|
|
الخذلان الأبدي لليسار المغربي
بقلم: محمد بودهان
(19 ـ 11 ـ 2019) استضافة إحدى فصائل اليسار المغربي لما يُسمّى "الجبهة العربية التقدّمية" لعقد مؤتمرها الأول بطنجة أيام 25، 26 و27 أكتوبر 2019، تحت شعار: "الوحدة العربية ضرورة تاريخية ورهان استراتيجي"، مناسبة للتذكير بالهُيَام الشديد، إلى حد الجنون، لهذا اليسار المغربي بكل ما هو عربي وقومي ومشرقي، حتى أنه يمكن القول إن هذا الهيام هو ما يشكّل علة وجوده، ويعطي المعنى لنضاله وتضحياته. وما كان ليهمّنا هذا الهيام الشديد لليسار المغربي، بكل ما هو عربي وقومي ومشرقي، لو لم يكن يصاحب نفسَ الهيام، كشرط لوجوده، نفور، شديد كذلك، من كل ما هو محلي مغربي أصيل، مثل الأمازيغية، لأن ذلك يعطي للمغرب استقلالا عن المشرق العربي، لغة وثقافة وتاريخا وهوية وانتماء. وهذا ما يرفضه اليسار ويعارضه. هذا الولَه الجنوني بالعروبة التي يهيم اليسار المغربي عشقا بها، ونفوره الشديد من الأمازيغية الي ظلمها وقسا عليها، هو ما سنناقشه في هذه المقالة، مع عرض للتطوّر التاريخي لهذا الوله وهذا النفور. خذلان اليسار المغربي للفكر اليساري الحقيقي: من المعروف أن اليسار المغربي، سواء في شكله التنظيمي، الحزبي والنقابي، أو في مظهره الفكري عند المثقفين والكتاب اليساريين، عارض الراحل الحسن الثاني لما يناهز أربعين سنة، من ستينيات حتى أواخر تسعينيات القرن الماضي. وما يجب التوقّف عنده هو أن هدف هذه المعارضة اليسارية لم يكن هو الوصول إلى تسيير الحكومة عن طريق الفوز في الانتخابات، كما هو الهدف من كل معارضة سياسية، وتطبيق برامج، في مجال الاقتصاد والتنمية والتشغيل والتعليم وإعداد التراب الوطني...، مخالِفة للتي كان يطبّقها الحسن الثاني. بل كان هدفها هو إسقاط النظام السياسي ككل، وليس الحكومة التي هي جزء فقط من هذا النظام. ولأن الحسن الثاني كان هو رمز هذا النظام وممثّله والمجسّد له، فإن إسقاط هذا النظام كان يساوي ـ ويمرّ عبر ـ إسقاط الحسن الثاني. لما أدرك الحسن الثاني أن المعارضة اليسارية تريد القضاء على نظام حكمه، اعتبر أن التصدّي لها يدخل في إطار الدفاع الشرعي من أجل البقاء. وهكذا بدأت "سنوات الرصاص" بالمغرب، التي دامت ما بين ستّينيات حتى تسعينيات القرن الماضي، والتي لجأ فيها الحسن الثاني إلى قمع ممنهج لمعارضيه الذين كانوا بالتعريف يساريين، والذي تجلّى في أساليب الاختطاف والتعذيب والاختفاء القسري والمعتقلات السرية والمحاكمات السياسية... لكن إذا كان اليسار يريد إسقاط نظام حكم الحسن الثاني، فما هو البديل الذي كان يهيئه ليحلّ محلّ هذا النظام؟ كان البديل هو إقامة نظام سياسي ناصري وبعثي، قومي وعروبي، على شاكلة نظام جمال عبد الناصر بمصر، وحافظ الأسد بسوريا، وصدام حسين بالعراق، والقذافي بليبيا... كان اليسار المغربي يناضل إذن ضد ديكتاتورية الحسن الثاني من أجل ديكتاتورية أسوأ وأفظع، علما أن أحد أسباب ديكتاتورية الحسن الثاني هو مشروع هذا اليسار المغربي الذي كان يرمي إلى إسقاط نظامه، مما اضطره إلى أن يلجأ إلى مزيد من الديكتاتورية لمواجهة خصومه اليساريين كدفاع شرعي عن البقاء، كما سبقت الإشارة. فكل تضحيات اليساريين المغاربة في سنوات الرصاص، وما تعرّضوا له من اختطاف وتعذيب واختفاء قسري واعتقال في أماكن سرية ومحاكمات سياسية...، لم تكن إذن من أجل إقامة نظام سياسي مغربي ديموقراطي، ولا من أجل تطوير النظام الملكي ليكون ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، وإنما كان من أجل استيراد نموذج حكم بعثي وقومي عروبي، أجنبي عن تربة المغرب وتاريخه وهويته وانتمائه الأمازيغي الإفريقي، وفرضه على المغرب والمغاربة. هذه التبعية العمياء للبعث القومي العربي من طرف اليسار المغربي تشكّل، كخاصية أساسية وجوهرية، ثابتا ملازما له. فحتى النظرية الماركسية والفكر الاشتراكي اللذان ينهل منهما اليسار في كل دول العالم، كمصدر فكري وفلسفي وسياسي لليساريين، أحزابا ومثقفين، لا يطّلع عليهما اليساريون المغاربة ـ أو بالأحرى لا يريدون الاطلاع عليهما ـ إلا إذا جاءاهم من الشرق الأوسط العربي، بعد تعريبهما وإفراغ مضمونهما الماركسي والاشتراكي الحقيقي، وتحويله إلى مضمون بعثي، قومي وعربي. وهكذا تصبح ـ وكذلك هي مفهومة وممارسة بالمغرب ـ فلسفة اليسار، بما تدافع عنه من قيم التحرّر والعدالة والمساواة والديموقراطية والكرامة والعَلمانية وحقوق الإنسان...