|
|
هل يتّجه المغرب إلى اعتماد
"البانوبتيسم" لشرعنة الرقابة الشاملة؟
بقلم: محمد بودهان
(05 ـ 05 ـ 2020) مكافحة الوباء كمبرّر لفرض الرقابة الشاملة: استهلّ الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" Michel Foucault (1926 – 1984) الجزء الذي أفرده لنظام الرقابة الشاملة Le panoptisme، ضمن الباب الثالث الخاص بـ"الانضباط" من كتابه: "المراقبة والعقاب" Surveiller et punir، بالإجراءات التي كانت مطبّقة في أواخر القرن السابع عشر بالمدن الفرنسية التي ظهر فيها وباء الطاعون. وهي، كما عرضها الكاتب، إجراءات كانت قاسية ومشدَّدة جدا حيث كانت عقوبة المخالفين لها الإعدام الفوري، بمن فيهم المسؤولون المكلّفون بمراقبة مدى احترامها في حالة إخلالهم بالمهامّ الموكولة إليهم. (M.Foucault, "Surveiller et punir, naissance de la prison", Gallimard 1975, p. 197-198.). إذا عرفنا أن موضوع الكتاب ليس هو الأوبئة وطرق مكافحتها والوقاية منها، وإنما هو الجريمة والفلسفة الجنائية لمكافحة الإجرام، والتطوّر التاريخي لتقنيات العقاب وأساليب الرقابة الاجتماعية، وعلاقة كل ذلك بالسلطة وأشكال ممارستها، فهذا يطرح علينا السؤال التالي: لماذا إذن استشهد الكاتب بإجراءات استثنائية خاصة بمكافحة وباء الطاعون، كمدخل لما سماه panoptisme، أي "نظام الرقابة الشاملة"؟ الجواب واضح وبسيط، وهو أن ظروف انتشار الأوبئة هي الفرصة التي تستدعي، أكثر من الظروف العادية، اللجوء إلى إجراءات تحدّ من حريات الأشخاص وتجيز ترصّدهم وتتبّع حركاتهم وسكناتهم، وإخضاعهم لرقابة شاملة للتأكد من مدى التزامهم بالتدابير الاستثنائية التي فرضتها عليهم السلطات. انطلق "فوكو" من نموذج هذه الإجراءات الاستثنائية المتّخذة في ظروف استثنائية لمناقشة مسألة "الانضباط" la discipline في الظروف العادية التي لا علاقة لها بأي وباء أو حروب أو كوارث. فكما أن الأفراد لا ينضبطون، عندما يقتضي انتشارُ وباء ما فرضَ حِجر صحي، لتدابير هذا الحِجر إلا لأنهم يعرفون أن هناك سلطات تراقبهم لمعرفة مدى التزامهم بالتدابير المقرّرة، فكذلك المواطنون لا ينضبطون، كما يوضّح "فوكو"، لقرارات السلطة، من أوامر ونواهٍ وقوانين وإجراءات وتدابير، إلا إذا كانوا يعرفون أنهم مراقَبون، ويعرفون أن كل إخلال منهم بتلك القرارات يعرّضهم للعقاب، كما في الإخلال بإجراءات الحِجر الصحي. "البانوبتيسم" وهاجس الانضباط في المجتمعات الحديثة: هذه المراقبة التي تلاحق المواطن من طرف أجهزة الدولة وقوانينها هي ما يسمّيه "فوكو" panoptisme الذي يمكن ترجمته بـ"نظام الرقابة الشاملة". "بانوبتيسم" تعبير عن النظام القائم على تطبيق آلية "البانوبتيك" panoptique، الذي هو كلمة مركّبة من العنصر pan الذي يعني في أصله اليوناني "المجموع" و"الكل"، والعنصر optique الذي يعني النظر والرؤية. وهكذا تعني إذن كلمة "بانوبتيك" "الرؤية الشامة" التي لا يخفى عنها أي شيء. وترجع فكرة "الرقابة الشاملة" باعتماد آلية "البانوبتيك" إلى الفيلسوف البريطاني "جيريمي بنتام" Jeremy Bentham (1748 -1832) ، عندما اقترح مشروعا لبناء سجون بعدة طوابق وعلى شكل دائري مع برج في الوسط منه تُرى وتُراقب جمع الزنازين وجميع السجناء. لكن هؤلاء السجناء لا يمكنهم رؤية من يراهم ويراقبهم من البرج المعدّ لذلك. وهو ما يجعلهم يتصرّفون على أساس أن هناك دائما مراقبا يراهم وذلك حتى عندما لا يوجد مراقب بالبرج. هذه الآلية التي تجعل المراقبة تبقى فعّالة دائما حتى عندما لا تكون حقيقية، أي