|
|
متى ينتقل المغرب من السياسة البربرية إلى السياسة الأمازيغية؟
بقلم: محمد بودهان
(11 ـ 07 ـ 2015) طبّق المغرب، منذ 1912، نوعين من التعامل مع الأمازيغيين والقضية الأمازيغية. طبّق "السياسة البربرية" الأولى أو القديمة، ثم "السياسة البربرية" الجديدة أو الحالية. السياسة البربرية القديمة: أُطلق مفهوم "السياسة البربرية"، أثناء الحماية الفرنسية بالمغرب، على كل الإجراءات والقرارات، الإدارية والقضائية والتشريعية واللغوية والتعليمية، التي اتخذتها سلطات الحماية الفرنسية، والتي تخص أساسا، كموضوع رئيسي لها، القبائل الأمازيغية بالمناطق الخاضعة للنفوذ الفرنسي. وكأمثلة على هذه الإجراءات والقرارات المشكّلة لمفهوم "السياسة البربرية"، نذكر: تدريس الأمازيغية في بعض المدارس بالأطلس المتوسط، إنشاء ثانوية "أزرو" الخاصة بأبناء الأمازيغيين، إصدار ظهير 30 ماي 1930 المتعلق بتنظيم المحاكم العرفية ـ والذي سمته الحركة الوطنية "الظهير البربري" ـ، تعيين مراقبين مدنيين بالمناطق التي كانت تعتبرها أمازيغية، الإجراءات العسكرية والأمنية والتفاوضية التي اعتمدتها سياسة "التهدئة"، بما فيها استمالة أعيان القبائل الأمازيغية بتعيينهم قوادا على قبائلهم، دون أن ننسى إصدار ترسانة من القوانين، الموقّعة من طرف السلطان، لنزع الأراضي من مالكيها الأمازيغيين ومنع القبائل الأمازيغية من التصرف الجماعي فيها، ومحاصرة القبائل وعزل بعضها عن بعض، مع ما نتج عن كل ذلك من تدمير للبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للتنظيمات القبلية. إذا كانت هذه هي مكونات "السياسة البربرية" لعهد الحماية، فإن فهم المدلول الحقيقي لهذه السياسة لن يكتمل، مع ذلك، إلا بفهم ومعرفة الأهداف والغايات التي كانت ترمي إليها فرنسا من خلال نهجها لسياسة خاصة بـ"البربر"، ومختلفة عن التي كانت تطبّقها في الحواضر "العربية". فما هي أهداف وغايات "السياسة البربرية" الفرنسية؟ أهداف "السياسة البربرية" الفرنسية: رغم كثرة الإجراءات والقرارات المكّونة "للسياسة البربرية"، إلا أن "الحركة الوطنية" لخّصت أهدافها ومراميها فيما سمته "الظهير البربري"، والذي كان يهدف، حسب أكاذيبها الثابتة، إلى محاربة اللغة العربية والسكان "العرب" والدين الإسلامي، وذلك بتنصير الأمازيغيين واستعدائهم ضد "العرب"، وإذكاء التفرقة العنصرية بينهما. هذه هي أهداف "السياسة البربرية" حسب الأكاذيب التي روّجتها هذه الحركة، والتي لا يزال تلامذتنا يتعلمونها في المدارس ويُسألون عنها في الامتحانات ومباريات الشغل والتوظيف. أما الأهداف الحقيقية "للسياسة البربرية"، كما ثبت ذلك، ليس من خلال أباطيل وأراجيف "الحركة الوطنية"، بل من خلال النتائج العملية للتطبيق العملي لهذه "السياسة البربرية" طيلة فترة الحماية، فهي تقوية الوجود السياسي "العربي" للمتحولين جنسيا (الجنس بمعناه الأصلي في العربية، والذي يعني القوم والانتماء إلى مجموعة بشرية معينة) بالمغرب، وذلك من خلال توسيع هيمنة المخزن "العروبي" إلى كافة القبائل الأمازيغية التي كانت، قبل الحماية، تعيش مستقلة وغير خاضعة لنفوذ السلطان. فلأول مرة في تاريخ المغرب ستصبح القبائل الأمازيغية، أي التي لم يتسرب إليها فيروس التحول الجنسي ولا أفسد