|
|
عندما يُستعمل القضاء للقضاء على العدالة
بقلم: محمد بودهان (17 ـ 09 ـ 2017) عندما نتأمل الأحكام الظالمة والقاسية التي أصدرتها محاكم الحسيمة في حق العديد من معتقلي حراك الريف، والتي كانت عبارة عن مجرد مصادقة على المحاضر الملفّقة والمفبركة للشرطة القضائية، قد يخطر ببالنا أن الضحية ـ في هذه المحاكمات الجائرة والصورية، التي تجري على شكل مسرحيات رديئة وسيئة الإخراج والتمثيل، وبلا إثارة ولا تشويق لأن الخاتمة معروفة مسبقا ـ ليس هم المعتقلون وحدهم، وإنما أيضا العدالة، التي تُذبح على محراب القضاء، الذي يُفترض ـ ويا لهول المفارقة ـ أنه أداة لحماية هذه العدالة. ولهذا فعندما نطالب بالإفراج عن المعتقلين، فيجب كذلك أن نطالب بالإفراج عن العدالة، التي تعتقلها محاضر الشرطة القضائية، ثم القضاء الذي يقضي عليها باستعمال تلك المحاضر. فحتى تعابير من قبيل: "محاكمات صورية"، "أحكام ظالمة"، لم تعد كافية للتعبير عن بشاعة المذبحة التي تتعرض لها العدالة على يد "حاميها" القضاء، بمناسبة محاكمة نشطاء حراك الريف. لأن هناك وقائع تتعدّى الصورية والظلم لتصل إلى مستوى العبثية والسريالية، مثل ـ كما أخبرنا بذلك مشكورا أحد المحامين الفضلاء على الفايسبوك ـ إرفاق المحضر، الذي حررته الشرطة القضائية للمتهمين، بشواهد طبية لرجال أمن قصد استعمالها لإثبات تعرّضهم لإصابات جسدية بسبب اعتداء المتهمين عليهم. وهو ما استعملته ـ بطبيعة الحال ـ النيابة العامة كدليل للإقناع باعتداء الموقوفين على رجال القوات العمومية. أليست مثل هذه المحاضر تلامس، بفرادة الطريقة التي تلفّق بها التهم للأبرياء كما سأوضح ذلك، العبثية والسريالية؟ ولهذا سهل على المحامي الفاضل أن يُخرس ممثل النيابة العامة عندما طلب منه أن يقرأ فقط ما هو مكتوب في تلك الشواهد. بل تحدّاه إن هو فعل فسينزع عنه بذلة الدفاع وينسحب من القاعة معترفا أنه "يخربق" لا غير. طبعا لم يغامر المحامي الفاضل بهذا التحدّي إلا لأنه يعرف أن ما هو عبثي لا يمكن أن يصمد أمام ما هو جدّي، وما هو "سريالي" Surréel (ما فوق الواقع، غير واقعي، خيالي) لا يمكن أن يحلّ محلّ ما هو واقعي ("ريال" Réel) وحقيقي. فكيف لممثل للنيابة العامة أن يطالب بإدانة متهم بناء على وثائق هو نفسه (ممثل) عاجز عن قراءتها وفهم مضمونها؟ قد يتبادر إلى الذهن أن "المغرّق"، كما يطلق على ممثل النيابة العامة في اللغة الشعبية، عجز عن قراءة الشواهد الطبية بسبب خطها غير الواضح الذي يكتب به غالبية الأطباء. لكن عندما نطّلع، ضمن مجموع عدد الشواهد الذي هو خمس، على ثلاث منها حررها أطباء بمقر المديرية الإقليمية للأمن بالحسيمة، سنلاحظ أنها خالية من ذكر أية أضرار عاينها الطبيب على جسد طالب الشهادة، باستثناء ذكر مدة الراحة الممنوحة لطالبي الشواهد. أما في الشهادتين المسلّمتين من طرف المركز الاستشفائي الإقليمي بالحسيمة، المحررتين على المطبوع النموذجي الذي أعدته وزارة الصحة لهذا الغرض، فإن خانتيهما، المخصصتين لمعاينات الطبيب وتحديده لأنواع الأضرار الجسدية التي يُفترص أن يكون الاعتداء على رجلي الأمن قد تسبب لهما فيها، حسب ادعاء النيابة العامة، تضمنتا، وبخط مقروء وواضح، وبالعربية من فضلكم، ما يلي: «لا شيء» في