حتى عندما لا يكون هناك مراقب، هي التي تتجه اليوم الدول إلى تطبيقها وتعميمها، كما يشرح ذلك فوكو" في كتابه، كأداة "للرقابة الاجتماعية" قصد ضمان انضباط المجتمع عبر حضور السلطة وانتشارها في كل مكان، كسلطة غير مرئية لأنها تمارس فعلها في أصغر وأدنى مستوى لها على شكل ما يسميه "فوكو" micro-pouvoir. وما يجعل انضباط المواطنين، الذي يتحقّق بدون أن تكون هناك سلطة بمظهرها المادي والمرئي لفرض هذا الانضباط، شبيها وقريبا من المراقبة بآلية "البانوبتيك"، هو أن المنضبطين لقرارات السلطة يفعلون ذلك دون الحضور المادي المرئي لهذه السلطة، تماما كما في المراقبة بآلية "البانوبتيك" حيث ينضبط السجناء فقط لاعتقادهم أن هناك دائما من يراقبهم حتى لو لم يكن هناك وجود فعلي لهذا المراقب المفترض. وهذا ما جعل 'فوكو" يُعنْون، كما سبقت الإشارة، الجزء الأخير من الفصل الذي خصّه لموضوع "الانضباط" بـ"البانوبتيسم" panoptisme، قاصدا بذلك أن الشكل الذي تفرض به السلطة الانضباط في المجتمعات العصرية، شبيه بنظام "البانوبتيك" من حيث إنه هو أيضا يرمي إلى إرساء نظام رقابة شاملة بدون حضور مادي ضروري للسلطة مصدر هذه الرقابة. "كورونا" وتوسيع المراقبة للحدّ من الحريات: وما يهمّنا، في علاقته بوباء "كورونا"، من نظام "البانوبتيسم" في شكله الجديد، كما حدّد معالمَه "فوكو"، ليس هو التطوّر الهائل للتكنولوجيا الرقمية التي أصبحت معها المراقبة بآلية "البانوبتيك" سهلة ومتاحة من خلال كاميرات المراقبة وتتبّع الأشخاص عبر الهاتف والأنترنيت، واختراق حياتهم الخاصة ومعرفة كل ما يفعلون، وأين ومتى، دون أن يتمكّنوا هم من رؤية من يراقبهم ويراهم، وإنما هو توظيف هذا التطور التكنولوجي للمراقبة "البانوبتيكية" للمواطنين وتقييد حرياتهم في إطار فرض الطوارئ الصحية، مع ما يصاحب ذلك من تدابير استثنائية للحدّ من انتشار وباء فيروس "كورونا". لقد رأينا كيف أن "فوكو"، الذي اعتمدنا على كتابه (المراقبة والعقاب) في هذه المناقشة، استشهد بالإجراءات التي قرّرتها السلطات الفرنسية في أواخر القرن السابع عشر لمكافحة وباء الطاعون، كمقدمة لشرح الآليات التي تشتغل بها السلطة لمراقبة الأفراد لإنتاج مجتمع منضبط. وهذه العلاقة بين انتشار الأوبئة وتشديد إجراءات المراقبة من طرف السلطات واضحة وحاضرة من خلال ما فرضته غالبية دول العالم على مواطنيها، بعد انتشار وباء فيروس "كورونا" في كل أنحاء العالم تقريبا منذ مارس 2020، من حِجر صحي يقيّد تحركاتهم ويحدّ من حرياتهم، مع عقوبات زجرية على المخالفين لتدابير الحٍجر. من الأقنعة المانعة للفيروس إلى الكمامات المانعة للكلام: ولأن هذه الإجراءات ظرفية ومؤقتة استدعتها ضرورة مكافحة وباء فيورس "كورونا"، فقد تقبّلها المغاربة كغيرهم في الدول الأخرى، رغم أنها تشكّل نوعا من "البانوبتيك" الذي يشدّد الرقابة عليهم ويقيّد حرياتهم وتنقلاتهم، ويفرض عليهم وضع أقنعة صحية (يسميها البعض "كمامات"، وهو خطأ فادح جسيم لأن الكمامة muselière خاصة بالحيوان) بالنسبة لمن يتوفرون على رخص استثنائية للخروج من منازلهم. لكن "عبقرية" المسؤولين المغاربة أبوا إلا أن يجعلوا من هذا الإجراء الاستثنائي والمؤقت إجراء عاديا ومستمرا في الزمان، ويحوّلوا الأقنعة التي تمنع الفيروس إلى كمامات تغلق الأفواه وتمنع الكلام والتعبير، وبشكل دائم. هذا هو الهدف من مشرع قانون 22.20، المعروف بـ"قانون تكميم الأفواه". إنه محاولة لإرساء نظام رقابة شاملة يمثّل نسخة عصرية لآلية "البانوبتيك"، إذ بمجرد