|
|
إذا لم يكن المالطيون عربا بعربيتهم، فلماذا سيكون المغاربة عربا بدارجتهم؟
بقلم: محمد بودهان
(29 ـ 03 ـ 2018) عندما تصنع الرغبةُ في التحول الجنسي الحقيقةَ على مُقاس هذا التحوّل: إحدى مشاكلنا المعرفية العويصة، نحن المغاربة خاصة وأبناء شمال إفريقيا عامة، هي أننا لا زلنا نفكّر في قضايا اللغة والهوية والثقافة والتاريخ...، ليس من خلال الأسباب الحقيقية لتفسير حقيقي لحقيقة هذه القضايا، بل من خلال النتائج التي نصنعها بأنفسنا كتعبير عن رغبتنا في ما يجب أن تُفسّر به وتكون عليه هذه القضايا. ثم، بعد ذلك، نصنع كذلك الوقائع والمعطيات التي نعتمد عليها كأسباب تؤدّي إلى تلك النتائج وتفسّرها. ولهذا فكل ما نفعله عندما ندّعي أننا نفسّر هذه القضايا هو أننا نبرّر ـ وشتان بين التبرير والتفسير ـ النتائج الجاهزة، التي صنعناها برغبتنا فيها، والتي تؤدّي إليها تلك الوقائع والمعطيات التي صنعناها بدورها لتكون أسبابا لتلك النتائج. فندور في حلقة مفرغة تكون فيها الأسباب نتائج والنتائج أسبابا. فمثلا عندما يقول التاريخ، الذي صنعناه، إن أول دولة في تاريخ المغرب هي الدولة العربية التي أنشأها الأدارسة، فإن "الحقيقة" التاريخية ليست نتيجة لما حصل بالفعل في التاريخ، أي ليست نتيجة للوقائع والمعطيات التاريخية الحقيقية التي تفسّر هذه النتيجة، وإنما هي تعبير عن رغبتنا في أن تكون أول دولة عرفها المغرب هي دولة عربية لتبرير انتشار العروبة العرقية في المغرب. ثم نصنع ونختلق المعطيات التاريخية التي تبرّر هذا التاريخ نفسه، ليس لأنه حصل وحدث بالفعل، بل لأننا نريده ونرغب فيه. فليست أحداث التاريخ الواقعية هي التي تفسّر كون أول دولة تأسست في المغرب هي دولة عربية، بل رغبتنا في ذلك هي التي صنعت تلك الأحداث، مع ما تعنيه من رغبة في أن يكون المغرب متحوّلا من جنسه الأمازيغي إلى الجنس العربي، ما دام أن عروبة هذا المغرب هي واقع تاريخي ثابت وقديم منذ أن تأسست أول دولة في المغرب، والتي كانت دولة عربية. كذلك نتجت عن الرغبة في هذا التحوّل إلى الجنس العربي معاداةُ الأمازيغية، وشيطنة الجنس الأمازيغي بربطه بالعنصرية والانفصال والتنصير. هذه النتيجة، التي تخص ارتباط الجنس الأمازيغي بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، ليست حصيلة للبحث في تاريخ الأمازيغيين وثقافتهم ونظمهم الاجتماعية والسياسية لنخلص إلى أن العنصرية والانفصال والعداء للإسلام هي خصائص ملازمة للأمازيغية والأمازيغيين، بل هي حصيلة لوقائع وأحداث "تاريخية" لا وجود لها، اختلقناها اختلاقا لنثبت بها هذا الارتباط "الأمازيغي" بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام. هذه الوقائع والأحداث هي ما يشكّل مضمون "الظهير البربري"، الذي صنعته نخبة من الأمازيغيين المتحوّلين المعادين لأمازيغيتهم وجنسهم الأمازيغي، ليستعملوه كسبب يفسّر خاصية العنصرية والانفصال والعداء للإسلام، التي تنسبها هذه النخبة المتحولة إلى الأمازيغ الأسوياء، أي