|
|
الأمير والتاريخ المحاصر!
بقلم: لحسن أفراض (أستاذ باحث) (26 ـ 08 ـ 2012) لكل دولة من دول العالم شخصيات تاريخية إن لم نقل أحيانا أسطورية، وكلما كانت دولة ذات حضارة ضاربة في القدم إلا وكانت لها شخصيات تاريخية تعطيها ميزتها الخاصة، وباعتبار تاريخ المغرب يمتد إلى أكثر من 3300 سنة فقد قدم وجوها تاريخية تشكل عماد المخيال الشعبي والهوياتي للمغاربة، فأسماء مثل يوبا وماسينيسا ويوكرتن (يوغرطا) وتاكفاريناس وطارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وعبد المومن الكومي وابن بطوطة والمنصور الذهبي وغيرهم، هي لا شك وجوه تاريخية بالنسبة لنا كمغاربة ولا يمكن إنكار قيمتها الحضارية والتاريخية والثقافية والفكرية والدينية بالرغم من محاولة إسدال ستار النسيان على انجازاتهم المادية والمعنوية لصالح البلاد والعباد. ويقدم لنا تاريخ القرن العشرين مثالا بارزا للإقصاء والتهميش والنسيان الذي يطال شخصيات ضحت بالغالي والنفيس من أجل حرية وكرامة بلادنا، ويتعلق الأمر بشخصية حضيت بإجماع وطني ودولي واسع مفاده أن الرجل كان بمثابة شمعة أنارت جوانب هامة من طريق الدول المستعمرة نحو الحرية والانعتاق خاصة في منطقة المغرب الكبير، ويتعلق الأمر برائد الكفاح الوطني الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي. سأحاول الحديث في هدا المقال عن بعض الجوانب التاريخية لحياة الأمير من خلال سيرته الذاتية وكذا مساهمته السياسية والثقافية والعسكرية في تاريخ المغرب خاصة مشروعه السياسي القائم على إنشاء الجمهورية الريفية كنمط سياسي استثنائي جديد في تاريخ المغرب، والذي أعلن في 18 من سبتمبر سنة 1921 يوما لاستقلال الجمهورية الريفية، ثم في الأخير علاقته بوطنيي ما بعد 1930 . السيرة الذاتية للأمير: ولد محمد بن عبد الكريم الخطابي في بلدة أجدير بإقليم الحسيمة سنة 1882 من قبيلة أيت ورياغل، نال شهادة الباكالوريا بمدينة مليلية ثم التحق بعد دلك بجامعة القرويين منها إلى سالمنكا التي درس فيها الحقوق، عمل موظفا لدى الإدارة الاسبانية كمترجم وكمحرر في صحيفة تيليكراما دي ريف، سجن سنة 1915 بتهمة التعاطف مع الألمان ليفرج عنه بعد سنة بعدها مباشرة انتقل إلى بلدته حيث استطاع في وقت قياسي تنظيم جيش قوي، بدأ تنظيم حركة مواجهة الاستعمار الإسباني بالاعتماد على المقاتلين الذين كانوا إلى جانب أحد رواد النضال المسلح في المنطقة وهو محمد أمزيان الذي اغتيل في 15 مايو 1912 بالإضافة إلى الجنود الريفيين الذين كانوا إلى جانب الأسبان والذين انضموا إلى ثورته، واستطاع أن يمنح لنفسه ثقافة مزدوجة أمازيغية إسلامية عربية وأخرى غربية إسبانية ما لبث أن وظفها بمهارة أثناء مواجهته للاستعمارين الإسباني والفرنسي في المغرب، واعتمد في ذلك على إمكانيات حربية بسيطة وتقليدية، فألحق هزيمة نكراء في معركة أنوال يوم 21 يوليوز 1921 بالجيش الإسباني وهي اأكبر هزيمة تعرض لها هذا الأخير خلال القرون الأخيرة. الخطابي بعيون وطنية وأجنبية: يؤكد عدد كبير من المؤرخين المغاربة منهم علي الإدريسي وعبد الله العروي وزكي مبارك ومحمد زنيبر على المواقف الوطنية للزعيم الريفي، فالرجل عند الكثير من المؤرخين العالميين، يعتبر أول إفريقي شمالي نادى بتطبيق مبدأ تقرير المصير على ضحايا الاستعمار، ويقول "روبرت فورنو" إن مكانة الخطابي عند الذين عرفوه انه شخص مبجل في العالم العربي وفي شمال إفريقيا، فأولئك يتحدثون عنه كما لو كانوا يتحدثون عن النبي، كما