الموطن، ونظرا لوحدة الشعب (الشعب العربي ببلدان الجزيرة العربية) المستعمل لهذا اللسان. فأن تكون إذن دارجة شمال إفريقيا، والمغرب خاصة، أقرب إلى العربية من اللهجات العروبية الخليجية، التي تتقاسم معها نفس الأصل اللسني والتاريخي ونفس الموطن الجغرافي، فذلك يعني شيئين اثنين:ـ أن الدارجة ليست لهجة عروبية جاء بها العرب إلى شمال إفريقيا، وإلا لكانت علاقتها بالعربية من نفس مستوى علاقة مثيلاتها من اللهجات العروبية الأخرى، التي تعتبر الدارجة واحدة منها كما يفترض التعريبيون.ـ أن كونها أقرب إلى العربية من اللهجات العروبية الحقيقية، فهذا دليل على أن مبدعيها ومستعمليها ليسوا عربا يتحدثون لهجتهم العروبية، وإلا لما كانت لهجتهم هذه أقرب إلى العربية بشكل تنفرد به عن باقي اللهجات العروبية الحقيقية.فما تثبته إذن القرابة المعجمية القوية بين الدارجة والعربية، ليس أن هذه الدارجة لهجة عروبية كما يرى التعريبيون، بل تثبت، عكس ذلك، أنها لهجة ذات أصل شمال إفريقي، أي أمازيغي. كيف ذلك؟ترجع هذه القرابة القوية بين الدارجة والعربية إلى أن هدف الأمازيغيين كان، ولدوافع دينية كما أشرنا، هو استعمال العربية والتخاطب بها. ولهذا استعملوا، مع الاحتفاظ على معاني وتراكيب الأمازيغية للأسباب التي شرحنا، ما تعلموه وعرفوه من المعجم العربي الفصيح فقط، لأنهم لم يكونوا يعرفون من العربية إلا هذا الجانب المعجمي الفصيح، وليس كعرب الجزيرة الذين كانوا ربما يعرفون ويتداولون معجما آخر عامّيا يختلف، كثيرا أو قليلا، عن الفصحى، كما هو حال اللهجات العروبية اليوم بدول الخليج بالجزيرة العربية. وهذا ما يفسّر أن الدارجة المغربية هي أقرب إلى الفصحى في معجمها من اللهجات العروبية الخليجية. فمثلا، نستعمل في الدارجة ألفظا من معجم العربية الأصلية الفصيحة، والتي ربما لا تعرفها ولا تستعملها ـ كما يظهر ذلك من خلال "معجم المصطلحات العربية العامّية" ـ اللهجات العربية الخليجية، من قبيل:ـ "حرن" (في المعجم العربي، حرنت الدابة: وقفت ورفضت الانقياد وامتنعت عن السير)، كما في العبارة الدارجة: "الحمار حرن بغاتش يمشي"، ـ "هوّد" (في المعجم العربي، هَوَّدَ الرَّجُلُ فِي السَّيْر: مَشَى رُوَيْداً بَطِيئاً)، كما في العبارة الدارجة: "يالله نهودو لمدينا"، ـ "هرس" (في المعجم العربي، هرَس الشَّيءَ: دقَّه)، كما في العبارة الدارجة: "هرّس الكاس"، ـ "حدر" (في المعجم العربي، حدَّر الشَّيءَ: أنزله من أعلى إلى أسفل)، كما في العبارة الدارجة: "حدر راسك"، ـ "حرّش" (في المعجم العربي، حرّش: هيّج وحرّض)، كما في العبارة الدارجة: "حرّش عليه صحابو"، ـ "برك" (في المعجم العربي، بَرَكَ الرَّجُلُ: ثَبَتَ، أَقامَ)، كما في العبارة الدارجة: "برك لرض"، ـ "غُرّاف" (في المعجم العربي، الغرّاف: كُوبٌ مِنَ الطِّينِ لِشُرْبِ الْمَاءِ)، كما في العبارة الدارجة: "عمّر لغرّاف بلماء"، ـ "أجي" (أمر "جاء"، بمعنى "تعال")، كما في العبارة الدارجة: "أجي فصبح"، ـ "شارف" (في المعجم العربي، الشَّارِفُ من الأَشياء: القديم العتيق ـ حَيَوانٌ شارِفٌ: مُسِنٌّ، هَرِمٌ)، كما في العبارة الدارجة: "جدو شارف"، ـ "حذاه" (في المعجم العربي، حاذى الشّيء: كان بإزائه، مقابلا له، قريبا منه)، كما في العبارة الدارجة: "كلس حذاه"، أي جلس بجواره، مقابلا له، قريبا منه، ـ "النّو" (في المعجم العربي، النَّوْءُ: المَطَرُ الشديدُ)، كما في العبارة الدارجة: "طاحت بزّاف ديال النّو" (اللفظ شائع الاستعمال بالمنطقة الشرقية وبالجزائر)، ـ "النعاس" (في المعجم العربي، النعاس: النوم. وفي القرآن الكريم: "إِذ يَغْشاكم النعاس أَمَنَةً منه")، كما في العبارة الدارجة: "بيت نعاس"، أي غرفة النوم. ـ "باسل" (في المعجم العربي، باسل: حامض، بلا طعم ولا لذة. وكلام باسل: جارح ولا معنى له)، كما في العبارة الدارجة: "لكلام لباسل"، أي الكلام غير المؤدب، الخارج عن الموضوع، الذي لا معنى له ولا فائدة منه، ـ "خامج" (في المعجم العربي، خمج الشيء: نتن وفسد وتعفّن)، كما في العبارة الدارجة: "حوت خامج"، أي فاسد غير صالح للاستهلاك، ـ "نقز" (في المعجم العربي، نقز الحيوان ونحوه: قفز ووثب)، كما في العبارة الدارجة: "جاء إنقّز السور أوطاح"، ـ "ناض" (في المعجم العربي، ناض: تحرّك وتململ)، كما في العبارة الدارجة: "ناض من نعاس"، ـ "طنز" (في المعجم العربي، طنز به: سخر واستهزأ)، كما في العبارة الدارجة: "باراكا ما طنز علي"، أي كفّ عن السخرية مني والضحك علي، ـ "خربق" (في المعجم العربي، خربق الشيء: قطّعه وشقّه، وخربق العمل: أفسده)، كما في العبارة الدارجة: "راك خربقتي هاذ لخدمة"، أي أفسدت العمل ولم تقم به على الوجه المطلوب والسليم، ـ ... وعشرات أخرى من الألفاظ الفصيحة التي لم تعد مستعملة، ليس في اللهجات العروبية الحقيقية فقط، بل حتى في العربية الفصحى المكتوبة نفسها، لكنها موجودة في المعاجم العربية بنفس معناها المستعمل في الدارجة، مما يؤكد أن الذين استعملوها للمرة الأولى في الدارجة لم يكونوا يعرفون غيرها، أي لم يكونوا يعرفون غير المعجم العربي الفصيح، الذي سيوظّفونه في الدارجة مع الإبقاء على معاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، وهو ما أنتج تلك اللغة الجديدة التي نسميها الدارجة، والتي ليست عربية العرب، وإنما هي عربية الأمازيغ، الذين أبدعوها وابتكروها بموطنهم في شمال إفريقيا ولم تنتقل إليهم من خارج هذا الموطن. هذا الاستعمال للألفاظ الفصيحة، بمعاني وتراكيب أمازيغية، يبيّن أن الأمازيغيين لم يكونوا يعرفون من معجم العربية إلا ما ينتمي منها إلى الفصيح. وهذا يعني أن اللغة العربية الوحيدة التي كانت منتشرة ـ انتشارا محدودا بطبيعة الحال ـ، بالبلاد الأمازيغية، عبر الكتابة والتعليم الديني وحفظ ما تيسر من القرآن لأداء الصلوات، هي العربية العالمة الفصحى، أي عربية القرآن والكتابة والشعر... وواضح أن هذه اللغة الجديدة، المستعمِلة لمعاني وتراكيب الأمازيغية لكن بألفاظ عربية، ما كانت لتوجد البتة، كما شرحنا ذلك بمثال وضع الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية في القارة الأمريكية، لو أن العربية كانت لا تزال لغة تخاطب في الحياة اليومية، لأن الأمازيغيين، في هذه الحالة، بدل أن يصنعوا الدارجة حتى يتكلموا العربية، لكانوا تكلموا العربية الحقيقية، أي بمعانيها وتراكيبها، ولما احتاجوا إلى عربية تستعمل تراكيب ومعاني الأمازيغية. ولأن دافعهم كان هو استعمال العربية والتخاطب بها، فقد احتفظوا منها بما كان يستعمل أصلا في التواصل الشفوي اليومي، ولم يحتاجوا بالتالي إلى تغييره بصياغته طبقا لمعاني وتراكيب أمازيغيتهم. وهذا ما يفسّر أن التطابق بين تعابير الأمازيغية وتعابير الدارجة ليس مطلقا وكليا، بمعنى أن كل تعبير في الدارجة هو ترجمة لنظيره في الأمازيغية. فمثلا العبارة الدارجة "هاذ الرجل"، هي تعبير عربي معنى وتركيبا لأنه لو كان ترجمة حرفية لنظيره في الأمازيغية، لكنا نقول في الدارجة: "الرجل هذا"، وليس "هاذ الرجل"، لأن اسم الإشارة في الأمازيغية يأتي بعد الاسم المشار إليه، وليس قبله كما في العربية. فهذه العبارة الدارجة بقيت صيغتها عربية أصلية لأنها بقيت مستعمَلة في التخاطب والتواصل الشفوي، وليس كعبارة: "هذا اللحم لا زال نيئا"، التي لم يعد أحد يستعملها في التخاطب، مما اضطر معه الأمازيغيون إلى التعبير عنها بمعنى لغتهم الأمازيغية فقالوا: "هذا لحم باقي خضر". لم يكن هناك إذن داعٍ ولا معنى ليغيّر الأمازيغيون معاني وتراكيب التعابير العربية التي استمر استعمالها في التخاطب بصيغتها الأصلية، ما دام أن هدفهم كان هو الكلام بالعربية.ما هي العوامل الثلاثة للتعريب الطوعي للأمازيغ؟هذه الرغبة لدى الأمازيغيين، للأسباب الدينية والسياسية والإيديولوجية التي أشرنا إليها، في تعلّم واستعمال العربية في التخاطب، وفي التماهي مع العرب أصحاب هذه اللغة، كانت بداية لتعريب ذاتي اختياري، وهو ما أنتج عاملين آخرين ساهما في هذا التعريب، ليلعبا في نفس الوقت دور النتيجة ودور السبب المؤثر. هذان العاملان هما:ـ إطلاق الأسماء الشخصية العربية على المواليد الأمازيغيين، والتخلي عن الأسماء الأمازيغية الأصيلة. قد تبدو هذه المسألة بسيطة وعادية كما هو حالها اليوم (نحن في غشت 2016). لكن إذا وضعناها في سياقها التاريخي مع بداية القرن الثاني الهجري بالمغرب، فإنها قد تبدو ظاهرة غريبة واستثنائية، إذ كيف تختفي الأسماء الشخصية الأمازيغية بشكل يكاد يكون كاملا، وتستبدل بالأسماء العربية القرشية، بمجرد اعتناق الأمازيغ للإسلام، علما أن هذا الدين لا يمنع الأسماء الأعجمية ولا يدعو إلى تبني الأسماء العربية؟ هذا التهافت على الأسماء الشخصية العربية يقدّم الدليل على الرغبة الجامحة لدى مجموعة من الأمازيغيين في ممارسة التحول الجنسي والهوياتي (تقمصهم للجنس العربي والهوية العربية، وتنصلهم من جنسهم الأمازيغي وهويتهم الأمازيغية)، وانتحال الانتماء العربي. فهذا الأمازيغي الذي يسمي ولده باسم عربي، يعطي بذلك الدليل على أنه يتمنى رمزيا لهذا الولد أن يكون مثل الحامل الأصلي لهذا الاسم، أي يتمنى له أن يكون عربيا. بل الطريف أن العديد من الأمازيغيين، وتعبيرا عن رغبتهم في أن يكون أولادهم عربا، اختاروا لهم حتى اسم "العربي"، الذي ليس اسما شخصيا يطلق على فرد بعينه، وإنما هو صفة نوعية وهوياتية جماعية، تطلق على جميع المشتركين في الانتماء العربي. لنتصوّر، قصد التوضيح، أن شخصا يتمنى أن يكون ابنه مثل الفرنسيين، فاختار له من الأسماء الفرنسية، استبشارا وتيمنا، ليس "روني" (René) أو بيير" (Pierre) أو جان" (jean) أو بول (Paul) "...، بل "الفرنسي Le Français"، والذي ليس اسما شخصيا عند الفرنسيين، بل هو صفة هوياتية لكل الفرنسيين، مثلما أن "العربي" هو صفة هوياتية لكل العرب.ـ انتحال النسب العربي وانتشار الخرافة العنصرية "للنسب الشريف"، بسبب ما كانت تدرّه على أصحابها الأمازيغيين من مكاسب سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية. فمنذ أن نصّب أمازيغيو قبيلة "أوربة" إدريس الأول سلطانا عليهم لنسبه العربي "الشريف"، سيصبح هذا "النسب الشريف" هو الطريق الملكي للسلطة والجاه والحظوة والاحترام. وهذا ما جعل انتحال النسب العربي ينتشر بين الأمازيغيين بشكل كبير، وهو ما كان عاملا هاما في التعريب الطوعي والاختياري لمجموعة غير صغيرة من الأمازيغيين. الجانب الإيجابي الوحيد في هذا الانتحال للنسب العربي، هو أنه يؤكد أن المغرب أمازيغي، وأن سكانه أمازيغيون، وإلا لما كانت هناك جدوى من انتحال النسب العربي لو كانت الأغلبية عربية، لأنه في هذه الحالة لن يكون هناك امتياز لأصحاب النسب العربي ما دام أن الأغلبية تشاركهم في هذا الامتياز.هكذا تظافرت هذه العوامل الثلاثة (اللغة الدارجة، الاسم الشخصي وانتحال النسب العربي)، وتكاملت في ما بينها، كأسباب وكنتائج في نفس الوقت، لتصنع من مجموعة من الأمازيغيين عربا، لسانا (الدارجة) واسما ونسبا.لماذا يفهم المغاربة اللهجات العروبية الخليجية؟أمام هذه الحقائق التي تفنّد الأصل البشري والجغرافي العربي المفترض للدارجة، سيلجأ المدافعون عن هذا الأصل إلى "حيلة" أخرى، مؤدّاها أن المغاربة المتحدثين بالدارجة يفهمون "دارجة" بلدان الخليج العربية، ويتابعون برامج ومسلسلات الفضائيات العربية الخليجية لأن لغتها لا تختلف عن لغتهم المغربية، كما أن الخليجيين يفهمون بدورهم الدارجة المغربية. وهو ما يستنتجون منه أن هذا الفهم المشترك للغتي الطرفين، المغربي والخليجي، دليل على أن الدارجة المغربية، هي نفسها الدارجة الخليجية، وقد انتقلت من الجزيرة العربية إلى المغرب مع العرب الذين استقروا بهذا البلد الإفريقي منذ "الفتح الإسلامي".رغم أن هذه المسألة، المتعلقة بمدى التفاهم اللغوي بين المغاربة والخليجيين، لا جدوى منها ولا أهمية لها إطلاقا، لأنها لا تثبت ولا تنفي أن الدارجة عربية الأصل والانتماء، بشريا وموطنا، وذلك لأنه حتى لو ثبت أن التفاهم منعدم بين المغاربة المستعملين للدارجة وبين الخليجيين، فهذا لا يقوم دليلا على أن الدارجة ليست لغة عروبية، لأنه من الممكن أن تكون هناك لهجات ذات أصل عروبي واحد مشترك رغم أن التفاهم بين مستعملي هذه اللهجات لم يعد ممكنا، لانقطاع التواصل بينهم لمدة طويلة، كما بين فروع الأمازيغية مثلا. لكن بما أن هذا التفاهم المفترض بين المغاربة الدارجيين وبين الخليجيين، يعتمد كـ"حجة" على أن الدارجة لهجة عروبية، فسنناقش هذه "الحجة" لتبيان تهافتها وسُداها. وهنا نفتح القوس لنشير إلى أننا سنقتصر قصدا ـ كما فعلنا في كل المقال ـ، في هذه المناقشة لموضوع التفاهم اللغوي بين المغاربة والخليجيين، على اللهجات الخليجية فقط، أي لهجات الجزيرة العربية التي هي الموطن الأصلي واللساني والتاريخي المفترض للهجات العروبية، ومن ضمنها الدارجة بالنسبة للذين نردّ عليهم من التعريبيين الذين يعتبرون هذه الدارجة لهجة عروبية، ونهمل عن قصد كذلك اللهجات الشامية والمصرية التي قد يفهمها العديد من المغاربة لنفس الأسباب التي سنشرحها. نهملها لأن علاقتها بالعربية من جهة، وباللغتين الشامية والمصرية الأصليتين من جهة ثانية، مثل السريانية والقبطية، تشبه علاقةَ الدارجة بالعربية وبالأمازيغية، ولو بشكل أخفّ وأقل بروزا مما عليه الأمر بالنسبة للأمازيغية.هذا التفاهم اللغوي، المفترض بين المغاربة والخليجيين، يتضمن إذن مستويين: مستوى فهم المغاربة للهجات الخليجيين (لهجات الجزيرة العربية)، ومستوى فهم هؤلاء لدارجة المغاربة. سنناقش إذن كل مستوى في استقلال عن الآخر، لأن الأسباب التي تفسّر هذا الفهم المفترض تختلف حسب ما إذا تعلق الأمر بالمغاربة أو بالخليجيين.أولا، فهم المغاربة للهجات الخليجية:فهم المغاربة المفترض للهجات الخليجية غير موجود كقاعدة عامّة، ويمكن الاستشهاد على ذلك بأمثلة من العامّيات الخليجية لا يفهم منها المغاربة شيئا، كما تبيّن المئات من الكلمات والعبارات التي يتضمنها "معجم المصطلحات العربية العامّية" الموجود على الأنترنيت، من قبيل:ـ "لا تصدق أحمد تراه يهك عليك" (يكذب عليك ـ نجد السعودية) ـ "جوال الأيفون كشخه" (جميل ـ البحرين والكويت وقطر والسعودية) ـ "ارمسك بعدين" (احدثك بعد قليل ـ اللهجة العمانية)، ـ "يا خبنكلة" (يا أحمق ـ لهجة حضر موت اليمنية)، ـ "وخر عن وجهي ولا تراني باصملك" (ابتعد عني وإلا سأضربك ـ لهجة حضر موت اليمنية)، ـ "عطني القفشة" (أعطني الملعقة ـ اللهجة القطرية)، ـ " أنا في المقهى أتِــرَياكم " (أنتظركم ـ اللهجة القطرية)، ـ " امبونك رايح السوق" (قبل الذهاب إلى السوق ـ اللهجة الإماراتية)، ـ " انشبوا الغدا" (أحضروا طعام الغذاء ـ الإمارات، البحرين، الكويت، قطر)، ـ "تبطي عظم" (من المستحيل أن تفعل هذا الشيء ـ اللهجة السعودية)، ـ "أرهيت بالقطيعة" (كدت أن أفقد الأمل ـ اللهجة الحجازية النجدية)، ـ "ما صيدي الإساءة" (ما قصدي ـ شمال السعودية)، ـ "زبوط النقعة" (صغير، جاهل ـ اللهجة الكويتية)، ـ "خط الجزوزح" (قوس قزح ـ اللهجة البحرينية)، ـ "أبك أنت علامك" (ماذا دهاك؟ ـ اللهجة النجدية)، ـ "إنتخشوا عينك" (دعاء على الشخص بأن يقتلع الجن عينه ـ لهجة جنوب السعودية)، ـ "اطبع الباب" (أغلق الباب بالمفتاح ـ اللهجة الحجازية)، ـ... ومع ذلك فلن نتمسّك بمثل هذه العبارات والأدلة لنفي وجود مغاربة يفهمون اللهجات الخليجية، وسنسلّم إذن أن هناك بالفعل مجموعة منهم يفهمون هذه اللهجات، لكن ليس لأن الدارجة المغربية، كما يذهب المدافعون عن الأصل العروبي لهذه الدارجة، تنتمي هي نفسها إلى أصل لساني واحد مشترك بينها وبين هذه اللهجات الخليجية، التي نقل العرب "الفاتحون" والمهاجرون إحداها إلى المغرب، وهي الدارجة، وإنما يرجع ذلك إلى الأسباب التالية: ـ فمع ظهور وانتشار البث التلفزي بالمغرب، ووصوله إلى أقصى البوادي والجبال، وخصوصا بعد كهربة العالم القروي، بدأت اللهجات الخليجية، دون الكلام عن الشامية والمصرية اللتيْن لا تهماننا كما سبق توضيح ذلك، تعزو بيوت المغاربة من خلال الأغاني والأفلام والمسلسلات العربية المشرقية التي كانت تشكّل، في بداية التلفزيون المغربي، أهم موادّه، قبل أن يصبح هذا الغزو كاسحا وشاملا مع انتقال التلفزيون إلى البث الرقمي حيث أصبح المغاربة يتتبعون أغاني وأفلام ومسلسلات القنوات العربية مباشرة، وليس عبر التلفزة الوطنية مثل ما كان عليه الأمر في البداية كما أشرنا. فإدمان مجموعة من المغاربة على مشاهدة الفضائيات العربية، وتتبع حواراتها وبرامجها وأفلامها ومسلسلاتها وأغانيها، بل وحفظ العديد من هذه الأغاني وترديدها وتقليدها، أدّى في النهاية إلى فهمهم، بنسب مختلفة، للهجات التي تبث بها هذه الفضائيات. ولهذا قد نجد هذا الفهم حاضرا لدى ربات بيوت أميات، وغائبا عند متعلمين ومثقفين. والسبب هو أن هؤلاء النساء يقضين معظم أوقاتهن في مشاهدة القنوات العربية، عكس هؤلاء المتعلمين. ـ ثم لا ننسى أن معجم الدارجة المغربية ينتمي، في حوالي سبعين في المائة منه، إلى العربية الأصلية الفصيحة كما سبق أن شرحنا، وهو ما يجعل كل اللهجات الخليجية تشترك، بنسب متفاوتة، مع الدارجة المغربية في جزء من معجمها ذي الأصل الفصيح، الشيء الذي يجعل المغاربة يفهمون الكثير من الكلمات المستعملة في اللهجات الخليجية، والشامية والمصرية طبعا، وهو ما يخلق لدى العديد منهم انطباعا ـ انطباعا فقط ـ أن تلك اللهجات قريبة من دارجتهم لاشتراكهما في جزء من معجمهما. يضاف إلى هذا الانطباع، ويساهم أيضا في خلقه، وجود قناعة ذهنية لدى مجموعة من المغاربة، ناتجة عن اعتقادهم الإيديولوجي الراسخ أن المغرب بلد عربي، وجزء من الأمة العربية الواحدة التي تستعمل لغة واحدة من الخليج إلى المحيط. وهو اعتقاد لا يصمد طبعا أمام وضعيات تواصلية واقعية، وليست إيديولوجية وافتراضية. ـ هذا الاعتقاد الأيديولوجي أن المغرب بلد عربي وجزء من أمة عربية واحدة تستعمل لغة واحدة هي العربية، يخلق لدى متبنّيه من المغاربة، وهم كُثْر، استعدادا نفسيا وذهنيا يحفّزهم على بذل مجهود قصدي لفهم اللهجات العروبية المشرقية، بل وتعلّمها، بالمواظبة على الاستماع إليها وتتبع المتحاورين بها عبر القنوات التلفزيونية، ذلك لأن مجرد هذه المواظبة والإدمان على مشاهدة الفضائيات العربية، لا يكفيان لفهم لهجاتها بدون هذا الاستعداد وهذا الحافز وهذا المجهود. والدليل أن فهم اللهجات الخليجية من طرف فئة من المغاربة، هو نتيجة لما يحدوهم من رغبة وما يبذلونه من مجهود لتحقيق ذلك، وليس راجعا إلى تقارب اللغتين، هو أن ليس كل المغاربة، المستعملين للدارجة كلغتهم الفطرية، يفهمون اللهجات العروبية المشرقية.