|
|
عندما يشكّل التعريب
خطرا على مصالح المغرب
بقلم: محمد بودهان
(13 ـ 12 ـ 2022) تعريب شامل وكاسح: تحت ضغط إيديولجي وسياسي قوي "للحركة الوطنية"، اتخذ شكل ابتزاز للدولة، انخرطت هذه الأخيرة منذ الاستقلال، وبحماس كبير، في عملية تعريب شامل وكاسح، يضمّ التعريبَ السياسي الذي بدأته فرنسا، والذي يرمي إلى نشر وترسيخ القناعة لدى المغاربة بأن دولتهم عربية تحكمها سلطة عربية؛ والتعريبَ العرقي الذي يرمي، هو كذلك، إلى نشر وترسيخ القناعة لدى المغاربة بأنهم شعب "عربي" ذو أصول عربية؛ والتعريبَ الهوياتي الذي يرمي، هو أيضا، إلى نشر وترسيخ القناعة لدى المغاربة بأن المغرب بلد عربي ذو انتماء عربي؛ والتعريبَ الإيديولوجي الذي يرمي إلى خلق وعي زائف لدى المغاربة، يرسّخ ويكرّس تبعيتهم للمشرق العربي على مستوى الانتماء والثقافة والفن والدين (المذاهب والاجتهادات والفتاوى) واللغة ووحدة القضايا والمصير...، حتى أصبح هذا المشرق العربي كالنجم الثابت الذي يدور حوله المغرب ككوكب صغير يستمدّ وجوده وحركته من النجم المشرقي الكبير. أما المظهر الخامس لهذا التعريب الشامل والكاسح، كما قلت، فهو التعريب اللغوي الذي سيتأخر تنفيذه، في صيغته الشاملة والكاسحة، إلى ثمانينيات القرن الماضي. لماذا؟ لأن نشر وتعليم واستعمال اللغة العربية لم يكن أبدا هو الغاية من التعريب، بل كانت العربية دائما مجرد وسيلة للتعريب السياسي والعرقي والهوياتي والإيديولوجي. هذا التعريب، الشامل والكاسح، أفقد المغرب سيادته الهوياتية التي يمثّلها انتماؤه الأمازيغي الإفريقي، وخلق وعيا عروبيا متطرّفا لدى مجموعة من المغاربة حوّلهم إلى "مضبَّعين" و"مضبِّعين"(لمعرفة المقصود بـ"التضبيع"، انظر موضوع: «"التضبيع" في تجريم "التطبيع"» بالنقر هنا و هنا) يرتبطون وجدانيا بقضايا ومشاكل المشرق العربي أكثر من ارتباطهم بقضايا ومشاكل بلدهم. مخاطر التعريب على مصالح المغرب: لكن خطورة هذا الوعي العروبي "التضبيعي" المتطرّف، الذي زرعه التعريب في عقول الكثير من المغاربة، ستنتقل من مستوى المسّ بالسيادة الهوياتية للمغرب إلى مستوى معاكسة مصالحه وأمنه، وذلك عندما يتطابق الخطاب العدائي والتحريضي لشرذمة من هؤلاء "المضبّعين" (بفتح الباء ثم كسرها) ضد بلدهم، بمناسبة زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي للمغرب بدءا من يوم 23 نوفمبر 2021، مع نفس الخطاب، العدائي والتحريضي، الذي تروّجه الجزائر المناهضة للوحدة الترابية لبدهم المغرب. فعندما نقارن بين الحكْم على تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسرائيل بأنه "حماقة"، كما جاء في كلام السيد محمد الساسي (المصدر: انقر هنا) المحسوب على الحركة المتياسرة؛ واعتبارِ هذا التطبيعَ "استعمارا جديدا"، كما قال بنسالم حميش (المصدر: انقر هنا) المحسوب هو كذلك على مجموعة المتياسرين؛ والزعمِ أن "سياسة التطبيع ترهن مسألة سيادة البلاد لأن القرار لم يعد في يدنا وسيادتنا تسلب منا"، كما أدلت بذلك نبيلة منيب (المصدر: انقر هنا) كبيرة المتياسرين المغاربة؛ ووصفِ السيد الريسوني، الذي يُنعت بالفقيه المقاصدي، والذي هو رئيس ما يُسمّى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الاتفاقيات التي وقّعها المغرب مع إسرائيل بـ «سياسة الاستنجاد بدولة العدو، دولة الاحتلال والعدوان والإجرام»، وقولِه بأن بلده المغرب طلب «النجدة الصهيونية، وعلى