|
|
هل هي بداية نهاية الاختلاق والتزوير؟
بقلم: محمد بودهان
(01 ـ 10 ـ 2020) كل المغاربة الذين تلقوا تعليما مدرسيا يتذكّرون تلك العبارات التي تقول عن الأمازيغ: «البربر سكان المغرب الأولون. قدموا من الشام واليمن عبر الحبشة. وكانوا يسكنون الكهوف ويلبسون جلود الحيوانات». والذي يهمّ في هذه الخلاصة لتاريخ "البربر" هو أصلهم المشرقي، والذي به سيبرّر تعريبهم وتحويلهم الجنسي من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، تصديقا وتطبيقا لخرافة قدومهم من الشام واليمن. ظلت مضامين هذه الخرافة حاضرة في الكتب المدرسية، ولو بصيغ مختلفة باختلاف الكتب المدرسية المقرّرة، إلى حين الدخول المدرسي الحالي 2020 ـ 2021، حيث تقرّرت كتب مدرسية جديدة لمادة التاريخ، منصفة لهذا التاريخ وللأمازيغ موضوع نفس التاريخ. هذه الكتب لا تصحّح فقط الافتراءات والاختلاقات التي كانت تلقّن لتلامذتنا حول أجدادهم الأمازيغ، وإنما تشكّل، بالنظر إلى الهيمنة الثقافية والسياسية للنزعة الأمازيغوفوبية بالمغرب، ثورة سياسية وعلمية حقيقية، تؤسّس لقطيعة حقيقية مع التاريخ الكاذب الذي كان يُلقّن للتلميذ المغربي. أقول "سياسية" لأن الأمر يتعلق بتغيير الدولة لموقفها بخصوص تاريخ المغرب من أجل التعامل معه كتاريخ للمغرب الأمازيغي. وأقول "علمية" لأن الأمر يتعلق بالانتقال من الخرافة والاختلاق إلى الحقيقة والعلم. وأقول "قطيعة" لأن الأمر يتعلّق بفصل نهائي بين الهدف من تدريس التاريخ في المقرّرات السابقة، والذي كان هو إخفاء وتغييب الهوية الأمازيغية الجماعية للمغاربة، والهدف منه في المقرّرات الجديدة، والذي هو إبراز هذه الهوية واستحضارها. لم أتمكّن من الاطلاع على كل الكتب المدرسية الجديدة لمادة التاريخ لجميع المستويات التي تُدرّس بها هذه المادة، والتي (الكتب) طالتها هذه الثورة السياسية والعلمية. لهذا سأكتفي بنموذج واحد، هو كتاب الاجتماعيات الجديد، الخاص بتلاميذ السنة السادسة من التعليم الابتدائي، والموجّه طبعا إلى الأستاذ أيضا. والذي يهمّنا من الكتاب هو قسمه الأول المتعلق بالتاريخ، علما بأن الكتاب يضمّ قسمين اثنين آخرين خاصين بالجغرافيا والتربة المدنية. صدر هذا الكتاب في ثلاث طبعات من تأليف ثلاث مجموعات من المؤلفين. فهناك "الجديد في الاجتماعيات" الصادر عن "دار نشر المعرفة"، وكتاب "المسار" الصادر عن "نادية للنشر"، وكتاب "النجاح في الاجتماعيات" الصادر عن "مطبعة النجاح الجديدة". ورغم أن مؤلفي الكتب الثلاثة ليسوا، كما أشرت، مجموعة واحدة، إلا أن الاختلافات، إن وُجدت، بين الكتب الثلاثة فهي طفيفة تخص الصياغة ولا تمسّ المضامين التي تبقى موحّدة، التزاما بدفتر التحملات الذي يتضمن تعليمات وزارة التربية الوطنية حول مضامين المقرّر الجديد. ولإبراز مظاهر هذه الثورة السياسية والعلمية التي نلمسها