أن نعرف أن هناك من يراقب ما ننشره ونكتبه على الأنترنيت خارج ما رخّصت لنا الدولة بنشره وكتابته، حتى نحتفظ بوضع الكمامات كي لا نخرج عن إطار هذ الترخيص الذي تكرّمت به الدولة علينا. رغم أن الدولة سنّت في المدّة الأخيرة مجموعة من القوانين لتنظيم استعمال فضاء الأنترنيت، وتأطير النشر والتعبير بشبكات التواصل الاجتماعي، إلا أنها اعتقدت، بناء على نجاح الدعوة على شبكات التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة منتوجات بعض الشركات، أن هذا الفضاء، وضمنه شبكات التواصل الاجتماعي، يشتغل خارج سلطتها وسيطرتها، فقرّرت أن تُحكم قبضتها عليه من خلال إعداد قانون صيغ على شكل نظام لرقابة شاملة بشكل "بانوبتيكي"، قاتلة لحرية التعبير والرأي loi liberticide، دون أن يكون ذلك "القتل" ضروريا لتنظيم فضاء النشر على شبكة الأنترنيت، إذ توجد منذ سنوات، كما سبق القول، قوانين زجرية صارمة تنظّم استعمال فضاء الأنترنيت. وتكفي الإشارة إلى أن من التهم المنسوبة إلى العديد من نشطاء حراك الريف "النشر في الفايسبوك"، كما جاء في صكّ اتهامهم. كل ما هنالك إذن هو أن الدولة تعرف جيدا أن الأنترنيت أصبح فضاء لممارسة حرية التعبير والرأي عندما تمنع الدول على مواطنيها هذه الحرية، فأوحت إلى أجهزتها الريعية، الحكومية والبرلمانية، بتهييء "بانوبتيك" يتيح لها بسط رقابتها الشاملة على هذا الفضاء، الذي أصبح يشكّل بالنسبة لها "بلاد سيبة" جديدة لا بد من تجهيز "حرْكة" ("حرْكة" بتسكين الراء تعني الحملة العسكرية التي كان يعبئها السلطان لـ"تأديب" القبائل المتمردة وفرض السيطرة عليها) لإخضاعها لسلطة المخزن. وقد كان فرض وضع الأقنعة الصحية لمنع الفيروس، والذي قرّره القانون المنظّم لحالة الطوارئ الصحية لمواجهة وباء "كورونا"، فرصة مواتية لتمرير قانون وضع الكمامات التي تغلق الأفواه لمنع الكلام والتعبير. أما صياغة القانون على شكل "بانوبتيك" فهو، كما سبقت الإشارة، بهدف تمكين السلطة المخزنية من المراقبة الكلية والدقيقة لمن لا يضع الكمامة لتطبّق عليه العقوبات الزجرية المقررة. العجيب أن هذه المراقبة الكلية والدقيقة لحركات وسكنات المواطنين بفضاء الشبكات الاجتماعية، التي يسمح بها للدولة مشروع القانون 22.20، لا تجعل من هذا القانون "بانوبتيك" عصريا كما شرحه "فوكو"، أي "بانوبتيك" يرمي إلى خلق مجتمع منضبط، وإنما تجعل منه "بانوبتيك" كلاسيكيا كما تصوّره وشرحه "جيريمي بنتام"، أي "بانوبتيك" خاصا لمراقبة السجناء، حيث تصبح الحياة في إطار هذا القانون لا تختلف كثيرا عن الحياة داخل سجن كبير فسيح، لكن الحرية داخله ضيّقة ومحدودة كأنها منعدمة مثلما هي كذلك داخل السجن العادي. علاقة مشروع "قانون تكميم الأفواه" بحملة المقاطعة الناجحة بمواقع التواصل الاجتماعي لمنتوجات ثلاث شركات، والتي انطلقت في أبريل 2018 واستمرت ما يقارب سنة كاملة، لا تخفى على أحد، كما يظهر ذلك جليا من المادة 14 لهذا المشروع، والتي حدّدت عقوبة حبسية تصل إلى ثلاث سنوات لكل من يدعو «إلى مقاطعة بعض المنتوجات أو البضائع أو الخدمات أو القيام بالتحريض علانية على ذلك». وهذا يؤكد أن سبب نزول مشروع هذا القانون هو حماية ثروة أصحاب السلطة حفاظا على استمرار الجمع بينهما، مع كل ما ينتج عن ذلك من إضرار بالاقتصاد لانعدام التنافسية والحيادية وتكافؤ الفرص والتحفيز كعوامل تشجع على الاستثمار، وغياب الكفاءة والاستحقاق والعمل كمصدر للثروة، ومن عرقلة لقيام أية ديموقراطية حقيقية لغياب فصل حقيقي بين السلط.
|
|