الأولى، و«لم تتم معاينة أي شيء» في الثانية. وفقط بعد انتهائنا من قراءة محتوى هذه الشواهد، سنفهم لماذا تحدّى المحامي الفاضل ممثل النيابة العامة وأفحمه، ولماذا لم يستطع الأخير قراءة الشواهد التي اعتمد عليها كدليل على اعتداء المتهمين على رجال الأمن. لأنه لو قرأها فسيكذّب هو نفسه ادعاءه أن المتهمين ألحقوا أضرارا جسدية برجال الأمن حسب ما "تثبته" شواهدهم الطبية. لكن امتناعه عن قراءتها هو اعتراف كذلك أن ما تتضمنه الشواهد مخالف لما أكده، وإلا لكان قد قرأ ما هو مدوّن في تلك الشواهد. مع أن هذه الشواهد، حتى لو أثبتت أن أصحابها يحملون فعلا آثار الاعتداء الذي تعرضوا له، فهي لا تثبت أن المعتدين هم الماثلون أمام هيئة الحكم. وهذا لا يعني أننا لا نتضامن مع رجال الأمن الذين تعرضوا حقيقة، لا ادعاء، لاعتداء من طرف أي كان، أو أننا لا ندين من اعتدى عليهم حقا وليس من تتهمه النيابة العامة باطلا بذلك الاعتداء، دون تقديم دليل مادي واحد على حصوله. الخلاصة التي نخرج بها من تفحّصنا لهذه الشواهد، هي أن الثلاث الأولى، وكما شرح ذلك المحامي الفاضل في تدوينته على الفايسبوك، لا علاقة لها بأي ادعاء لأصحابها أنهم تعرضوا لأي اعتداء. وإنما هي شواهد "محايدة" طلبها المعنيون قصد أخذ قسط من الراحة بسبب التعب والإرهاق، ودون أن تكون لهم أية نية لاستعمالها لتوريط نشطاء الحراك. أما الشهادتان الأخريان، فرغم أن صاحبيهما صرّحا أنهما تعرضا لاعتداء أثناء تفريق تظاهرة، إلا أن الطبيب الذي فحصهما نفى وجود أي أثر لذلك الاعتداء على جسديهما. إن مثل هذا المحاضر تكشف لنا، وبشكل فاضح ووقح، كيف تُلفّق الاتهامات وتٌفبرك الوقائع، بطريقة تُذبح فيها العدالة من الوريد إلى الوريد، أي منذ قرار اعتقال المتهم إلى حين النطق بالحكم عليه بالسجن. واللافت في هذه "الفبركة" للتهم قصد الزج بمواطنين أبرياء في السجن، والتي تعتمدها النيابة العامة للمطالبة بالإدانة استنادا إلى مثل الشواهد الطبية المشار إليها، أن هذه الأخيرة ليست وثائق مزوّرة، وإنما هي شواهد سليمة ونزيهة، لكنها استعملت من أجل قلب الحقائق واختلاق وقائع لتوريط المتهم البريء من تلك الوقائع. وإذا كان من الممكن أن نلتمس الأعذار لمنجزي هذه المحاضر من ضباط الشرطة القضائية، الذين أدرجوا تلك الشواهد كجزء من أدلة الإدانة، بإرجاع ذلك إلى جهلهم (وهو أمر مستبعد) بالقانون والمسطرة، أو إلى تضامنهم مع رجال الأمن الذين يعملون تحت إمرتهم، والذين صرّحوا لهم أنهم تعرضوا للاعتداء والإيذاء من طرف الموقوفين، إلا أن احتفاظ النيابة العامة بنفس الشواهد لاستعمالها كأدلة على الاعتداء المفترض للموقوفين على رجال الأمن، وهي تعلم علم اليقين أن تلك الشواهد تنفي ـ ولا تثبت كما ادعت قبل أن يُخرسها محامي الدفاع ـ تعرّض رجال الأمن لأي ضرب أو اعتداء، يجعل العدالة، التي يُفترض أن النيابة العامة تحميها وتدافع عنها بصفتها جهة قضائية، عدالة "بوليسية"، أي تلك العدالة التي تقررها المحاضر المنجزة بمقرات الشرطة وليس ما تقرره المحاكم، التي تكتفي بالاستجابة "لملتمسات" البوليس التي تتبنّاها وتدافع عنها النيابة العامة، كما رأينا نموذجا من ذلك الدفاع في الملف المفبرك من الشواهد الطبية. في صكوك الاتهام التي يُحاكم بها نشطاء الحراك بالحسيمة، تتكرر في الغالب تهمة "إهانة رجال القوة العمومية اثناء مزاولتهم لمهامهم وممارسة العنف في حقهم...". وهو ما يُستنتج منه أن الطرف المشتكي والمتضرر هم رجال القوة العمومية، الذين تعتبر الشرطة جزءا منهم. فكيف تتكلّف الشرطة نفسها، من خلال ضباطها، بجمع الأدلة التي تدين المتهمين، مع أن هذه الشرطة نفسها هي طرف مشتكٍ ومتضرر؟ كيف تكون عادلةً المحاكمةُ التي يُسمح فيها للمدّعي أن يصنع بنفسه الأدلة التي يدين بها خصمَه المدّعى عليه؟ إنه شيء يتنافى مع المبادئ العامة للعدل، حتى لو كان القانون لا يمنع ذلك. وقد جاء في الصحيحين أن الرسول (صلعم) قال: «لو يُعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم. لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر». وهو ما يستفاد منه وجوب عدم الأخذ بالحجة التي ينشئها المدّعي بنفسه ضد غريمه. في هذه الحالة التي تكون فيها الشرطة طرفا متضررا ومشتكيا، كان الأجدر تكليف الشرطة القضائية للدرك الملكي بالبحث التمهيدي. وهذه مسطرة معروفة ويجري بها العمل في العديد من الملفات والقضايا التي تكون في الأصل من الاختصاص الترابي للشرطة. وحتى إذا كانت النتائج والأحكام، بالنسبة لهذه الملفات الجنائية لحراك الريف التي يُسند فيها البحث التمهيدي للدرك الملكي، سوف لن تختلف كثيرا عما تكون عليه عندما تتكلف فيها الشرطة بنفس البحث التمهيدي، إلا أن هذه الصيغة قد تضفي، على الأقل، قليلا من المصداقية على محاضر الشرطة القضائية. هذه المذبحة التي تُقترف في حق العدالة من طرف القضاء المستعمَل للقضاء عليها، تسائل محامي الدفاع، وتضعهم أمام اختيار صعب جدا: هل سيواصلون الدفاع عن المعتقلين وهم يعرفون أن دفاهم لن يغيّر شيئا من الأحكام المقررة سلفا؟ وفي هذه الحالة سيكون دفاهم مجرد ديكور يؤثث به النظام المخزني محاكماته الصورية، ويستعمله لمغالطة الرأي العام الوطني والدولي أن شروط المحاكمة العادلة متوفرة في محاكمة نشطاء الحراك، كما يدلّ على ذلك الحضور الكثيف للمحامين المؤازرين للمعتقلين. أم سيقاطعون جلسات المحاكمات احتجاجا على افتقارها إلى أدنى شروط المحاكمة العادلة، ولاستنادها إلى محاضر ملفّقة ومفبركة؟ وفي هذه الحالة سيُخلّون بواجبهم في مؤازرة المعتقلين والدفاع عنهم. الأحكام الظالمة التي تُصدرها محاكم الحسيمة في حق الريفيين، والتي ستصدرها قريبا محاكم الدار البيضاء، هي ظالمة أولا للعدالة قبل أن تكون ظالمة لهؤلاء الريفيين. لأن ظلم هؤلاء هو نتيجة لما تتعرض له العدالة من ظلم. فلو كان القضاء منصفا لمخدومته العدالة، لكان من المنطقي، وبالنتيجة، أن يكون منصفا لأولئك الأبرياء الذين ظلمهم باسم العدالة، التي ظلمها بإجبارها أن تكون عدالة ظالمة. وبذلك يكون قد نجح في القضاء عليها، لأن العدالة إذا كانت ظالمة، فمعنى ذلك أنه قُضي عليها. ولهذا لن أتعب، بخصوص هذا الاستعمال للقضاء من أجل القضاء على العدالة، من التذكير بما كتبه "مونتسكيو" (Montesquieu)، لأن كلامه ينطبق تمام الانطباق على مظاهر استبداد الدولة المخزنية، ومأساة العدالة المغربية. لقد كتب يقول: «ليس هناك استبداد أسوأ من ذلك الذي يُمارس باسم القانون وتحت غطاء العدالة». |
|