نتحدث نحن البريطانيين عن تشرشل وكما يفكر الهنود في غاندي، أما المغربي عبد الله العروي فقد قال عنه "شخصية مرموقة.. فلقد آن لنا القيام بحل رموز الكلام المتقطع لعبد الكريم "، أو حتى الفقيه علال الفاسي من جانبه لاحظ أثناء إقامته في القاهرة أن جميع القادة الوطنيين القادمين من الشرق الأوسط وخاصة السوريين والعراقيين كانوا يعترفون علنا بما يدينون به ثقافيا وسياسيا لأبن عبد الكريم، ونفس الشهادة أدلى بها قدور قلعجي. قال عندما قرر زيارة مصر أوصاه أحد أقربائه بأن لا ينسى زيارة الأهرام فأجابه قائلا "كلا هناك ما أهم وأكبر من الأهرام هناك عبد الكريم ". وبعد مقابلته مع هذا الأخير خرج قلعجي بخلاصة مفادها : "إني لقيت رجلا كأحد صحابة الرسول تقيا وورعا وإخلاصا وطهرا؛ فهما وبعد نظر" . وهذه جريدة التايمز اللندنية (في عددها الصادر بتاريخ 27 مايو 1926) اعتبرت الخطابي بطلا قوميا نجح في طرد الأسبان عسكريا، وصمد بوسائل بسيطة أمام أكبر جيش شهدته بلاد الأمازيغ منذ زمن القرطاجيين. وللإشارة فقد صدر مؤخرا كتاب عن منشورات ثيفراز بعنوان "شهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي" للمرحوم محمد الرايس من إعداد وتقديم الاستاذ عبد الحميد الرايس، يتناول فيها المؤلف بعض الجوانب المجهولة من حياة المقاومين ضد الوجود الأجنبي في المغرب، كما يتضمن خمسا وثلاثين شهادة مهمة تنشر لأول مرة تعود لأشخاص ساهموا في صنع أهم الأحداث التاريخية التي عرفتها منطقة الريف والتي امتدت عن ما يزيد من نصف قرن . المشروع السياسي لابن عبد الكريم: يؤكد الإدريسي في كتابه "عبد الكريم الخطابي: التاريخ المحاصر" إلى أن جمهورية الريف حقيقة تاريخية لا غبار عليها بالرغم من الطمس والتهميش الذي تعرضت له الأحداث التاريخية في هذه الفترة من طرف الكثير من المؤرخين ولعل الرسالة التي بعث بها الأمير إلى القوى العظمى مطالبا إياها بالاعتراف باستقلال الجمهورية الريفية دليلا قاطعا على وجودها، هذه الرسالة أوردها الإدريسي في كتابه هذا. وفيما يلي نص الرسالة : حكومة جمهورية الريف " نحن، حكومة جمهورية دولة الريف المعلنة في يوليو1921، تعلن ونبلغ القوى المشاركة في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 أن التوجهات التي تحكمت في هذه الاتفاقية لا يمكن تحقيقها، وكما بين التاريخ، وارتباطا بالخطأ الأولي بأن بلدنا يشكل جزءا من المغرب. جغرافيا بلدنا جزء من القارة الإفريقية، ولكنه مختلف، فقد شكل من الناحية الإثنية عرقا مستقلا عن باقي الأعراق الإفريقية، فقد اختلط والفينيقيين منذ مئات السنين من خلال الهجرات، كما أن لغتنا مختلفة عن باقي اللغات، سواء المغربية، الإفريقية أو لغات أخرى. فنحن الريفيون لسنا مغاربة بالقدر الذي يعتبر فيه الانجليز أنفسهم مختلفين عن الهولنديين، ربما هذا الاختلاط العرقي والذي يجعلنا مثل الإنجليز في سعينا المطلق للاستقلال ورغبتنا في إجراء اتصالات مع باقي أمم العالم.. ومن خلال هذا الإعلان ندعو جميع الأشخاص من مختلف مناطق العالم ومن مختلف الدول القدوم لاكتشاف المناطق المجهولة عبر علماء وجيولوجيين وكيماويين ومهندسين لأهداف تجارية وليس لأهداف حربية. ندافع عن مناطقنا ضد غزو القوات الإسبانية التي تحاربنا تحت ذريعة اتفاقية الجزيرة الخضراء، هذه الاتفاقية تعلن استقلال وسيادة سلطان المغرب ووحدة بلاده والحرية الاقتصادية بدون تمييز. وتماشيا مع اتفاقنا مع النقطتين الأخيرتين التي تصب في مصلحة السلطان، نطالب