هويتَها انتحالُ النسب العربي، خاضعة، بفضل "السياسة البربرية" لفرنسا، لسلطة مركزية "عروبية" واحدة، كما أن هذه السلطة ستهيمن، لأول مرة في تاريخها، وبفضل نفس "السياسة البربرية" لفرنسا، على مجموع القبائل الأمازيغية وتخضعها لنفوذها وسلطانها. وهكذا ستكون أول دولة "عروبية" ستحكم، بفضل "السياسة البربرية" لفرنسا، كل الأمازيغيين في تاريخ المغرب هي دولة الاستقلال، التي هي البنت الشرعية لفرنسا، بل هي دولة "ليوطي" الذي خلقها خلقا وأنشأها إنشاءً. فكل مجهودات "السياسة البربرية" كانت تصبّ في خدمة العروبة العرقية، وترسيخ وتعميم الهوية العروبية، وتقويتها من خلال إخضاع القبائل الأمازيغية لسلطة عروبية، وإنشاء دولة عروبية قوية تخلف فرنسا بعد الاستقلال. يضاف إلى هذا الهدف السياسي، وكشرط له وجزء منه في نفس الوقت، العمل، من خلال "السياسة البربرية" لفرنسا، على إدماج الأمازيغيين، أي المغاربة الأسوياء الذين لم يتعرضوا للتحول الجنسي، في الدولة الجديدة التي صنعتها فرنسا للمستعربين، أي المتحولين جنسيا الذين غيّروا جنسهم الأمازيغي بجنس عربي منتحل، وعلى جعلهم يقبلون هذه الدولة العروبية ذات المصدر الفرنسي ويرتضون الاندماج فيها، تمهيدا لتحويل جنسهم الأمازيغي وتغييره بجنس عربي، انسجاما مع هوية الدولة التي سبقتهم إلى التحول الجنسي عندما خلقها "ليوطي" بجنس عربي. هذه هي الأهداف الحقيقية والعملية "للسياسة البربرية" القديمة لفرنسا، وليس خدمة الأمازيغية والرفع من مكانة العنصر الأمازيغي ومحاربة العنصر العربي، كما ادعى أصحاب "اللطيف". فـ"اهتمام" الفرنسيين باللغة الأمازيغية لم يتعدّ المستوى اللهجي والشفوي والفلكلوري، دون أي تفكير أو مشروع لتطويرها واستخدامها كلغة كتابية تستعمل في الإدارة والوثائق الرسمية لتصبح لغة الحكم والسلطة السياسية، عكس ما تعاملت به مع العربية التي عززت مكانتها وجعلت منها، قبل أن ينص على ذلك دستور الاستقلال، لغة رسمية تصدر بها الظهائر والقوانين في الجريدة الرسمية. في حين لم يسبق لفرنسا أن نشرت أي ظهير أو مرسوم أو قانون أو عدد واحد من الجريدة الرسمية باللغة الأمازيغية. لأنها لم تكن تفكر أبدا ـ مجرد التفكير ـ، من خلال "سياستها البربرية"، في ترسخ الهوية الأمازيغية للمغرب وإقامة دولة أمازيغية، بل، على العكس من ذلك، استعملت هذه "السياسة البربرية" لتعريب المغرب سياسيا، وفرض الهوية العربية ودعم النفوذ العربي للمتحولين جنسا، وتوفير كل الظروف للقضاء نهائيا على اللغة والهوية الأمازيغيتين عند رحيلها من المغرب بعد الاستقلال. فحتى عندما نفت محمدا الخامس ونصّبت مكانه "ملكا" آخر، لم تختر لذلك شخصا أمازيغيا، بل "شريفا" عربيا هو ابن عرفة، تأكيدا منها على غرس وتثبيت "عروبة" الحكم والدولة بالمغرب، والإبقاء على السلطة السياسية في يد المتحولين جنسيا، الذين يعتبرون أنفسهم "عربا" ينحدرون من جنس عربي. "السياسة البربرية الجديدة": جاءت دولة الاستقلال كاستمرار لدولة "ليوطي" التي أرسى أسسها في بداية فترة الحماية. ولهذا فقد حافظت ـ دولة الاستقلال ـ على النظام المخزني الذي قامت عليه سياسة الحماية الفرنسية، كما أبقت على كل القوانين والمؤسسات السياسية والنظم الإدارية والقضائية والتعليمية التي وضعتها