|
|
خرافة وحقيقة "أن التحقيق سيذهب بعيدا"
بقلم: محمد بودهان (25 ـ 08 ـ 2017) بمجرد تسرّب فقرات من تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، بداية يوليوز 2017، تفيد أن معتقلي حراك الريف كانوا ضحية تعذيب مورس عليهم، سارعت مديرية الأمن الوطني إلى إصدار بلاغ تستنكر فيه ما جاء في التقرير المسرّب، وتنفي أن يكون المعتقلون المعنيون قد تعرّضوا لأي تعذيب أو أية ممارسة مخالفة للقانون. لكن إذا كان جهاز الأمن هو المتهم بممارسة التعذيب على المعتقلين، فكيف نصدّق ما جاء في بلاغه الذي ينفي تلك الممارسة؟ يجب أن تكون هناك جهة، من غير جهاز الأمن، هي التي تثبت أو تنفي حصول التعذيب. ومعلوم أن هذه الجهة هي القضاء. لكن حتى على فرض أن القضاء قام بالمتعيّن وعرض مدّعي التعذيب على الخبرة الطبية، وفتح تحقيقا قضائيا بناء على نتائج تلك الخبرة، فالراجح أن تبقى نتائج التحقيق مجهولة بدعوى "سرية" هذا التحقيق، هذه "السرية" التي غالبا ما تعني قبر القضية. ولهذا لما سئل وزير العدل السيد أوجار، الذي سبق أن صرّح، داخل لجنة العدل والتشريع، بأنه رفع تقرير مجلس حقوق الإنسان بخصوص مزاعم تعذيب معتقلي الريف إلى القضاء، حول مصير ذلك التقرير، أجاب بأن التحقيق حول الموضوع محاط بالسرية. مع أن سرية التحقيق، عندما تكون شبه أبدية لا نهاية لها للكشف عن نتائجها، تساوي عدم التحقيق، لأن لا أحد من المسؤولين المتورّطين ستمسّه نتائج ذلك التحقيق التي تبقى مجهولة، وبالتالي كأنها غير موجودة. ففي هذه الحالة، يكون الغرض من التذرّع بالسرية، ليس هو مصلحة العدالة التي من أجلها قرر المشرّع مبدأ سرية التحقيق، وإنما مصلحة الذين قد يثبت التحقيق تورّطهم في الممارسة المخالفة للقانون، وذلك بإبقائهم "سريين"، أي غير معروفين، حتى لا يُقدموا إلى العدالة وينالوا ما يستحقونه من عقاب. إنها، بكل بساطة، طريقة أخرى للإفلات من العقاب. لكن إذا كانت الجهات المتهمة بتعذيب معتقلي حراك الريف تتهرّب من مسؤوليتها عن ذلك، إما بمجرد نفيها لادعاءات المعتقلين بمبرر افتقارها إلى دليل، أو بالاحتماء بسرية التحقيق التي لا نهاية لها، والتي تجعلهم في منأى عن أية مساءلة أو متابعة، لأن التحقيق لم يكشف عن النتائج ولا عن الأشخاص المتورطين، فإن التعذيب النفسي لناصر الزفزافي بتصويره شبه عارٍ مع نشر ذلك على الأنترنيت، هو فعل مشهود ارتكب أمام الملايين الذين يكونون قد شاهدوه على الأنترنيت. والتجرؤ على تصوير ونشر ذلك الفيديو، الذي ينقل تلك الفعلة الشنعاء والنكراء على الملأ، يقدّم الدليل على مدى استخفاف المسؤولين عن هذه الجريمة بالقانون، ما دام أنهم لم يحاولوا إخفاءها ولا نفيها، بل أرادوا، على العكس من ذلك، وفي تحدٍّ سافر للقانون، أن يكون الشهود على جريمتهم بالملايين. وهو ما يعني أن هؤلاء الجناة لم يتجاسروا على اقتراف هذا الجرم المشهود إلا لأنهم واثقون أنهم في منأى عن أية مساءلة. وهذا صحيح لأن الجريمة هي جريمة دولة وليست جريمة أشخاص، وإلا لتابعت الدولة هؤلاء الأشخاص. وهذه الجريمة البشعة، التي تشكّل تعذيبا نفسيا، ومسّا بالكرامة، وانتهاكا لحرمة الجسد لمعتقل موضوع تحت مسؤولية الدولة، لا تحتاج، نظرا لطابعها التلبّسي المعروض على الأنترنيت، إلى تحقيق وخبرة قد يستغرقان وقتا لأثبات وقوعها حتى تتم، بناء على ذلك، متابعة مرتكبيها. نعم لقد صرّح وزير حقوق الإنسان السيد الرميد "أن التحقيق سيذهب بعيدا" بخصوص هذه الفضيحة. كما أعلن الوكيل العام لاستئنافية البيضاء، عبر بلاغ رسمي بتاريخ العاشر من يوليوز 2017، أنه أمر بفتح تحقيق حول الموضوع. وقد مر الآن (نحن في 25 غشت 2017) شهر ونصف على صدور بلاغ الوكيل العام دون أن يُعرف شيء عن مآل ونتائج هذا التحقيق، بدعوى، كما العادة، أنه "سري". مع أن الكشف عن المسؤولين