والنتيجة أن فهم نسبة معيّنة من هذه اللهجات من طرف فئة من المغاربة، لا يعني إطلاقا أنها تشكّل هي والدارجة المغربية لغة واحدة ومشتركة، بل يعني فقط أن هذا المغربي، الذي يفهم هذه اللهجات، "تعلّم" ذلك عبر ما بذله من مجهود إرادي، وأبداه من مثابرة ومواظبة، وبفضل ما يتوفر عليه من عزيمة ورغبة لاعتقاده الراسخ أن تلك اللهجات هي الأصل الكامل والنبيل الذي عليه أن يعرفه، أما دارجته فليست سوى النسخة الناقصة والوضيعة. وهو اعتقاد يعبّر عن التبعية المتأصلة لدى المغاربة تجاه كل ما هو عربي ومشرقي. وقد اتخذت هذه التبعية اليوم شكل ظاهرة جماعية وعامة، بعد أن كانت اختيارا فرديا قبل 1912، أنتجتها وكرّستها سياسة التحول الجنسي (القومي والهوياتي)، التي تسمى التعريب، والتي نهجتها الدولة، الاستعمارية ثم الوطنية، منذ 1912.ثانيا، فهم الخليجيين للدارجة المغربية:إذا كان ما قد يبدو فهما لدى مجموعة من المغاربة للهجات المشرق العربي، مرده إلى ما يبذله هؤلاء من مجهود إرادي لتعلم وفهم هذه اللهجات، كما شرحت، فإن الحالة العكسية، التي يفهم فيها الخليجيون الدارجة، لا يمكن تفسيرها، إذا وجدت، إلا بالوحدة اللغوية التي تجمع بين الدارجة واللهجة الخليجية، وليس بمجهود يبذله الخليجي، كما يفعل المغربي، لفهم وتعلم الدارجة المغربية، ذلك لأنه لا توجد ـ مثلما توجد عند العديد من المغاربة ـ دوافع إيديولوجية ولا ثقافية تحفّز الخليجيين على فهم الدارجة المغربية أو تعلمها. فهل صحيح أن الخليجيين يفهمون الدارجة المغربية؟هل يوجد من يستطيع من هؤلاء الخليجيين، ما لم يكن قد تعلّم ذلك، أن يفهم التعابير الدارجة التالية:ـ "كيف راك داير؟" (كيف حالك؟)،ـ "حظ راسك" (احترس وكن حذرا)،ـ "الباب محلول" (الباب مفتوح)،ـ "لما طايب" (الماء فائر)،ـ "زيت العود" (زيت الزيتون)،ـ "خوي طريق باش إيدوز" (أخْلٍ الطريق لكي يمر)،ـ "دخل سوق راسك" (لا تتدخل في ما لا يعنيك)،ـ...وحتى لا يقال إن هذه تعابير اخترتها بعناية كحالات استثنائية ولا تشكل القاعدة العامة، نستشهد بأمثلة لآخرين غيري.ـ قال رئيس الحكومة، السيد بنكيران: «قلت للملك واخا دخلني للحبس أنا معاك»، «ملي كلس ونا كنكول ما خصني نجبدهم»، ـ «شارك دغيا باش تحاول تربح» (إشهار على شبكة الأنترنيت لشركة مغربية)، ـ «عندك تندمي» (أغنية للشاب تيلالو)، ـ «القضية ولات سياسية بزاف» (الجريدة الإلكترونية "كود")، ـ «ردو البال من تصوركم في الفايسبوك» (كود)، ـ «فرملي فسبيطار فاس يصحاب راسو مطور ساعة جابها فراسو» (كود). ـ «باش تمارا لي ضربات ما تضربش ليها فالزيرو» (كود)، ـ «ديك 41 مغربي لي شدتهوم تركيا وصيفتطهم لمغرب» (كود)، ـ ... نلاحظ أنه لا يمكن لأي خليجي، ما لم يكن قد تعلّم ذلك من قبل، أن يفهم هذه التعابير الدارجة، رغم أنها تستعمل كلمات عربية، وذلك لأنها مصاغة بمعاني وتراكيب اللغة الأمازيغية، التي هي معانٍ وتراكيب أجنبية عن اللهجات العروبية. ومع ذلك فإن المدافعين عن الأصل العروبي للدارجة يصرون على أن فهم الخليجيين للدارجة ممكن وقائم، وقد يعطون أمثلة من حوارات تحدثوا فيها بدارجتهم مع خليجيين بالمغرب أو في المهجر، فكان هؤلاء يفهمون جيدا ما يقوله المغربي. هذا صحيح ولا نشك فيه. ولكن تفسيره ليس لأن الخليجي يفهم الدارجة المغربية، من غير الكلمات ذات الأصل العربي، والتي لا يكفي فهمها لفهم معنى الكلام الدارج، وإنما لأن المغربي هو الذي يبذل مجهودا ـ دائما ومرة أخرى ـ في اختياره للتعابير التي تسمح لمحاوره الخليجي بفهم كلامه، وهي تعابير قد تكون مستعملة في لهجة محاوره الخليجي إن كان يعرفها ويتقنها الطرف المغربي، أو هي تعابير قريبة من العربية المدرسية التي يعرفها ويتقنها في الغالب الطرف الخليجي. والنتيجة هي أن هذا الأخير عندما يفهم كلام مخاطبه المغربي، فهو في الحقيقة لا يفهم الدارجة المغربية لأنها غير مستعملة أصلا من طرف محاوره المغربي، وإنما يفهم فقط دارجته الخليجية التي يبذل المغربي قصارى جهده لاستعمالها حتى يفهم الخليجي كلامه بطريقة مريحة وسهلة. فعندما يتحاور مغربي مع خليجي، يتكرر ما يحصل عندما يتحاور متحدث بالأمازيغية مع متحدث بالدارجة: فكما أن الأمازيغي هو الذي عليه أن يتنازل عن أمازيغيته، ويبذل مجهودا لكي يفهم الدارجة، ولكي يستعملها حتى يفهم الدارجي كلامه، فكذلك المغربي هو الذي عليه أن يتنازل عن دارجته، ويبذل مجهودا لكي يفهم لهجة محاوره الخليجي، ولكي يستعملها حتى يفهم ذلك الخليجي كلامه. وكما أن هذا الوضع، المتسم بالغلبة الرمزية والإيديولوجية لأحدى اللغتين، يفسّر لماذا انتشرت الدارجة وتراجعت الأمازيغية، فهو يفسّر بنفس المنطق، عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الدارجة واللهجات العروبية للشرق الأوسط، لماذا يفهم مجموعة من المغاربة هذه اللهجات، و"يجتهدون" لاستعمالها حتى يفهم محاورهم العربي كلامهم. إذن "حجة" كون الدارجة غير مختلفة كثيرا عن اللهجات العروبية لأن أصلهما اللسني والتاريخي واحد، هي "حجة" واهية وغير علمية، لأن المغاربة، الذين يستدلون بها، هم الذين يصنعون هذه الحجة عندما يبذلون مجهودا لفهم وتعلم تلك اللهجات، واستعمالها في الكلام مع أصحاب نفس اللهجات.وأين اختفت اللهجة العروبية التي جاء بها بنو هلال؟ من بين "الأدلة" الأخرى التي يعتمد عليها المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة المغربية، هجرة بعض القبائل العربية إلى شمال إفريقيا وتوطّنهم فيها، ولا سيما في المغرب. ويُقصد بهذه القبائل على الخصوص بنو هلال الذين استقروا بهذه المنطقة في القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) أثناء حكم الموحدين، ثم بنو سليم وبنو معقل. فحسب منطق المدافعين عن الأصل العروبي للدارجة، تكون هذه اللغة الدارجة هي اللهجة العروبية التي نقلتها إلى المغرب هذه القبائل العربية من موطنها العربي بالمشرق، والتي لا يزال يتداولها اليوم العرب المنحدرون من هذه القبائل العربية، التي استقرت بالمغرب منذ العهد الموحّدي. كم كان عدد هؤلاء العرب حتى تنتشر لهجتهم وتزاحم الأمازيغية وتشكّل تهديدا لها على المدى البعيد؟ يقول "كابرييل كامبس" (Gabriel Camps)، وهو الخبير في تاريخ الأمازيغيين: «لا ينبغي المبالغة في الأهمية العددية لبني هلال: فمهما كان عدد الذين يعتقدون أنهم ينتسبون إليهم، فقد كانوا، عند ظهورهم بشمال إفريقيا، لا يتجاوزون بعضة آلاف». ويضيف موضّحا: «لا يتجاوز عدد الحاملين للدم العربي، بما فيهم بنو سليم وبنو مقعل الذي جاؤوا بعد بني هلال، مائة ألف من مجموع الذين استقروا بشمال إفريقيا في القرن الحادي عشر»(6). لننتبه أنه يقول: «عدد الحاملين للدم العربي»، أي قد يكون فيهم من تكون أصوله من أحد والديه أمازيغية، وعربية من الوالد الآخر الذي يحمل دمه العربي. وإذا وزعنا هذا العدد، الذي يبدو ضخما ومبالغا فيه بلا شك، على كل مناطق شمال إفريقيا، التي استقرت بها هذه القبائل، أي على ليبيا وتونس والجزائر ثم المغرب الأقصى، فسيكون نصيب هذا الأخير أقل من الربع، أي أقل من خمسة وعشرين ألفا. وواضح أن مهاجرين بهذا العدد، وحتى لو سلّمنا أنه يبلغ مائة ألف، لا يشكّلون سوى أقلية صغيرة بالنسبة إلى الملايين من الأمازيغيين. وبالتالي لا يمكن أن يكون لهم تأثير يغيّر التركيبة الديموغرافية والإثنية للسكان، مع ما ينتج عن ذلك من تغيير للوضع اللغوي كذلك. و"كامبس" نفسه يستغرب كيف «يُحدث بضعة عشرات الآلاف من البدويين العرب كل ذلك التحول الإثني والسوسيولوجي لملايين الأمازيغ»(7). مما يعني أن هذا التحوّل كان بفعل الأمازيغ أنفسهم وليس بفعل العرب. ويقول عن تأثير بني هلال: «في أقل من ثلاثة قرون [...]، سينجح الهلاليون، ودون أن يرغبوا في ذلك، في تعريب الجزء الأكبر من بلاد الأمازيغ لغويا وثقافيا»(8). لنلاحظ كيف ينفي "كامبس"، في الحقيقة، عن بني هلال أي دور قصدي في تعريب الأمازيغ، وذلك عندما يقول: «ودون أن يرغبوا في ذلك»، لأن الراغبين الحقيقيين في ذلك، كانوا في الحقيقة هم الأمازيغ، الذين حققوا رغبتهم هذه بتعريب أنفسهم بأنفسهم عندما ابتكروا لغة عربية خاصة بهم، وهي الدارجة التي هي ترجمة لمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، وذلك حتى يقنعوا أنفسهم أنه عرب، بدليل أنهم يتكلمون لغة "عربية". ويُستنتج من كلام "كامبس" أن العرب بشمال إفريقيا ليسوا هم العرب الحقيقيون، وإنما هم فقط أولئك الأمازيغيون الذين يعتقدون أنهم ينتسبون إلى العرب، كما هو واضح في النص المذكور أعلاه، والذي جاء فيه: «فمهما كان عدد الذين يعتقدون أنهم ينتسبون إليهم». وهو اعتراف أن الذين يعتبرون أنفسهم عربا بشمال إفريقيا هم يعتقدون ذلك فقط، وليسوا عربا حقيقيين ينحدرون من عرب حقيقيين، وإنما هم أمازيغيون حقيقيون لكنهم يعتقدون أنهم عرب.