في هذا الكتاب، بصيغه الثلاث، نعرض لثلاثة عناصر نعتبرها علامة بارزة على هذه الثورة السياسية والعلمية، وما ينتج عنها من قطيعة مع الهدف من تدريس التاريخ قبل المراجعة الجديدة لمقرّرات هذه المادة. البدء من البداية: إنسان "جبل إيغود" قد لا نكاد نصدّق ونحن نقرأ الدرس الثاني ـ والذي هو في الحقيقة الدرس الأول لأن ما سبقه يتعلق بمنهجية المؤرخ وليس بمعطيات تاريخية ـ تحت عنوان: «المغرب مهد الإنسان العاقل: إنسان "جبل إيغود"»، الذي أثبتت الاختبارات العلمية التي أُجريت على بقايا هذا الإنسان أنه عاش قبل 300000 إلى 350000 سنة. وأهمية هذا الاكتشاف ليس فقط أنه يجعل من المغرب مهدا للإنسان العاقل كما جاء في عنوان الدرس، وإنما لأنه يجعل تاريخ المغرب يمتد إلى مئات الآلاف من السنين، قبل أن يوجد الشام ولا اليمن ولا العرب الذين كان التاريخ الخرافي، المبني على المركزية العرقية العربية، يجعل منهم أصلا للأمازيغ، مع أن أصلهم ـ إذا جاز أن نتكلّم عن الأصل ـ هو "إنسان إيغود"، كما أثبت العلم ذلك، وليس إنسان نجد ولا الشام ولا اليمن ولا فلسطين...، كما تقول الرواية الخرافية. هذ البدء من البداية، أي الانطلاق من "إنسان إيغود" لتدريس تاريخ المغرب يسمح، لدى التلميذ، بتشكّل وعي بالزمن التاريخي في سيرورته الطبيعية والكرونولوجية، السليمة والحقيقية، حيث يتّصل الحاضر بالماضي داخل استمرارية تاريخية لا بتْر ولا انقطاع فيها، مجسّدة بذلك لوحدة تتكوّن عناصرها من التاريخ، ومن الفضاء الجغرافي الذي تجري فيه أحداث هذا التاريخ، ومن الناس الذين صنعوا هذه الأحداث أو شاركوا فيها، وهو ما تنجم عنه وحدة الهوية الجماعية لهؤلاء كنتاج لوحدة الزمان (التاريخ) والمكان (الأرض والفضاء الجغرافي) والشعب الذي يعيش في هذا المكان منذ قديم الزمان إلى اليوم. واللافت في هذا الوعي بالزمن التاريخي هو أنه ينبني، ليس على معطيات خرافية، أو على رغبة المؤرخ الذي يدوّن الأحداث لا كما هي بل كما يريدها أن تكون، وإنما على معطيات علمية مؤكّدة، كما هو الشأن بخصوص اكتشاف "إنسان إيغود". ولهذا فالهدف من تدريس هذا التاريخ الحقيقي هو أولا هدف علمي، يتمثّل في الكشف عن الحقيقة، الحقيقية وليس الخرافية والزائفة المفبركة، ثم هو هدف وطني patriotique لأن معرفة التلميذ للتاريخ الحقيقي لقومه وشعبه يجعله أكثر تعلقا بالهوية الجماعية لهذا الشعب التي ينتمي إليها، يفخر بها ويدافع عنها، لأن التعلق بها والدفاع عنها هما تعلق بأرض الأجداد ودفاع عنها باعتبارها مصدر تلك الهوية الجماعية. أما إذا كانت البداية من "القبيلة العربية"، كما كان ذلك يُدرّس في أول درس من التاريخ في مقرّرات سابقة، فذلك قد يخلق لدى التلميذ وعيا كاذبا عن استمرارية تاريخية كاذبة، تمتد من زمن القبيلة العربية إلى زمن مغرب اليوم، ووعيا كاذبا عن استمرارية