الأمازيغ غير المتحولين. لكن بقدر ما أن هذا الحدث "التاريخي"، الذي يمثّله "الظهير البربري"، هو سبب يُفترض أنه سابق عن النتيجة، التي هي ارتباط الجنس الأمازيغي بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، فهو في نفس الوقت نتيجة لرغبة الأمازيغ المتحولين في أن تكون الأمازيغية أداة للعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، حتى يكون هناك سبب مشروع لرفض الجنس الأمازيغي، لارتباطه بالعنصرية والانفصال والعداء للإسلام، وإقبال على تغييره بالجنس العربي. ونفس الشي في ما يخص اللغة الدارجة. فلأننا نرغب في أن نكون عربا ونتحوّل من جنسنا الأمازيغي إلى الجنس العربي، فلذلك نعتبر الدارجة "دليلا" قاطعا على أننا عرب بحجة أننا نتكلّم لهجة أجدادنا العرب. فما يجعل الدارجة لهجة الأجداد العرب، ليس لأن هؤلاء الأجداد تكلموا هذ اللغة ونقلوها إلينا، وإنما لأننا نرغب في هذه النتيجة لأنها تبرر تحوّلنا الجنسي والهوياتي. فرغبتنا في هذا التحوّل، مع ما يؤدّي إليه من تنكّر لأمازيغيتنا، هي التي تحوّل الدارجة إلى لغة لأجدادنا العرب، وليس لأن أجدادنا الحقيقيين كانوا عربا. فالنتيجة، المعبّرة عن رغبتنا في أن نكون عربا، هي، في النهاية، السبب الذي يفسّر كوننا عربا. فهنا النتيجة هي التي تُنتج السبب وليس العكس، كما في منهج التفسير العلمي للظواهر. وحتى تؤكد الدارجة انتماءنا العربي المنتحَل، فإننا نختار المعطيات والأمثلة التاريخية واللسنية التي تُثبت عروبة الدارجة، وتثبت بالتالي انتماءنا العربي. وهكذا نستشهد مثلا باللهجات العربية لبلدان شبه الجزيرة العربية، لتبيان أن علاقة هذه اللهجات بالانتماء العربي للمتحدثين بها معطى بديهي لا يحتاج إلى برهان ولا إثبات، لنستخلص أن نفس العلاقة البديهية، التي تربط هذه اللهجات بالانتماء العربي للمتحدثين بها، تحكم علاقة الدارجة المغربية بالانتماء العربي للمغاربة الذين يتحدثونها، حيث تقوم هذه الدارجة شهادة حية على عروبة المتحدثين بها، مثلما تشهد لهجات البلدان العربية على الانتماء العربي لشعوب هذه البلدان. بداهة الانتماء العربي للشعب المالطي!: قلت: "نختار المعطيات والأمثلة التاريخية واللسنية التي تُثبت عروبة الدارجة". وهذا الاختيار هو ما يفسّر استبعاد معطيات وأمثلة أخرى لأنها لا تنسجم مع أطروحة عروبة الناطقين بالدارجة. ولهذا لا نجد باحثا، من المدافعين عن عروبة الناطقين بالدارجة، يستحضر حالة اللغة المالطية، مع أن المالطيين «يتحدثون لغة عربية، حاملة للتراث المغاربي»(1). وهذه اللغة تتكوّن من معجم عربي بنسبة قد تتجاوز 85%(2). وهي نسبة قد تفوق نسبة الكلمات ذات الأصل العربي في الدارجة المغربية. تقول "مارتين فانوف"Martine Vanhove ، وهي مديرة أبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، وأستاذة اللغة المالطية بالمعهد الوطني للغات وحضارات الشرق (inalco): «الثابت المؤكد أنه في 1090م، عندما أعاد "روجي هوتفيل" Roger de Hauteville، كونت