وقد كان "كامبس"، ولو أنه لم يربط ذلك بالدارجة ودورها الحاسم في تحقيق تلك الرغبة، واعيا برغبة الأمازيغ في التحول جنسيا إلى عرب، هوياتيا وعرقيا ولغويا، ودور ذلك التحول في تسريع التعريب ونتائجه، كما عبّر عن ذلك بقوله: «لقد كان هناك إغراء لدى الرحل الأمازيغ للقول بأنهم هم أيضا عرب، لنيل الحظوة والاعتبار ومكانة الغازي الفاتح»(9). والدافع الأول لهذا التحوّل، قبل أن يكون سياسيا واجتماعيا، هو ديني بالدرجة الأولى، كما سبق بيان ذلك، وهو ما يشرحه "كامبس" نفسه كما يلي: «القرآن، الذي هو وحي مباشر من الله إلى رسوله، لا يجب أن يمسه أي تغيير، وهو ما يستتبع أنه لا تجوز ترجمته. وبالتالي تصبح اللغة والكتابة العربيتان مقدستين. هذا التقديس المرتبط بالعربية ساهم في التعريب اللسني للأمازيغ»(10)، لأنهم أرادوا أن يتكلموا ويستعملوا العربية كلغة مقدسة، فأبدعوا الدارجة، بمعانيها وتراكيبها الأمازيغية، للأسباب التي شرحنا.واسترسالا لمناقشته لنفس الموضوع (تأثير بني هلال) بنفس الكتاب(11)، يتساءل "كامبس"، وعن حق، لماذا لا يوجد أحد من سكان شمال إفريقيا يدعي الانتساب إلى الوندال بعد استقرارهم لمدة قرنين بهذه المنطقة، موضّحا أن عددهم، لما احتلوا المنطقة في 429 ميلادية، كان متقاربا مع عدد العرب عند هجرة بني هلال وبني سليم وبني معقل إلى شمال إفريقيا في القرن الحادي عشر؟ونضيف، بخصوص الوندال:ـ أن عدد الأمازيغ، عندما احتل الوندال بلادهم، أي في القرن الخامس الميلادي، كان بالتأكيد أقل مما كان عليه عندما استقر الهلاليون بشمال إفريقيا في القرن الحادي عشر، أي بعد فاصل من ستة قرون لا بد أن عدد الأمازيغيين ارتفع خلاله حتى لو افتراضنا أن نموهم الديموغرافي كان ضعيفا وبطيئا جدا. وهذا يعني أن تأثير الوندال على الأمازيغيين، لغويا وثقافيا وعرقيا وسياسيا، كان يجب أن يكون أيسر وأقوى مما سيكون عليه تأثير الهلاليين.ـ أن الوندال دخلوا إلى شمال إفريقيا بجيش غازٍ وقوي، عكس بني هلال الذين دخلوه كـ"مدنيين" ـ وليس كعسكريين مثل الوندال ـ مسالمين، وبطلب وإذن من عبد المومن الموحدي. ولأن الوندال كانوا منتصرين وفي موقع قوة، فقد أقاموا حكما حقيقيا بالمنطقة إلى أن قضى عليه البزنطيون في 534 ميلادية، عكس الهلاليين الذين لم يكن لهم حكم ولا دولة، بل كانوا خاضعين لحكم الأمازيغيين. هذا يعني أن تأثير الوندال كان يجب أن يكون أقوى، لغويا وثقافيا وعرقيا وسياسيا، من تأثير الهلاليين.كل هذا يبيّن أنه من المستحيل، منطقيا وواقعيا، أن تحوّل أقلية عربية بدوية ملايين الأمازيغ إلى عرب. وهو ما يؤكد أن هذا التحول كان بفعل الأمازيغيين أنفسهم، للأسباب الدينية والسياسية التي أشرنا إليها. وكمثال على هذا التعريب الأمازيغي الذاتي نذكر منطقة وقبيلة دكالة المغربية، التي أصبحت عروبتها من البديهيات، مع أن ابن خلدون، وهو المتضلع في تاريخ المغرب والأمازيغ، يقول: «ودكالة منهم في ساحة الجبل من جانب الجوف مما يلي مراكش إلى البحر من جانب الغرب. وهناك رباط آسفى المعروف ببني ماكر من بطونهم وبين الناس اختلاف في انتسابهم في المصامدة أو صنهاجة»(12). فالانتماء الأمازيغي لأبناء دكالة أمر محسوم، وإنما الاختلاف هل هم من المصامدة أم من الصنهاجيين. والفحص اللسني لاسم "دكّالة" يُظهر أنه هو نفسه "الصداقة" "تيدّوكلا" (tiddukla) في الأمازيغية، وهي كلمة حُوِّرت وكُيّفت حسب النطق العربي مع إضافة تاء التأنيث على الخصوص في آخرها، كما كان يفعل كتاب العربية عندما نطقوا وكتبوا "أكسيل" بـ"كسيلة"، وجزيرة "تورا" بـ"تورة"، ومدينة "مليلت" بـ"مليلية"... وقد يعني هذا الأصل اللسني الأمازيغي لاسم "دكّالة" أن هذه القبيلة عرفت بهذا الاسم، والذي سيصبح اسما جغرافيا للمنطقة كذلك، نظرا لما كانت تقيمه من تحالفات بين قبائل أخرى كانت تعتبر "صديقة"، تجمع ما بينها تلك "الصداقة" (تيدّوكلا) التي هي أساس التحالفات والتكتلات بين القبائل. وهو ما ينسجم مع المعطيات التاريخية التي تؤكد أن قبيلة دكالة كانت عبارة عن اتحادية تضم عدة قبائل "صديقة". ولهذا تشمل دكالة، في مدلولها الجغرافي، منطقة ممتدة وواسعة جدا نظرا لكثرة القبائل المنضوية تحت اتحادية دكالة، وهو ما كان يحتاج إلى مساحات شاسعة من الأراضي.فالتأثير الكبير المنسوب إلى بني هلال، الذين يعدّ الكثير من الباحثين وصولهم إلى المغرب بداية لتعريب المنطقة، هو شبه خرافة تم صنعها وتضخيمها لأن مستعمليها كانوا في حاجة إليها. فقبل مجيء بني هلال، كان انتحال النسب العربي، للأسباب التي سبق شرحها، يمرّ في الغالب عبر ادعاء الانتساب إلى إدريس الأول، باعتباره العربي الحقيقي الذي لا يشك أحد في أصله العربي من جهة أبيه. وهذا ما ضخّم، وبشكل كاريكاتوري، خرافة "النسب الشريف"، حتى كادت أن تفقد أهميتها بسبب التزايد المتسارع لعدد الأمازيغيين، الذين أصبحوا "شرفاء" ينحدرون من إدريس "الشريف". فكان من نتائج هذا التضخيم والانتشار الواسع لهذه الخرافة العنصرية أن تراجعت مصداقيتها، وبدأت تظهر الشكوك حول صحتها وحقيقتها، إذ كيف يعقل أن ينحدر آلاف من سكان المغرب من رجل واحد، وفي مدة وجيزة لا تتجاوز قرنين ونصفا (ما بين القرن التاسع والحادي عشر)؟ تضاف إلى ذلك الأسئلة التي كانت تثار حول قدرة إدريس الأول على الإنجاب، ومدى صحة انتساب إدريس الثاني إليه. لكن هذا المشكل، المتعلق بمصداقية النسب العربي عبر إدريس الأول، سيجد حله الناجع في وصول قبائل بني هلال إلى المغرب. فانتحال النسب العربي بادعاء آلاف من الأمازيغيين الانحدار من آلاف العرب الهلاليين، هو أكثر مصداقية من ادعائهم الانحدار من رجل واحد هو إدريس الأول. وجد إذن الأمازيغيون، الذين كانوا يرغبون في التحول جنسيا إلى عرب، للأسباب التي شرحنا، في بني هلال، السند الذي كانوا في حاجة إليه ليصدّقوا أنهم عرب حقيقيون لا مراء في ذلك، لأن أجدادهم العرب يقدّرون بالآلاف من بني هلال، مما يجعل نسبهم العربي، ليس فقط ممكنا أو مرجّحا، بل ثابتا وحقيقيا تؤكده تلك الآلاف من عرب بني هلال. هكذا إذن، «وفي أقل من ثلاثة قرون [...]، سينجح الهلاليون، ودون أن يرغبوا في ذلك، في تعريب الجزء الأكبر من بلاد الأمازيغ لغويا وثقافيا»، كما كتب "كامبس".وهكذا، كذلك، تحوّل بنو هلال إلى أسطورة مؤسسة ومفسّرة للعروبة العرقية في المغرب، أصبح يعتمد عليها ويتبنّاها ليس فقط الأمازيغيون، الراغبون في التحوّل الجنسي، والذين وجدوا ضالتهم في بني هلال، بل حتى المؤرخون وجدوا فيها "المرجع" التاريخي الذي يفسرون به بداية تعريب المغرب في القرون الوسطى. هذا هو التأثير الحقيقي لبني هلال، وهو تأثير مصنوع وليس واقعيا، ومفبرك وليس حقيقيا، وأسطوري وليس تاريخيا، مثله مثل سيرتهم الأسطورية التي تحكيها "تغريبة بني هلال"، التي هي اختلاق خرافي وخيالي لا يمتّ بصلة إلى الواقع التاريخي، كما هو معروف.نعود إلى السؤال: وأين هم العرب الهلاليون؟ وأين هي لهجتهم العروبية؟بما أنهم يشكّلون أقلية لسنية وعرقية، فلا يمكن أن يكون لهم تأثير يذكر على الوضع اللغوي ولا العرقي ولا الديموغرافي، لأنهم هم الذين تأثروا، كما تقضي القاعدة العامة، بلغة الأغلبية التي ستصبح لغة أحفادهم بعد بضعة أجيال، كما يحدث لكل الأقليات المهاجرة التي تستقر في بلد المهجر. نعم يمكن للغة الأقلية المهاجرة أن تفرض نفسها وتتبناها الأغلبية من السكان الأصليين، إذا كانت لغة تدوين وكتابة وثقافة وحضارة. وهذا لا ينطبق على لغة بني هلال إذا سلّمنا أن لغتهم كانت مجرد لهجة عروبية لا تستعمل في الكتابة والإنتاج الثقافي. أما إذا افترضنا ـ وهذا ليس مستبعدا إذا عرفنا أنهم كانوا بدوا، وعرفنا أن البدو هم الذين حافظوا على الفصحى حتى أن النحاة واللغويين كانوا يلجؤون إليهم لتدوين وجمع العربية من مصادرها الصافية، التي لم تخالطها ولم تفسدها العجمة كما حصل لعربية الحواضر ـ أن لغتهم كانت هي العربية، فهو تأكيد آخر أن الدارجة منتوج أمازيغي ما دام أن معانيها وتراكيبها أمازيغية وليست عربية. وفي هذه الحالة لا أحد يجادل في كون تأثير العربية على الأمازيغيين كان كبيرا جدا، إذ تبنوها كلغة دين وكتابة وتعليم وثقافة وحضارة، وعملوا على استخدامها في التواصل والتخاطب، لكن بمعاني وتراكيب أمازيغيتهم، وهو ما أعطى اللغة التي نسميها الدارجة، كما سبق بيان ذلك.كان من الممكن كذلك، وهو أمر مقبول منطقيا، أن يفرض بنو هلال لهجتهم العروبية، على فرض أنهم لم يكونوا يتكلمون الفصحى، لو كانت لهم سلطة سياسية، تأخذ شكل دولة "هلالية" يخضع لها السكان الأمازيغيون. والحال أنهم لم يدخلوا إلى المغرب عنوة كمحاربين وغزاة منتصرين، بل دخلوه بطلب وإذن من السلطان عبد المومن الموحدي، كما سبقت الإشارة. وعليه، فحالتهم لا تختلف عن حالة أية مجموعة من المهاجرين، الذين يصبحون، بعد بضعة أجيال، جزءا من السكان الأصليين، لغة وهوية وانتماء، اللهم إذا استقروا، وبشكل نهائي ودائم، بإقليم من بلد المهجر اتخذوه موطنا جديدا لهم، تميزه عن باقي البلد حدود ترابية ولسنية. وهذا ما لم يحدث طبعا مع بني هلال، إذ تشتتوا وتفرقوا في كل مناطق المغرب، ولا توجد منطقة بهذا المغرب خاصة بهم وتابعة لهم.