فرنسا. إلا فيما يتعلق بالأمازيغية، فإن دولة الاستقلال لم تواصل "السياسة البربرية" التي كانت تنهجها فرنسا، بل حاربتها علانية ووضعت حدا نهائيا لها. وهكذا ألغت ظهير 16 ماي 1930 وحذفت محاكم العرف الأمازيغي التي نظمها هذا الظهير، ومنعت تدريس الأمازيغية في جميع المؤسسات التعليمية التي كانت تلقن بها أثناء الحماية الفرنسية، مع انطلاق سياسة التعريب، المعادية لكل ما هو أمازيغي، بوتيرة جنونية وبإمكانات مادية وبشرية هائلة. رغم أن هذه الحرب الرسمية على الأمازيغية، التي دشنتها دولة الاستقلال، تبدو في الظاهر متعارضة مع "السياسة البربرية" لفرنسا، إلا أنها، في عمقها وحقيقتها، نتيجة لتلك السياسة التي هيأت كل الظروف، كما سبق أن قلت، لإعلان هذه الحرب ضد الأمازيغية بعد الاستقلال، خصوصا أن هذه "السياسة البربرية" هي التي أرست ورسّخت الأسس السياسية للوجود العروبي وللهوية العربية بالمغرب، وأعطت الشرعية، أكثر من أي وقت مضى، للحكم السياسي العروبي بالمغرب، الذي أخضعت لنفوذه وسلطته كل القبائل الأمازيغية لأول مرة في تاريخ المغرب كما سبق أن ذكرت. فأمام هذه الظروف "العربية" الممتازة التي هيأتها فرنسا للمتحولين الجنسيين، فإنه من الطبيعي أن يصبح كل ما قد يشوش على ما هو "عربي"، وعلى اللغة العربية والهوية العربية والثقافة العربية والتاريخ العربي للمغرب، مثل الأمازيغية، عدوا لدودا يعلن عليه "الجهاد" باسم "الوطنية" وحماية "الأمة" المهددة في وحدتها ومقدساتها العربية. فكانت سياسة التعريب الجنونية والإجرامية، العرقية والجنسية (بمعنى القومية) والسياسية والهوياتية والإيديولوجية، والتي لا علاقة لها بتاتا باللغة العربية عكس ما يدعي دعاة هذه السياسة، تجسيدا لحرب دولة الاستقلال "المقدسة" على الأمازيغية "المدنسة". لكن مع ظهور الحركة الأمازيغية مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وتنامي خطابها المطلبي بشكل مطرد ومتصاعد، أصبحت الأمازيغية، مع ما تطرحه من مراجعة لكل المسلمات حول الهوية واللغة والثقافة والتاريخ، قضية جدية لا يمكن التخلص منها بمجرد القول إنها من صنع "الاستعمار الجديد"، أو هي محاولة لإحياء "الظهير البربري"، بل لا بد من التعامل معها كواقع جدي وجديد. وهكذا بدأت السلطات تفكر في "سياسة بربرية" جديدة، على غرار "السياسة البربرية" القديمة التي كانت تنهجها سلطات الحماية، لاحتواء المد الأمازيغي والحفاظ على الأسس السياسية للهوية العربية بالمغرب. وقد كان خطاب الراحل الحسن الثاني، في 20 غشت 1994، أول إشارة على الحضور، لدى السلطة، لهاجس وضع "سياسة بربرية" جديدة. إلا أن التدشين العملي والرسمي لهذه "السياسة البربرية" الجديدة كان هو إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي أعلن عنه في خطاب أجدير يوم 17 أكتوبر 2001، وإصدار الظهير المنظم له، مع ما حمله من وعود كثيرة وآمال كبيرة استقبلها مناضلو الحركة الأمازيغية بحماس كثير وارتياح كبير، معتقدين، وبصدق، أن المعهد يمثل قطيعة مع الماضي الأمازيغوفوبي وبداية حقيقية لرد حقيقي للاعتبار للأمازيغية، لغة وهوية وثقافة وتاريخا. ورغم أن منجزات المعهد لم تكن منذ بدايتها تبشر بخير كثير، إلا أننا كنا، كـ"مؤمنين" بهذه المؤسسة، نبرر