|
|
العقل في تدبير التعدد اللغوي والثقافي في المغرب بقلم : الصافي مومن علي
تنص الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس من الدستور على ما يلـــي: ((يحدث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته على وجه الخصوص حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها ثراتا اصيلا وإبداعا معاصرا...)) من تحليل هذا النص يتبين أن الدستور قد حدد عمل المجلس الوطني المذكور في تدبيره حماية وتنمية الأمازيغية ، في ثلاثة مهام أساسية هي: - المهمة الاولى : حماية وتنمية اللغة الأمازيغية الرسمية ، التي اعتبرها الدستور هي الرصيد المشترك لجميع المغاربة بدون استثناء. - والمهمة الثانية : هي حماية وتنمية مختلف التعبيرات الأمازيغية ، باعتبارها ثراتا أصيلا وإبداعا معاصرا. - أما الثالتة : فتتمثل في حماية وتنمية الثقافة الأمازيغية ، على اعتبار أن مهمة المجلس لا تتحدد فقط في حماية اللغات واللهجات ، بل أيضا في حماية الثقافة المغربية، وذلك حسبما هو ثابت من اسمه الجامع للغات والثقافة معا ، أي : المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية " كما جاء في الدستور. ومن الأكيد أن نفس هذه المهام هي التي يجب على هذا المجلس ان يقوم بها تجاه العربية ، أي: 1)- حماية وتنمية اللغة العربية الرسمية. 2)- حماية وتنمية الحسانية ومختلف اللهجات والتعبيرات العامية الدارجة، المستعملة في المغرب. 3)- حماية وتنمية الثقافة العربية في جانبيها الفصيح والعامي معا.
لكن إن كان الفرق بين اللغة العربية الرسمية ، وبين تعابيرها العامية ، واضحا ولا يطرح أي اشكال ، فكيف نفرق إذن بين اللغة الرسمية الأمازيغية ، وبين مختلف تعابيرها العامية ، وندرك بالتالي التمييز القائم بينهما. اعتقد أن الدستور قد أجاب على هذا السؤال بطريقة غير مباشرة ، محددا معايير هذا الفرق في فصله الخامس ، تستخلص من محتوى مضامينه بالمنطق وبداهة العقل . واهم هذه المعايير ما يلــي: أولا : معيار الوحدة المتجلي في تخصيص الدستور اللغة الأمازيغية الرسمية بصفة الوحدة ، عن طريق حديثه عنها بصيغة المفرد ، كما يتجلى ذلك من صريح عبارة الفقرة الثالثة من الفصل المذكور التي تنص على ما يلــي: " تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة ، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء. " ويتجلى ذلك أيضا من عبارة السطر الثاني من الفقرة الأخيرة التي تقول: " حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية " ، حيث يفهم من صيغة المثنى التي صيغت بها العبارة المذكورة ، أن مقصود المشرع من تلك اللغتين هو: اللغة العربية الرسمية الواحدة ، واللغة الأمازيغية الرسمية الواحدة. ثانيا : معيار اللغة المتمثل في تمييز الامازيغية الرسمية بمصطلح "اللغة"، خلافا لمختلف الأمازيغيات الاخرى التي لم يضف عليها الدستور هذا المصطلح ، بل أطلق عليها تارة اسم " التعابير " ، وتارة أخرى اسم " اللهجات ". ثالثا : معيار التعدد الذي خص به الدستور مختلف اللهجات والتعابير الأمازيغية وذلك حين حديثه عنها بصيغة الجمع والكثرة ، كما هو واضح من منطوق الفقرة الخامسة ، التي تنص على ما يلــي: " تعمل الدولة على صيانة الحسانية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة ، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب. " وكذا من منطوق الفقرة الأخيرة التي جاءت على