|
|
"الاستثناء المغربي" الحقيقي
بقلم: محمد بودهان
(10 ـ 10 ـ 2017) مقولة "الاستثناء المغربي" أصبحت شبه عبارة مسكوكة ومكرورة، تعني أن المغرب، وخلافا لمعظم الدول، يتمتع بالأمن والاستقرار (لنلاحظ الغياب الدالّ للتنمية من هذا "الاستثناء") بشكل فريد واستثنائي. فهل هذا صحيح؟ إذا كان هناك من لم يعد يصدّق اليوم هذا "الاستثناء" كمعطى لا يُناقش، وخصوصا منذ التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء في 16 ماي 2003، وقيام حركة 20 فبراير 2011، إلا أنه يمكن القول، مع ذلك، إن هذا "الاستثناء المغربي" هو حقيقة ثابتة يؤكدها الواقع السياسي المغربي، ولكن على مستوى آخر ليس هو الأمن والاستقرار. فهذا "الاستثناء المغربي" يتجلّى، وبشكل بارز ولافت، في "أن كل شيء يتغيّر بالمغرب من أجل أن لا يتغير أي شيء"، كما خلص إلى ذلك "جون واتربوري" في كتابه "أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية المغربية". فالتغيير من أجل أن لا يتغير أي شيء حالة ينفرد بها المغرب كاستثناء خاص به، يتحدى سنة التطور والتغير الحقيقي. فمَن من أجل أن لا يمسّه أي تغيير يتغير كل شيء في المغرب؟ إنه الثنائي الاستبداد والفساد، الذي بات يشكّل قدَرا مغربيا، وركنا أصليا للدولة المخزنية. لقد عرف المغرب، منذ دستور سابع دجنبر 1962، ستة دساتير جديدة أو معدّلة، وثماني عشرة حكومة. وهو ما يفترض أن هناك تغيّرا، مع كل دستور جديد، في أساليب الحكامة وتسيير شؤون الدولة، يترجمه تراجع للاستبداد والسلطوية، وتوجه نحو مزيد من الديموقراطية والحرية والعدالة. وهو ما يعني أن المغرب سيكون، مع الدستور الأخير، قد تغيّر كثيرا مقارنة مع الدستور الأول الصادر في دجنبر 1962، بخصوص أساليب الحكم وممارسة السلطة. وهذا صحيح من حيث المبادئ وإعلان النوايا ومضامين النصوص الدستورية والقانونية. لكن عمليا وواقعيا، هل تغيّر شيء من طبيعة الحكم الذي بقي استبداديا وسلطويا؟ هل أصبح هذا الحكم أكثر عدلا وديموقراطية مما كان عليه خلال العمل بدستور 1962؟ هل خفّت وطأة الاستبداد وتراجع الفساد، الذي هو نتيجة وسبب في نفس الوقت لهذا الاستبداد؟ بل العكس هو الملاحظ، إذ انتصر الفساد بشكل غير مسبوق حتى أنه أصبح ممارسة عادية لا تثير احتجاجا ولا استنكارا. هناك إذن تغيير في ما يتعلق بالدساتير والقوانين والحكومات والمسؤولين. لكن كل هذا التغيير من أجل أن لا يتغير الاستبداد والفساد. منذ 1963 والانتخابات التشريعية والمحلية تُنظم في المغرب كتعبير عن الحكم الديموقراطي الذي يعتمد على اختيار الشعب لممثليه في البرلمان وفي الجماعات المحلية، كما يجري بذلك العمل في الدول العريقة في الديموقراطية. وهذا تغيير ملموس، كما يبدو في ظاهره، من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات بدل دولة الأشخاص والتعليمات. لكن النتيجة أن كل هذه الانتخابات هي من أجل أن لا يتغير الاستبداد والفساد. بل إن ثنائي الاستبداد والفساد اكتسب، بفضل صناديق الاقتراع، شرعية انتخابية وديموقراطية. أي أن الاستبداد والفساد أصبحا تعبيرا عن "الإرادة الحرة" للشعب الذي "اختار" خيار الاستبداد والفساد من خلال صوته الانتخابي. منذ تنصيب ما يُسمى بحكومة "التناوب" في 14 مارس 