ونعلل ما عرفته أعمالها من تعثرات ونواقص بـ"البدايات"، التي تعرف دائما مثل هذه التعثرات والنواقص. لكن مع مرور الأيام، أصبح واضحا أن هذه المؤسسة تمثل تدشينا رسميا لـ"سياسة بربرية" جديدة، تقوم على إعطاء الانطباع، داخليا وخارجيا، أن هناك إرادة حقيقية لنهوض حقيقي بالأمازيغية وتنميتها ورد الاعتبار لها. لكن بتحليلنا لمنجزات المعهد وطريقة تعامل الأطراف الحكومية الأخرى، المعنية بتطبيق توصيات المعهد، يتبين أن هناك غيابا تاما لإرادة سياسية صادقة، "تحب" الأمازيغية وتريد لها الخير والتقدم. وهذا ما يفسر الاستخفاف الذي كانت تواجه به قرارات المعهد الخاصة بالنهوض بالأمازيغية، من طرف المسؤولين الحكوميين. أضف إلى ذلك سلسلة التراجعات، ليس فقط عما جاء به الظهير المحدث والمنظم للمعهد لصالح الأمازيغية، بل عما التزمت به بعض الوزارات لفائدة الأمازيغية، مثل وزارة التربية الوطنية. كل هذا يفسر لماذا، إلى حد الآن (نحن في منتصف 2015)، لم يتحقق كل ما تضمّنه ظهير 17 أكتوبر 2001 من قرارات وإجراءات إيجابية لصالح الأمازيغية. ذلك لأن كل الإجراءات والقرارات التي اتخذتها السلطة بخصوص موضوع الأمازيغية، يدخل في إطار "سياسة بربرية" جديدة، تهدف إلى احتواء الأمازيغية وتوجيهها التوجيه "السليم"، الذي يحيّد مضمونها السياسي، وإعطاء الانطباع أن هناك اهتماما أكاديميا وعلميا باللغة والثقافة الأمازيغيتين، مع فسح المجال واسعا لمزيد من التعريب والشرقنة، والترسيخ السياسي والعرقي والجنسي والهوياتي والإيديولوجي لـ"عروبة" المغرب. فإنشاء معهد للأمازيغية ليس إذن إلا نوعا جديدا من "سياسة التهدئة"، التي تطبّقها السلطة إزاء القضية الأمازيغية والحركة الأمازيغية المقاومة، بقصد احتوائها ووقف مقاومتها، على غرار "سياسة التهدئة" التي كانت تطبّقها فرنسا إزاء القبائل الأمازيغية المقاومة، ولنفس الهدف، الذي هو احتواؤها ووقف مقاومتها. وهنا يجدر التذكير أن مسألة الأمازيغية بالمغرب، وحتى في الجزائر، لا تنتج صراعا عرقيا ولا ثقافيا ولا لغويا بين الطرف "العربي"، أي المتحول جنسيا، والطرف الأمازيغي، كما يحذّر بذلك المهووسون بكل ما له علاقة بالعرق والسلالة والأصل، بل تنتج صراعا سياسيا بين هويتين، بالمفهوم السياسي كذلك، وذلك لأن الأمازيغية قضية سياسية في جوهرها قبل أن تكون قضية عرق أو ثقافة أو لغة. ولهذا نجد "السياسة البربرية" الجديدة تركز على ما هو ثقافي ولغوي وتراثي لفصل القضية الأمازيغية عن طبيعتها السياسية الحقيقية. وإذا كان هناك تراجع عن الوعود التي سبق أن التزمت بها وزارة التربية الوطنية فيما يخص تدريس الأمازيغية، فذلك لأن هذا التدريس، حتى ولو كان يتعلق باللغة وليس بالسياسة، فإنه يوقظ الوعي بالهوية بمفهومها السياسي، وليس العرقي ـ خصوصا أن حرف "تيفيناغ" يسهّل أكثر استيقاظ هذا الوعي الهوياتي الأمازيغي ـ، الشيء الذي يتقاطع مع الجوهر السياسي للأمازيغية، ويؤدي إلى طرح تساؤلات حول طبيعة الحضور السياسي المهيمن للهوية العربية بالمغرب. وهذا ما انتبه إليه المسؤولون، وهو ما جعلهم يعملون على إفشال مشروع تدريس الأمازيغية. نلاحظ إذن أن الأهداف السياسية لكلتا "السياسيتين البربريتين"، الفرنسية القديمة والمخزنية الجديدة، واحدة، وهي دعم