جغرافية كاذبة، تمتدّ من البلاد العربية بأسيا إلى بلاد المغرب بإفريقيا. هذا الوعي الكاذب ينمّي لدى التلميذ وعيا زائفا بهوية جماعية زائفة تنتمي إلى غير زمان وتاريخ بلاده، وتنبع من خارج أرضه وموطنه كهوية أجنبية وخارجية. وهذا ما يجعل ارتباطه بأرضه وقومه ناقصا وضعيفا، وولاءه للأجنبي، أرضا وقوما، أهم وأقوى. فيكون هدف تدريس هذا التاريخ المزوّر هو خلق وطنية مزوّرة، تدافع عن قضايا الآخرين أكثر مما تدافع عن قضايا المغرب، كما رأينا عندما أعلن أحد ضحايا هذه الوطنية المزوّرة أن القضية الفلسطينية أهم من قضية الصحراء المغربية. ومما يندرج ضمن هذا التاريخ المزوّر ذلك الدرس الذي كان يقول بأن "البربر هم سكان المغرب الأولون". فالخدعة هنا، والتي انطلت حتى على نشطاء الحركة الأمازيغية، هي كلمة "الأولون"، التي تُستحضر قصدا لتبرير وقبول وجود سكان "آخرين" استوطنوا المغرب في مرحلة لاحقة، وهم غير البربر "الأولين". طبعا هؤلاء "الآخرون" هم العرب الذين صنعهم التحوّل الجنسي، القومي والهوياتي، وخلقهم نفس التاريخ المزوّر. قلت إن خدعة "الأولين" انطلت حتى على نشطاء الحركة الأمازيغية، الذين يطالبون بالاعتراف بالأمازيغ كشعب "أصلي" autochtone، أي "أول". مع أن الاعتراف بجود شعب "أصلي" و"أول"، هو اعتراف في نفس الوقت بوجود شعب "وافد" allochtone و"آخر" مختلف. وهو ما يعني بالنسبة للمغرب وجود شعبين بهويتين اثنتين، أمازيغية وعربية، مع أن من يُعتبرون "وافدين" هم أنفسهم أمازيغ تحوّلوا جنسيا، أي قوميا وهوياتيا، نتيجة سياسة التعريب الجماعية التي تمارسها الدولة منذ 1912. ولهذا إذا كان لا بد من استعمال عبارة "السكان الأولون" بخصوص الأمازيغ، فيجب أن تُتبع بـ"والأخيرون"، أي أن الأمازيغ هم سكان المغرب "الأولون" و"الأخيرون"، تأكيدا على وحدة الهوية الجماعية للمغاربة واستمرارها في الزمان والمكان، حسب ما سبق بيانه. ذلك أن حالة الأمازيغ لا علاقة لها بحالة هنود أمريكا الذين هم حقا السكان الأولون لهذه القارة، لأن سكانا آخرين سيحتلون نفس القارة ويستوطنونها بالفعل، ويستقرون فيها بشكل نهائي. فهم إذن وافدون حقا وليسوا هنودا متحوّلين جنسيا، أي متنكّرين لجنسهم الأمريكي الأصلي ومنتحلين الانتماء إلى الجنس الأوروبي الأجنبي، مثل الملايين من الأمازيغ المستعربين الذين تنكّروا لانتمائهم الأمازيغي الأصلي وانتحلوا الانتساب إلى العروبة، كذبا وتزويرا لهويتهم الجماعية الحقيقية. نهاية أسطورة إدريس العربي المؤسس لأول دولة بالمغرب: كان إدريس الأول يُقدّم دائما في كتب التاريخ المدرسي، وحتى الأكاديمي، كأول مؤسس لأول دولة بالمغرب، وهي دولة عربية، حتى أصبحت فكرة أن عمْر الدولة المغربية هو اثنا عشر قرنا شبه حقيقة بديهية يكرّرها السياسيون في أحاديثهم، والمثقفون في كتاباتهم، والأساتذة في دروسهم، والأئمة