صقلية، مالطا إلى حظيرة المسيحية، كان المالطيون يتكلّمون لهجة عربية. ولا تزال اللغة المستعملة إلى اليوم (2007) هي شكل متطوّر للعربية المغاربية، التي أصبحت هي اللغة المالطية، والتي هي اللغة الأم لسكان الأرخبيل الأربعمائة ألف. أما التحولات السياسية والدينية التي تلت عودة المسيحية فلم تغير شيئا من هذا الواقع اللغوي»(3). والأهمّ، على مستوى العلاقة بين اللهجات العربية والانتماء العربي المفترَض للناطقين بها كلغات فطرية، أن العربية المالطية لا تتشكل من كلمات عربية مصاغة بمعاني وتراكيب لغة مالطية أصلية سابقة عن وصول العربية إلى الأرخبيل، كما في الدارجة المغربية التي لا يمكن أن يكون أول الناطقين بها إلا أمازيغيين، كما يشهد على ذلك المعنى الأمازيغي لجزء من معجمها العربي، والصيغة الأمازيغية، كذلك، لتراكبيها غير الموجودة في العربية، فصيحة كانت أو لهجية. الشيء الذي يؤكد أن الدارجة لم يأت بها العرب، بل هي من إبداع الأمازيغيين أنفسهم، الذين أرادوا الكلام بالعربية فترجموا أمازيغيتهم حرفيا إلى العربية، مستخدمين كلماتها لكن بمعانِ وتراكيب أمازيغية، بسبب أن العربية لم تعد تستعمل المقابل لتلك المعاني والتراكيب في التخاطب اليومي. فالدارجة هي شهادة إذن على أن الناطقين بها هم أمازيغيون، ورثوا عن أجدادهم الأمازيغيين ـ وليس العرب ـ هذه اللغة الدارجة، والذين كانوا أول من استعملها ونطق بها كما تدلّ على ذلك البصمة اللسنية الأمازيغية الحاضرة بقوة في الدارجة(4). أما العربية المالطية فلا يمكن أن يكون أول مستعملها وناطق بها مالطيا أصليا لخلوها من أي أثر لسني للغة مالطية محلية سابقة، وخصوصا أنه لم توجد ـ أو لم تُعرف بعدُ ـ لغة مالطية فطرية أصلية ومحلية أولى، سابقة عن انتشار العربية بمالطا كلغة فطرية للسكان في أواخر القرن التاسع الميلادي، بعد أن غزا المسلمون الجزيرة سنة 870م. واللافت أنه بالرغم أن حكم المسلمين لمالطا لم يدم إلا قرنين، إذ طردهم منها المسيحيون بصفة نهائية في 1090م، وبالرغم من انتشار المسيحية من جديد بالجزيرة، وما نتج عن ذلك من انقطاع لكل علاقة بينها وبين العالم الإسلامي والعربي، وبالرغم من أن لغة الإدارة والسلطة والكتابة والتعليم أصبحت، منذ إجلاء المسلمين وحتى ترسيم المالطية في 1934، هي اللاتينية وبعدها الإيطالية ثم الإنجليزية(5)، إلا أن العربية المالطية ظلت، رغم كل ذلك، هي لغة التواصل اليومي للمالطيين. وهذا يعني أنها أصبحت، ومنذ نهاية القرن التاسع الميلادي إلى اليوم، لغة متأصلة كلغة أم (لغة فطرية)، وكلغة هوية مرتبطة بأرض مالطا كموطن لهذه اللغة وهذه الهوية، وخصوصا أنها لغة الشعب التي تُكتسب بالفطرة والسليقة، وليست لغة كتابية ونخبوية تُكتسب عن طريق التعلّم والمدرسة. وإذا عرفنا أن هذه اللغة لم تنتشر بمالطا إلا مع وصول العرب (المسلمين) إليها في أواخر القرن التاسع الميلادي، فهذا يعني أن الشعب المالطي، الذي احتفظ على هذه اللغة كلغته الأصلية والفطرية، هو سليل