، وتدعو إليه من مناهضة للظلم والتسلّط والاستغلال، ومحاربة للاستبداد والفساد، (تصبح) هي فلسفة الدفاع عن العروبة، بقضاياها وحروبها وقوميتها ولغتها وفكرها وثقافتها وتراثها...، والعمل على انتشارها وانتصارها، ومحاربة كل ما يعرقل هذا الانتشار والانتصار بالمغرب مثل الأمازيغية؛ وتصبح "الاشتراكية العلمية" تعني يوطوبياutopie القومية العربية، ووحدتَها الوهمية، ومبادئ نظام البعث العربي بديكتاتوريته وتسلّطه، وهزائمه ونكساته... فكما أن هذا اليسار المغربي لم يألُ جهدا من أجل تزييف الهوية الجماعية للمغرب، وذلك بإضفاء الطابع العربي، بمفهومه العرقي والقومي البعثي، عليها، والعمل على نشر الوعي الزائف لدى المغاربة بهذا الانتماء العربي الزائف والمنتحَل، فكذلك لم يألُ جهدا من أجل تزييف الفكر اليساري، الماركسي والاشتراكي، وذلك بإضفاء الطابع العروبي البعثي على هذا الفكر، ونشر الوعي الزائف لدى المغاربة بمضمونه الزائف والمُعرْبَن لجعله يتوافق مع أهداف العروبة، القومية والبعثية. وهذا خِذلان صريح وعمدي من طرف هذا اليسار المغربي للفكر اليساري الحقيقي، الماركسي والاشتراكي، فضلا عن خذلانه الأصلي للمغاربة بالسعي إلى تزييف هويتهم الجماعية وتزييف وعيهم بها. اليسار المغربي كمقاول فرعي يعمل لجهات أجنبية: هذا الارتباط الوجودي والسببي لليسار المغربي بالعروبة، في صيغتها القومية والبعثية، هو ما يفسّر أنه ظل دائما يتصرّف، في مواقفه السياسية والفكرية والثقافية، كمقاول فرعي sous-traitant يشتغل لمصلحة ـ وتنفيذا لأمر ـ المقاول الأصلي الأجنبي الذي تمثّله هذه العروبة القومية والبعثية. وكما في عقد المقاولة الفرعية، يقوم اليسار المغربي بتنفيذ مشاريع القومية العربية ونظامها البعثي بالمغرب، وذلك بالعمل على غرس العروبة العرقية كهوية للمغاربة بتحويلهم الجنسي من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، والسعي إلى إقامة نظام سياسي بعثي يناسب هذه الهوية العربية الجديدة للمغرب. فكان لا بد لهذا اليسار أن يتصادم مع الحسن الثاني، بسبب أنه يريد إسقاط نظامه لاستبداله بنظام بعثي، تنفيذا لتعليمات مشغّله الأجنبي، الذي هو المقاول الأصلي في ما يخص كل مشاريع القومية العربية بالمغرب. ولهذا فإن جميع الوسائل التي كان بإمكانها إضعاف نظام الحسن الثاني، كان اللجوء إليها مشروعا ومطلوبا من طرف اليسار المغربي، حتى لو كانت خيانة في حق الوطن، كما فعل كبيرهم الذي لم يتورّع من مساندة الجزائر ضد المغرب أثناء حرب الرمال في 1963. وقد فعل ذلك كيساري تقدمي قام بالواجب الذي يمليه عليه نضاله العربي البعثي، كعامل ضمن مقاولة فرعية، من أجل القومية العربية ووحدتها الوهمية. كانت ستكون هناك خيانة لو لم يتصرّف طبقا لما تحتّمه عليه قناعاته القومية والبعثية، ولما حدّده له المقاول الأصلي الأجنبي الذي يشتغل لحسابه. فخيانة الوطن، عندما يكون ذلك تنفيذا لتعليمات المقاول الأصلي الأجنبي، الذي هو القومية العربية، تكون واجبا، ونضالا، وتقدمية، وجهادا وتضحية... ولهذا فليس بالغريب ولا بالخيانة في شيء، من منطق هذا اليسار، أنه هو من عمل على تقسيم بلده المغرب بسعيه جاهدا إلى خلق جمهورية عربية صحراوية انفصالية. والمفارقة أنه حاول خلقها بتجزيء بلده المغرب خدمة للوحدة العربية، غير مبالٍ بأنه بذلك يفتّت ما كان موجودا من هذه الوحدة. لكن منطق المفارقات هو جزء من خصائص اليسار المغربي. خذلانه للمبادئ التي اضطهد من أجلها: إلا أن المفارقة الكبرى هي أن نخبة مناضلي هذا اليسار، من الذين تعرّضوا لكل أصناف الاضطهاد والتنكيل من طرف نظام الحسن الثاني بسبب سعيهم لإسقاطه وتنحيته، سينسوْن كل عدائهم لهذا النظام وكل خلافاتهم مع الحسن الثاني، ويقبلون، ابتداء من مارس 1998 (تاريخ تنصيب حكومة التناوب) بالانضمام إلى نفس النظام الذي عارضوه لما يقرب من 40 سنة، وينخرطوا في خدمة المخزن كما كانت تفعل الأحزاب التي كان هؤلاء اليساريون يسمونها بـ"الإدارية"، أي تلك التي صنعتها إدارة الدولة المخزنية، المتمثّلة في وزارة الداخلية. وقد أبدى هؤلاء اليساريون حماسا منقطع النظير لخدمة المخزن الذي كانوا يرفضونه في السابق ويعملون من أجل القضاء عليه، كما كشفوا عن شره غير مسبوق