في خطبهم، والصحفيون في أخبارهم... وواضح أن القول بأن إدريس هو مؤسس أول دولة بالمغرب، يعني أن قبل مجيئه كان الأمازيغ بلا دولة ولا نظام ولا قانون، يعيشون في الفوضى والجاهلية والتخلّف. ويستتبع ذلك أن الذي أخرجهم من هذه الفوضى والجاهلية والتخلّف، وأقام لهم نظاما ودولة وحضارة، هو إدريس العربي القادم من بلاد العرب، ذو "النسب الشريف" المنحدر من أرومة الرسول (صلعم). وهذا ما رسّخ في الأذهان أنه بفضل العرب دخل الأمازيغ عصر الدولة والحضارة والنظام، بعد أن انتشلوهم من الجاهلية والتخلف والفوضى. لهذا يتحدّث التاريخ المدرسي، وحتى الأكاديمي كما قلت، عن وصول إدريس إلى المغرب كبداية لمرحلة تاريخية جديدة أحدثت قطيعة نهائية مع ما سبقها من مراحل. إلا أن أخطر ما في هذه الكذبة هو أن الكثير من الأمازيغ سيتنكّرون لجنسهم الأمازيغي وينتحلون الانتماء إلى الجنس العربي، ويدّعون أنهم حفدة لإدريس الأول حتى ينالوا الامتياز العنصري لخرافة "النسب الشريف". وكان ذلك منطلقا للتعريب الفردي ـ وليس الجماعي الذي سيبدأ في 1912 ـ الذي اتخذ منذ بداياته الأولى شكل تحوّل جنسي، أي قومي وهوياتي. هذه الأسطورة التي تقول بأن إدريس هو مؤسس أول دولة بالمغرب، وما يصاحبها من عنصرية وعرقية تُعلي من الجنس العربي وتحتقر ضمنيا الجنس الأمازيغي، اختفت من الكتاب الجديد بصيغه الثلاث. ففي الدرس الرابع المعنون: "مظاهر من حضارة الأدارسة"، تتحدّث الكتب الثلاثة عن إدريس الأول والثاني ضمن الاستمرارية التاريخية للمغرب الأمازيغي دون أية إشارة، ولا حتى إيحاء، إلى قطيعة ما كان يمكن أن يحدثها ظهورهما داخل هذه الاستمرارية، كما كانت تؤكد على ذلك الكتب المدرسية السابقة. بل إن الكتب الجديدة لا تشير، لا من قريب ولا من بعيد، إلى تأسيسهما لدولة أولى ولا جديدة، ولا عربية ولا حتى إسلامية. كما أنها لم تذكر أن إدريس الأول عربي ولا "شريف". وكل النصوص المختارة للكتب الثلاثة لم تشر ولو مرة واحدة إلى عبارة "دولة عربية" ولا حتى كلمة "عربي". وهي نصوص نستنتج منها أن إدريس الأول والثاني هما شخصيتان تنتميان إلى محيطهما الأمازيغي ومندمجتان فيه، لا يتميزان عن باقي الأمازيغيين لا بأصلهما ولا نسبهما اللذيْن لا تذكرهما هذه النصوص، كما أشرت. هكذا يختفي الجانب الأسطوري والعرقي في الدرس الخاص بالأدارسة. وهو شيء مهمّ جدا لأن معه يختفي عامل أساسي من عوامل التحوّل الجنسي للمغاربة، وهو خرافة "النسب الشريف"، والتفوّق الحضاري المزعوم للعرب القادمين من المشرق. بداية نهاية أسطورة "الظهير البربري" بخصوص الكفاح من أجل استقلال المغرب، الذي تعرّض له الدرس 11، والحديث عن "الحركة الوطنية"، نلاحظ غيابا لأسطورة "الظهير البربري" التي كانت تحتلّ المكانة الأبرز في أي درس يتناول "الحركة الوطنية". فكتاب "المسار" هو وحده من دون الكتابين