نفس الشعب العربي الأول الذي نشر هذه اللغة بمالطا. وما قد يؤكد، كذلك، الانتماء العربي للشعب المالطي الناطق باللغة المالطية (العربية المالطلية) كلغته الفطرية، هو أنها اللغة الوحيدة التي احتفظ بها هذا الشعب كلغته الأصلية. وهو ما لم يفعله بلغات أخرى وافدة وغازية، مثل الفينيقية والإغريقية والبونيقية (6) (البونيقية هي اللغة الفينيقية لشمال إفريقيا، والتي تختلف عن الفينيقية الأصلية بتأثير الأمازيغية فيها) واللاتينية والإيطالية. فإذا كان المالطيون قد احتفظوا على هذه اللغة، ذات الأصل العربي، وأهملوا غيرها من اللغات التي عرفتها بلادهم، فلا يمكن أن يُفسّر ذلك إلا لأنهم هم أنفسهم عرب، ومن بقايا العرب المسلمين الذين غزوا الجزيرة في 870 ميلادية. وبتصفّح الخريطة الجغرافية لمالطا، تستوقفنا كثرة الأسماء العربية للأماكن والمدن إلى درجة أن هذه الخريطة لو عُرضت على شخص يجهل أنها تخصّ دولة مالطا، لما شكّ لحظة أنها خريطة لبلد عربي أو شمال إفريقي، مثل المغرب والجزائر، لكون هذه الأسماء ذات صيغة مغاربية واضحة. لنتأمل عينة من هذه الأعلام الطوبونيمية: L-Imsida (المصيدة)، Gzira (جزيرة)، Għar Dalam (غار الظلام)، Wied il-Għasri (وادي العسري)، L-Għarb (الغرب)، Wied il-Mielaħ (وادي المالح)، Ir-Ramla L-ħamra (رّملا لحمرا = الرمل الأحمر)، Għajn Barrani (عين براني)، Triq L-Lmghallem (طريق لمعلم)، Il-Munxar (لمنشار)، Il-Qala (القلعة)، L-Lmdina (المدينة)، Il-Marsa (المرسى)، Il- Baħar (البحر)، Il-Mellieħa (لمليحة)، Iż-Żejtun (الزيتون)... والغريب أننا نجد حتى أسماء لمدن مغربية، مثل: Ir-Rabat (الرباط)، و In-Nadur (الناظور). واضح أن الأصل اللغوي العربي لهذه الأسماء بديهي ولا يحتاج إلى شرح ولا تأويل، كما لو أن الأمر يتعلق بمنطقة عربية لا يجادل أحد في عروبتها وانتمائها العربي. وكما لاحظنا بخصوص اللغة أنه لم توجد لغة مالطية أصلية سابقة عن العربية المالطية، مثل الأمازيغية السابقة عن الدارجة، فكذلك لم توجد طوبونيميا مالطية أصلية سابقة عن الطوبونيميا ذات الأصل العربي، عكس الطوبونيميا الأمازيغية التي سبقت التسميات الجغرافية ذات الأصل العربي ببلاد الأمازيغ، والتي (الطوبونيميا الأمازيغية) لا تزال متداولة ومستعملة، مثل: إفران، ازرو، مراكش، تيطّاوين، أشّاون، أكادير، أجدير، مليلت (مليلية)، أكلميم... ومع هذا السبق العربي التاريخي الأصلي، اللغوي والطوبونيمي بمالطا، كان ينبغي، بمنطق التعريبيين، أن تكون هذه الأخيرة أكثر "عروبة" من المغرب والجزائر، وحتى من مصر وسوريا والعراق. كل هذه العلاقة القوية التي تربط بين العربية المالطية، مع ما يندرج ضمنها من طوبونيميا عربية، وما قد يلازمها ويوازيها من هوية عربية لأصحاب هذه اللغة، كان سيبدو معها الانتماء العربي للمالطيين أمرا بديهيا، يجعل منهم شعبا عربيا في هويته وانتمائه تبعا للغته العربية التي يؤكد استعمالُها الفطري الانتماءَ العربي "الفطري" للناطقين