من جهة أخرى، لما وصل بنو هلال، ثم بنو سليم وبنو معقل، في القرن الحادي عشر (الخامس الهجري) وما بعده، إلى المغرب، كانت الدارجة قد أخذت شكلها الحالي المتميز ببصمتها اللسنية الأمازيغية، كما شرحناها سابقا، والمتمثلة في المعاني والتراكيب الأمازيغية المستعمَلة بألفاظ عربية، رغم أن انتشار هذه الدارجة كان لا يزال محدودا جدا. وهذا يبيّن أن الأمازيغيين اكتشفوا العربية وتعرّفوا عليها، وظهرت لديهم الرغبة في تعلمها واستعمالها في التواصل، قبل وصول الهلاليين إلى المغرب، إذ اكتشفوها ورغبوا في تعلمها واستعمالها مع انتشار الإسلام منذ أواخر القرن الأول الهجري. ولأنها أداة ضرورية للإسلام وأداء الصلوات وحفظ القرآن وتلاوته، فقد أرادوا منذ البداية، ولهذه الأسباب الدينية، وقبل أن تنضاف إليها أسباب سياسية أخرى في ما بعد، تعلمها واستعمالها بدل أمازيغيتهم. وبما أنها، كما سبق شرح ذلك، لم تكن لغة تخاطب، فقد استعملوها في هذا التخاطب لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية التي يتقنون استعمالها في التخاطب، معتقدين ومقتنعين أنهم إنما يتكلمون العربية. فكل ما يمكن أن يكون المهاجرون الهلاليون قد ساهموا به في ما يخص الدارجة، هو أنهم أغنوها أولا على مستوى عدد الناطقين بها بعد أن أصبحوا يتكلمونها بحكم استقرارهم وسط المتحدثين بها من الأمازيغ، المتحولين جنسيا إلى عرب، وأغنوها ثانيا على مستوى معجمها بما أضافوه، بلا شك، إلى هذا المعجم من ألفاظ كانوا يستعملونها في عربيتهم الأصلية، لهجية كانت أو فصيحة. ويبقى الدليل الأقوى على أن الدارجة ليست لهجة الهلاليين ولا لهجة أية قبيلة عربية، هو أنها تحمل البصمة اللسنية التي تنفرد بها الأمازيغية، والتي (البصمة) هي مختلفة وغريبة عن البصمة اللسنية للغة العربية ولكل اللهجات العروبية الأخرى.وأين اختفت لهجة الموريسكيين الأندلسيين:ومن بين "الأدلة" الأخرى التي يوردها المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، القول إن الأندلسيين الذين نزحوا إلى المغرب ابتداء من القرن السادس عشر، بعد أن طردهم الإسبان، حملوا معهم لهجتهم العروبية التي واصلوا استعمالها ونشرها في المغرب. لكن أين توجد بالمغرب هذه اللهجة الأندلسية العروبية؟ هل في تيطّاوين أو أشاون أو الريف الشرقي أو فاس أو سلا، التي تعد أهم المدن والمناطق التي استقر بها الأندلسيون؟ فلهجة هذه المدن والمناطق تحمل هي كذلك البصمة اللسنية الأمازيغية، ولا تختلف في شيء، من حيث معانيها وتراكيبها الأمازيغية، عن الدارجة التي هي عربية الأمازيغ التي ترجموا إليها أمازيغيتهم، كما وضّحنا ذلك.قد نفترض أن الأندلسيين جاؤوا إلى المغرب بلهجة عروبية مختلفة عن الدارجة ذات المنشأ الأمازيغي، أي التي أنتجها الأمازيغيون ولم تأت من بلاد العرب. لكن مع اندماجهم كأقلية في المجتمع المغربي، ستختفي هذه اللهجة الأندلسية تدريجيا لتصبح الدارجة هي لغة الجميع، بما فيهم ذوو الأصول الأندلسية. وهنا قد لا تختلف حالة الأندلسيين عن حالة الهلاليين في ما يخص مساهمتهم في إغناء الدارجة، والذي يكون قد اقتصر، مثل الهلاليين، على انضيافهم إلى عدد الناطقين بها، وعلى تطعيم معجمها بألفاظ جديدة كانت خاصة بالبيئة الأندلسية.لكن عيب هذا الافتراض أنه يقوم على مسلمة أن الأندلسيين عرب مثل الهلاليين. وهذا غير صحيح طبعا. فإذا عرفنا أن الجيش الذي غزا الأندلس كان يتألف من آلاف الأمازيغ وعدد قليل جدا من العرب، وبالتالي فإن الذين استقروا من المسلمين بالأندلس للمرة الأولى كانوا بالضرورة أمازيغيين، كما أن من لحق بهؤلاء الأوائل لا يمكن أن يكونوا إلا أمازيغيين بحكم القرب والجوار والقرابة القبلية، ولدافع "التجمّع العائلي" الذي لا بد أنه كان وراء الاستقرار النهائي للعديد من الأسر الأمازيغية بالبلد الإيبيري. إذا عرفنا ذلك، فسنعرف أن اللهجة العروبية الوحيدة التي وصلت هي الأولى إلى الأندلس كانت هي اللغة العربية، أي لغة الإسلام والقرآن، والتي دخلت إلى الأندلس، ليس عبر مستعمليها العرب، وإنما عبر المسلمين الأمازيغ، الذين كانوا في بداية اكتشافها واستخدام ما تيسر منها لأداء صلواتهم. ولما أراد هؤلاء، لنفس الأسباب التي شرحنا بها ظهور الدارجة، تعلّم واستعمال لغة الدين والقرآن والسلطة السياسية، التي هي العربية، استخدموها مستعملين ألفاظا عربية لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، صانعين بذلك دارجة الأندلس، بنفس الطريقة ولنفس الأسباب، اللذيْن رأيناهما في ما يخص تشكّل دارجة المغرب. وهذا ما يفسّر أن لهجة الأندلس ولهجة المغرب تشكلان لغة واحدة، ولا تختلفان إلا بقدر ما تختلف دارجة المغرب نفسها من منطقة إلى أخرى، وذلك ليس لأن مصدرهما عروبي واحد، بل لأن مصدر معانيهما وتراكيبهما واحد، وهو اللغة الأمازيغية.أما عرب الأندلس الحقيقيون، إذا جاز أن نتحدث عن عرب حقيقيين، فقد كانوا وظلوا أقلية عرقية وعددية لم يكن بالتالي للهجاتهم العروبية ـ إذا افترضنا أنهم كانوا يتحدثون بغير العربية الفصحى ـ أي تأثير على الوضع اللغوي. ذلك أن التأثير الوحيد الحقيقي على هذا الوضع اللغوي هو الذي مارسته العربية باعتبارها لغة القرآن والدين. وهذا التأثير هو الذي أنتج الدارجة عندما أراد الأمازيغ أن يستعملوا لغة القرآن، ويتخلوا عن لغتهم الأمازيغية. لكن يجب الاعتراف أنه رغم أن العرب الحقيقيين كانوا أقلية صغيرة بالأندلس، إلا أن العروبة العرقية أصبحت هي المهيمنة إيديولوجيا وسياسيا ودينيا ولغويا وثقافيا، مما نتج عنه أن العرب أصبحوا أكثرية، لأن الأمازيغيين أنفسهم، وهم الأكثرية الحقيقية، أصبحوا ينتحلون الانتماء العربي لما كان يرتبط بهذا الانتماء من امتيازات عرقية وسياسية ودينية واجتماعية، كما كان الأمر بالمغرب كذلك. فالعرب الحقيقيون، الذين استقروا بالأندلس، كانوا في الغالب أفرادا بأعداد محدودة جدا، ويتكونون في معظمهم من هاربين ومغامرين وأصحاب طموحات سياسية، ولم يأتوا إليها في هجرات جماعية ضخمة تغيّر التركيبة السكانية لبلاد الأندلس، والتي ظلت (التركيبة) في غالبيتها وطابعها العام أمازيغية. ولا ننسى أن الذين هيأوا الظروف والشروط لتنصيب عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) خليفة على الأندلس سنة 138 هجرية هم أخواله الأمازيغيون، الذين استقبلوه وحموه بالمغرب من العباسيين الذين كانوا يتعقّبون من بقي من الأمويين على قيد الحياة. وقد استمرت حمايتهم له بالأندلس وهو خليفة، إذ كان عليهم يعتمد وفيهم يثق. لهذا يمكن القول إن دولة عبد الرحمن الداخل كانت أمازيغية بجيشها وسكانها، وعربية فقط بالنسب العربي الأبوي لخليفتها، مثلما ستكون عليه دولة الأدارسة بالمغرب بعد ثلاثين سنة (172 هجرية)، إذ ستكون هي كذلك أمازيغية بمقوماتها وسكانها ورجالها، وعربية فقط بالنسب العرقي العربي لإدريس الأول، الذي نصّبه أمازيغ أوربة أميرا عليهم. وقد يكون هو أيضا حفيدهم من أمه الأمازيغية، مما قد يفسر لجوءه إليهم والاحتماء بهم كما فعل عبد الرحمن الداخل، ولو أن المصادر لا تذكر أن أمه أمازيغية كما تعترف بذلك في ما يخص عبد الرحمن، كما هو معروف.والشاهد الآخر، الأساسي، على أن العرب الحقيقيين كانوا دائما أقلية بالأندلس، مثلما كانوا كذلك بالمغرب، هو أن الإسبان ظلوا يسمون المسلمين، الذين غزوا بلادهم في 711 م، بـ"الموريين" (Los moros). واللفظ الإسباني "مورو"، ذو الأصل اللاتيني maurus، المأخوذ بدوره من اللفظ اليوناني máuros، يعني «السكان الأصليين لإفريقيا الشمالية المتاخمة لإسبانيا» (Natural del África septentrional frontera a España)، كما يعرّفه "معجم اللغة الإسبانية" الذي تصدره "الأكاديمية الملكية لإسبانيا". وواضح أن المقصود بـ"المورو"، كسكان أصليين لإفريقيا الشمالية المجاورة لإسبانيا، هم الأمازيغيون. وإذا كان العديد من الباحثين يرجعون هذا اللفظ إلى أصل يوناني، إلا أنه ليس من المستبعد، مع ذلك، أن يكون ذا أصل محلي أمازيغي يعني ـ بعد تصحيح التحوير الذي اقتضاه النطق الأجنبي اليوناني واللاتيني ـ أولا، "تامورت"، "أمور"، أي الأرض، البلد، الوطن؛ وثانيا، العهد، الأمان، الحماية. فيكون "مورو"، بالمعنى الأول، هم "أيت تامورت"، أيت أمور"، أي الأصليون أصحاب الأرض، تمييزا لهم عن الوافدين والأجانب عن تلك الأرض. ويؤيد فرضيةَ الأصل المحلي الأمازيغي للفظ "مورو"، تسميةُ "مراكش" بهذا الاسم الذي كان يطلق على المدينة وعلى المغرب كله، والذي يقول عنه الأستاذ أحمد التوفيق، انطلاقا من تحليل لسني لهذا الاسم، أنه لفظ مركّب يتكوّن في جزئه الأول من كلمة "أمور" الأمازيغية (الأرض أو الحماية)، وفي جزئه الثاني من كلمة "أكوش"، التي تعني الله. وبذلك يكون اسم "مراكش" يعني: "أرض الله"، أو "حماية الله"، "أمان الله"، "عهد الله"، "الأرض التي يحميها الله"(13). وبما أن هذه التسمية ـ "مراكش" ـ هي محلية وليست ذا مصدر أجنبي، فسيكون اسم "مورو" تحويرا فقط لنفس الاسم المحلي الأمازيغي الذي هو "أمور". وهو جذر نجده حاضرا في كل التسميات الأجنبية التي أطلقت على المغرب، مثل: Marruecos, Maroc, Morocco…، والتي يمكن اعتبارها تكييفا، كما يحدث عندما يُنطق اسم محلي بلغة أجنبية، لاسم مراكش الأمازيغي مع النظام الصوتي للغات الأجنبية التي استعملت تلك التسميات، كما يكون قد حدث ذلك، كما أشرنا، مع كلمة "أمور" الأمازيغية التي نُطق بها في اليونانية واللاتينية والإسبانية "ماورو" و"مورو".