بالشيء نفسه لبلدنا الذي لم يسبق له أن أدى ضرائب للمغرب أو توصل بمساعدات للتنمية، ونحن بصدد تحقيق الحرية الاقتصادية بدون تمييز في جمهوريتنا. وعليه فنحن نعين ممثلا تجاريا للتنمية الخاص بالموارد التي تزخر بها بلادنا لجذب رجال الأعمال من جميع الأمم بشكل يتميز بالتنظيم والسلام والازدهار. خلال يوليو 1921 أبلغنا سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا وايطاليا في طنجة أنه أعلنا جمهورية الريف ونحن نخوض حربا رابحة ضد إسبانيا للدفاع عن استقلالنا، وسنستمر في ذلك حتى تحقيق السلام والحرية والاعتراف باستقلالنا بما في ذلك جميع مناطق الجمهورية الممتدة من الحدود مع المغرب حتى البحر الأبيض المتوسط ومن ملية غالى المحيط الأطلسي". وقد حاول الزعيم بن عبد الكريم انتزاع اعتراف رسمي للدولة من عصبة الأمم آنذاك من خلال رسالة بعثها بها في ابريل 1922 إلى الهيئة ولا تزال الرسالة موجودة في أرشيف الأمم المتحدة، إلا أن الثقل السياسي لفرنسا في العصبة حال دون ذلك، ويأتي الإعلان عن قيام جمهورية الريف حسب أغلب المؤرخين إلى الطبيعة الحرة للريفيين الذين كانوا نادرا ما يخضعون لسلطة المخزن من جهة، ثم أجواء حرب الريف طيلة عقود متتالية دون مساندة من باقي مناطق المغرب من جهة ثانية، بحيث إن العكس هو الذي وقع. فالسلطان العلوي الحسن الأول حارب الريفيين في أوائل تسعينيات القرن 19 لأنهم شنوا حربا ضد الأسبان وقام بإعدام بعض المجاهدين وبعده تخلى المولى يوسف عن دوره السياسي والديني في المنطقة وانحاز إلى الاستعمار لمحاربة الوطنيين ويكفي أنّ كتب التاريخ تبرز احتفاله بسقوط محمد بن عبد الكريم الخطابي بفرنسا سنة 1926 الذي كان يصفه بـ "الفتان" و"الروكي"، ولهذا نجد التاريخ الرسمي يفضل تهميش دور الخطابي والسكوت عن موقف السلطان على أن يصف السلطان يوسف بالخائن، كل هذا دفع بالريفيين إلى البحث عن إطار تنظيمي وسياسي لمواجهة إسبانيا بعد أن تأكد رفضهم من قبل المغرب الرسمي. التنظيم الداخلي للجمهورية: بعد الإعلان عن قيام الجمهورية، أدخل ابن عبد الكريم إصلاحات جوهرية شملت مجالات عدة، استطاع من خلالها الخروج بالمنطقة من حالة يطغى عليها الأعراف والتقاليد الإسلامية إلى حالة يسود فيها الإسلام والقوانين الأوروبية الحديثة كمنع العبودية ومنع تناول مادة الكيف التي كان الاستعمار يشجعها وفرض عقوبات على كل من اعتدى على أملاك المواطنين اليهود وكذا سن قوانين صارمة تعاقب عمليات الاختطاف، وفي مايلي بعض القطاعات التي شملتها الإصلاحات: - الإصلاح الجبائي: استطاع الأمير ابن عبد الكريم أن يجبر القبائل الريفية على أداء الضرائب بشكل رسمي ومنتظم لأول مرة في تاريخ المنطقة والتي تتنوع بين الضرائب على الأنشطة الزراعية والتجارية وبين المخالفات والعقوبات إضافة إلى الزكاة والمبالغ المالية التي يتم افتكاك الأسرى الأسبان بها والتي كانت من أهم المصادر المالية للجمهورية. - الإصلاح النقدي: فبالرغم من إصدار العملة الريفية "ريفان" من طرف البنك الريفي وتمكنه من طبع أوراق مالية بمساعدة إنجليزية، إلا أن العملة الأكثر تداولا هي البسيطة الإسبانية والعملة المروكية بسبب ظروف عدم الاستقرار التي تمر بها المنطقة آنذاك. - الإصلاح العسكري: تمكن الخطابي من بناء جيش عصري يتوفر على أسلحة جوية وبحرية بالإضافة إلى سلاح المشاة ساعده في ذلك الجنود الريفيون ذوو الخبرة العسكرية الذين هربوا من الجيش الإسباني ونقلوا تجاربهم إلى المقاومين