بها. وهو ما ينتج عنه أن هذا الشعب المالطي، لو كان عربيا في انتمائه الهوياتي والقومي، لما كان ذلك يختلف، بالنظر إلى أن لغته الفطرية عربية، عن الانتماء العربي للشعب الكويتي مثلا. ففي كلتا الحالتين لن يثير هذا الانتماء العربي أسئلة ولا نقاشا نظرا لبداهته التي تكاد تفقأ العين. فالفرق الوحيد سيكون هو تفسير عروبة مالطا بكونها كانت أرضا شبه خالية إلا بقلة قليلة من السكان عند احتلالها من طرف العرب (المسلمين)، فكان ذلك بداية لغرس ونشر الهوية العربية بها وإلحاقها بالبلاد العربية كجزء من الوطن العربي. وهنا ستكون عروبة مالطا أكثر بداهة من عروبة العراق أو سوريا، لأن شعوبا معروفة كانت تقطن هذين البلدين قبل غزوهما من طرف العرب، مع وجود لغات خاصة بهذه الشعوب لا يزال بعضها مستعملا حتى اليوم مثل السريانية والكردية... العربية المالطية تكذّب الانتماء العربي للناطقين بالدارجة: لكن رغم بداهة الانتماء العربي للشعب المالطي، إلا أنه لم يسبق أن اعترف أنه عربي الهوية والانتماء، علما أنه يعتز بلغته ذات الأصل العربي ويدافع عنها ويعمل على تنميتها وتطويرها حتى جعل منها إحدى اللغات الرسمية للاتحاد الأوربي. هو يعترف فقط أنه ينتمي إلى موطنه بمالطا، ويفتخر أنه يستمدّ منها انتماءه الهوياتي، ويفتخر كذلك بلغته التي يتحدثها فطريا بمالطا نفسها كجزء من هويته المالطية. ولا يهمّ بعد ذلك أن أصوله قد ترجع إلى الفينيقيين أو العرب أو أمازيغيي تونس أو العبيد (يذكر المؤرخون أن مالطا كانت تأوي في القرون الوسطى الآلاف من العبيد(7)) أو صقلية أو إيطاليا، ولا أن أصول لغته ترجع إلى العربية أو غيرها. الشيء الذي يقرّ ويعتزّ به المالطيون هو أن هويتهم مالطية ولغتهم مالطية كذلك (يسمونها "مالطي")، تابعة في هويتها لموطنهم الذي هو مالطا. إذا كان هؤلاء المالطيون، ورغم أنهم لا يتوفرون على لغة أخرى قومية أصلية سابقة عن لهجتهم العربية، تقوم دليلا على قوميتهم الأصلية التاريخية غير العربية، كما هو شأن اللغة الأمازيغية بالنسبة للمغاربة، إلا أنهم مع ذلك لا يعتبرون أنفسهم عربا ولا ذوي انتماء قومي عربي، فإن الزعم أن المغاربة الناطقين بالدارجة هم عرب، سيكون خُلْفا صارخا، يناقض البداهات، ويصدم الحس السليم، ويتعارض مع مبادئ العقل والمنطق. حالة المالطيين الناطقين بلهجة عربية كلغتهم الفطرية والقومية، ودون أن ينتج عن ذلك أنهم ذوو انتماء قومي عربي، تكذّب إذن، وبشكل مُفحم ومُلجم، التعريبيين المغاربة الذين يعتمدون على الدارجة المغربية ليثبتوا أنهم ذوو انتماء قومي عربي لتبرير شذوذهم الجنسي والقومي، وتحوّلهم من جنسهم الأمازيغي إلى الجنس العربي. وبذلك فهم يثبتون في الحقيقة أنهم أمازيغيون متحوّلون جنسيا وقوميا وهوياتيا. ولهذا يتجنب هؤلاء الأمازيغيون المتحوّلون، عندما يناقشون موضوع الانتماء الهوياتي للمغاربة، إثارة حالة اللغة والهوية المالطيتين لأنها تفضح تحوّلهم الجنسي، وتفنّد عروبتهم المنتحلة والمزعومة. هل نحن أمازيع عرّبنا الإسلام؟