الوجود السياسي ـ وأشدد مرة أخرى على "السياسي" ـ للعروبة العرقية مع استبعاد أي وجود سياسي للأمازيغية، بعد اختزالها إلى ما هو لغة وثقافة وتراث ورقص وغناء... فشل "السياسة البربرية" الجديدة: يشكل انسحاب سبعة أعضاء من مجلس إدارة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، يوم 21 فبراير 2005، بداية لنهاية "السياسة البربرية" الجديدة، التي لم تعمّر سوى سنوات قليلة، ويقدم برهانا ساطعا على فشل المقاربة الثقافوية والأكاديموية للقضية الأمازيغية، مما يؤكد أن التعامل التقنوي والعلموي مع موضوع هو في أصله وطبيعته سياسي، قبل أن يكون ثقافيا ولغويا، مضيعة للوقت لا غير. فهذه المقاربة ترمي إلى احتواء الأمازيغية وإبطال مفعولها السياسي عبر النهوض بها كمجرد موضوع Objet ينال حقه من البحث والدراسة والاهتمام. وهنا خطأ هذه المقاربة/الخدعة، لأن رد الاعتبار الحقيقي، وليس الخادع، للأمازيغية ليس هو النهوض بها كموضوع رغم أهمية هذا الجانب، بل ككينونة حاضرة وذات Sujet فاعلة تشكّل الأساس الذي يقوم عليه الوجود الهوياتي والسياسي للمغرب كدولة أمازيغية. فبدون التعامل مع الأمازيغية ككينونة وذات وعمق هوياتي وسياسي تجسّده دولة أمازيغية، يبقى التعامل معها كموضوع بدون أي تأثير على مستوى رد الاعتبار لها والمصالحة معها. بل إن هذا النوع الثاني من التعامل قد يضفي الشرعية على إقصائها وتهميشها، وإنكار حقها في الوجود الهوياتي والسياسي الذي تمثله ككينونة وكذات، وليس كموضوع للدراسة العلمية والبحث الأكاديمي. فحتى ما تحقق على مستوى اعتبارها موضوعا يبقى غاية في ذاته ولذاته، وليس كوسيلة لشيء آخر يرتبط بالجانب الهوياتي والسياسي للأمازيغية ككينونة وكذات. وهكذا فإن تدريس الأمازيغية مثلا، على فرض أنه تدريس جدي وناجح، يطرح دائما السؤال التالي: لماذا ندرّس هذه اللغة لأبنائنا؟ ما هي وظيفتها كلغة؟ فبدون تحديد لهذه الوظيفة، تبقى الغاية من تدريس الأمازيغية هي تدريسها من أجل تدريسها، وليس تدريسها كوسيلة لشيء آخر، وهو الاعتراف بمكانتها الهوياتية والسياسية ككينونة جماعية وذات فاعلة، تصبح معها هذه اللغة لغة سلطة وسياسة وإدارة، أي لغة دولة. وهكذا يكون الاعتراف بالأمازيغية، ككينونة جماعية وكذات فاعلة، هو الذي سيعطي معنى وجدوى لرد الاعتبار لها على مستوى التعاطي معها كموضوع. تتلخص "السياسة البربرية الجديدة"، إذن، في الاهتمام بالأمازيغية كموضوع للبحث والدراسة، مع العمل على تغييب وقتل مضمونها الهوياتي والسياسي ككينونة جماعية حاضرة وكذات فاعلة. وهذه هي المهمة التي اضطلع بها المعهد كمؤسسة للبحث العلمي والأكاديمي حول الأمازيغية، أي اتخاذها موضوعا وشيئا سلبيا غير فاعل. هذا التناقض بين الأمازيغية كشيء/موضوع، وبين الأمازيغية ككينونة/ذات، هو ما أدى إلى الفشل السريع "للسياسة البربرية" الجديدة التي دشنتها مرحلة المعهد، وذلك بانسحاب الأعضاء السبعة من هذه المؤسسة كإعلان عن بداية النهاية لهذه "السياسة البربرية" الجديدة، كما سبقت الإشارة. وهذا الفشل يبيّن، من جهة أخرى، أنه لا يمكن، بل يستحيل، التصالح مع الأمازيغية ورد الاعتبار لها دون إحداث أي تغيير في الأساس السياسي ـ وليس العرقي ـ للهوية "العروبية" بالمغرب. فتصرّف هذا الأخير، من خلال سياسته ومؤسساته وديبلوماسيته وتعليمه وخطابات وتصريحات حكّامه...