لـ"الأكل" من "الرشوة المشروعة" لدار المخزن السخية والمعطاء. وهي "الرشوة" التي تتجلّى في الرواتب السمينة، وما يصاحبها من امتيازات مالية أخرى، ويتبعها من تقاعد استثنائي خارج ما يقرّره القانون للاستفادة من التقاعد. وإذا كان قد سهل على المخزن تدجين هؤلاء اليساريين وإشراكهم في لعبة الفساد السياسي، الذي كانوا يدّعون محاربته والتنديد به طيلة نصف قرن من "المعارضة"، فذلك لأن هؤلاء اليساريين، كما أثبتوا ذلك من خلال مشاركتهم في حكومة "التناوب التوافقي"، لم يكونوا يعارضون الحسن الثاني لأن حكمه كان استبداديا وغير ديموقراطي، كما كانوا يدّعون، وإنما لأنهم لم يكونوا يستفيدون من الريع السياسي لنظام حكمه، مع ما يوفّره من ريع مالي جزيل. والدليل أنه بمجرد ما دخلوا إلى حلبة الريع السياسي عبر حكومة التناوب، نسوا مطلب الديموقراطية ومحاربة الفساد والاستبداد، وتحوّلوا إلى مشاركين في هذا الاستبداد والفساد، وحماة لهما بعد أن أصبحوا مستفيدين منهما، يشكلان مصدر ثرائهم غير المشروع وتقاعدهم غير القانوني. إنه خذلان للمبادئ التي كانوا يدافعون عنها وتعرّضوا للاضطهاد من أجلها. هكذا يكون هذا الانخراط، من طرف المعارضين اليساريين، في خدمة منظومة الاستبداد والفساد، التي كانوا يحاربونها بالأمس القريب، قد ضيّع أربعين سنة من عمر المغرب ومن فرص تقدّمه وتنميته؟ كيف ذلك؟ تضييع أربعين سنة من عمر المغرب: لقد رأينا ان اليسار كان يعمل من أجل إسقاط نظام الحسن الثاني. وكانت النتيجة أن هذا النظام لم يقف، بطبيعة الحال، مكتوف الأيدي إزاء هذه المعارضة اليسارية التي كانت ترمي إلى تدمير أساس الدولة المغربية، أي نظام حكم الحسن الثاني، بل تصدّى لها وواجهها ونجح في إحباط مشاريعها الهادفة إلى تحويل المغرب إلى نظام اشتراكي بعثي على الطريقة البومدينية (نسبة إلى الهواري بومدين، الرئيس الجزائري السابق المعروف). هذه المواجهة وهذا التصدّي هما ما كان وراء تلك المرحلة السوداء من تاريخ المغرب، والتي تمتدّ من بداية الستينيات ـ وبالضبط مع بداية حكم الحسن الثاني في 1961 ـ لتستمر إلى التسعينيات من القرن الماضي. وهي مرحلة الاعتقالات، والاختطافات، والاغتيالات، والمحاكمات السياسية، والسجون السرية… وطبعا كان لهذه المواجهة ـ وهذا هو ما يهمنا ـ ثمنها الاجتماعي والاقتصادي الباهظ: فقد فرضت هذه المعارضة اليسارية على الدولة أن تخصّص جزءا هامّا من مجهودها التنموي للتصدي لها (للمعارضة) ومنعها من تحقيق أهدافها. فبدل أن تتفرغ الدولة لما هو تنموي واجتماعي، أصبح هاجس أمنها السياسي يستقطب اهتمامها الأول، مع ما يتطلبه ذلك من تكاليف وإنفاق من المال العام. فتباطأت بفعل ذلك عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية إلى درجة التوقف والتراجع، لأن الدولة كانت مشغولة بمسألة الأمن السياسي الذي تعتبره من الأولويات، كما أن جزءا من الإمكانات المالية والاقتصادية كانت توظف لهذا الهدف ذي الأولوية. كل هذا جعل من المغرب بلدا متأخرا ودون المستوى الذي كان يجب ان يبلغه بالنظر إلى خصوصياته وثرواته وإمكاناته، ذلك أن الاستقرار السياسي شرط أساسي لانطلاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. والذي كان وراء هذا التأخر هو تلك المعارضة اليسارية، البعثية الشرقانية (نزعة الارتباط بالمشرق العربي)، التي أضاعت للمغرب أربعين سنة من تاريخه ظل خلالها يراوح مكانه، عاجزا عن السير إلى الأمام، لأنها كانت تقف حاجزا أمام هذا السير إلى الأمام (انظر افتتاحية العدد 17 لشهر شتمبر 1998 من شهرية "تاويزا": "بعد إصلاح نصف الخطأ التاريخي، يبقى إصلاح النصف الثاني المتعلق بالأمازيغية"). وما ذا حصل بعد مارس 1998؟ حصل أن أولئك الذين كانوا يشكلون بالأمس المعارضة اليسارية، البعثية الشرقانية، والتي بسببها عُذّبوا واعتقلوا وحوكموا وسجنوا...