الريفيين بالإضافة إلى استقطاب بعض الخبراء الأوروبيين أمثال الألماني جوزيف كليمس المعروف ب "الحاج ألماني" الذي كان يعمل بالمخابرات الألمانية لينضم إلى الجيش الريفي وتزوج بريفية واستقر بالمنطقة. وعملت الجمهورية الريفية على بناء جيش نظامي بدل الجيش القبلي ويؤكد كتاب: "المغرب : مراحل فرض التهدئة" للجنرال مانويل غوديد لوبي أن الخطابي كان يمتلك ثلاث طائرات ولكن لم يستعملها لأنه كان يعرف أن الحرب تحسمها القوات البرية وأراد أن يبهر بها الريفيين ويخلق بها الرعب في صفوف الأسبان هذا بالإضافة إلى امتلاكه لسفينتين صغيرتين وبعض القوارب لتوفير ونقل المعدات الحربية اللازمة. لكن المثير للإعجاب في التنظيم العسكري للأمير في ذلك الوقت هو توفره على شبكة للاتصالات تربط بين مختلف مناطق الشمال الغربي للمغرب، بحيث تم إنشاء مراكز للاتصالات غطت معظم القبائل الريفية والمعسكرات، ويرجع الفضل في ذلك لشقيق الأمير الذي كان يشغل منصب قائد قوات الجمهورية الريفية وجندي إسباني يدعى "انطونيو" انشق عن الجيش الاسباني وانضم للريفيين، وبذلك يستطيع الأمير أن يعرف ما يقع في مختلف الجمهورية في دقائق. - الإصلاح التعليمي والصحي: كان الخطابي يدرك أن لا شيء يمكن إخراج المنطقة من الجهل وإنقاذها من شرنقة التخلف سوى تعليم حديث ومتطور، لذا حاول تنظيم هذا القطاع من خلال إنشاء عدد من المدارس العصرية للبنات تدرس فيها المواد العصرية بدل المدارس التقليدية التي ترتبط بالمساجد، وحاول إرسال أفواج من الطلبة إلى مصر وتركيا قصد إتمام الدراسة لكن ظروف الحرب حالت دون ذلك، وكان الأمير من المعجبين بالتعليم الأوروبي حيث كان شقيقه أمحمد من أوائل المهندسين المغاربة في مجال المناجم وقد يكون أول مهندس منجمي في تاريخ المغرب والذي يعتبره الكثيرون العقل المدبر للجمهورية الريفية نظرا للخبرة العالية التي اكتسبها عندما كان يقيم باسبانيا قبل التحاقه بالحرب. أما القطاع الصحي فيمكن اعتباره عنوانا لفشل الجمهورية بسبب ضعف الخدمات الصحية الناتج عن افتقار القطاع إلى أطباء عصريين ذوي الخبرات العالية إضافة إلى غياب المستشفيات بسبب الحرب وامتناع الدول الأوروبية عن تزويد الريفيين بالأدوية تحت ذريعة أنهم متمردين. بعد إعادة إعلان الخطابي مجددا أميرا للجمهورية يوم 01/02/1922 في البيعة الثانية التي شاركت فيها جميع القبائل، أعلن الأمير حكومته المكونة من أعضاء ينتمون الى مختلف القبائل الريفية والتي كانت تشكيلتها كالتالي: · الأمير أو رئيس الجمهورية: محمد بن عبد الكريم الخطابي (40 سنة) · نائب الأمير أو رئيس الجمهورية وقائد القوات المسلحة الريفية: أمحمد عبد الكريم الخطابي ( 30 سنة ). · وزير المالية: عبد السلام محمد عبد الكريم الخطابي وهو عم الخطابي (40 سنة ). · وزير الخارجية والبحرية: محمد أزرقان، صهر الخطابي، 36 سنة. · وزير الدفاع : أحمد بودرة، مكلف بالتجنيد والتسلح وهو المهندس الحقيقي في تنظيم الجيش الريفي (33 سنة). · وزير الداخلية: اليزيد بن عبد السلام تم تكليفه بتنظيم الأمن ووحدة القبائل (45 سنة ). · وزير العدل: محمد بن علي التمسماني، وهو رجل مثقف ز متقدم في السن. · قاضي القضاة: سي محمد بن صالح من ايت توزونين. · الأمين العام للخزينة: مسعود بناعين وهو تاجر يهودي من الحسيمة. · المكلف بميزانية الجيش الريفي: سي علي بن محمد من أجدير . · المفتش العام للجمهورية: محمد بوجيبار، كان خبيرا في السياسة الاسبانية والفرنسية (30 سنة ). · السكرتير الأول للجمهورية: محمد محمدي صهر الخطابي ( 30 سنة ). · نائب السكرتير: حسن بن عبد العزيز وهو صحفي جزائري وخبير بالسياسة الأوروبية. · مفتش البحرية : حدو بن علي المعلم من أجدير . · مفتش الضرائب : عمار بن محمدي من ايت ورياغل. · وزير الاحباس والأملاك : سيدي احمد اعرود من ايت ورياغل . موقف النخبة المدينية من مخططات الزعيم الريفي: إذا تمعنا جيدا مواقف زعماء الحركة الوطنية السياسية فإنها تبقى مضببة ومعادية لتوجهات الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري بالمغرب، ويبرر بعض كتاب هذه الحركة ذلك بكون وطنيتهم اختارت "الفكر والإقناع وبلورة المعنى الحقيقي للمواطنة عند المواطنين" لا بطريق السيف كما هو الحال لوطنية الريف والأطلس وسوس، من هنا نتساءل هل يعد فعلا ما اصطلح عليه من قبل المناضلين السياسيين ب "الحركة الوطنية " التي ظهرت بعد نهاية الحرب التحريرية مفهوما معاصرا و دقيقا؟ وترجع الاختلاف بين دعاة العمل المسلح ودعاة الحل السياسي إلى عدة أسباب منها: - أولا غياب تفاعل إيجابي أو تنسيق بين الحركة الوطنية المسلحة في المناطق الريفية وبين الحركة الوطنية السياسية في المدن والذي يرجع سببه إلى سعي زعامات هذه الأخيرة إلى خلق مرجعيات جديدة للحركة تستند إلى ما أثير من ردود أفعال ومظاهرات حول صدور ظهير 16 مايو 1930 المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف الأمازيغية والتي لا توجد بها محاكم لتطبيق الشريعة أو ما يعرف في الأوساط الرسمية "بالظهير البربري"، هذه المظاهرات التي اعتبرتها الكثير من الكتابات مدخلا لتزييف الحقائق وتحريف التاريخ الهدف منها إضفاء طابع الشرعية التاريخية والرمزية على الحركة الوطنية السياسية. - ثانيا محاصرة المقاومة المسلحة وجيش التحرير وقطع الطريق على الخطابي حسب تصريح للفقيه البصري ( نشر في أسبوعية "الصحيفة" ع 104 بتاريخ 14 مارس 2003 )، حين تم إقصاء الحركة الوطنية المسلحة من التمثيل في العمل السياسي ويتعلق الأمر بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، والتي يحتفل أو بالأحرى يسمع بذكراها المغاربة في 11 يناير من كل سنة، هذه الوثيقة التي هي خالية من أية إشارة إلى تضحيات الوطنيين في جبال الريف خصوصا حرب الريف والأطلس وسوس والصحراء، بل إن أولئك الذين قدموا هذه الوثيقة وهم مؤسسو حزب الاستقلال لم يكلفوا أنفسهم حتى الإشارة إلى كونهم امتدادا لاؤلئك الوطنيين الأوائل الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل حرية هذه البلاد وعزته، بل العكس هو الذي وقع فقد وصف أحد زعماء الحزب المذكور وهو السيد عبد الرحيم بوعبيد تضحيات المقاومين بالأعمال الإرهابية حين قال لرئيس الحكومة الفرنسية آنذاك، وفقا لشهادة ادكارفور " إن الرجال السياسيين مثله ليسوا مع الاختيار الإرهابي في إشارة إلى العمليات الفدائية " فالسيد بوعبيد كان يساند فرنسا ويتعاطف معها ضد المقاومين ولا يتوانى في تقديم نصائحه لرجالات الاستعمار وتحذيرهم من أن الخطر الحقيقي لا يكمن في المناطق الحضرية بل في البادية وقال مخاطبا رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك " إن عيونكم مشدودة لما يجري في المدن والحال أن المدن يمكن حمايتها من الإرهاب إذا ما طوقت، ولكن انتبهوا إلى البادية التي تعتقدون أنها منضبطة بالكامل. سيكون من الصعب ضبط الغرائز هناك" - ثالثا اختلاف الأصول الثقافية والاجتماعية وسيطرو روح الزعامة على هذه الطبقة