1998، والذي يعني في الحقيقة التناوب على المشاركة في الاستبداد وعلى الاستفادة من الفساد، والمسؤولون يصرّحون ويرددون أن من أولويات الحكومة "محاربة الفساد" و"تخليق الحياة العامة". والنتيجة يعرفها الجميع: انتعاش الفساد والتطبيع معه بعد إقرار حكومة "الإسلاميين" لمبدأ "عفا الله عما سلف"، الذي أعلن عنه السيد بنكيران، الرئيس السابق للحكومة. الخلاصة أن هناك تغييرا في الحكومات وفي المناصب وفي المسؤولين، وحتى في الدساتير والقوانين. لكن كل هذا التغيير هو من أجل أن لا يتغير الفساد. ومن العبث، طبعا، السعي إلى تغيير الفساد دون تغيير للاستبداد، الذي ينتج الفساد ويتغذى منه في نفس الوقت، كما سبقت الإشارة. لنُعطِ أمثلة أخرى، ومن مستوى آخر، تثبت دائما أن كل شيء يتغير في المغرب من أجل أن لا يتغير أي شيء. فمنذ 17 أكتوبر 2001، تاريخ إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تم الإعلان عن مبادرات "ثورية" لصالح الأمازيغية مع الاعتراف بها كلغة وهوية وثقافة وتاريخ، وإدماجها في المنظومة التربوية في 2003، ثم إقرارها لغة رسمية في دستور 2011. كل هذه القرارات والمبادرات الرسمية لفائدة الأمازيغية تترجم تغيرا حقيقيا في الموقف السياسي للسلطة تجاه الأمازيغية. لكن رغم كل هذه التغيرات "الثورية" لصالح الأمازيغية، كما قلت، إلا أن هذه الأخيرة لا تزال تعيش مقصاة من مؤسسات الدولة، يُمنع عليها ولوجها والاعتراف بها داخل هذه المؤسسات، كما لو أنه لم يصدر أي قرار لصالحها. وهذا معناه أن كل هذا التغير في الموقف السياسي من أجل النهوض بالأمازيغية، كان من أجل لجم أي نهوض بها. أي أن كل هذا التغير، الذي أعلنت عنه السلطة لصالح الأمازيغية هو، في النهاية، من أجل أن لا يتغير أي شيء في ما يخص التعاطي الرسمي مع الأمازيغية، ليستمر التعريب، السياسي والعرقي والهوياتي والإيديولوجي، يشتغل بنفس إيقاعه السابق المعهود عندما كانت الأمازيغية تنتمي سياسيا إلى "اللامفكر فيه". بل الأدهى أن هناك تراجعا حتى عن القليل من المكتسبات الرمزية، كما في حالة تدريس الأمازيغية الذي توقف واختفى نهائيا. التغير إذن في الموقف السياسي من الأمازيغية هو من أجل ان لا يتغير وضع الأمازيغية، ولتبقى مقصاة من مؤسسات الدولة كما كانت قبل الإعلان عن ذلك التغير في الموقف السياسي. أما الأهم في هذه الممارسة للتغيير، الرامية إلى إلغاء أي تغيير حقيقي، فهو التغيير الذي يمسّ موضوع الحريات العامة، وحرية الرأي والتعبير، والعدل واستقلال ونزاهة القضاء، واحترام كرامة وحقوق الإنسان... لأن هذا الموضوع، المتصل بالحرية والعدل والكرامة وحقوق الإنسان، هو المقياس الذي يُختبر به مدى حضور دولة الاستبداد والسلطوية، ومدى حضور دولة القانون والمؤسسات. فكلما كان حضور هذه القيم قويا، كلما كان الاستبداد غائبا أو منعدما، والديموقراطية حاضرة وممارَسة. وقد عرفت بداية عهد محمد السادس تغييرا حقيقيا في التعاطي مع حقوق الإنسان، وما يرتبط به من قضية الحريات العامة، وإحقاق العدالة، واحترام كرامة المواطن... فاعترفت الدولة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في عهد الحسن الثاني، وأنشأت "هيئة الإنصاف والمصالحة" لتصفية تركة هذه الانتهاكات، ودفعت