، تولّوا مقاليد السلطة طبقا لقواعد وأسس النظام السياسي المغربي لحكم الحسن الثاني، تلك القواعد والأسس التي كانوا يرفضونها ويعارضونها في ما مضى. وهذا يعني أنهم ضيّعوا قرابة أربعين سنة من عمر المغرب، ما دام أنهم قبلوا المشاركة في نفس نظام الحسن الثاني في 1998، وبنفس القواعد التي كان يحكم بها هذا النظام عندما أعلنوا رفضهم له منذ أربعين سنة. وواضح أن الخسارة التي تسبّبوا فيها للمغرب لا تتعلق فقط بتضييع أربعين سنة من عمره الزمني، بل تضييع أربعين سنة من فرص التنمية، كما سبقت الإشارة، وتضييع الأموال الطائلة التي كان النظام مضطرا لاستعمالها، ليس لهذه التنمية كما كان مفترضا، بل لمواجهة هؤلاء المعارضين اليساريين. خذلانه لمبادئ "العدالة الانتقالية": لما أدرك النظام المخزني، من خلال تجربة "التناوب"، والذي هو في الحقيقة تناوب على الريع السياسي والمالي، كما سبقت الإشارة، أن المال قادر على تدجين أعتى المعارضين اليساريين وتحويلهم إلى خدّام لسلطته وحكمه، فكّر في تعميم استعمال المال لاحتواء وتدجين ما تبقّى من اليساريين. وهكذا نشأت فكرة تأسيس "هيئة الإنصاف والمصالحة"، التي سترى النور في يناير 2004، والتي كان من مهامها تخصيص مبالغ مالية سخية للذين سبق لهم، وهم في غالبتهم يساريون، أن اُختطفوا واعتُقلوا وحوكموا وسُجنوا...، كتعويض عما تعرّضوا له من ظلم ومحاكمات سياسية وانتهاكات لحقوقهم الإنسانية. وقد نجحت الخطة وربح المخزن ولاء هؤلاء اليساريين، وربح هؤلاء مال التعويضات ومال الوظائف والمناصب التي أنشأها لهم المخزن لاحتوائهم وإدماجهم في نظامه. وهنا سيخذل اليساريون أيضا مواقفهم ومبادئهم ونضالهم الذي سبق أن اعتقلوا وحوكموا من أجله، ليس لقبلوهم بـ"هيئة الإنصاف والمصالحة"، التي هي من أهم آليات تحقيق "العدالة الانتقالية" كما حصل ذلك بنجاح عند العديد من الدول، مثل الشيلي، والأرجنتين، وإسبانيا، وألمانيا الشرقية سابقا، وجنوب إفريقيا...، وإنما لأن هذه "العدالة الانتقالية"، كما طُبّقت بالمغرب بفضل مساهمة هؤلاء اليساريين المباشرة في ذلك التطبيق، لم تمنع ـ مع أن هذا المنع هو الغاية من لجوء الدول إلى آلية "العدالة الانتقالية" ـ تكرار ما جرى من انتهاكات جسيمة سابقة لحقوق الإنسان بالمغرب، كما تشهد على ذلك اعتقالات ومحاكمات نشطاء حراك الريف. لم تمنع تكرار ذلك بسبب أن نفس النظام الذي كان مسؤولا عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لا يزال هو صاحب السلطة والقرار السياسي، عكس الدول التي نجحت فيها "العدالة الانتقالية" حيث نجد أن الأنظمة التي كانت حاكمة ومسؤولة في عهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لم تبق لها سلطة ولا قرار سياسي في العهد الجديد "للعدالة الانتقالية". ففي الشيلي، مثلا، لم يعد لأتباع ديكتاتورية Pinochet "بينوتشي"، التي اُرتكبت في عهدها مجازر لحقوق الإنسان، أية سلطة ولا قرارات سياسية في العهد الجديد "للعدالة الانتقالية" (انظر موضوع: «لماذا لم تنجح تجربة "العدالة الانتقالية" في المغرب؟» ضمن كتاب: "قضايا مغربية"، المتوفر على شبكة الأنترنيت). ولهذا فإن ما تحقق من "العدالة الانتقالية" في المغرب، انحصر في "تبييض" السجّل الأسود للمخزن بخصوص حقوق الإنسان، وانتقال اليساريين من حالة العسر إلى حالة اليسر بفضل التعويضات وشغل المناصب ذات الأجور السمينة. والخاسر هو العدالة وحقوق الإنسان، التي لا زالت تنتهك في عز توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة" والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي هو في الحقيقية مجلس وطني للإثراء غير المشروع لليساريين الذين تعاقبوا على تسييره والإشراف عليه. مرة أخرى، يخذل اليساريون "العدالة الانتقالية" التي باعوها مقابل ما تلقوه من تعويضات، وما نالوه من مكاسب، وما حصلوا عليه من مناصب ووظائف. استمراره في خدمة المقاول الأصلي حتى بعد إفلاسه: رغم كل هذا الخذلان الذي لازم اليسار المغربي، بكل أطيافه وفصائله، والذي يكمن مصدره في اشتغال هذا اليسار، كما سبق توضيح ذلك، كمقاول فرعي لفائدة المقاول الأصلي الذي تمثّله العروبة، بكل ما تعنيه من عرقية وقومية وبعثية وناصرية، وأنظمة ديكتاتورية وقضايا عربية، وحتى من لغة وثقافة عربية، إلا أنه مصرّ، مع ذلك، على مواصلة "نضاله" من أجل الحفاظ على وضعه كمقاول فرعي تابع، وذلك حتى بعد أن أفلس مشغّله، الذي هو المقاول الأصلي، وأوقف أوراشه ومشاريعه ذات العلاقة بالعروبة والقومية العربية ووحدتها الوهمية، كما يتجلّى ذلك في موت إيديولوجية هذه القومية بموطن نشأتها بالمشرق العربي، وتخلّي أهلها الأصليين عنها، وأفول أصنامها الناصرية والبعثية، وتوالي هزائمها وانكساراتها، وبوار بضاعتها المفضّلة التي كان يكثر عليها الطلب في الماضي بشكل