السياسية، ويبدو هذا الأمر جليا من خلال العلاقة بين منهجية "لجنة تحرير المغرب العربي" ذات البعد التحرري والتي يقودها الزعيم الخطابي وبين منهجية " مكتب المغرب العربي" ذات البعد السياسي، وقد نقل السيد جان روس (بمناسبة ملتقى باريس حول عبد الكريم) شهادة عن الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة الذي كان يشغل منصب الكاتب العام للجنة التي يقودها الخطابي حول أسباب عداء زعماء الحركات السياسية في دول المغرب الكبير لخطط محمد بن عبد الكريم الخطابي يقول فيها : "إن عبد الكريم كان يمثل عصر التحرك المباشر وعصر الحرب، إما الآخرون فكانوا من الوطنيين ممن أسسوا أحزابا شرعية دستورية... وعند هذه النقطة بالتأكيد انفجرت الصراعات " أما المؤرخ المغربي محمد زنيبر فقد أكد من جهته أن توتر العلاقة بين قادة العمل السياسي والزعيم الريفي كان صراعا بين جيلين لكل واحد منهما طموحاته وأهدافه السياسية، فعبد الكريم بالنسبة للزعماء السياسيين : " كان قيمة تاريخية وأسطورة يجب استغلالها ولكن أن يضعوا أنفسهم تحت إمرة عجوز يضطلع بالقيادة وتكون له الكلمة الأخيرة فتلك مسالة لم تكن مطروحة ". هذا الخلاف الذي استمر حتى فترة ما بعد الاستقلال السياسي والذي نتج عنه تصفية المتعاطفين مع أهداف لجنة الخطابي وتحول فيما بعد إلى صراع حقيقي بين المقاومين وجيش التحرير من جهة وبين النخبة السياسية التي راهنت على الحلول السياسة لمشكل الاستعمار، ومن هنا يمكن فهم واستخلاص الأسباب التي جعلت السلطات الرسمية ترفض دعوات مناضلي الحركة الوطنية الأمازيغية لجلب رفاته إلى الريف لإعادة دفنه وذلك تخوفا من التبعات السياسية خصوصا بعد أن حُققت عدة مكاسب لصالح الأمازيغ والأمازيغية. خلاصة القول، إن من لقن الدرس في الوطنية وفي الدفاع عن الوطن لسلطات الاحتلال هي الحركة الوطنية المسلحة، أما الحديث عن مفاوضات وحلول سياسية تحت الشرعية الاستعمارية والحماية الأجنبية لم يكن الهدف منه سوى الرغبة في التحكم في زمام أمور البلاد والعباد ما بعد مرحلة الاستعمار المباشر، والدليل هو ما أصبح يعيشه بلدنا من صراع اجتماعي وسياسي غير متكافئ بين من نصبوا أنفسهم الورثة الشرعيين لغنائم حرب لم يخوضوها وبين أولئك الذين ناضلوا وكافحوا من أجل تحرير وطنهم والاعتراف باستقلاله دون أن ينعموا بثمار كفاحهم، وبقي لسان حالهم يقول أن لا فرق بين اليوم والأمس وانطبقت عليهم قولة المؤرخ المغربي مبارك زكي : "أن المنجل الاستعماري الذي كان مسلطا على رقاب الشعب المغربي زمن الاحتلال لم يتغير، وكلما تغير فيه هو لون قبضته الذي أصبح مغربيا ". لكن السؤال الذي لا يزال مطروحا هو إلى متى سيستمر إصرار النخبة السياسية على توجيه الأحداث التاريخية صوب كل من شأنه شل الذاكرة الجماعية للمغاربة من خلال التنكر لأعمال وطنية وإبراز أخرى ؟ ببليوغرافية مختصرة: § علي الإدريسي، عبد الكريم الخطابي: التاريخ المحاصر منشورات تفرزان ريف دار النجاح الجديدة 2007. § عبد الرحمان ألطيبي، الريف قبل الحماية منشورات ثفراز ان ريف دار النجاح الجديدة. § خيسوس سلفرانكا، جمهورية الريف دار النشر الغزرا مالقا 2004 . § مذكرات ادكارفور، الخبايا السرية لأكس ليبان ترجمة العفراني. § قدور قلجعي، ثمانية من أبطال العرب شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت. § مجلة وجهة نظر، ع 53 مطبعة النجاح الجديدة 2012. § محمد زنيبر : صفحات من الوطنية المغربية دار النشر، المغرب 1990.
|
|