الشكل التالي: " ... حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية، ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية باعتبارها ثراتا أصيلا وإبداعا معاصرا " رابعا : معيارالقانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية الوارد في الفقرة الرابعة ، الذي جعله الدستور خاصا فقط باللغة الأمازيغية الرسمية وحدها ، دون بقية تعابيرها ولهجاتها ، من منطلق ذكره اللغة موضوع هذا القانون ، بصيغة المفرد ، وبصفة الوحدة ، وليس بالجمع أو التعدد والكثرة. خامسا : معيار الادماج في المرافق العمومية ، حيث نص الدستور بأن اللغة الأمازيغية الرسمية الواحدة والمشتركة بين جميع المغاربة ، هي وحدها فقط المعنية بهذا الادماج في التعليم ، وفي مجالات الحياة العامــة ، دون بقية اللهجات والتعابير الامازيغية الاخرى. وبالاضافة الى هذه المعايير الدستورية البديهية ، هناك معيار اخر عملي ومحسوس يتمثل في احداث المعهد الملكي للثقافة الامازيغية ، الذي يدخل ضمن مهامه الكبرى تدوين اللغة الامازيغة ، لكي تتعزز بها وحدة المغاربة وتلاحمهم الوطني ، اسوة باللغة العربية وبالعقيدة الاسلامية ، لان الشعب المغربي ان كان فعلا موحدا في دين اسلامي واحد ، وفي لغة عربية واحدة ، فيجب ان يكون كذلك موحدا في أمازيغية واحدة ، وأشير هنا أن هذا الهدف الوحدوي للامازيغية ، قد أكده جلالة الملك محمد السادس في ديباجة ظهير المعهد الملكي للثقافة الامازيغية التي تنص على ما يلي : " واقتناعا من جلالتنا الشريفة بان تدوين كتابة الامازيغية ، سوف يسهل تدريسها وتعلمها وانتشارها ، ويضمن تكافؤ الفرص أمام جميع أطفال بلادنا في اكتساب العلم والمعرفة ، ويساعد على تقوية الوحدة الوطنية ." والحق ان ارادة جلالة الملك في تحقيق هذا الهدف ، واضحة من احداثه مؤسسة واحدة للامازيغية ، لانه لو كان الامر عكس ذلك ، لكان جلالته قد أحدث ثلاتة معاهد جهوية أو أكثر ، لتقعيد اللهجات الامازيغية : الريفية ، والاطلسية ، والسوسية وغيرها. وهكذا ولما كان الدستور قد أناط للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية ، مهمة تخطيط السياسة اللغوية الوطنية ، وكذا السهر على انسجامها ، فإن أولى الأولويات المطلوبة في تقديري ، للخروج بسياسة رشيدة في هذا الشأن ، هي أن يضم هذا المجلس شخصيات مشهود لها بعمق التفكير في الميادين ذات الصلة بموضوع التعدد اللغوي، وكذا الإحاطة الشاملة بحقيقة الشعب المغربي في بعده التاريخي والاجتماعي ، ثم بالإضافة الى ذلك تحلي هذه الشخصيات بالحس الوطني السامي البعيد عن أي تعصب ضيق كيفما كان. واعتقد ان ادراك حقيقة مجتمعنا بهذا المنظور، سيؤدي الى التعامل مع مكونات تعددنا اللغوي والثقافي وفق المبادئ التاريخية والموضوعية التالية : 1)- أن اللغة الأمازيغية تعتبر هي اللغة الأم للشعب المغربي ، المرتبطة به عضويا منذ أقدم الأزمان ، والى الان . 2)- أن هذا الشعب نفسه هو الذي اختار اللغة العربية بإرادته الحرة ، لتكون لغته الرسمية بعد اعتناقه للدين الإسلامي واسترداد سيادته واستقلاله من الخلافة العربية في الشرق ، ثم تأسيسه كياناته السياسية الخاصة التي يحكم بها نفسه بنفسه، انطلاقا من الدولة الإدريسية في الماضي مرورا بالمرابطين والموحدين الى الدولة العلوية في عصرنا الراهن، بمعنى أن اللغة العربية ليست لغة شعب عربي حاكم ، يفرضها بالقوة على شعب أمازيغي محكوم ، كما كانت توحي به ثقافة الفكر السطحي أو الايدولوجي. 