كبير جدا، وهي الوحدة العربية والقضية الفلسطينية، وما يرتبط بهما من "ممانعة" ومواجهة للصهيونية... كل هذا اختفى وانتهى بالمشرق حيث نشأ وظهر، وحتى داخل فلسطين نفسها. كان المنتظر إذن، وهو شيء منطقي وطبيعي، أن يكفّ المقاول الفرعي، الذي هو اليسار المغربي، عن تقديم خدماته بخصوص القومية العربية نيابة عن المقاول الأصلي، الذي يشتغل لفائدته، والذي هو العروبة، بمضمونها العرقي والقومي واللغوي والثقافي، ما دام أن هذا المقاول الأصلي قد أعلن إفلاسه وأوقف كل أنشطته واستثماراته، والتي كان قد كلّف مقاوله الفرعي المغربي بالقيام بها وإنجاز أشغالها. لكن هذا المقاول الفرعي، الذي يتقمّص دورَه اليسارُ المغربي، استمر، وخارج ما يقتضيه المنطق وما تفرضه القواعد المنظّمة لعقد المقاولة الفرعية، في تقديم خدماته للمقاول الأصلي، وإنجاز أعمال لصالحه لم يطلبها منه وليس في حاجة إليها بعد أن تخلّى نهائيا عنها نتيجة ما تكبّده من خسائر عجّلت بإفلاسه. لماذا يستمر المقاول الفرعي بالمغرب، الذي هو اليسار المغربي، في عبَثية تقديم الخدمة لمشغّله الأصلي، الذي تمثّله العروبة، بكل قضاياها المشرقية وحمولتها العرقية والقومية واللغوية والثقافية...؟ لأنه طيلة وجوده لم يتعلّم شيئا آخر غير تقديم الخدمة لهذه العروبة، اقتناعا منه أنه بخدمتها يخدم وجوده نتيجة استمداده هذا الوجود من وجود تلك العروبة نفسها، والتي ظل، بسبب ذلك، تابعا لها كمقاول فرعي يشتغل لحسابها بالمغرب، كما سبق شرح ذلك. ولهذا فحتى عندما أفلست العروبة، التي يعمل لحسابها بالمغرب، لا يستطيع التفرّغ لخدمة القضايا الوطنية والمغربية لأنه لم يتعلّم ذلك، ولم يسبق له أن مارسه أو قام به، إلا في الحالات التي تكون فيها القضايا المغربية الوطنية هي نفسها قضايا عربية، فيتبنّاها ويهبّ للدفاع عنها، مثل دفاعه عن التعريب والقضية الفلسطينية... ولهذا إذا انطلقنا من تعريف الفيلسوف "جيل دولوز" Gilles Deleuze لليساري بأنه ذلك «الذي يفكّر أولا في العالم، ثم في بلده، ثم في أقربائه، ثم في نفسه...» ("Être de gauche c'est d'abord penser le monde, puis son pays, puis ses proches, puis soi… ")، فإن اليساري المغربي سيُعرّف بأنه ذلك «الذي يفكّر أولا في العالم العربي، الذي يمثّل بالنسبة له العالَم الحقيقي، ثم في البلاد العربية التي يعدّها بلاده الحقيقية، ثم في العرب الذين يعتبرهم أقرباءه الحقيقيين، وأخيرا في نفسه بصفته سادنا لمعبد العروبة وخادما لها بالمغرب». فكل شيء عنده يدور حول العرب والعروبة والقضايا العربية... وهو ما يجعل الحياة، بالنسبة له، تستحقّ أن تُعاش حتى ينذرها حصريا لخدمة هذه القضايا العربية، وذلك حتى عندما لا يكون العرب أنفسهم في حاجة إلى تلك الخدمة ولا متحمّسين لتلك القضايا. من التمنّي إلى "الاستمناء" الإيديولوجي: ولأن هذا اليسار المغربي لا يستطيع البقاء من دون قضايا عربية يدافع عنها، فهو يعمل جاهدا من أجل إحياء تلك المنقرضة منها، والتي تخلّى عنها أصحابها العرب المشارقة وماتت بموطنها الذي نشأت به، فينقل "جثامينها" المتحلّلة إلى المغرب قصد ترميمها وبعث الحياة فيها من جديد. والمثال الحي على هذا المسعى، اليائس والعبَثي والمستحيل، لنفخ الروح في قضايا ماتت وبادت وانقرضت، هو استضافة إحدى فصائل هذا اليسار المغربي لكائن عربي يُسمّى "الجبهة العربية التقدّمية" لعقد مؤتمرها الأول بطنجة أيام 25، 26 و27 أكتوبر 2019، لتنقل، من المشرق العربي إلى اليسار المغربي وفي أرض المغرب، الجيفة المتحلّلة والنتنة لما كان يُسمّى "الوحدة العربية"، التي تشكّل موضوع هذا المؤتمر كما يكشف عن ذلك شعاره الذي هو: "الوحدة العربية ضرورة تاريخية ورهان استراتيجي"، كما لو أن هذه "الوحدة العربية" لم يسبق أن أٌعلن، لمئات المرات، أنها ضرورة تاريخية ورهان استراتيجي، ببلدانها الأصلية بالمشرق العربي، قبل أن تموت وتنتهي وتختفي هناك. فنقل هذه الجيفة، المتحلّلة والنتنة، للهالكة "الوحدة العربية" إلى المغرب، لتُقرأ عليها عزائم اليسار المغربي أملا في عودة الروح إليها، إجراء يتجاوز التمنّي ـ تمنّي إحياء الموتى ـ ليتحوّل إلى استمناء إيديولوجي حقيقي، ليس كعادة سرّية كما تُمارس بالمشرق منذ موت الفقيدة الوحدة العربية، بعد موت أمها القومية العربية، بل كعادة علنية مكشوفة، لأن اليسار