حساب القدس وفلسطين»، وبأن ذلك يشكّل سلوك الذل تحت الوصاية الصهيونية؛ وإعلانِه أن علاقات المغرب الرسمي «هي الآن تنغمس تماما في العشق الحرام مع العدو الصهيوني»، الذي لن يجني منه «سوى الاختراق والتوريط والخبال وشراء الذمم وصناعة العملاء» (المصدر: انقر هنا)؛ وبيانِ "اتحاد العلماء المسلمين" الذي يرأسه نفس السيد الريسوني، والذي جاء فيه أن ما أقدم عليه المغرب والإمارات من تحالفات «مع الكيان الصهيوني المحتل عمل مدان ومحرم شرعا وخيانة للعهد العمري، والصلاحي، ولحقوق الشعب الفلسطيني» (المصدر: انقر هنا)...، (عندما نقارن بين أقوال هؤلاء "المضبّعين" المغاربة) وبين أقوال وتصريحات المسؤولين الجزائريين الذين يردّدون فيها بأن الجزائر تواجه الصهاينة على الحدود الغربية، وأن استنجاد المغرب بهم لن ينفعه أمام قوة الجزائر(!)، سنلاحظ تطابقا بين الخطابين، إلى درجة أن السيد الريسوني لم يتحرّج من تكراره لنفس مضامين الخطاب العدائي والتحريضي للجزائر، ولنفس افتراءاتها الباطلة، ولنفس مصطلحاتها المُشيْطِنة للمغرب بسبب تطبيع علاقاته مع إسرائيل، ليستعملها هو أيضا، ولنفس السبب، ضد بلده. لنسأل السيد الريسوني: من يمارس "العشق الحرام"amour contre nature ؟ ذلك الذي يعشق الهوية الجماعية الأصلية لبلده ويحافظ على انتمائه الطبيعي والأصلي، أم الذي ينتحل الانتماء إلى هوية جماعية أجنبية ويتنكّر لجنسه ويعشق جنسا آخر مختلفا، ممارسا بذلك شذوذا جنسيا ـ أي قوميا وهوياتيا ـ يمثّل قمة "العشق الحرام"؟ ثم من يمارس العمالة ويصنع العملاء؟ هل الوفي لبلده عبر وفائه لهوية هذا البلد الجماعية التي صنعها الانتماء الجماعي إلى نفس البلد، والتي يدافع عن سيادتها واستقلالها وتميّزها عن هويات الشعوب الأخرى، أم الذي يُقصي هوية بلده ويجاهد من أجل إلحاقه، كتابع ذليل، بهويات بلدان أجنبية تفصلنا عنها آلاف الكيلومترات، ويروّج لبضاعتها الإيديولوجية الفاسدة والكاسدة، من وهابية وإخوانية وعروبية، معبّرا بذلك عن ولائه لجهات خارجية، ممارسا، من حيث الآثار والنتائج، عمالة مجانية لهذه الجهات دون أن تطلب منه ذلك؟ واضح أن هذه المواقف، العدائية والتحريضية، لهؤلاء "المضبّعين" (دائما بفتح الباء ثم كسرها) ضد بلدهم بسبب التطبيع، والتي تتطابق مع مواقف الجهات الخارجية المعادية للمغرب، تُبرز أن إيديولوجية التعريب، التي يغرفون منها مواقفهم العدائية والتحريضية هذه، إيديولوجية لا وطنية، تُنتج مثقفين يناهضون مصالح وأمن بلدهم، مثلما تناهض مواقفُ الجزائر المعادية للوحدة الترابية للمغرب مصالحَه وأمنَه. لماذا حرية التعبير للدفاع فقط عن القضايا العربية؟ ولا يعني رفضُ هذا الخطاب، العدائي التحريضي، الذي يروّجه هؤلاء المغاربة ضد مغربهم، رفضَ حقهم في انتقاد قرارات دولتهم، وحقهم في حرية التعبير والرأي والاختلاف مع سياسية الدولة. لكن لماذا لا بد أن ينصبّ هذا النقد دائما على القرارات ذات الصلة بفلسطين والقضايا العربية، مثل مسألة التطبيع مع إسرائيل؟ لماذا لم يكتب السيد الريسوني أن الحكم بعشرين سنة على من طالبوا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية عمل مدان ومحرّم شرعا؟ لماذا لم يعلن أن تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسبانيا، التي تحتلّ أجزاء من أراضيه، هو انغماس في "العشق الحرام" على حساب سبتة ومليلية؟ لماذا لم يقل إن التوظيف بالتعاقد عمل مرفوض شرعا؟ لماذا لم يستنكر التماطل في التفعيل الحقيقي والجدي لرسمية الأمازيغية، ويصرّح أنه عمل مدان ومرفوض شرعا؟ لماذا لم يصدر بيانا، باسم الاتحاد الذي يرأسه، يدين الفساد المتفشي بالمغرب ويُعرب فيه أنه محرّم شرعا؟... نريد بهذه الأسئلة، التي تنصبّ على قضايا مغربية، تبيانَ أن هناك ألف قضية وقضية مغربية كان من الأولى على السيد الريسوني وغيره من "المضبّعين" (دائما بفتح الباء ثم كسرها)، لو كانت له غيرة على قضايا بلده، أن ينتقد سياسة الدولة بشأنها. أما أن هذا النقد لا يظهر، وفي شكل عدائي تحريضي، إلا عندما يتعلّق الأمر بقرارات مغربية تُؤوّل على أنها لا تخدم مباشرة قضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى، فذلك ما يُثبت أن ما يدفع هؤلاء "المضبّعين" إلى إدانتهم لهذه القرارات هو نعرتهم العروبية العرقية التي غرسها التعريب، بالمعنى الذي سبق شرحه، في قلوبهم وأرواحهم حتى أصبح ولاؤهم لهذه القضايا العربية إيمانا متأصّلا وعقيدة راسخة، مع واجب تقديمهم البرهان في كل مناسبة على تجديد هذا الولاء من خلال التنكّر لهويتهم الأمازيغية والتجاهل التام لقضيا المغرب والمغاربة. مسؤولية الدولة: لكن لا يجب أن نحمّل كل المسؤولية في هذه المناهضة لاتفاقية التعاون بين المغرب وإسرائيل، والتي (المناهضة) يستفيد منها أعداء الوحدة الترابية، لعملاء الإيديولوجيات الأجنبية، المتخلّفة والمتطرّفة، على شاكلة السيد الريسوني وغيره من "المضبّعين" (دائما بفتح الباء ثم كسرها). فالدولة تتحمّل النصيب الأكبر في انتشار ثقافة "التضبيع" التي شحنت بها الأجهزة الإيديولوجية للدولة، مثل المدرسة والمسجد والإعلام، والإدارة...، عقولَ المغاربة، وغرست فيهم التنكّر لهويتهم الأمازيغية ولقضاياهم الوطنية، والهيامَ الجنوني بقضايا العروبة، والتشكيك في قرارات دولتهم عندما لا تخدم هذه القراراتُ هذه القضايا العربية. صحيح أن الدولة واجهت بعد الاستقلال ضغطا سياسيا قويا في اتجاه تعريب و"تضبيع" شاملين وكاسحين، يقابلهما إقصاء ممنهج للأمازيغية بدعوى أنها من مخلفات الاستعمار. إذا كانت الدولة قد استفادت مرحليا من سياسة التعريب و"التضبيع" باستعمالها هذه السياسة لضبط التوازنات ومواجهة خصومها السياسيين بنفس الإيديولوجية المشرقية التي كانوا يعارضون بها الدولة، كما يظهر ذلك في تبنّيها للقضايا القومية ثم للفكر الإسلامي الوهابي الذي فتحت له أبواب المغرب لمواجهة الإسلام السياسي، إلا أنها ستصبح بعد ذلك رهينة للإيديولوجيات الشرقانية التي سهّلت سياسة التعريب انتشارها بالمغرب، كما نلاحظ ذلك اليوم عندما أبرمت اتفاقيات أمنية وعسكرية مع إسرائيل، فأثار ذلك حفيظة سدنة المعبد المشرقي بالمغرب. مما يبيّن أن سياسة التعريب، بمعناه السياسي والعرقي والهوياتي والإيديولوجي، أصبحت تشكّل خطرا على مصالح المغرب وأمنه القومي، عندما يعارض هذه المصالحَ وهذا الأمنَ، باسم الإيديولوجية التعريبية، المتشبّعون بهذه الإيديولوجية التي أنفقت الدولة نفسها المال الكثير من أجل نشرها وزرعها بالمغرب. وليس هناك من وسيلة للتخلّص من هذه الإيديولوجية التعريبية اللاوطنية إلا بنشر وزرع ثقافة حب الأرض والارتباط بها عبر الارتباط بالهوية الجماعية التي صنعتها هذه الأرض، وهي الهوية الأمازيغية. وهذا يتطلّب غير قليل من الوقت لأن تغيير ما هو فكري وإيديولوجي ليس سهلا كتغيير ما هو مادي وملموس.
|
|