الآخرين، الذي أشار، ضمن الرسم الخاص باستعراض مراحل الكفاح الوطني، إلى "ظهير 16 ماي لسنة 1930، مستعملا اسمه الحقيقي وليس الأسطوري الذي يعرف به، ولو أن الكتاب سيشرح هذا الظهير في الفقرة المتعلقة بالمعجم كما يلي: «ظهير 16 ماي 1930 المسمّى الظهير البربري: قانون أصدرته سلطات الحماية الفرنسية، استثنى القبائل الأمازيغية من القضاء الإسلامي، وأخضعها للحكم العرفي، أو المحاكم الفرنسية». ورغم ذكر الاسم الأسطوري "الظهير البربري" لتوضيح معنى ظهير 16 ماي، وارتكاب أخطاء فادحة في شرح المقصود بـ"الظهير البربري"، مثل القول باستثنائه للقبائل الأمازيغية من القضاء الإسلامي، وهو أمر غير صحيح بتاتا بدليل أن الظهير يؤكد ضمن نص عنوانه على تطبيقه فقط بالقبائل التي لا تتوفر على محاكم القضاء الإسلامي؛ ومثل ادعاء أن فرنسا أخضعت القبائل الأمازيغية للحكم العرفي مع أن هذه القبائل كانت دائما خاضعة تلقائيا لهذا الحكم قبل أن تحتل فرنسا المغرب، (رغم ذلك)، فأن مضمون أسطورة "الظهير البربري" غائب، وهو الكذبة المتعلقة بالتفرقة العنصرية بين العرب والأمازيغ ليسهل إخراج الأمازيغ من دينهم الذي هو الإسلام. وهذه التفرقة هي موضوع "اللطيف" المشهور، الذي هو من المكوّنات الرئيسية لأسطورة "الظهير البربري". وبالتالي فإن غيابه من الكتاب المدرسي، بصيغه الثلاث، هو جزء من غياب مضمون أسطورة "الظهير البربري"، كما قلت، والذي هو غياب، إن لم يعْنِ نهاية هذه الأسطورة، فهو يعني بداية لهذه النهاية. إن غياب أكذوبة "الظهير البربري" من مقررات التاريخ، يشكّل جزءا من الثورة السياسية والعلمية التي سبق أن أشرت إليها. ولذلك فهو عمل علمي وتربوي هام جدا. لماذا؟ لأن من خلال ما كان يتلقّاه التلميذ من معطيات كاذبة حول "الظهير البربري"، مثل استعمال فرنسا للأمازيغ، عبر توظيف هذا الظهير، للفصل العنصري بين المغاربة، ونشر التفرقة بين العرب والأمازيغ، وزرع الفتنة داخل الوطن الواحد، ومحاربة الشريعة بفرض العودة إلى العادات الوثنية...، تترسّخ في ذهنه علاقة تلازمية بين الأمازيغية والأمازيغ من جهة، وبين الاستعمار والتفرقة والعنصرية والفتنة والوثنية والخيانة...، من جهة ثانية. وهكذا تنجح هذه الأكذوبة في شيطنة الأمازيغية، وتجعل هذا التلميذ، وقد أصبح مواطنا راشدا، ينفر من الأمازيغية ويعاديها ويحاربها، لارتباطها بالاستعمار والتفرقة والعنصرية والخيانة...، حسب ما تعلّمه من أكذوبة "الظهير البربري" كما لُقّنت له في المؤسسات التعليمية. إلغاء هذه الأسطورة من المقررات الدراسية ليس إنصافا للأمازيغية فقط، بل هو إلغاء للكذب والافتراء، وانتصار للحق والعلم. التاريخ والهوية الجماعية: لا حاجة إلى التأكيد أن التاريخ هو الطريق الذي يقود إلى الهوية الجماعية للشعوب. بل يمكن القول إنه صانع هذه الهوية باعتباره الذاكرة التي