: لا شك أن هؤلاء الأمازيغ المتحولين، المرتدّين عن هويتهم الأمازيغية والمنتحلين للانتماء العروبي، سيلجأون، بعد تقويض الحالة المالطية لحجة اللغة الدارجة التي كان يبرر بها هؤلاء المتحوّلون شذوذهم الجنسي والقومي، أي عروبتهم المنتحَلة، (سيلجأون) إلى سلاح الإسلام كما يفعل التعريبيون دائما عندما يجدون أنفسهم في مأزق. سيقولون إن المالطيين، إن لم يكونوا عربا في انتمائهم القومي رغم أن لغتهم عربية، فذلك لأنهم مسيحيون وليسوا مسلمين، مثل أمازيغ شمال إفريقيا الذين عرّبهم الإسلام أولا قبل اللغة الدارجة. وهذا يعني أن المالطيين لو كانوا مسلمين لكانوا عربا في انتمائهم تبعا للانتماء العربي للغتهم. تبرير تعريب الأمازيغ بالإسلام حيلة قديمة جديدة، يستعملها التعريبيون كلما فشلت حيلهم الأخرى التي تعتمد على اللغة الدارجة وهجرة بني هلال. وإذا كان الجزائري عبد الحميد بن باديس، كما يُنسب إليه ذلك، هو أول من قال: «كلنا أمازيغ عرّبنا الإسلام»، فقد تحوّلت هذه المقولة بالجزائر إلى شبه فتوى رسمية تجيز سياسة التعريب، بعد أن كرّرها عدد من مسؤولي الدولة، بما فيهم الرئيس الحالي السيد عبد العزيز بوتفليقة التي ردّدها في تجمع خطابي له ببجاية خلال حملته الانتخابية لرئاسيات 2009. لنحلّل مضمون هذه المقولة بمزيد من التفصيل والتوضيح. ـ فكرة أن سكان شمال إفريقيا أمازيغ عرّبهم الإسلام، ورغم أنها تسيء إلى هذا الإسلام لأنها تجعل منه دينا قوميا وتُسند له مهمة جديدة لم يأت من أجلها، وهي مهمة تعريب الأقوام غير العربية، إلا أننا، مسايرة لمنطق الأمازيغيين المتحوّلين، سنقبلها ونرحّب بها، لأنها تتضمن اعترافا أن سكان شمال إفريقيا هم أصلا أمازيغيون. وهو ما يتنافى مع أطروحة التعريبيين من الأمازيغ المتحوّلين، الذين لا يكتفون بالقول إن الإسلام هو الذي عرّب الأمازيغ، بل يستشهدون بالأنساب العربية المزعومة للمتحوّلين ليثبتوا أن الأصول العرقية والقومية لهؤلاء الأمازيغ المتحولين هي عربية، وليست أمازيغية ثم عرّبهم الإسلام بعد ذلك، فضلا عن استشهادهم بالقبائل العربية التي يزعمون أنها استقرت بالمغرب، والتي ينحدرون منها وينتسبون إليها. نحن هنا أمام عروبة عرقية خالصة، أساسها العرق والنسب والجينات، وليس الدين والإسلام، الذي لا يستنجد به الأمازيغ المتحوّلون إلا لإخراجهم من المأزق الذي يؤدي إليه منطقهم العرقي الذي يتبنونه لتبرير تحوّلهم الجنسي. ـ تفسير غياب الانتماء القومي العربي لدى المالطيين ـ رغم لغتهم العربية ـ بحضور المسيحية وغياب الإسلام، تفسير لا يستقيم مع حضور الانتماء القومي العربي القوي لدى العرب المسيحيين، الذين يدافعون عن انتمائهم القومي العربي أكثر مما يفعل العرب المسلمون، بدليل أن حركة القومية العربية ظهرت تاريخيا عند هؤلاء العرب المسيحيين وليس عند العرب المسلمين. ولهذا فلم يكن هناك ما يمنع المالطيين بأن يكونوا عربا وهم مسيحيون. ـ كان من الممكن استحضار الدين كعامل في تحديد الانتماء