عن ذلك الفيديو قد لا يتطلب مجهودا كبيرا ولا وقتا طويلا، كما في حالة شبكة دولية تتاجر في تصوير معتقلي الريف عراة، لو كانت هناك رغبة حقيقية في الكشف عن هؤلاء المسؤولين وتقديمهم للعدالة. مما يؤكد أن الفعل، رغم أن منفّذيه، من بين الموظفين والأمنيين، هم أشخاص طبيعيون، هو جريمة تُنسب للدولة، التي أرادت بها أن تهين القائد الزفزافي بتعريته، لكنها عرّت في الحقيقة على عورتها التي ظهرت بلا غطاء قد تتستّر به على بشاعة الأساليب الحاقدة والانتقامية والمهينة التي تتعامل بها مع الشرفاء والشهام، توهّما منها أنها بذلك قد تُنقص من رمزيتهم وتُبخس من مكانتهم عند الشعب. والمفارِق في التحقيق الذي أمر به الوكيل العام أن الشرطة هي من أُسندت لها مهمة القيام به. وهو ما يطرح السؤال التالي: كيف لمتهم بارتكاب جريمة أن يُكلّف هو نفسه بالتحقيق فيها؟ ومن هذه الجريمة، التي ارتكبت في حق البطل الزفزافي، والتي لا يمكن إنكارها ولا إخفاؤها لأنها ارتكبت بشكل علني ومشهود، نستنتج حجم الجرائم، التي تدخل في التعذيب الجسدي والنفسي لمعتقلي الحراك، والتي تكون قد ارتكبت في حقهم أثناء فترة الحراسة النظرية، والتي لم تُنشر عنها تسجيلات توثّقها وتشهد عليها، وخصوصا أنهم أكدوا أمام قاضي التحقيق بأنهم تعرّضوا للضرب والإهانة، وتم تصويرهم وهم شبه عراة، وفيهم من كانوا عراة بالكامل، وأُخذت لهم عينات من لعابهم لاستخراج حمضهم النووي بدون رضاهم وبدون أي أمر قضائي. إنها انتهاكات بالجملة تعصف بكل ادعاءات المسؤولين أن اعتقال ومتابعة موقوفي حراك الريف، تجري في احترام كامل للقانون والمساطر. وتنضاف إلى قضية التحقيق الذي أمرت به النيابة العامة بخصوص تصوير الزفزافي شبه عارٍ، دون أن تظهر نتائجه، قضية التحقيق في مقتل الشهيد عماد العتابي جراء الاستعمال المفرط للقوة والعنف، من طرف القوات العمومية لتفريق تظاهرة سلمية بالحسيمة ليوم 20 يوليوز 2017. فقد أكد الوكيل العام بالحسيمة، هو كذلك، أن التحقيق في أسباب وفاة العتابي «ستذهب إلى أبعد مدى، وفور انتهائها سيتم ترتيب الآثار القانونية عليها وإخبار الرأي العام بالنتائج التي تم التوصل إليها». لكن من خلال التعتيم الذي لفّ قضية المرحوم العتابي منذ إصابته البليغة في الرأس يوم 20 يوليوز 2017، وتهريبه من الحسيمة إلى المستشفى العسكري بالرباط، ومنع عائلته من الاطلاع على التقرير الطبي، ومن رؤيته قبل الدفن...، نستنتج "المدى الأبعد" الحقيقي الذي سيذهب إليه التحقيق. هذا النوع من "التحقيقات"، التي يكون الإعلان عن فتحها بمثابة إيذان بإحكام إغلاق ملفاتها، هو الذي جعل فايسبوكيين يعلّقون بسخرية طريفة وظريفة، عندما ردّوا على تصريح الوزير السيد الرميد، الذي قال بأن التحقيق "سيذهب بعيدا" في قضية تعرية الزفزافي، أن المقصود بكلام الوزير هو أن التحقيق سيذهب بالفعل بعيدا جدا حتى أنه سيكون من باب المستحيل أن يرجع إلى الموضوع الذي ينصبّ عليه هذا التحقيق. ولهذا فتأكيد المسؤولين أن "التحقيق سيذهب بعيدا" أو "سيذهب إلى أبعد مدى"، هو، عندما يتعلق الأمر بجرائم تكون الدولة فاعلة فيها، خرافة ووهم، لأن الغاية من مثل هذا التحقيق، ليست هي الكشف عن الحقيقة بل إخفاؤها. لكن هذا التأكيد، من جهة أخرى، هو حقيقة لأن التحقيق سيذهب بالفعل بعيدا، وبمسافات طويلة، عن الحقيقة وعن المتورّطين في تلك الانتهاكات، والذين لن يقترب منهم بسبب "المدى البعيد" الذي يفصل بينهم وبين هذا التحقيق. والأخطر الأسوأ في هذه "التحقيقات"، التي لا يُكشف عن نتائجها ولا تؤدّي، بالتالي، إلى متابعة ومعاقبة أي مسؤول عن الأفعال الجُرْمية موضوع تلك "التحقيقات"، ليس هو الإفلات من العقاب فحسب، وإنما هو ما ينتج عن ذلك ويرتبط به من تشجيع ضمني على الاستمرار في ممارسة نفس الأفعال وتكرارها.
|
|