، كبلد عربي، يتناقض ويتنافى على طول الخط مع الأمازيغية كوجود سياسي وككينونة جماعية وكذات فاعلة. إنهما نقيضان لا يجتمعان. فالتصالح مع الأمازيغية لا بد أن يمر إذن عبر إعادة النظر في الأساس السياسي لهوية الدولة المغربية، لأن إقصاء الأمازيغية هو في الأصل والعمق إقصاء سياسي، وما إقصاؤها لغويا وثقافيا إلا نتيجة لهذا الإقصاء السياسي الأصلي. الدليل الآخر، الجديد، على فشل هذه "السياسة البربرية" الجديدة التي انطلقت مع إنشاء "ليركام"، هو أن السلطة نفسها، صاحبة هذه السياسة، أصبحت واعية بهذا الفشل ومقتنعة به، بعد أن لاحظت أن مدة عشر سنوات من "السياسة البربرية" الجديدة لم تؤدّ، رغم كل الإغراءات والاحتواءات التي يمارسها معهد "ليركام" على الحركة الأمازيغية، إلى أي تراجع في مطالب هذه الحركة، ولا إلى أي فتور في نضالها الذي لم يزدد إلا قوة وتوسعا، ولا إلى أي حدٍّ من التوجه السياسي المتنامي لهذه المطالب وهذا النضال، وهو ما يزعج بشكل كبير السلطة التي كانت تراهن على التحييد السياسي للمطالب الأمازيغية بحصرها، من خلال "السياسة البربرية" الجديدة، في ما هو ثقافوي، وعلموي، وأكاديموي، وتقنوي... هكذا اقتنعت إذن السلطة أن "السياسة البربرية" الجديدة قد فشلت لأن أهدافها، المتمثلة في وضع حد للمطالب الأمازيغية واحتوائها، وخصوصا في توجهها ومضمونها السياسيين، لم يتحقق منها أي شيء. وهذا ما حدا بالسلطة، بعد عشر سنوات من تجريب "السياسة البربرية" الجديدة، إلى الإلغاء الضمني لمعهد "ليركام" بإلغاء مجلسه الإداري. وهو ما يجعل المعهد في حكم غير الموجود قانونيا. ذلك أن مجلس الإدارة هو الذي يتولى إدارة هذا المعهد (الفصل الرابع من ظهير أجدير)، ويرسم الخطط ويضع البرامج ويقترح المشاريع التي يرفعها إلى الملك لإجازتها والمصادقة عليها (الفصل السابع من الظهير). هذا المجلس غائب إذن، وهو ما يجعل المعهد غائبا وملغى ضمنيا، ولا وجود له من الناحية القانونية. دستور 2011: هل يدشن لمرحلة جديدة من "السياسة البربرية" الجديدة؟ هذا الإلغاء الضمني لمؤسسة "ليركام" قد يكون ذا علاقة بالمكانة الجديدة التي خص بها دستور فاتح يوليوز 2011 الأمازيغية. إذا كان الأمر كذلك ـ وليس هناك إلى الآن أي مؤشر على أن الأمر ليس كذلك ـ، فإن ما جاء في الدستور المعدل من ترسيم مشروط للغة الأمازيغية، هو إعلان عن مرحلة جديدة "لسياسة بربرية" جديدة، تختلف عن المرحلة الإركامية السابقة بما يلي: ـ "السياسة البربرية" الجديدة، التي دشنها ظهير أجدير (17 أكتوبر 2001)، كانت مبادرة من الملك الذي أصدر هذا الظهير بموجب السلطات المطلقة التي يخوّلها له الفصل 19 من الدستور السابق. ورغم الطابع الاستبدادي لهذا الفصل، إلا أنه كان مفيدا للأمازيغية التي هي في حاجة، نظرا لوضعها الخاص كضحية لثقافة سياسية أمازيغوفوبية، منتشرة ومتجذرة لدى الأحزاب الوطنية التي تتشكل منها مختلف الحكومات، إلى إرادة تملك وحدها سلطة التشريع الملزم، حتى يمكن لها تمرير قرارات لا تناقش لصالح الأمازيغية. وهو ما فعله الفصل 19 في ما يخص إنشاء مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. ـ لكن الفصل الخامس من