القومي للمالطيين، لو أنهم يُرجعون مصدر انتمائهم القومي إلى أحد البلدان الأوروبية المسيحية، مثل إيطاليا، وخصوصا صقلية التابعة لها والتي لا تبعد عن مالطا إلا بثمانين كيلومترا، والتي منها جاءتهم، في 1090، المسيحية والمسيحيون الذين طردوا المسلمين ونشروا المسيحية التي ظلت دين المالطيين منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. فلو كانوا يستمدون انتماءهم القومي من إيطاليا مثلا، مع ما تضمه من إقليم صقلية، باعتبارها جارة ومصدرا لدينهم المسيحي، لبدا الأمر معقولا وطبيعيا، وهو ما كان سيؤكده التأثير الثقافي واللغوي والحضاري والاقتصادي والبشري القوي لإيطاليا على مالطا منذ القرون الوسطى. لكن المالطيين لم يسبق لهم، ليس أن أعلنوا، بل مجرد أن فكّروا أنه من الممكن أن يكونوا ذوي هوية إيطالية أو سيسيلية بسبب الروابط الدينية التي تجمعهم مع جيرانهم الإيطاليين. لأنهم، بكل بساطة، لم ولن يشكّوا يوما في أنهم مالطيون وهويتهم مالطية وقوميتهم مالطية، ولم ولن يبحثوا عن انتماء قومي لهم خارج انتمائهم المالطي. وهو ما يفتخرون ويجاهرون به أمام الشعوب كخصوصية هوياتية تميّزهم عن باقي الشعوب الأخرى. ولا يصحّ الرد أن المغاربة هم كذلك لا يشكّون في أنهم مغاربة وهويتهم مغربية وقوميتهم مغربية. فالانتماء المغربي، في حالة المغرب، يخص الجنسية وليس الهوية التي هي أمازيغية عند الأمازيغ الأسوياء وعربية عند المتحوّلين منهم. دروس المالطيين للأمازيغ المتحوّلين: حالة الشعب المالطي، الفخور بهويته المالطية، المتمسّك بجنسه الأصلي والطبيعي، الرافض للتحول إلى أي جنس أجنبي آخر من خارج موطنه بمالطا، هي درس بليغ للأمازيغ المتحوّلين من جنسهم الأصلي الطبيعي إلى جنس أجنبي من خارج موطنهم بشمال إفريقيا. وأبلغ ما في هذا الدرس هو أن المالطيين بقدر ما يعتزون بهويتهم المالطية، بقدر ما يعتزون كذلك بلغتهم ذات الأصول العربية، والتي يعتبرونها لغتهم الهوياتية المالطية، دون أن يُغريهم أصلها العربي على أن ينتحلوا لأنفسهم هذا الأصل، مبررين ذلك بكون لغتهم عربية، كما يفعل الأمازيغ المتحوّلون، الذين جعلوا من لغتهم الدارجة مطية للتطبيع مع هذا التحوّل الجنسي، فقط لأن هذه اللغة تضم معجما ذا أصل عربي، رغم أن معانيها وتراكيبها، التي لم تعد تستعملها العربية في التخاطب الشفوي، هي أمازيغية، عكس العربية المالطية التي لا تحتوي على أي أثر لسني للغة مالطية أصلية سابقة، كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك. وعندما يأبى المالطيون أن يكونوا عربا رغم أن لغتهم عربية، فلا يعني ذلك أنهم يكرهون العرب أو يمقتون الجنس العربي. بل يعني ذلك أنهم يكرهون التحوّل الجنسي ويمقتون انتحال الصفة، اللذيْن أصبحا مهنة يتقنها الأمازيغ المتحوّلون. ولهذا لو كان كرههم للعرب وراء رفضهم أن يكونوا عربا، لرفضوا لغتهم العربية أيضا، ولما جعلوا منها لغتهم الوطنية والرسمية، وفرضوا حتى على الاتحاد الأوروبي أن يعترف بها ضمن لغاته الرسمية