|
|
كتاب "إمازيغن وحتمية التحرر" أو حكاية "عدالة ظالمة"
بقلم: محمد بودهان (17 ـ 01 ـ 2017) صدر في يناير 2017 للأستاذ حميد أعطوش، والذي هو معتقل رأي سابق بسبب نضاله من أجل الأمازيغية (لا زال في الحقيقة معتقلا لأن إطلاق سراحه هو تطبيق فقط لمسطرة الإفراج المقيّد بشروط)، كتاب "إمازيغن وحتمية التحرر، الحركة الأمازيغية بين الاعتقال والاغتيال"، والذي كان لي الشرف الرفيع لأن أكتب تقديما له. إذا أردت أن ألخّص قراءتي لهذا الكتاب، فسأقول إنه يحكي فيه الكاتب ثلاث "قصص": قصة مظلوم، وقصة ظلم، وقصة ظالم. فالقصة المتعلقة بالمظلوم تخص الكاتب الذي يسرد فيها ظروف الاعتقال ومعاناته مع السجن والحرمان من الحرية طيلة تسع سنوات. و«القصة» الثانية تحكي الظلم المتمثل في الاعتقال السياسي بسبب الرأي، والذي كان الكاتب ضحية له، والذي كانت وراءه خلفيات أمازيغوفوبية انتقامية. ولهذا فالكتاب هو عبارة عن "تأريخ" لمرحلة صعبة من تاريخ القضية الأمازيغية، ولحلقة من مسلسل ظلم الأمازيغية، لأن الظلم الذي لحق الكاتب هو، في نهاية المطاف، ظلم للأمازيغية ولرموزها والمدافعين عنها بهدف إسكات صوتهم الذي هو صوت الأمازيغية. فتكون بذلك الأمازيغية ضحية لظلمين: اعتقال وسجن مناضلي الأمازيغية، وإقصاؤها كلغة وثقافة وتاريخ وهوية للمغرب وللدولة المغربية. وهي القضية التي يعتبرها الكاتب "أم القضايا"، ويضعها على رأس لائحة الذين أهدى إليهم هذا الكتاب، حيث كتب يقول بخصوص هذا الإهداء: «أهدي زبدة هذا الكتاب، وعبق محنة الكتابة إلى القضية الأمازيغية - أم القضايا - التي اعتقلت من أجلها والتي علمتني حقيقة الحياة ومعنى النضال ونبل المبادئ والثبات على المواقف وكشفت لي قناع الدولة». أما القصة الثالثة فتحكي عن الظالم المتمثل في ما أسمّيه بـ"العدالة الظالمة" أو ظلم العدالة، التي زجّت به في السجن لعشر سنوات دون أن يرتكب أي جرم أو جناية. وهذا ما أقصده بـ"العدالة الظالمة". وإذا كانت هذه العبارة متناقضة ينفي أحد عنصريها العنصر الآخر، فذلك لأن المعروف أن وظيفة العدالة هي إحقاق الحق، ورفع الضيم، وإنصاف المظلوم. لكن في حالة قضية الأستاذ حميد أعطوش، ورفيقه الأستاذ مصطفى أوساي، كانت وظيفتها هي إنزال الظلم بهما وليس رفعه عنهما، كما تقتضي وظيفتها الأصلية. ولذلك فهي عدالة مناقضة لوظيفتها وغايتها. ومن هنا تسميتها بـ"العدالة الظالمة". وحتى نفهم كيف أن العدالة التي حاكمت الكاتب كانت ظالمة، ونلمس حضور الخلفية الأمازيغوفوبية الانتقامية بشكل بارز في هذه المحاكمة، يكفي أن نفترض أن هذا الملف لا تربطه أية علاقة بالأمازيغية، ثم نطرح السؤال التالي: لو لم يكن المعتقلان معروفيْن بمواقفهما ونضالهما من أجل الأمازيغية، وتزعّمهما لهذا النضال بالموقع الجامعي بمكناس، هل كان هذا الملف سيسير في نفس الاتجاه الذي سار فيه، وبالطريقة نفسها التي سار بها؟ وهل كان التحقيق سيجرى بالطريقة نفسها التي جرى بها، ويصل إلى نفس الخلاصات والمحاضر التي وصل إليها؟ وهل كانت المحكمة ستعتمد على الحيثيات نفسها التي اعتمدت عليها، لتصدر ما أصدرته من أحكام وقرارات؟ الجواب سيكون طبعا بالنفي. وهو ما يبيّن أن حضور هاجس الأمازيغية في هذا الملف كان حاسما وبارزا بشكل يكاد يفقأ العين، رغم الغطاء الجنائي الذي لُفّت فيه لإخفائها. وهو ما يشرحه الكاتب في موضوع "الأمازيغية والوجه الخفي للاعتقال السياسي". وهذا الاستعمال لسلطة القضاء من أجل "القضاء" على الخصوم الإيديولوجيين والسياسيين وإسكاتهم، ممارسة معروفة لدى الأنظمة التسلطية، وتمثّل الاستبداد الأخطر والظلم الأكبر، كما عبّر عن ذلك "مونتسكيو" (Montesquieu) عندما كتب: «ليس هناك استبداد أسوأ من ذلك الذي يُمارس باسم القانون وتحت غطاء العدالة». (انظر موضوع " قضية حميد أعطوش: من الاعتقال الجائر إلى الإفراج الماكر" على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/writers/310769.html). وقد عبّرت الأستاذة خديجة حيزوني، من هيئة دفاع المعتقليْن، وبشكل جد مؤثر، عما أصابها من صدمة جراء هذه المحاكمة، حيث كتبت في شهادتها، المتضمَّنة في الكتاب: «إنني أذكر للتأكيد أن هذه المحاكمة عبر كل مراحلها وما انتهت إليه من أحكام اعتبرتها جائرة [...]، شكلت لدي عقدة نفسية وقرحة في المعدة لا أزال أعاني منها لأنها مسّتني في قناعتي أن البراءة هي الأصل». وكل من له اطلاع على الملف يتفهّم صدمة الأستاذة حيزوني من هذه الأحكام، لأن المتابعة، منذ البداية، أي منذ مداهمة مسكن المعتقلين على الساعة الثامنة والنصف مساء يوم 22 ماي 2007، بُنيت على خرق لمبدأ البراءة هي الأصل، وذلك لمتابعتهم في حالة تلبّس رغم أنهم اعتقلوا بعد أزيد من تسع ساعات على وقوع الجريمة، وهو ما يتنافى، وبشكل مطلق، مع شروط التلبس كما يحددها القانون، كما شرحت الأستاذة في شهادتها.عندما نصف هذه "العدالة"، التي أدانت الكاتب السيد "أعطوش" بـ"العدالة الظالمة"، فلا يعني ذلك تجنيا على العدالة المغربية. فالدولة نفسها سبق لها أن اعترفت أن القضاء المغربي أدخل العديد من الأبرياء إلى السجن لأسباب سياسية انتقامية، عندما منحت تعويضات لضحايا هذا القضاء في عهد سنوات الرصاص ممن حوكموا بملفات مفبركة وتهم ملفقة، سواء من اليساريين أو الأمازيغيين، كما في إدانة المفكر الأمازيغي المرحوم "علي صدقي أزايكو" في 1982، ومعتقلي فاتح ماي 1994 من النشطاء الأمازيغيين لجمعية "تيلْلّي" بـ "ݣولميمة" (انظر موضوع " قضية أعطوش وأساي: لغز الإدانة رغم أدلة البراءة" على رابط "هسبريس": http://www.hespress.com/tamazight/308490.html).يقول الكاتب عن هذا الظلم بأنه «جرح منغرس في الوجدان واللاوعي وموشوم في الذاكرة حيث لا يمكن أن يعفُوَ رسمه، ومن يستهين بقوة المظلوم والمهان فإنه لم يستوعب حركة التاريخ بعد». هذا الظلم لا يمكن إذن نسيانه أو تجاوزه أو التصالح معه بمرور الوقت، أو بالتصميم الإرادي على ذلك كما نفعل بالنسبة للأحداث الشعورية التي نتحكم فيها. بل هو ظلم يسكن في أعماق اللاشعور حيث لا سلطة للإرادة عليه، بل هو الذي يمارس سلطته عليها كما تفعل مختزنات اللاشعور. ولهذا يبقى منقوشا كالوشم الذي لا يندرس، كما يقول الكاتب، تعبيرا عن الحضور القوي لهذا الظلم الذي لن يعرف الغياب أبدا. وقد صدق الكاتب، كذلك، عندما قال إن «من يستهين بقوة المظلوم والمهان فإنه لم يستوعب حركة التاريخ بعد». ذلك أن للمظلوم قوة لا يدركها الظالم، رغم أنه هو من صنع له تلك القوة عندما ظلمه وجار عليه. وقد تجلّت هذه القوة عند الكاتب المظلوم في تحدّيه لظالميه بحصوله داخل السجن، وهو شيء نادر في تاريخ السجون، على ثلاث إجازات في الكيمياء والسوسيولوجيا والقانون الخاص، الذي درسه حتى يفهم آليات اشتغال "العدالة الظالمة". وهكذا جعل الكاتب من الظلم، الذي كان الظالمون ينتظرون منه أن يُضعف إرادة السيد أعطوش ويدمّر حياته ومستقبله، عامل قوّة ظهرت في تفوّقه الدارسي والتكويني والعلمي، وفي كتاباته التحليلية