تعويضات لضحايا هذه الانتهاكات أو لذويهم، وأنشأت "المجلس الوطني لحقوق الإنسان" لحماية هذه الحقوق والنهوض بها وإثراء فكر وثقافة حقوق الإنسان، كما أُدخلت تعديلات على قانون المسطرة الجنائية فضلا عن نصوص دستور 2011 الخاصة بحماية حقوق الإنسان. لا ينكر أحد أن هذه تغييرات ثورية وجذرية في موقف السلطة السياسية من حقوق الإنسان بالمغرب، تُرسي قواعد جديدة لحماية المواطنين من تعسف السلطة وشططها وظلمها، وانتهاكها لحقوق الإنسان والتضييق على الحريات. وهي تغييرات ترمي إلى منع تكرار ما جرى بالمغرب من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان منذ الاستقلال حتى نهاية القرن العشرين. وبذلك فهي تنقل هذه السلطة من دولة الاستبداد المخزني إلى دولة القانون والمؤسسات. ولهذا هلّل الجميع بهذه التغييرات وصفّق لها كتدشين لعهد جديد هو عهد احترام كرامة وحقوق الإنسان. لكن كل هذه التغييرات الثورية لفائدة حقوق الإنسان ستعصف بها السلطة وتتجاهلها وتتنكّر لها كما لو لم يسبق أن كانت ووُجدت، وذلك ابتداء من 26 ماي 2017 عندما انطلقت حملة الاعتقالات الجماعية العشوائية والعقابية لمئات الريفيين، الذين زُجّ بهم في السجون بتهم سريالية ملفقة ومفبركة، بعد تعرّضهم لأنواع شتى من المعاملة القاسية والحاطة بالكرامة والمنتهكة لحقوق الإنسان. ما فعلته ـ وما تواصل فعله ـ السلطة المخزنية بالريفيين، الذين خرجوا يطالبون بمستشفى ومدرسة، هو عودة مباشرة للممارسات القمعية المنتهكة لحقوق الإنسان التي تُعزى لما يُعرف بسنوات الجمر والرصاص، والتي من أجل القطع معها أنشئت هيئة للإنصاف والمصالحة ومجلس وطني لحقوق الإنسان. والدليل الساطع الناصع على هذه العودة، بخصوص المقاربة القمعية ضد الريفيين، هو استعمال الدولة المخزنية للقضاء كذراعها الأيمن للبطش بمن تعتقد أنهم لم يعودوا يخافونها، و"تأديبهم" والانتقام منهم، كما فعلت في سنوات الجمر والرصاص عندما كان القضاء أداة في خدمة الظلم والاستبداد والتسلّط. وهذا ما يتكرر مع معتقلي الريف الذين يحاكمهم قضاء المخزن، الذي يستعمله لمعاقبتهم فقط لأنهم تجرأوا على الخروج للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. النتيجة أن كل التغييرات الجذرية والثورية، التي تجسّدها القرارات التي صدرت والإجراءات التي اتخذت والملايير التي أنفقت، من أجل حماية حقوق الإنسان ومن أجل أن لا تتكرر انتهاكات هذه الحقوق، كانت من أجل أن لا يتغير أي شيء في العلاقة الاستبدادية للسلطة المخزنية بكرامة وحقوق المواطن المغربي، والتي لا تزال هذه السلطة تدوسهما بحوافرها المخزنية، كما كانت تفعل في سنوات الجمر والرصاص. وهذه نتيجة منطقية ومفهومة: فاحترام كرامة وحقوق الإنسان يتنافى، أصلا وكليا، مع الاستبداد والسلطوية. وبما أن الحكم المخزني لا زال مستبدا وسلطويا، فلا يمكن أن تكون حقوق الإنسان محمية ومحترمة، لأن انتهاكها هو ما يشكل جوهر الاستبداد والسلطوية. هذا هو "الاستثناء المغربي" الحقيقي: كل شيء يتغير من أجل أن لا يتغير أي شيء. تتغير القوانين والدساتير والحكومات، لكن كل ذلك من أجل أن لا يتغير الاستبداد والفساد، وما ينتج عنهما ويلازمهما من انتهاك للحقوق والحريات، ومن ظلم وشطط وتسلّط...
|
|