المغربي يجيز ممارستها علنيا بالمغرب، مع كل الانتشاء الذي يصاحب هذه الممارسة، والشعور بغامر الانشراح والسعادة، تأكيدا أن صاحب هذا الانتشاء والشعور هو، كما سمّاه الكاتب ميمون أمسبريذ، "المستلَب السعيد" الذي يجسّده اليساري المغربي أفضل وأكمل تجسيد. فكما نلاحظ، لا يكتفي اليسار المغربي بخذلان من هم أحياء، مثل الأمازيغية والقضايا المغربية الحقيقية، بل هو يخذل كذلك من هم أموات، عندما يقبل بنقل جثثهم المتحلّلة، مثل الفقيدتين الوحدة العربية وأمها القومية العربية، إلى المغرب ليمارس عليها شعوذته، زاعما أنه قادر على بعث الحياة في تلك الجثث الهامدة والخامدة. دور الجندي الذي استمر يحارب حتى بعد انتهاء الحرب: هذا التهافت من طرف اليسار المغربي على القضايا العربية الميّتة، والمنتهية الصلاحية ببلدانها الأصلية، لنقلها إلى المغرب للتمديد في تاريخ صلاحيتها، ليس تزويرا فقط لتاريخ انتهاء الصلاحية، وإنما هو بمثابة تحويل للمغرب إلى سوق للمتلاشيات والنفايات الإيديولوجية المتهالكة للمشرق العربي، مثل الوحدة العربية والقومية العربية، ليبدأ استعمالُها، كـ"خردة" رثّة ومتّسخة تم التخلّص منها في المزبلة، من جديد من طرف اليساريين العروبيين المغاربة (انظر موضوع: "هل أصبح المغرب مزبلة للنفايات العربية؟" ضمن كتاب: "في الهوية الأمازيغية للمغرب"). سعي هؤلاء اليساريين العروبيين المغاربة إلى بعث الحياة في الإيديولوجيات العربية البائدة والهالكة، كالوحدة العربية والقومية العربية، يجعلهم يتصرّفون مثل ذلك الجندي الذي أمره رئيسه بأن يراقب منفذا بإحدى الغابات منه يتسلّل العدو لمباغتة جنوده. لكن بعد بضعة أيام وضعت الحرب أوزراها بعد انهزام الجيش الذي ينتمي إليه ذلك الجندي، ووقّع اتفاق الاستسلام وانتهت الحرب. ولما توصّل الجندي المعني بأمر الانسحاب من مكان المراقبة والعودة إلى أسرته لأن الحرب قد انتهت، شكّ في الأمر واعتبر ذلك مؤامرة صهيونية غرضها فسح الطريق لتسلّل العدو للقيام بعمليات خاطفة ضد جنود مجموعته. فواصل المرابطةَ يحرس المنْفَذ لسنوات بعد انتهاء الحرب، مُقتاتا مما توفّره له الغابة من صيد وثمار. ورغم أن سلاحه لم يعد صالحا لإطلاق الرصاص بسبب ما اعتراه من صدأ لعدم استعماله لسنوات منذ توقف المعارك، إلا أنه ظل واضعا يده على الزناد، متهيئا لإطلاق مستحيل للرصاص على عدو مستحيل، كذلك، لأنه لم يعد موجودا. سبب كل هذا الوهم الذي عاشه ومارسه هذا الجندي على نفسه، هو اقتناعه أن هناك مؤامرة صهيونية هي التي تروّج أن الحرب قد انتهت. فبقي سجين هذه المؤامرة، التي صنعها وعيه الزائف والشقي. هذا هو اليسار المغربي، الذي لا زال يعيش ويتصرّف طبقا للإيديولوجية القومية لستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وإذا حاولتَ أن تقنع أتباع هذا اليسار أن الأمور تغيّرت منذ ذلك التاريخ، وأن العرب الحقيقيين أنفسهم تخلّوا عن وهم الوحدة العربية والفكر القومي، وحتى عن مِشجب الصهيونية الذي كانوا يعلّقون عليه إخفاقاتهم وخيباتهم، أجابوك، مثل الجندي المسكين، أن ذلك ما تروّجه هذه الصهيونية لنشر اليأس والإحباط لدى المناضلين في سبيل الوحدة العربية والقومية العربية. وهكذا يصرّون على بقائهم في خندقهم العربي والقومي، والذي حُفر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، رافضين الخروج منه ومغادرته، اقتناعا منهم أن الصهيونية هي التي ترغب في ذلك خدمة لمصالحها. وهذا ما يفسّر أن هذا اليسار المغربي لا زال يرفض ويحارب ما يسمّيه "التطبيع"، أي إقامة علاقات طبيعية مع دولة إسرائيل، رغم أن المعنيين الأولين بالموضوع، أي الفلسطينيين، يقيمون، عبر السلطة التي تمثّلهم، هذه العلاقات الطبيعية مع الدولة العبرية، فضلا عن دول عربية تربطها علاقات دبلوماسية وتجارية طبيعية مع نفس الدولة العبرية، التي يصرّ هذا اليسار المغربي على تسميتها بالدولة الصهيونية. وعلى ذكر الصهيونية، نلاحظ أن اليساريين المغاربة، بقدر ما يزعمون أنهم يحاربونها ويتصدّون لها، بقدر ما يطبّقون مبادئها وعنصريتها في المغرب، كما يتجلّى ذلك في تنديدهم بسياسة التهويد التي تنهجها إسرائيل بالأراضي المحتلة، لكنهم يدْعون في نفس الوقت إلى مزيد من سياسة التعريب بالمغرب. مع أن التعريب بالمغرب والتهويد بفلسطين وجهان لسياسة عنصرية واحدة، تتمثّل