دستور 2011 يتضمن ما يلي: «يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية». مهمة النهوض بالأمازيغية، ولو في إطار "السياسة البربرية" الجديدة، لم تعد إذن من اختصاص الملك وحكرا عليه. بل أصبحت، بموجب هذا الفصل الخامس، من اختصاص البرلمان. وإذا عرفنا أن التوجه الإسلامي (البيجيدي) والعروبي الأمازيغوفوبي لا تزال له الهيمنة على البرلمان المغربي، سندرك أي نوع من "السياسة البربرية" الجديدة سترسمها القوانين التنظيمية الخاصة بالأمازيغية. لماذا تخلت المؤسسة الملكية عن "رعاية" الأمازيغية كشأن سيادي خاص بالملك، لتصبح هذه "الرعاية" شأنا خاصا بالبرلمان يدخل في إطار سلطاته التنظيمية؟ قد يرجع ذلك إلى ما قلناه عن فشل "السياسة البربرية" الجديدة التي كانت مبادرة ملكية، متمثلة في إنشاء أداة هذه السياسة التي (الأداة) هي "ليركام"، الذي أسسه الملك طبقا للفصل 19 من الدستور السابق. فبعد أن أصبح هذا الفشل أمرا واقعا، كما سبق شرح ذلك، لم ترغب المؤسسة الملكية في استمرار "رعايتها" "لسياسة بربرية" فاشلة. لهذا أرادت التخلص من هذه السياسة، بعد أن ثبت فشلها، بالرمي بها إلى صراعات وحسابات الأحزاب المشكلة للبرلمان. الشيء الذي سيجعل منها قضية صراع سياسي تستعملها وتستغلها هذه الأحزاب حسب ما تجنيه من منافع سياسية منها، سواء كان ذلك بالدفاع عنها والعمل على النهوض بها، أو بمناوأتها والاعتراض على مشاريع تنميتها ورد الاعتبار لها. وهو ما يحولها إلى «مطية لخدمة أغراض سياسية»، في تنافٍ صارخ وواضح مع ما جاء في الخطاب الملكي بأجير في 17 أكتوبر 2001، الذي أكد فيه الملك «أنه لا يمكن اتخاذ الأمازيغية مطية لخدمة أغراض سياسية كيفما كانت طبيعتها». وهذا ما يعني ويؤكد التخلي عن الأمازيغية كشأن سيادي ملكي، والتخلي، نتيجة لذلك، عن مؤسسة "ليركام" نفسها التي أصبحت في حكم الملغاة قانونا، كما سبق شرح ذلك. متى ينتقل المغرب من »السياسة البربرية« إلى »السياسة الأمازيغية«؟ "السياسة البربرية" الجديدة أصبحت العائق الأول أمام استرجاع الأمازيغية لحقها السياسي كهوية للدولة ـ وليس للأفراد والجماعات كما في "السياسة البربرية" الجديدة والقديمة ـ تستمدها (الهوية) من هوية أرض شمال إفريقيا. ذلك أن هذه "السياسة البربرية" الجديدة، بقدر ما تعطي الانطباع ـ الانطباع فقط ـ بأنها تعمل على إحياء الأمازيغية والنهوض بها، بقدر ما تقتلها وتميتها لأنها تعمّق وتضاعف من إقصائها السياسي الذي تؤدي إليه مباشرة تلك "السياسة البربرية". لتجاوز هذه "السياسة البربرية" الجديدة، ينبغي النضال من أجل الانتقال إلى "السياسة الأمازيغية"، التي هي النقيض المباشر "للسياسة البربرية". لماذا تكون "السياسة الأمازيغية" نقيضا "للسياسة البربرية" مع أنهما تبدوان عبارتين مترادفتين؟ فهل هناك فرق بينهما؟ ما هو هذا الفرق إن كان موجودا؟ تختلف "السياسة البربرية" عن "السياسة الأمازيغية" ـ المأمولة ـ باختلاف مصدري لفظي "بربرية" و"أمازيغية" في العبارتين. فالمعروف أن لفظ "بربر" تسمية يطلقها غير الأمازيغيين على الأمازيغيين. إنها تسمية أجنبية يستعملها الأجانب عن شمال إفريقيا (تامازغا) التي هي الأرض التاريخية والجغرافية للشعب الأمازيغي. و"السياسة البربرية" تستمد دلالتها ومحتواها من الدلالة الأجنبية للفظ "بربري". وهكذا تكون هذه "السياسة البربرية" هي السياسة التي يضعها للأمازيغيين من هم أجانب عن الأمازيغيين. إنها السياسة التي يقرر بموجبها غير الأمازيغيين ما يجب أن يكون عليه الأمازيغيون. إنها إذن سياسة "أجنبية" تحدد وتوجه مصير الأمازيغيين. فـ"السياسة البربرية" القديمة وضعها الفرنسيون، الذين هم غير أمازيغيين، ليحددوا بها ما ينبغي أن يكون عليه الأمازيغيون. وكذلك "السياسة البربرية" الجديدة وضعها غير الأمازيغيين من المتحولين جنسيا (قوميا)، الذين يعتبرون أنفسهم عربا يحكمون المغرب، ليحددوا بها ما ينبغي أن يكون عليه مصير الأمازيغيين الذي يقرره ويرسمه هؤلاء "العرب" الأجانب عن الأمازيغيين، كما يعتقدون. فالعنصر الأساسي إذن في "السياسة البربرية" هو مصدرها الأجنبي التابع للمصدر الأجنبي للفظ "بربري". وبما أن كلمة "أمازيغي" هي التسمية التي أطلقها الأمازيغيون على أنفسهم بأنفسهم، فإن "السياسة الأمازيغية" هي تلك السياسة التي يقررها الأمازيغيون بأنفسهم لأنفسهم، مع أخذ زمام مصيرهم بيدهم. فـ"السياسة الأمازيغية" لا تعني أكثر من استعادة الأمازيغيين لسيادتهم الأمازيغية على أرضهم الأمازيغية. وهذه السيادة لا يمكن أن تأخذ إلا شكل دولة أمازيغية ـ بالمفهوم الترابي وليس العرقي ـ ذات سلطة أمازيغية وبهوية أمازيغية انسجاما مع موطنها بشمال إفريقيا. وإذا كان الهدف من "السياسة البربرية"، القديمة والجديدة، هو إدماج الأمازيغيين في الدولة العروبية الجديدة، دولة المتحولين جنسيا، ذات الهوية العربية الأجنبية عن هوية شمال إفريقيا، فإن "السياسة الأمازيغية"، كنقيض مباشر لذلك، ستعمل ـ هي أيضا ـ على إدماج، لكن ليس الأمازيغيين، بل كل المتحولين الجنسيين، الذين يعتقدون أنهم غير أمازيغيين، في الدولة الأمازيغية باعتبارهم ـ مسايرة لاعتقادهم أنهم أجانب عن الأمازيغيين ـ ذوي أصول أجنبية، يعطيهم استقرار أجدادهم بالأرض الأمازيغية حق الانتماء إلى هذه الأرض الأمازيغية، ليصبحوا أمازيغيي الهوية مثلهم مثل الأمازيغيين الأسوياء، أي الذين لم يتعرضوا لعاهة التحول الجنسي. وإذا كانت "السياسة البربرية" تعامل الأمازيغيين كأقلية تحاول استيعابهم عن طريق التعريب العرقي والجنسي (القومي) والسياسي والهوياتي والإيديولوجي، فإن "السياسة الأمازيغية" ستصحّح هذا الوضع وتعامل غير الأمازيغيين الأسوياء من المتحولين الجنسيين كأقلية تعمل على إعادة تمزيغهم، بناء على ما لهم من حق الانتماء المشترك إلى الأرض الأمازيغية، التي هاجر إليها أجدادهم منذ قرون، كما يقولون ويعتقدون حسب منطق تحولهم الجنسي. وإذا كانت "السياسة البربرية" تعامل الأمازيغية كـ"موضوع" سلبي يدرسه "الأجانب"، ويحددون دلالته ومحتواه حسب أهوائهم ومصالحهم، فإن "السياسة الأمازيغية" ستستعيد للأمازيغية دورها كذات ـ وليس كموضوع كما في "السياسة البربرية" ـ فاعلة ومؤثرة، تنتج القرارات التي تخصها دون أن تكون مجرد موضوع لقرارات الآخرين الأجانب. إن وضع حدّ "للسياسة البربرية" شرط أول لاستعادة السيادة الأمازيغية المرتبطة بـ"السياسة الأمازيغية"، التي يحدد فيها الأمازيغيون، وفي إطار دولتهم الأمازيغية، مصيرهم بأنفسهم كما تفعل كل الشعوب الحرة والمستقلة.
|
|