وقد أطلق الإسبان، بعد استعادة سيادتهم على الأندلس واسترجاعهم لغرناطة في 1492، على المسلمين الذين قبلوا التحوّل إلى المسيحية طبقا للشروط التي فرضها عليهم الحكام الكاثوليك لإسبانيا في 1502، اسم "الموريسكيين" (Moriscos)، أي المنتسبين إلى "المورو"، الذين هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا، أي الأمازيغ، كما شرحنا. وإذا كان الإسبان لم يسموهم بالعرب، ولا حتى بالمسلمين، واختاروا واستعملوا اسم "الموريسكيين"، فلأن هذه التسمية هي المعبّرة، وبشكل يطابق فيه الاسم للمسمّى، عن الانتماء الهوياتي والجغرافي والعرقي لهؤلاء المسلمين. وسينتقل الجزء الأهم من هؤلاء "الموريسكيين"، بعد أن قرر حكام إسبانيا طردهم في 1609، إلى المغرب، حاملين معهم دارجتهم الأندلسية، ذات المعاني والتراكيب الأمازيغية، لأن الذين صنعوها ونطقوا بها للمرة الأولى هم أمازيغيون، أو "موريون". فهؤلاء "الموريسكيون" هم إذن أمازيغيون، أي "موريون"، عادوا إلى موطنهم الأصلي، أي بلاد "المورو" بشمال إفريقيا بعد إجلائهم من الأندلس، لكنهم عادوا حاملين لوعي زائف على أنهم عرب يتحدثون ما يعتبرونه لغة عربية، وهي دارجتهم الأندلسية التي صنعوها بالجمع بين معجم عربي ومعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، على غرار الدارجة المغربية.واللافت أن ما حدث مع استقرار بني هلال بالمغرب، عندما أصبح الكثير من الأمازيغيين ينتحلون الانتساب إلى العرب الهلاليين، سيتكرر مع استقرار "الموريسكيين" بالمغرب عندما أصبح العديد من المغاربة، من الذين سبق لهم أن ادعوا الانتساب إلى الهلاليين، منتحلين للانتماء، ليس إلى هؤلاء العرب الهلاليين، بل إلى الأندلسيين باعتبارهم عربا أكثر تحضرا ورقيا من العرب الهلاليين. وهكذا نجد اليوم، في المغرب، عائلات كثيرة معروفة تزعم أنها سليلة "العرب" "الموريسكيين"، دون أن تفكر لحظة أن "الموريسكيين" هم "المورو"، أي أمازيغيو شمال إفريقيا. طبعا لو فكّرت في ذلك لاحتفظت بنسبها الأول إلى الهلاليين، رفضا منها أن تكون سليلة "الموريسكيين" ذوي الأصول الأمازيغية، وانسجاما مع تحوّلها الجنسي إلى عائلة منحدرة من أصول عربية.إذا كانت الدارجة ذات أصل أمازيغي، فلماذا لا تختلف باختلاف الجهات مثل أمها الأمازيغية؟من بين الاعتراضات الأخرى التي يوردها المدافعون عن الأصل العروبي للدارجة، حتى ينفوا عنها أن تكون ذات مصدر محلي أمازيغي، قولهم إن هذه الدارجة، لو كانت حقا ترجمة للأمازيغية، لكانت هناك دارجات تختلف من جهة إلى أخرى، لا يمكن التفاهم بين مستعمليها المنتمين إلى جهات مختلفة، على غرار اختلاف اللهجات الأمازيغية الثلاث التي لا يمكن التفاهم بين مستعمليها المنتمين إلى جهات مختلفة. والحال أن هناك دارجة واحدة وموحّدة يتفاهم بها جميع المغاربة على كافة التراب الوطني، عكس الأمازيغية. وهو ما يستنتجون منه أن الدارجة ليست ترجمة من الأمازيغية، وإلا لاحتفظت اللغة المترجمة، التي هي الدارجة، على نفس الاختلافات التي تميز اللهجات الأمازيغية، ولما كان ممكنا استعمالها للتفاهم بين جميع المغاربة على الصعيد الوطني، كلغة واحدة لا تختلف من جهة إلى أخرى. إذا كانت الدارجة موحّدة، يتفاهم بها كل مستعمليها من المغاربة من مختلف المناطق، فلأن تعميم استعمالها في التواصل هو الذي جعل جميع المغاربة يفهمونها ويتفاهمون عبرها، ومن مختلف المناطق والجهات. وبسبب هذا التواصل لم يعد للاختلافات الجهوية، التي تحتوي عليها مثل الأمازيغية، أي تأثير على التفاهم، لأن الجميع يفهم دارجة الجميع. فرغم أن الدارجة الجبيلة مختلفة عن الدارجة الفاسية، وهذه عن الدارجة المراكشية، وهذه الأخيرة عن الدارجة الوجدية...، إلا أن الجبلي والفاسي والمراكشي والوجدي يتفاهمون في ما بينهم، لأن كل واحد يفهم دارجة الآخر، نتيجة استعمال الدارجة في التواصل على الصعيد الوطني، وليس الجهوي أو المحلي فقط. ولا ننسى أن صنع الأمازيغيين للدارجة، عبر ترجمة معاني وتراكيب أمازيغيتهم إلى العربية، كان بهدف استعمالها في التواصل كبديل عن أمازيغيتهم، وهو ما ساهم في تعميم وتقوية التواصل بها حتى أصبحت لغة يفهمها الجميع لأن الجميع يتواصل بها. وهذا ما أراده الأمازيغيون بإبداعهم للدارجة، حتى تكون لغة التواصل في ما بينهم. ثم دعّمت الدولة تعميم هذا التواصل بالدارجة عندما أصبحت هي اللغة المستعملة شفويا في مؤسسات الدولة وإداراتها، وفي المدرسة والإذاعة والتلفزيون. هذه العوامل التي تفسّر اكتساب الدارجة، رغم اختلافاتها الجهوية، وضع لغة موحدة للتفاهم، تفسّر أيضا عدم اكتساب الأمازيغية لنفس الوضع كلغة موحّدة، بسبب غياب التواصل، على الصعيد الوطني، بين المتحدثين بها. فبقي كل فرع منها معزولا عن الفروع الأخرى بالمناطق التي تستعمل بها تلك الفروع، مما جعل من هذه الفروع لهجات يصعب التفاهم بين مستعمليها. وعدم التفاهم بالأمازيغية بين مختلف المتحدثين بها لغياب استعمالها في التواصل، يزيد من إضعاف هذا التواصل، ويقوّي ويوحّد التواصل بالدارجة عندما يلجأ إليها الأمازيغيون، المنتمون لمناطق مختلفة، للتفاهم في ما بينهم. هناك إذن علاقة طردية بين اكتساب الدارجة وضع لغة وموحدة، وبين الحيلولة دون اكتساب الأمازيغية لنفس الوضع. يضاف إلى هذه العوامل أن الدارجة، إذا كانت ترجمة لمعاني وتراكيب الأمازيغية باستعمال كلمات عربية، كما شرحنا، فلا يمكن إلا تكون واحدة رغم اختلاف اللهجات الأمازيغية، لأن معاني الأمازيغية مشتركة، في معظمها، بين كل هذه اللهجات، بجانب كون تراكبيها، التي احتفظ عليها في الدارجة، هي دائما واحدة بالنسبة لجميع فروع الأمازيغية، لأنها من الخصائص النحوية الملازمة للأمازيغية كلغة، وليست مقصورة على لهجة منها دون أخرى. أما المعجم العربي، الذي صيغت به معاني وتراكيب الأمازيغية في الدارجة، فهو أصلا موحّد، لأن مصدره هو العربية الموحّدة. ولماذا لم يبدع المسلمون العجم دارجتهم مثل الأمازيغ؟ من بين الاعتراضات، كذلك، على كون الدارجة إنتاجا أمازيغيا، نشأة وموطنا ومعنى وتركيبا، القول إنه لو كان صحيحا أن رغبة الأمازيغيين في تعلّم العربية واستعمالها في التواصل، باعتبارها لغة الدين والقرآن، كانت وراء إبداعهم للدارجة كلغة تتشكل من ألفاظ عربية ومعانٍ وتراكيب أمازيغية، لكان ذلك صحيحا أيضا بالنسبة لكافة الشعوب المسلمة من العجم، التي أحبت هي أيضا العربية وعملت على تعلمها واستعمالها باعتبارها لغة الإسلام والقرآن. لا مقارنة مع وجود الفارق. والفوارق هنا كثيرة: لم يعرف الأمازيغ دولة قارة وذات استمرارية، كما عند الفرس مثلا. ولا تهمنا استمرارية الدولة في حدّ ذاتها، وإنما ما تؤدي إليه من توحيد للغة واستعمال وانتشار للكتابة، وما ينجم عن ذلك من تدوين للذاكرة الجماعية وإنتاج ثقافي مكتوب. وهذه عوامل ـ قيام الدولة ووحدة اللغة وانتشار الكتابة ـ تقوّي الشعور القومي، وتعزز مكانة اللغة، وتحميها ـ وهذا هو الأهم ـ من استعمال لغات أخرى للكتابة بديلا عنها، باعتبارها، هي أيضا، لغة كتابة ولغة الدولة والسلطة والتاريخ، أي لغة تدوين الذاكرة التاريخية الجماعية. هذا ما كان ينقص الأمازيغيين، وهو نقص جعلهم لا يملكون ما هو أهم. فالشعب الذي لا دولة له ولا كتابة له لا يملك في الحقيقة شيئا كثيرا. فغياب الدولة، وما يستتبعه من غياب للكتابة والتدوين، اضطرهم لتبني لغات أجنبية للكتابة، وهو ما ساهم بدوره في الإبقاء على الأمازيغية في مستواها الشفوي، وحال دون الانتقال بها إلى المستوى الكتابي المتطور. لكن إذا كان الأمازيغ، للأسباب التي ذكرنا، قد تبنوا لغات أجنبية للكتابة لدورها الوظيفي كلغات كتابة، كما فعلوا مثلا مع الفينيقية واللاتينية على الخصوص، فإنهم، عندما تبنوا العربية كلغة كتابة، لم يفعلوا ذلك فقط لهذا السبب الوظيفي، بل تجاوزوا ذلك ليجعلوا من وظيفتها الدينية السبب الرئيسي والأول لتبنّيها وتعلّمها واستعمالها، لتصبح وظيفتها الكتابية مجرد نتيجة متفرعة عن وظيفتها الدينية الأولى وتابعة لها. وهذه الأولوية للوظيفة الدينية، التي أعطوها للعربية، ناتجة عن الخلط الثلاثي لديهم ـ والذي أدّت إليه الثقافة السياسية للعروبة العرقية كما مورست بالمغرب منذ اعتناق الأمازيغ للإسلام، كترويج فكرة أن العرب أفضل الأجناس لأن النبي (صلعم) اصطفاه الله منهم، وأن العربية لغة أهل الجنة... ـ بين العرق العربي واللغة العربية والدين الإسلامي. وهو خلط جعلهم يتصورون أن المسلم، بقدر ما يكون عربيا ومستعملا للعربية، بقدر ما يكون إسلامه أكمل وأفضل. ولأنهم، ككل مؤمن مسلم، أرادوا أن يكون إسلامهم أكمل وأفضل، فقد كانت الوسيلة المتاحة لذلك هو أن يتشبهوا ويتماهوا بالعرب ويتحدثوا بالعربية. فاختلقوا خرافة