3)- انه نتيجة قيام كل الملوك السابقين لهذا الشعب ، بترسيم العربية وحدها ، جاعلين منها لغة الدين والدنيا ، فقد أدى ذلك الى هرولة المغاربة نحوها وتهافتهم عليها سعيا لتحقيق مصلحتهم الدنيوية والأخروية ، فكانوا في عجلتهم هذه لتعلمها بدون معلم ، يكتفون بالتقاط الكلمات العربية وغيرها هنا وهناك ، فيصبونها في القوالب الفكرية الأمازيغية الراسخة في أذهانهم ، فنتج عن ذلك تكوين لهجات الدارجة المغربية المختلفة ، التي تبدو في شكلها الظاهري السطحي عربية، وفي عمقها وروحها أمازيغية. 4)- ان هذا التهافت هو الذي أدى الى تعريب قسم كبير من الشعب المغربي ، فأحدث شرخا واسعا في كيانه ، بين أبنائه الناطقين بالدارجات ، الذين يتزايدون باستمرار على مر العصور، وبين الناطقين بالعاميات الأمازيغية الذين يتناقصون باستمرار كذلك مع تقدم الزمن ، هذا الشرخ الذي تستغله الثقافة السطحية والأيديولوجية معتقدة انه انقسام بين عرب ، وبين بقايا الشعب الامازيغي المنقرض. 5)- أن الشعب المغربي لو قام في الماضي بترسيم لغته الأمازيغية ، الى جانب اللغة العربية كما فعل اليوم ، تطبيقا لقاعدة العدل مع النفس المتفقة مع مبادئ الدين الإسلامي الصحيح، ومع أحكام القانون الطبيعي وقواعد العدالة ، لكان وضعه الان شبيها بوضع الشعب الماليزي أو الأندونيسي او التركي أو غيرها من الشعوب الإسلامية ، التي تسود فيها لغاتها الأصلية ، الى جانب اللغة العربية الفصحى الصحيحة ، وتنعدم فيها الدارجات العامية الناتجة من خليط العربية بلغات أخرى. وهكذا لما كانت هذه الرؤية الموضوعية تثبت حقا أن الشعب المغربي ، هو نفسه المسؤول الوحيد عن تعدده اللغوي والثقافي ، وبأن هذا التعدد سواء أحبه أم كرهه فهو يعتبر منه وإليه ، لصدوره منه تارة باختياره وإرادته ، كما فعل مع اللغة العربية حينما قرر بعد اسلامه ، تبنيها وترسيمها في وطنه ، وتارة أخرى بإهماله وانحرافه عن العدل ، كما فعل مع لغته الامازيعية حينما قرر تهميشها وعدم ترسيمها الى جانب العربية ، فينبغي والحالة هذه أن ننظر الى مختلف أشكال هذا التعدد كمكونات مرتبطة بذاتنا ارتباطا عضويا ووثيقا ، يفرض علينا الواجب الوطني ، الغيرة عليها والدفاع عنها ، وكذا تسخير كل الامكانيات للمحافظة عليها وتنميتها. إذن استناذا لما تقدم سترتكز سياسة التدبير اللغوي والثقافي لا محالة على تحقيق الاهداف التالية : أولا: اعتبار اللغتين الأمازيغية والعربية بمثابة اللحمة التي توحد الشعب المغربي وتقوي تماسكه وتلاحمه ، ومن ثم يجب العمل على نشر هاتين اللغتين في عموم أجزاء الوطن ، وفي أعماق الإنسان المغربي أينما كان ، وأعتقد أن هذا الأمر قد قرره الدستور المغربي حينما نص على ترسيم هاتين اللغتين وحدهما. ثانيا: العمل على حماية وتنمية مختلف اللهجات والتعابير الثقافية الأخرى ، باعتبارها ثراتا وطنيا متولدا من لغتيه الرسميتين ، إما مجتمعتين معا ( كالاب والام) فأنجبتا الحسانية ومختلف الداراجات المغربية الاخرى، أو متولدا فقط من اللغة الأمازيغية وحدها ، كما هو الشأن بالنسبة للتعبيرات الأمازيغية المختلفة، ثم العمل في نفس الوقت على تشجيع جميع هذه التعابير المختلفة لترتبط بالمصدر الذي تولدت منه ، سعيا من ذلك الى تحقيق تقاربها وتفاهمها مع مرور الزمن. ثالثا: تدريس بعض اللغات الأجنبية الحية الى جانب اللغتين الرسميتين ، لتمكين الناشئة المغربية من