المعتمدة. وبحبّهم للغتهم العربية المالطية ورفضهم لتغييرها بالإيطالية أو الإنجليزية رغم أن هذه الأخيرة هي لغتهم الرسمية الثانية، وبترقيتهم لها إلى لغة الكتابة والتعليم والإعلام، ولغة الدولة ومؤسساتها، يعطي المالطيون درسا آخر للأمازيغ المتحوّلين والتعريبيين الذين يهاجمون الدارجة المغربية، ويحتقرونها ويعارضون تنميتها والنهوض بها لتكون لغة للتعليم والتدريس، واصفين إياها بلغة الشارع والحانات والمواخير... فإذا كانت الدارجة المالطية قد جعل منها الناطقون بها لغة كتابية وتعليمية تدرّس بها العلوم والتكنولوجيا، وتُستعمل في مجال الاقتصاد والأعمال والمال، فما الذي يمنع الدارجة المغربية في أن تقوم بنفس وظائف الدارجة المالطية؟ المانع ليس هي الدارجة في حد ذاتها، والدارجة المالطية شهادة على ذلك، وإنما المانع هو عاهة وفاحشة التحوّل الجنسي، التي تجعل أصحابها المتحوّلين يخافون أن يكونوا ما هم عليه، أي أسوياء مطابقين لذواتهم، وفي انسجام مع طبيعتهم وجنسهم. ولهذا فهم يرون أنه بدون العربية، التي لا يتكلّمها أحد، لن يكونوا عربا. ولذلك فهم يرفضون الدارجة التي يتكلّمها ويفهمها الجميع، والتي يعترفون بقيمتها فقط عندما يستحضرونها كدليل على شذوذهم الجنسي، الهوياتي والقومي. اعتزاز المالطيين بلغتهم العربية المالطية، هو درس كذلك للأمازيغ الأسوياء، أي الواعين بهويتهم الأمازيغية والمحافظين على جنسهم الأمازيغي، الذين يعادون الدارجة لأنهم يعتبرونها لغة عربية تُستعمل لتعريب الأمازيغ، واقعين بذلك في الفخ الذي نصبه لهم الأمازيغ المتحوّلون، أصحاب أطروحة عروبة الدارجة، مع أن هذه الدارجة المغربية أمازيغية، منشأ وموطنا واستعمالا، أكثر مما هي العربية المالطية لغة مالطية، لأن نشأة هذه الأخيرة كانت خارج مالطا، عكس الدارجة المغربية. ويعطي المالطيون درسا آخر كذلك للمدافعين عن الدارجة، المطالبين بالانتقال بها إلى مستوى لغة كتابية تُستعمل في التدريس والإعلام. هذا الدرس هو أنه لا يمكن النهوض بالدارجة باستعمال الأبجدية العربية لكتابتها، إذ الحرف الأنسب لها ولتنميتها وترقيتها هو الحرف اللاتيني أو الحرف الأمازيغي، المعروف والمنتشر اليوم بالمغرب. إحالات: 1- Malte, Encyclopédie Universalis. 2- Martine Vanhove, "La langue maltaise, un carrefour linguistique" - http://llacan.vjf.cnrs.fr/fichiers/Vanhove/carrefour%20REMMM.pdf 3- Martine Vanhove; "A Malte, une langue inscrite dans l’histoire", le monde diplomatique, Octobre 2007 - https://www.monde-diplomatique.fr/2007/10/VANHOVE/15246. 4 – مزيد من التفاصيل ضمن موضوع: "متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟"، على رابط "تاويزا": http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/darija.htm 5 – "La langue maltaise, un carrefour linguistique", op. cit. 6 – "A Malte, une langue inscrite dans l’histoire", op. cit. 7- Ibid.
|
|