النسب الشريف وانتحلوا الانتماء إلى العرق العربي. ولأن العربية، كما سبق أن شرحنا، كانت لم تعد لغة تخاطب وتداول يومي، فقد واصلوا استعمال ما كانوا يعرفونه من معجمها لكن بمعاني وتراكيب لغتهم الأمازيغية، معتقدين أنهم إنما يتحدثون العربية لأن ظاهرها اللفظي هو بالفعل عربي. وهكذا تشكّلت الدارجة لتكون "دليلا" آخر على أن هؤلاء الأمازيغيين، الذين يتحدثونها، ليسوا أمازيغيين وإنما هم عرب، كما "تدل" على ذلك لغتهم وأنسابهم، المختلقة طبعا. هذا الخلط بين العرق العربي واللغة العربية والدين الإسلامي، لم يحصل مثله عند الشعوب غير العربية الأخرى كالفرس مثلا، الذين ميّزوا، ومنذ اعتناقهم للدين الجديد، بين الإسلام كدين وبين العرب الذين ينتمي إليهم رسول هذا الدين. بل إنهم استمروا، حتى بعد إسلامهم، في احتقار العرب (الحركة الشعوبية) كشعب يعتبرونه أدنى منهم حضارة وثقافة ورقيا، مع أنهم احتضنوا الإسلام وأجلّوه، واحترموا اللغة العربية وأكبروها، لكنهم لم يجعلوا منهما بديلا عن هويتهم ولغتهم القوميتين، أو قالوا إنهم فرس عرَبهم الإسلام كما يكرر العديد من المغاربة. وبالتالي فلم يكن لديهم، عكس الأمازيغ، ما يسوّغ تحوّلهم جنسيا إلى الجنس العربي بادعاء الانتساب إلى العرب، وخلق لغة عربية خاصة بهم حتى يظهروا كعرب، كما فعل الأمازيغ عندما صنعوا الدارجة وانتحلوا النسب العربي. ولماذا لا يطالب الأمازيغ بترسيم الدارجة وكفى؟ أمام الأدلة اللسنية (البصمة اللسنية الأمازيغية) التي تثبت أن الدارجة إبداع أمازيغي، يرد المدافعون عن أصلها العروبي أنه إذا كانت هذه الدارجة منتوجا أمازيغيا حقا، فلماذا يطالب النشطاء الأمازيغيون بترسيم الأمازيغية وتدريسها؟ ولماذا لا يكتفون بالدفاع عن ترسيم الدارجة وتدريسها، وخصوصا أن الجميع يفهمها عكس الأمازيغية التي تحتاج إلى عملية توحيد قد تتطلب وقتا ليس بالقصير؟ أولا، إن الذين يعارضون ترسيم الدارجة وتدريسها، أكثر مما يفعل المدافعون عن الأمازيغية، هم التعريبيون المقتنعون بالأصل العروبي لهذه الدارجة. فلقد رأينا الحملة المسعورة التي شٌنّت من طرف هؤلاء التعريبيين، في السنتين الأخيرتين (نحن في غشت 2016)، ضد الذين ينادون باعتماد الدارجة كلغة للتدريس. وأنه لأمر غريب حقا، ومتناقض وغير مفهوم أن يرفض من يعتبرون الدارجة لغة عروبية ترسيمَها واستعمالها كلغة في المدرسة. أم أنهم مقتنعون، لاشعوريا، أنها أمازيغية الأصل، وبالتالي فهم يعارضون ترسيمها وتدريسها لهذا السبب؟ ثانيا، إذا كان المغاربة الناطقون بالأمازيغية لا يدافعون عن الدارجة كلغة ذات أصول أمازيغية، ولا يطالبون بالتالي بترسيمها، فذلك لأنها تعتبر لغة عربية، وتستعمل كأداة فعّالة، أكثر من العربية المدرسية، لتعريب الأمازيغيين. لكن لو كان هناك وعي عند الدولة وعند المثقفين واللسانيين المغاربة، مع العمل عل نشر هذا الوعي وتعميمه، أن الدارجة لغة أمازيغية، منشأ وإنسانا وموطنا ومعنى وتركيبا، وأن المتحدثين بها كلغتهم الفطرية هم أمازيغيون يتحدثون اللغة التي أبدعها أجدادهم الأمازيغيون بأرضهم الأمازيغية، ولم تأت إليهم من خارج هذه الأرض، لما كان هناك مشكل في أن تكون الدارجة لغة رسمية ولغة للتدريس، لأنها ستكون، مثل أمها الأمازيغية الأصلية، لغة الهوية الأمازيغية للمغرب وللمغاربة. وستصبح، في هذه الحالة، هي نفسها، عنوانا على الانتماء الأمازيغي للمغرب وللمغاربة. وهكذا مثلا، لو كان المغرب، كما كان يجب أن يكون، دولة أمازيغية، بالمفهوم الترابي، يٌعترف فيه بأن الدارجة هي فرع للغة الأمازيغية، تختلف عن الأمازيغية الأم باستعمالها لمعجم العربية أكثر من معجم الأمازيغية، مع احتفاظها على نفس معاني وتراكيب الأمازيغية الأصلية، لما كان لدينا اعتراض على أن تكون الدارجة لغة رسمية ولغة مدرسية تكتب بحروف أمها الأمازيغية الأصلية، أي تيفيناغ. ففي هذه الحالة، لن يختلف وضع الدارجة، بمعجمها العربي الذي قد تتراوح نسبته ما بين 75 إلى 85 في المائة من مجموع ما تستعمله من ألفاظ، كثيرا عن وضع اللغة الفارسية، التي يضم معجمها حوالي 60 في المائة من الألفاظ العربية. ومع ذلك فلا أحد من الفرس يقول إن لغتهم الفارسية لغة عربية، وأن المتحدثين بها هم عرب، وهذا بالرغم أنها أخذت من العربية، ليس فقط الجزء الأهم من معجمها، بل حتى حرف كتابتها. وأين المشكل إذا كان أجدادنا الأمازيغ قد اختاروا الانتماء إلى العروبة؟ هناك من قد يعترض: وأين المشكل إذا كان أجدادنا الأمازيغ قد اختاروا الانتماء إلى العروبة، وحافظنا، نحن المغاربة الناطقين بالدارجة، على هذا الاختيار وواصلنا الانتماء إلى العروبة كما ورثنا ذلك عن أجدادنا؟ هذا اعتراض وجيه ومعقول. لكن المشكل ليس في كون جزء من أجدادنا كانوا أمازيغيين في الأصل ثم تحوّلوا جنسيا إلى عرب، وتبنّوا، لأسباب دينية وسياسية، العروبة كانتماء لهم، مع انتحالهم للنسب العربي وصنعهم للغة "عربية" خاصة بهم، هي الدارجة. فهذه هي الحقيقة، وهذا هو ما حصل بالفعل. وإنما المشكل هو أن أحفاد هؤلاء الأمازيغيين، الذي تحولوا إلى عربان، ينكرون هذه الحقيقة، ويدّعون أن أجدادهم، هؤلاء، كانوا منذ البداية وفي الأصل عربا أقحاحا جاؤوا من الجزيرة العربية، كما تشهد على ذلك ـ حسب زعمهم ـ لغتهم الدارجة التي هي لهجة عروبية لا علاقة لها بالأمازيغية والأمازيغيين. هذا هو المشكل. لماذا هو مشكل؟ لأن هذا "التفسير"، وهذه "القراءة" لـ "عروبة" المغرب ولـ"عروبة" دارجته، هما زيف مخالف للحقيقة وللتاريخ وللواقع، وللمعطيات اللسنية حول العلاقة بين الأمازيغية والدارجة. وهذا الزيف هو الذي صنع هذه "العروبة"، وخصوصا عندما أصبح إيديولوجية للدولة منذ 1912، فعملت على نشره وترسيخه عبر مدارسها وإعلامها ومؤسساتها. أما لو كان هناك وعي لدى الدولة ولدى المثقفين المغاربة بأن المتحدثين بالدارجة هم حقا حفدة الأمازيغيين، الذين أرادوا التحدث بالعربية تماهيا مع العرب فخلقوا "عربيتهم" الأمازيغية، التي استعملوا فيها الألفاظ العربية لكن بمعاني وتراكيب أمازيغيتهم، وهي الدارجة التي أبدعوها، هنا في أرض تامزغا، ولم تأتهم من بلاد العرب مثل اللغة العربية، وأن هذه الدارجة هي عربية هؤلاء الأمازيغ ـ وليست عربية العرب ـ التي ورثها عنهم المغاربة المتحدثون بها اليوم، باعتبارهم حفدة لهؤلاء الأجداد الأمازيغيين... لو كان هناك مثل هذا الوعي، لما كان هناك مشكل، لأن هذا الوعي مطابق للحقيقة وللتاريخ. وفي هذه الحالة، سيُطرح السؤال من نوع آخر ومستوى آخر: إذا كان أجدادنا ارتكبوا أخطاء ووقعوا ضحية استلاب ونصْب، باسم الدين والنسب الشريف ولغة الجنة، أدّيا بهم إلى التحول جنسيا بتغيير جنسهما الأمازيغي إلى جنس عربي، فهل من واجبنا السير على نفس الأخطاء وإعادة إنتاجها، والقبول بالاستمرار في الوقوع ضحية لنفس الاستلاب والنصْب، والرضا بالتحوّل الجنسي والتنازل عن هويتنا الأمازيغية؟ من جهة أخرى، ظل هذا التحوّل الجنسي لأجدادنا الأمازيغ إلى الجنس العربي، للأسباب التي شرحنا، مع ما أدى إليه ذلك التحول من ظهور الدارجة كعربية أمازيغية، (ظل) يُمارس في نطاق فردي كاختيار شخصي، لما كان يرتبط به من امتيازات دينية وسياسية واجتماعية وعرقية، ولم يسبق أن كان ظاهرة جماعية تخص كل الشعب المغربي والدولة التي تحكم هذا الشعب. وهذا ما يفسّر أن انتشار الدارجة، قبل 1912، بقي محدودا تتحدث بها أقلية لا تبلغ حتى ربع سكان المغرب. وهذا بشهادة حتى زعماء التحول الجنسي من رجال الحركة الوطنية، الذين كتبوا إلى شيخهم شكيب أرسلان في 1930 يخبرونه أن فرنسا ترمي، بإصدارها لظهير 30 ماي 1930 (الظهير البربري)، إلى تنصير 75 في المائة من المغاربة(14). وهو اعتراف أن المغاربة المتحدثين بالأمازيغية، موضوع هذا الظهير، يشكّلون ثلاثة أرباع من المغاربة. وهذا في 1930، أي بعد 18 سنة من الحماية التي كانت إحدى مهامها نشر وترسيخ ثقافة وسياسة التحويل الجنسي للمغاربة إلى جنس عربي. فهذا التحول الجنسي للأمازيغيين، قبل 1912، ظل إذن فرديا ولا يشكّل، بالتالي، خطرا كبيرا على الهوية الجماعية للمغاربة، التي ظلت أمازيغية، منسجمة مع هوية موطنهم بشمال إفريقيا. لكن مع 1912، سيصبح التحول الجنسي سياسة عمومية للدولة الحامية، التي جعلت من المغرب دولة عربية، ثم لدولة الاستقلال التي نهجت سياسة التحول الجنسي العلني التي سمتها التعريب، والذي لا علاقة له باللغة العربية لأن هدف هذا التعريب ليس تعليم ونشر العربية كلغة، وإنما هو تحويل المغاربة إلى شعب عربي، بما فيهم الأميون الذي لا يعرفون حرفا من اللغة العربية. وهنا أضحى التحول الجنسي خطرا حقيقيا يهدد الهوية الجماعية للشعب المغربي، وذلك باستبدالها بالهوية العربية الأجنبية. وهنا يكون التحول الجنسي، عكس ما كان عليه الأمر عندما كان اختيارا شخصيا لمجموعة من الأمازيغيين، مشكلة حقيقية. فإذا كان من حق أي أمازيغي، كفرد، أن يختار الانتماء إلى العروبة والتنكر لأمازيغيته، فهل للدولة نفس الحق في أن تفرض الهوية العربية على الجميع، من خلال سياسة التعريب التحويلية، وتجعل من الهوية الجماعية المشتركة للمغاربة هوية عربية؟ ليس لها الحق في ذلك لأن ليس من حقها ولا من مهامها أن تمارس التزوير والتزييف، كما يفعل الأفراد، عندما يزوّرون هويتهم ويزيّفون جنسهم كاختيار شخصي. بل إن إحدى مهامها هي محاربة التزوير والتزييف، ومعاقبة المزوّرين والمزيّفين، واعتبار كل ما ترتب عن التزوير والتزييف من آثار ونتائج باطلا لا يمكن الاعتداد ولا الاحتجاج به، مثل الهوية العربية لمجموعة من المغاربة، والتي هي من مخلفات التزوير والتزييف، مما يجعلها لاغية وباطلة. لهذا فالتحول الجنسي للمغاربة إلى عرب، لم يكن مشكلا حقيقيا إلا بعد 1912 عندما أصبح سياسة للدولة، تتبنّاه وتنشره وتفرضه وتدافع عنه. فهي، بهذه السياسة التحويلية، لا تكذب على نفسها فقط ومن أجل خداع بعض الأفراد فقط، كما يفعل من ينتحل الانتساب إلى العروبة، وإنما تكذب على الشعب كله، ومن أجل خداع هذا الشعب كله. فمثل هذا التحول الجنسي، الذي تمارسه الدولة، يجب إذن محاربته والتصدي له، تعبيرا عن الانتماء إلى هذا الوطن، وغيرة على هذه الدولة، وحماية لكرامتها ودفاعا عن استقلالها الهوياتي. وليس هناك من وسيلة لوضع حد للشذوذ الجنسي للدولة إلا عودتها إلى هويتها الأمازيغية الشمال إفريقية، حتى لا يكون هناك انفصام بين هويتها المعلنة وهوية موطنها الحقيقية، أي الأمازيغية الشمال إفريقية. لماذا يستوي الأميّون والمثقفون في نفس الفهم العامّي للدارجة؟ ربما لا يوجد شيء في المغرب يستوي فيه العلماء والجهلة، والمثقفون والأميون، ويتفقون حوله اتفاقا كاملا، مثل اعتقاد الاثنين بعروبة اللغة الدارجة، الشائع عند الأميين والعامّة، وأيضا عند العديد من اللسانيين والمفكرين. وإذا كان سبب شيوع هذا الاعتقاد عند العامّة وغير المتعلمين، هو الاستناد إلى الظاهر المعجمي للدارجة، فإن اللسانيين، الذين يتبنون نفس الموقف، يستندون هم أيضا على الظاهر في معالجة وفهم موضوع الدارجة. وهو ما يُبعدهم عن العلم والمنهج العلمي، ويحشرهم مع الأميين وأصحاب التفكير العامّي، لأنه «لا علم إلا بما هو خفي» (Il n'y a de science que de ce qui est caché)، كما علّمنا فيلسوف المعرفة العلمية كاسطون باشلار G.Bachelard. و"الخفي" في الدارجة، ليس ألفاظها، التي تشكّل الظاهر، أي ما ليس موضوعا للمعرفة العلمية، ولا حتى معانيها وتراكيبها، وإنما أصل هذه المعاني والتراكيب. لماذا يكون هذا الأصل "خفيا"، وهو ما يجعل منه، نتيجة لذلك، موضوعا للمعرفة العلمية؟ لأنه، عكس الألفاظ الظاهرة والتعابير المنطوقة، فإن هذا الأصل ـ أصل معاني وتراكيب وتعابير الدارجة ـ ليس ظاهرا ولا منطوقا. فلمعرفته واكتشافه، يجب إذن البحث عنه، وذلك بالمقارنة بين معاني وتراكيب الدارجة، ومعاني وتراكيب الأمازيغيةّ، ومعاني وتراكيب اللهجات العروبية، بما فيها العربية طبعا. هذه المقارنة غائبة عند جميع اللسانيين ـ بمن فيهم الذين يتقنون الأمازيغية ـ، الذين يعتقدون أن الدارجة لهجة عروبية. فكل ما يفعلونه هو الوقوف عند المقارنة بين الدارجة والعربية، وهو ما يستخلصون منه، كما يدلّ على ذلك ظاهر ألفاظ وتعابير الدارجة، أن هذه الأخيرة لهجة متفرعة عن العربية. لكن لو قارنوا بين اللهجات العروبية، وأولها العربية طبعا، وبين الدارجة، وبين الأمازيغية، لاكتشفوا، كحقيقة "خفية"، أن تعابير الدارجة هي ترجمة حرفية لمعاني وتراكيب التعابير الأمازيغية، مع استعمال ألفاظ عربية. وبالتالي فلا معنى لهذه التعابير في أية لهجة عروبية، لأنها تحمل البصمة اللسنية (ADN اللسني) الخاصة بالأمازيغية. وهو ما يعني أن أصل معاني وتراكيب تعابير الدارجة أمازيغي، بشريا ونشأة وموطنا ومعنى وتركيبا، مع الاعتراف أن أصل الجزء الأهم من معجمها عربي. والنتيجة أن الذين تحدثوا الدارجة للمرة الأولى في التاريخ، هم بالضرورة أمازيغيون يجيدون الأمازيغية، وإلا لما استطاعوا ترجمة معاني وتراكيب لغتهم إلى العربية. ويترتب عن ذلك أن المغاربة المتحدثين اليوم بالدارجة كلغة فطرية هم أمازيغيون كذلك، لأنهم حفدة الأمازيغيين الأوائل الذين صنعوا الدارجة ونقلوها إلى هؤلاء الحفدة. هذه هي الحقيقة العلمية التي نتوصل إليها من خلال التحليل اللسني المقارن للدارجة والعربية والأمازيغية. وهي حقيقة علمية لأنها "خفية" وغير معطاة بشكل مباشر، كما وضّح كاسطون باشلار، بل تحتاج إلى اكتشاف وتنقيب، انطلاقا من المعطى المباشر، الذي هو ظاهر تعابير الدارجة. هذه هي الحقيقة التي تُرعب التعريبيين وتفقدهم صوابهم، لأنها تفضح تحولهم الجنسي، وتكشف عن هويتهم الأمازيغية الحقيقية، التي يرفضونها ويناوئونها، بعد أن استمرأوا واستحلوا تحولهم الجنسي إلى جنس عربي. إنه لأمر صعب، بل ومؤلم، أن يقبلوا ويعترفوا أن تكون الدارجة، التي يعتبرونها عنوان انتمائهم العربي، هي الدليل على انتمائهم الأمازيغي. ومن هنا نفهم الحملة الشعواء التي تعرضت لها الإعلامية سميرة سيطايل عندما صرحت لراديو "أصوات"، بتاريخ 10 مارس 2016، «أن المغرب ليس بلدا عربيا [...]، وأن أصول المغاربة أمازيغية. [...] وهو ما يجب ان يكون مصدر قوة واعزاز». هذا الكلام يكرره يوميا نشطاء الحركة الأمازيغية، ولا يثير كل الغضب والفزع اللذيْن أثارهما كلام السيدة سيطايل. لماذا؟ لأن السيدة سيطايل تتحدث الدارجة كلغتها الفطرية الأولى (بجانب الفرنسية)، ولا تعرف الأمازيغية ولا تتقنها. وهو ما يجعل منها، حسب المعيار الشائع المعتمد بالمغرب للتمييز بين "العربي" والأمازيغي، "عربية" قحة مثل كل المتحدثين بالدارجة كلغة فطرية، وفق نفس المعيار. ولهذا لم يكن متصورا ولا منتظرا ولا حتى "مفكّرا فيه"، بالنسبة للمتحولين جنسيا إلى عروبيين، الذين يجعلون من الدارجة عنوانا وبرهانا على الانتماء العربي للمغاربة، أن تعلن مغربية تعتبر "عربية"، مثل السيدة سيطايل، أن المغرب ليس عربيا، وأن أصول المغاربة أمازيغية. إنه لشيء صادم وقاسٍ بالنسبة لهؤلاء التعريبيين المتحولين جنسيا (قوميا وهوياتيا)، أن تشهد "عربية" أن المغرب أمازيغي، لأن ذلك يعني أن الدارجة، التي يعوّل عليها التعريبيون لإثبات عروبة المغرب، لم تعد مجدية لذلك، بدليل أن السيد سيطايل هي نفسها دارجفونية وليست أمازيغوفونية. وما يصدم التعريبيين هنا هو الحقيقة، التي يرفضونها، والتي كشفت عنها السيدة سيطايل، وهي أن المتحدثين بالدارجة هم أمازيغيون، مثلهم مثل المتحدثين بالأمازيغية. هذه الحقيقة تُرعب وتُرهب، كما قلت، التعريبيين المتحولين جنسا، لأنها تزيل الغطاء عن تحولهم الجنسي، الذي يُخفيه ستار الدارجة. وهذه الحقيقة ليست معطاة بشكل مباشر، بل هي "خفية" بالمفهوم الباشلاري، أي لا يمكن الوصول إليها والكشف عنها إلا بتجاوز الظاهر والمعطى المباشر، كما شبقت الإشارة، والذي يخفي تلك الحقيقة ويحول دون اكتشافها، كما يفعل ظاهر ألفاظ وتعابير الدارجة، الذي يخفي أن الدارجة من صنع أمازيغي. لكن، وكما أن التكوين الفيزيولوجي والشفرة الوراثية Code génétique ومحتوى الكروموزمات الذي يتشكل من عنصري x وy عكس كروموزومات الأنثى، كلها معطيات "خفية" تثبت أن المتحول جنسيا من ذكر إلى أنثى، هو في الأصل ذكر رغم أنه يبدو في ظاهره أنثى كاملة وناضجة الأنوثة، فكذلك البصمة اللسنية للأمازيغية، التي تشكّل حمضها النووي (ADN) الذي يميّزها كلغة أمازيغية، وهويتها اللسانية التي تنفرد بها بصفتها لغة أمازيغية، كلها معطيات حاضرة في الدارجة، بشكل "خفي"، تثبت أن هذه الدارجة هي في حقيقتها نسخة من الأمازيغية، وأن المتحدثين بها هم في الأصل أمازيغيون. عندما يعي المغاربة هذه الحقيقة، سيكتشفون دارجتهم التي لا زالوا يجهلونها، لأنهم يعتبرونها لغة عروبية. وباكتشافهم لدارجتهم، سيكتشفون حقيقتهم وحقيقة مغربهم. ومن مهام العلماء واللسانيين الكشف عن هذه الحقيقة "الخفية" للدارجة، وإلا فإنهم لا يختلفون عن العامّة والأميين، الذين يعتقدون أن الدارجة لهجة عروبية، وأن المتحدثين بها هم عرب. إحالات: (1) ـ متوفر على الرابط: http://tawiza.byethost10.com/identite.pdf (2) ـ متوفر على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/writers/141391.html (3) ـ متوفر على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/writers/99751.html (4) -"Anzar", par: G.Camps et S.Chaker, Encyclopédie Berbère, Edisud, Aix-en-Provence, 1989, vol. VI, pp. 795-798. (5) -A.Adam, "Agadir", Encyclopédie berbère, tome 2, Edisud 1985, pp. 237 – 239. (6) -"Berbères aux marges de l'histoire", éditions des Hespérides, 1980, p. 187. (7) -Idid, p. 48. (8) - G.Camps, «Djaziya» "des Beni Hilal", Encyclopédie berbère, v.16, Aix-en-Provence, Edisud, 1995, pp. 2393-2398. (9)"Berbères aux marges de l'histoire", op. cit. p. 188. (10) Ibid, p. 187. (11) Ibid, pp. 187 -188. (12) تاريخ ابن خلدون، المجلد 6، الجزء 3، صفحة 356. (13) A.Toufik, "Marrakech: sur la signification du nom", Encyclopédie Berbère, V.30, 2010, pp. 4627-4630. (14) Gilles Lafuente, "Dossier marocain sur le dahir berbère de 1930", revue de l'Occident musulman et de la méditerranée, numéro 38, pp. 83 – 116.
|
|