منها تنبع تلك الهوية الجماعية. والنتيجة أن تغيير أو تحريف هذا الطريق يؤدّي إلى تغيير وتحريف في الهوية الجماعية، لأنه يقود إلى شيء آخر غير الهوية الطبيعية التي كان من الطبيعي أن يقود إليها في الأحوال الطبيعية العادية. هذا التغيير والتحريف لطريق الهوية، أي للتاريخ، هو ما ظلت تقوم به الدولة المغربية منذ 1912. ويتمثّل هذا التغيير والتحريف في اختلاق وتزوير معطيات التاريخ بالشكل الذي يقود، ليس إلى الهوية الأمازيغية الإفريقية، التي هي الهوية الطبيعية النابعة من ذاكرة ذلك التاريخ، بل إلى هوية أخرى مختلَقة ومزوّرة، وهي الهوية العربية الأسيوية. ومن هذا الاختلاق والتزوير تتكوّن مضامين مقررات التاريخ المدرسي الذي يتعلمه المغاربة في المؤسسات التعليمية. والهدف هو تعريب المغاربة بجعلهم عربا، أي متحولين جنسيا من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، منتحلين لأنفسهم هوية مختلَقة ومزوّرة نتيجة الاختلاق والتزوير الممارَس على التاريخ كطريق إلى الهوية، كما شرحت. فطمس التاريخ يؤدّي مباشرة إلى طمس الهوية التي تنبع من هذا التاريخ، كما سبق أن ذكرت. والأسوأ في هذا الاختلاق والتزوير أنهما يتحوّلان إلى وعي زائف عند المثقفين الذين يعملون عل نشره وتعميمه، وعند السياسيين الذين يجعلون منه معيارا للانتماء القومي وللقيم الوطنية. وهكذا يخلق الزيف مزيدا من الزيف، ومزيدا من المسخ للحقيقة والهوية الحقيقية للشعب المغربي حتى عاد أجنبيا عن ذاته، يربط انتماءه بهوية خارج أرضه وتاريخه. من هنا تبرز ضرورة تصحيح المضامين الكاذبة والزائفة التي تُدرّس للمغاربة في مادة التاريخ. وهذا ما رأينا بداياته في كتب التاريخ للسنة السادسة من التعليم الابتدائي. ويكتسي هذا التصحيح، أولا، أهمية سياسية تعبّر، كما سبقت الإشارة، عن اقتناع الدولة بضرورة وقف عملية التزوير الجماعي الذي كانت تمارسه على عقول المغاربة من خلال التعليم والمدرسة، بهدف تزوير انتمائهم الأمازيغي بجعله انتماء عربيا. وهو التزوير الذي كان يتخذ شكل تحويل جنسي جماعي، قومي وهوياتي، يكاد يكون فريدا في التاريخ. ويكتسي (التصحيح)، ثانيا، أهمية علمية لأنه يُظهر، كما سبق أن أوضحت، الحقيقة التاريخية التي تُظهر بدورها هوية المغاربة الحقيقية، وتزيل الستار عن عملية التزوير التي كانت تتلاعب بهذه الحقيقة التاريخية وتخفيها من أجل إخفاء الهوية الجماعية الحقيقية للمغاربة. ولهذا فإن الأمازيغوفوبيين الذين يرفضون الأمازيغية ويخافون منها، هم في الواقع يرفضون الحقيقة ويخافون منها، لأنها تكشف عن الاختلاق والتزوير اللذيْن كانوا يعيشون بهما كمصر رزق إيديولوجي وثقافي وسياسي، وتفضح فاحشة الشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي، الذي يستمتعون بممارسته ويعملون من أجل فرض تلك الممارسة على جميع المغاربة.
|
|