غي تغيير هوية أصلية، أمازيغية بالمغرب وعربية بفلسطين، بهوية أخرى مفروضة، عربية بالمغرب ويهودية بفلسطين (انظر موضوع: " التهويد بفلسطين والتعريب بالمغرب: وجهان لسياسة عنصرية واحدة" ضمن كتاب: "في الهوية الأمازيغية للمغرب"). لكن اليساريين المغاربة لا ينتبهون إلى هذه التناقضات التي تملأ خطاباتهم ومواقفهم، لأن نرجسيتهم القومية العروبية تحول دون ذلك. وهذه النرجسية هي التي تجعلهم يصفون المغربي الذي يدافع عن العروبة بالمناضل الوطني والتقدّمي، والأمازيغي الذي يدافع عن الأمازيغية بالعنصري والرجعي. إن هذا الموقف المتناقض و"المتخاذل"، ذو الكيل بمكياليْن، هو نتيجة الجمع بين النرجسية العرقية والفاشية القومية، وهو ما يعطي كيمياء كل ذلك العداء العرقي والفاشي تجاه الأمازيغية، التي يجب أن تموت وتختفي، ويتخلّى عنها أبناؤها ويعتنقوا العروبةَ، وإلا فإنهم عنصريون ورجعيون. اليسار المغربي كعائق لتقدّم المغرب وتطوّره: ولأن أهداف هذا اليسار المغربي واستراتيجيته ومخطّطاته، تدور كلها ، كما بيّنا ذلك، حول الارتباط بالمشرق العربي والعمل على تعزيز هذا الارتباط، فلذلك فهو يشكّل أحد العوائق التي تحول دون تقدّم المغرب وتطوّره. لماذا؟ لأن النموذج، الفكري والثقافي واللغوي والهوياتي، الذي يريد هذا اليسار أن يتبعه المغرب ويقتدي به، هو نموذج مستورد من المشرق العربي، بمحتواه الفكري والثقافي واللغوي والهوياتي. وإذا عرفنا أن هذا النموذج العربي أصبح نموذجا للتخلّف والاستبداد والتأخر التاريخي، سنعرف أن المغرب لا يمكن، بتبنّيه هذا النموذج، إلا أن يزداد تخلّفا واستبدادا وتأخرا، بالنظر إلى أن التابع لا يمكن أن يكون أكمل وأفضل من المتبوع، ولا النسخة المقلّدة أحسن وأجود من النسخة الأصلية. فإذا كان هذا النموذج لم يجعل من الدول العربية، التي اعتمدته كنموذج عربي أصيل غير مستورد ولا مستنسخ، دولا متقدمة ولا ديموقراطية ولا حداثية، فالأكيد، كنتيجة منطقية، أنه سيجعل من الدولة، التي تستورده وتتبنّاه، دولة أقل تقدّما وديموقراطية وحداثة من تلك الدول العربية، التي تتخذها هذه الدولة قدوتها التي تحتذيها وتحاكيها. هكذا يساهم اليسار المغربي في كبح تقدّم المغرب ونهضته، الثقافية والفكرية، واستقلاله اللغوي والهوياتي، وذلك بعمله على إبقائه مشدودا إلى نماذج، ثقافية وفكرية ولغوية وقومية، فاشلة ومتخلّفة. ولهذا فإن من شروط نهضة المغرب هو التحرّر من التبعية، الهوياتية والثقافية والفكرية واللغوية والإيديولوجية، للمشرق العربي، والتي يحميها ويدافع عنها اليسار المغربي. ولن يتحقّق هذا التحرّر من دون التحرّرُ من الوعي الزائف الذي ينشره هذا اليسار، عبر ادعائه الدفاع عن قيم التحرّر لكنه يعمل من أجل استعباد المغرب عبر إلحاقه بالعروبة، حتى يكون تابعا لها فاقدا لكل تحرّر واستقلال، هوياتيا ولغويا وثقافيا... هذا هو التحرّر عند اليساري المغربي: إنه يعني لديه التحرّر من الانتماء الأمازيغي للمغرب وإنكاره، وتبنّي الانتماء/التبعية إلى العروبة التي لم تطلب منه ذلك ولا ترغب فيه، ممارسا نوعا من الدياثة الهوياتية proxénétisme identitaire، دون أن ينتظر من ذلك مقابلا ماديا كما يفعل المشتغلون في مجال الدياثة الجنسية، وإنما أقصى ما ينتظره ويحلم به هو أن يرضى عنه الذين يقدّم لهم تلك الخدمات المجانية. إنه المثال النموذجي الحي "للمستلب السعيد" الذي تحدث عنه الكاتب ميمون أمسبريذ، كما أشرت. اليساريون والإسلاميون بالمغرب: وجهان لعملة واحدة: رغم ما يبدو من تعارض بين الحركة اليسارية والحركة الإسلامية بالمغرب، هو مصدر لعداء مستحكم بين الحركتين، إلا أن الاثنتين تشتركان في ما يشكّل جوهر التوجّه الفكري والسياسي للحركتين، اليسارية والإسلامية، إلى درجة تجعل منهما وجهين لعملة واحدة. أين وكيف يظهر ذلك؟ ـ الخاصية الملازمة للحركتين هي جعل المغرب فاقدا، على مستوى الاستقلال الفكري والثقافي والهوياتي، لسيادته وتابعا لسيادة أخرى أجنبية، فكرية وثقافية وهوياتية، وذلك عبر استيراد هاتين الحركتين لنماذج ثقافية وفكرية وهوياتية خارجية ومشرقية، ومحاولة فرضها واستنباتها في المغرب. وسواء كانت هذه النماذج هي الوهابية السعودية، والفكر الديني المتطرّف، ونظام الخلافة الإسلامية... بالنسبة للحركة الإسلامية، أو الأنظمة الناصرية والبعثية، والقومية العربية، والاشتراكية العربية... بالنسبة لليسار المغربي، فهي جميعها ذات مصدر أجنبي قادم من الشرق الاوسط، ولم تنبع من تربة المغرب ولا تاريخه، ولا هي نتيجة لتطوره السياسي والثقافي والفكري. وهذا يعني أن هاتين الحركتين ترتبطان بما هو أجنبي أكثر من ارتباطهما بما هو وطني. وهذا ـ وبكل المعايير ـ نقص في الوطنية الحقيقية، التي تعني نقصا في الارتباط بالوطن. ـ نتيجة لهذا النقص في الوطنية، الذي يترجمه النقص في الارتباط بالوطن، تشترك الحركتان في عدائهما الشديد والجارف لكل ما هو أمازيغي، لغة وثقافة وهوية وتاريخا، أي لكل ما مهو مغربي حقيقي ووطني أصيل. ولهذا تُعتبر محاربة الأمازيغية، لدى الحركتين، جهادا ونضالا، وذلك من أجل نجاح مشروعهما في إلحاق المغرب بالمشرق العربي، حيث ينظرون إلى الأمازيغية كعائق لهذا الإلحاق. ـ ولأن الحركتين تعملان من أجل تبعية المغرب للمشرق، فإنهما تشتركان في جعل فلسطين قضية وطنية للمغرب، تأكيدا أنه تابع لهذا المشرق، ويقوم بدور المقاول الفرعي المخْلص بالنسبة لقضايا هذا المشرق، حيث تصبح مشاكل وقضايا هذا الأخير هي مشاكل وقضايا المغرب. ـ وأخيرا، تشترك الحركتان في الدعوة إلى مزيد من التعريب، الهوياتي والجنسي، أي مزيد من التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي، انتماء وهوية، مما يزيد من تبعية المغرب للعروبة، العرقية والقومية واللغوية والثقافية، ومن فقدانه النهائي لكرامته الهوياتية التي يستمدّها من انتمائه الأمازيغي. ولهذا لو كان هدف الحركة الإسلامية هو الإسلام، كما تدّعي، لما دافعت عن التعريب، الهوياتي والجنسي، الذي لا يدعو إليه الإسلام ولا يأمر به. كذلك لو كان هدف اليساريين المغاربة هو الديموقراطية والعدالة والمساواة والحرية والكرامة والعَلمانية وحقوق المرأة والتوزيع العادل للثروة...، كما يقولون ويكرّرون، لما دافعوا عن التعريب، الهوياتي والجنسي (تحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي)، الذي لا تربطه أية علاقة سببية بهذه القيم الكونية، التي يتظاهر هؤلاء اليساريون بالدفاع عنها. الخلاصة التي نخرج بها من عرض هذه الخصائص المشتركة بين الحركة الإسلامية والحركة اليسارية في المغرب، هي أن الحركتين هما، في أهدافهما ومشاريعهما، حركتان تعريبيتان وعروبيتان قوميتان، عنصريتان في موقفهما من الأمازيغية، ولا علاقة لهما لا بالإسلام الحقيقي ولا باليسار الحقيقي، اللذيْن خذلتاهما باستعمالهما للتغطية على هدفيْهما ومشروعيْهما العروبييْن والقومييْن الحقيقييْن. فالغاية واحدة وهي فرض العروبة، العرقية والقومية واللغوية والثقافية على المغاربة، وتحويل المغرب إلى تابع لهذه العروبة، ومقاول فرعي يشتغل لحسابها. أما الاختلاف بين الحركتين فهو في الوسيلة فقط، التي هي الإسلام بالنسبة للحركة الإسلامية، والعَلمانية، بمفهومها القومي العروبي، بالنسبة للحركة اليسارية. وهنا لا بد من فتح قوس للتذكير أن القومية العربية، التي تشكّل إيديولوجية اليسار المغربي، هي ذات إيديولوجية عَلمانية لأنها نشأت أصلا وتاريخيا قصد محاربة الخلافة الإسلامية العثمانية، كما هو معروف. هذا الاختلاف في الوسيلة هو الذي يعطي الانطباع أن الحركتين، الإسلامية واليسارية، متعارضتان في الأهداف والغايات، مع أن الاختلاف هو في الوسائل فقط. النتيجة أن المغرب لا زال في حاجة إلى حركة إسلامية حقيقية، تدافع عن شرع الله وليس عن شرع العروبة، وإلى حركة يسارية حقيقية، تشيع الوعي السليم وتحارب الوعي الزائف الذي تنشره الثقافة اليسارية الحالية؛ تدافع فعلا عن حقوق وتحرّر وكرامة المغاربة، وذلك بالدفاع أولا عن هويتهم الأمازيغية الجماعية، ولغتهم وثقافتهم الأمازيغيتين الأصليتين. فمن باب الاستلاب والوعي الزائف، وحتى الاستغباء، أن يدّعي اليسار المغربي أنه يدافع عن حقوق وتحرّر وكرامة المغاربة وهو يعمل من أجل تغيير هويتهم الأمازيغية الجماعية قصد تعريبها، الهوياتي والجنسي، أي القومي. أليس من أهم حقوق الإنسان أن يكون ما هو عليه، مطابقا لذاته ولهويته الجماعية (هوية الموطن والشعب اللذيْن ينتمي إليهما)، محافظا على هذه الهوية ومتمسّكا بها؟ ولهذا فإن ما يفعله هذا اليسار المغربي، بربطه المغاربة بالانتماء العربي الزائف، هو عدوان على أهم حقوقهم الإنسانية والطبيعية، وانتهاك صارخ لها.
|
|