حول القضية الأمازيغية والنظام السياسي المخزني بالمغرب. وما هذا الكتاب إلا إحدى ثمرات ما عانى منه الكاتب من ظلم واعتقال. رغم أنه يقول عن معاناة الأسر بأنه في السجن يحسد «الوحيش المفترس في أقفاصه بحدائق الحيوانات حيث ينعم بما لا ننعم به من إطعام جيد، وتتبع صحّيّ وعلاج وقت المرض»، إلا أنه لم يكن سجينا عاديا، يعاني ويتحمّل في سلبية، ويحلم بيوم الإفراج عنه ليعانق الحرية، بل كان ملاحظا وباحثا ودارسا للحياة في السجن، ولسلوكات السجناء وتفاعلاتهم والعلاقات في ما بينهم، وهو ما خص له الفصل الثالث من الكتاب، الذي يكشف فيه عن معطيات سوسيولوجية هامة حول الثقافة الفرعية (Sous-culture) للسجن، نجح في رصدها باعتماد منهجية الملاحظة بالمشاركة. ولا شك أن هذه الملاحظة الميدانية للسجناء كمشارك لهم في الاعتقال، هي التي وجّهته لإنجاز بحث نيل الإجازة في علم الاجتماع حول السجناء، والذي عنونه بـ "الرعاية النفسية ودورها في إعادة الإدماج ـ سجن تولال 1 نموذجا". فالكاتب لم يتحدّ فقط ظروف الاعتقال ليجعل منها حافزا على التفوق الدراسي والجامعي، بل جعل منها هي نفسها موضوعا علميا للبحث والتحليل. ورغم أنه كان غائبا ـ ومغيّبا ـ لمدة تسع سنوات عما يجري خارج السجن في عالم النور والحرية، إلا أنه ظل متتبعا، وعن كثب، للتطورات السياسية بالمغرب ولما يجري داخل الحركة الثقافية الأمازيغية على الخصوص، والتي أفرد لها الفصل الأول الذي خصه لكرونولوجيا أحداث 2007 بالمواقع الجامعية، ثم الفصل الرابع الذي خصه لتحليل نقدي لواقع الحركة الأمازيغية وأزمة التنظيم والاعتقال السياسي الذي يتهدد الأمازيغيين، حيث يقول: «إن الشعب الأمازيغي يعيش في سجن كبير، وما الاعتقال إلا سجن صغير ضمن هذا السجن الكبير، والفرق بين كلتا الحالتين يكمن في فتات هامش "الحرية" وطبيعة الأسوار»، و«أن المقاربات القمعية لم تتغير ولم تختلف عن سنوات الجمر والرصاص التي كان الاعتقال والسجن والإعدام والنفي جزاء من أبدى رأيا أو عارض الحكم». وخص الفصل السادس لمتطلبات النضال الأمازيغي وطبيعة المشروع الأمازيغي، والفصل السابع لرموز القضية الأمازيغية ممن ماتوا أو اغتيلوا. والجدير بالذكر أن الكاتب، لم يكن، وهو يحلل واقع الحركة الأمازيغية، مجاملا لها أو "لطيفا" معها، بل كان ناقدا لها، وكاشفا عن مواطن ضعفها، ومعاتبا للنخبة الأمازيغية عن تقصيرها في مساندة المعتقلين السياسيين للقضية الأمازيغية ومناصرتهم. يقول: ـ «في المقابل خابت آمالنا نسبيا من الداخل في النخبة الأمازيغية خيبة مريرة سواء على مستوى بعض المواقف المهلهلة والشتات التنظيمي وغياب تسجيل الحضور»، ـ «حركة تعيش كجسد بدون روح، حركة تم امتصاص احتجاجاتها والالتفاف عليها وعلى مطالبها حتى أصبحت غير ذات جدوى»، ـ «الحركة الأمازيغية لم تبرح مكانها في مقابل تطور المجتمعات والشعوب وتحررها»، ـ «رسالتي اليوم أولا إلى كل اللّاهِجين بالنضال الأمازيغي ولم يكابدوا سنوات الاعتقال والتعسف، ماذا قدموا للمعتقلين ولعائلاتهم؟». وبجانب هذا التركيز على القضية الأمازيغية والاعتقال السياسي لمناضليها، تتخلل فصولَ الكتاب تحليلاتٌ تفكّك طبيعة النظام السياسي المغربي وآليات اشتغاله وأساليب هيمنته، وكيفية تعامله الإقصائي مع الأمازيغية والأمازيغيين، وهو نظام يقول عنه الكاتب: «لا بد أن نعترف للنظام بقدرته الهائلة على المراوغة والتضليل وذر الرماد في العيون، وادعاء الإصلاح دون تبنيه، وادعاء الديمقراطية دون