الانخراط في مجتمع المعرفة ، والانفتاح على حضارة العصر كما يقضي الدستور بذلك. ولعل حجر الزاوية الأساسي والهام في بناء صرح السياسة اللغوية ، يتمثل بلا شك في نجاح المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية ، في خلق الانسجام والتناسق بين المكونات اللغوية الآنفة الذكر، لأن فشله في ذلك سيؤتر طبعا على عملية تدبيره للتعدد اللغوي، مما سيؤدي ربما الى توترات تمس باستقرار المجتمع وبتوازنه. وأعتقد ان تحقيق هذا الانسجام بين مختلف اللهجات والتعابير العامية ، ان كان يعتبر أمرا سهلا الى حد ما ، لمحدوديتها داخل مناطقها وجهاتها ، ثم لإمكانية تعاون المجلس الوطني المذكور في هذا الشأن ، مع الجماعات والمؤسسة المحلية المعنية ، فان ضبط هذا الانسجام بالنسبة للغتين الأمازيغية والعربية ، يعتبر صعبا ومعقدا نوعا ما ، يقتضي الدقة والحكمة والاجتهاد ، لاسيما في قطاع التعليم ، مهد تكوين ناشئتنا وأجيالنا في المستقبل ، اذ لما كانت اللغة الامازيغية ستدرس باعتبارها لغة وطنية ورسمية ، ثم كوسيلة لاكتساب العلم والمعرفة ، لضمان تكافؤ الفرص أمام جميع أطفال بلادنا ، كما أكد ذلك جلالة الملك في ديباجة ظهيرالمعهد الملكي للثقافة الامازيغية المشار اليها انفا ، فان من بين الامور الاكثر صعوبة في هذا القطاع التعليمي ، هي مسألة توزيع مواد التعليم ( التاريخ ، الجغرافيا ، التربية ، الحساب الخ...) بين اللغتين الرسميتين العربية والامازيغية ، بطريقة متساوية خالية من أي شكل من أشكال التمييز أو الدونية . ويبدو أن الدستور قد وضع في حسبانه هذه الصعوبة حينما نص في فصله الخامس على سن قانون تنظيمي يحدد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في التعليم ، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية ، وذلك لكي تتمكن هذه اللغة من القيام مستقبلا بوظيفتها بصفتها لغة رسمية. اذن يستنتج منطقيا من هذا ،أن اضطلاع المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية بمهامه ، رهين كليا ، بصدور هذا القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية ، لثبوت استحالة قيام هذا المجلس ، بتخطيط اية سياسة لغوية منسجمة ، دون أخده بعين الاعتبار أولا ، ما سينص عليه القانون التنظيمي الانف الذكر بشأن كيفيات ومراحل ادماج الامازيغية في التعليم وفي الحياة العامة. وانه نظرا للارتباط الوثيق بين حماية وتنمية اللغة الأمازيغية الرسمية ، وبين صدور هذا القانون التنظيمي ، فإن كل تأخر أو تماطل في صدوره ، سيؤدي حتما الى تعميق تأخر هذه اللغة ومعاناتها ، وانه لسوء الحظ ، في الوقت الذي كانت تنتظر فيه صدور القانونين التنظيميين الواردين في الفصل الخامس من الدستور اللذين سيخففان عنها هذه المعاناة بعض الشئ ، راجت بعض الاشاعات القائلة بتأجيلهما الى سنة غير مسماة في المرحلة التشريعية للحكومة الحالية ، الامر الذي زاد من ألمها وقنوطها ، وهنا يمكن القول ان قرار جلالة الملك في الدورة الخريفية الاخيرة للبرلمان، بضرورة التعجيل باصدار هذين القانونين في هذه السنة أي : 2013 ، يدخل فعلا في اطار العناية الاخلاقية التي تسمو على أخلاق العدالة والانصاف ، بل حتى على أخلاق الفضيلة الكلاسيكية ، لان شعارها يقوم على هذا المبدأ : " ان افاق التقدم والازدهار الانساني تعتمد جوهريا على أن يتلقى من يحتاج الى العناية ، العناية التي يحتاج اليها . " ذ:- الصافي مومن علي
|
|