ممارستها». ولا شك أن فهمه العميق لطبيعة النظام السياسي المغربي وآليات عمله واشتغاله، تأتى له بفضل اطلاعه الواسع على الفكر السياسي والفلسفي، كما يظهر ذلك من خلال استشهاداته المتكررة بـ"نتشه" Nietzsche، الذي يدعو في فلسفته إلى تحرر الإنسان من جميع أشكال العبودية، وبـ"مونتسكيو" Montesquieu، الذي حلل الأنظمة الديكتاتورية وقارنها بالأنظمة الديموقراطية، وبـ"بورديو" Bourdieu، الذي كشف عن كيفية اشتغال آليات إعادة إنتاج الهيمنة، وبـ"فوكو" M.Foucault الذي اشتهر بكتاباته حول السجن والعقاب والسلطة. لهذا فالكتاب غني بالمفاهيم السياسية والفلسفية الموظّفة، كثيف في الأفكار والمضامين، إشكالي في الأسئلة والمناقشة. ورغم أنه كتب ـ لهذا السبب ـ بأسلوب يغلب عليه الطابع الفلسفي في المقاربة والتحليل للقضية الأمازيغية وللاعتقال السياسي ولآليات اشتغال النظام المخزني، ورغم أن بعض فقراته كتبت على فترات متباعدة، قبل مراجعتها وتحيينها بعد ذلك، إلا أن قراءته سهلة وسلسة كأننا نقرأ رواية مشوّقة تشدنا إليها شدا، وذلك لتسلسل الأفكار، وارتباط الخلاصات بالمقدمات، ووضوح في طرح الأسئلة ولإشكاليات، والتدرج في تحليلها ومناقشتها. سؤال أخير يتعلق بعنوان الكتاب: "إمازيغن وحتمية التحرر". فمن هم "إمازيغن"؟ وحتمية تحررهم ممن؟ ومن ماذا؟ بالرجوع إلى أدبيات الحركة الأمازيغية، قد يبدو أن "إمازيغن" هم المغاربة، وسكان شمال إفريقيا بصفة عامة، الذين يتحدثون لغتهم الأمازيغية، ويحملون الوعي بهويتهم الأمازيغية، ويشكلون السكان الأصليين. يتحدد إذن الأمازيغ بالتقابل مع من ليسوا أمازيغ، من الذين يشتركون معهم في الانتماء إلى نفس الوطن الذي هو المغرب، وإلى نفس الموطن الذي هو شمال إفريقيا، والذين يتحدثون ما يعتبرونه لغة عربية، ويحملون وعي الانتماء إلى العروبة، ويشكلون العنصر الوافد على شمال إفريقيا عكس العنصر المحلي الأصيل الذي يمثله الأمازيغ. وبالتالي، فالمقصود بالتحرر هو التحرر من الهيمنة السياسية والهوياتية للعروبة التي يمثلها هؤلاء الوافدون. ولكن ما معنى العروبة بالمغرب؟ أليست تلك العروبة التي خلقها الأمازيغ أنفسهم، سواء بادعاء الانتساب إليها، أو بالارتباط الهوياتي بها؟ وبالتالي ألا تمثّل هذه العروبة ذلك النوع من التحوّل الجنسي القومي والهوياتي الذي جعل جزءا من أمازيغ المغرب يتخلون عن انتمائهم الأمازيغي الحقيقي، الطبيعي والأصيل، ويتبنوْن انتماء زائفا وكاذبا؟ ونتيجة لذلك، فتحرر الأمازيغ سيعني تحرر أولئك المغاربة، الذين يعتقدون أنهم عرب، من الاستلاب والوعي الهوياتي الزائف الذي زيّف هويتهم و"استلب" انتماءهم الأمازيغي الحقيقي. ويبدو أن الأستاذ أعطوش واعٍ بمضمون هذا التحرر عندما أشار إلى أن سبب الاعتقال الظالم للمدافعين عن الأمازيغية راجع إلى كونهم يحملون وعيا «بضرورة تمزيغ هوية الدولة وتحرير الشعب الأمازيغي من التسلط على الذاكرة والتاريخ». فالاستلاب الهوياتي الذي يعيشه المغرب يتجلى، وبشكل بارز، في السياسة التي ينهجها كدولة ذات هوية عربية، مع ما يستتبع ذلك، كما يسميه الكاتب، «من تسلط على الذاكرة والتاريخ». وهو أخطر من التسلط المادي على الأرض وخيراتها وإنسانها، لأنه تسلّط صامت ولامادي يستهدف الروح والوجدان، وذلك بفبركة ذاكرة جماعية مزوّرة على مقاس العروبة، واختلاق تاريخ مزيف يتوافق مع هذه الهوية العربية الزائفة للمغرب. فالتحرر إذن هو تحرر من التزوير والكذب على الذات، ومن الزيف والاستلاب.
|
|