|
|
خطأ الاستهانة بفاجعة طحن محسن فكري وتداعياته
(بمناسبة الذكرى الأولى لاغتيال الشهيد محسن فكري: 28 أكتوبر 2016 ـ 28 أكتوبر 2017)
بقلم: محمد بودهان (27 ـ 10 ـ 2017) بسبب تعاملها العنيف والانتقامي الظالم مع حراك الريف منذ اندلاعه بعد اغتيال (نعم أقول "اغتيال" وليس "مقتل") الشهيد محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016، تعرف اليوم الدولة المخزنية، ومنذ 26 ماي 2017، ردّة حقوقية خطيرة دكّت كل ما سبقها من مجهودات بُذلت لإصلاح أخطاء سنوات الجمر والرصاص، وأثبتت أن الشطط والعنف السياسي وانتهاك حقوق الإنسان، واستعمال القضاء من أجل القضاء على من تعتبرهم هذه الدولة "خارجين عن طاعتها"، ممارسات تشكّل جزءا أصليا مكوّنا لطبيعة النظام المخزني. فهل كان لا بد من سلوك أسلوب القمع والعنف السياسي والقضائي لإخماد الحراك و"تأديب" الريفيين، لأنهم خرجوا يطالبون ببناء مستشفى ومؤسسة تعليمية، وبالكرامة والعدالة الاجتماعية؟ وقبل هذا السؤال، هناك سؤال أول: هل كان لا بد أن يُنتج "طحن" الشهيد محسن فكري كل هذا الحراك الشعبي؟ ألم يكن من الممكن تلافي تداعيات الفاجعة بأسلوب آخر وبتعامل آخر، وفي الوقت المناسب، ومن دون أن يكلّف ذلك كل هذه الفاتورة الحقوقية الثقيلة من الانتهاكات والقمع والانتقام؟ كل الإجراءات وردود الفعل الرسمية، التي تلت فاجعة طحن الشهيد محسن، كانت تنمّ عن استهانة، حتى لا نقول استخفاف، بهذه الفاجعة غير المسبوقة. وخطأ الاستهانة بهذه الفاجعة الصادمة سيؤدي بالسلطة المخزنية إلى ارتكاب سلسلة من الأخطاء الأخرى المتلاحقة والمتداعية، والتي بسببها سيصبح، مع مرور الوقت وتضييع فرص الحلّ، تداركُ خطأ التهاون في التعامل الجدي مع مطالب الحراك الشعبي والتحاور مع ممثليه حول هذه المطالب، ذا كلفة سياسية أكبر جعلت هذا التدارك أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا. وهو ما يفسّر اختيار السلطة المخزنية إصلاح هذه الأخطاء بالأفدح منها، وهو اللجوء إلى القمع والاعتقالات والعنف القضائي. ويبرز خطأ الاستهانة بالفاجعة في اكتفاء السلطات المخزنية، كما لو أن الأمر يتعلق بحادثة عادية، "بالتحقيق" جُنحيا مع بعض المسؤولين الإداريين الصغار والعمال البسطاء، الذين أُدين بعضهم ببضعة شهور حبسا، وانتهى الأمر. ولقد رأينا السيد سعد الدين العثماني، الذي سيصبح ـ مع الأسف ـ رئيسا للحكومة، يقول في تصريح للتلفزة المغربية في اليوم الموالي لاغتيال الشهيد محسن، مدافعا ضمنيا عن الحكومة التي يرأسها حزبه، إن ما وقع هو حادثة عادية تقع العشرات منها يوميا في كل أنحاء العالم، مستشهدا بإطلاق شرطي أبيض النار على مواطن أمريكي أسود في الشارع العام وإردائه قتيلا. مع أنه لا وجه للمقارنة بين الواقعتين. لماذا؟ لأن ما يجعل مقتل محسن فكري مختلفا جوهريا عن مقتل المواطن الأمريكي الأسود، ليس هو فعل إزهاق الروح المشترك بينهما، وإنما هو أن يُقتل معجونا في حاوية للأزبال، وبسبب الظلم و"الحكرة" اللذيْن كان ضحيتهما. وهذه واقعة لا يحدث مثلها، ليس يوميا كما قال السيد سعد الدين العثماني، وإنما ربما لم يحدث مثلها في كل تاريخ البشرية. ومن جهة أخرى، إن قاتل المواطن الأمريكي شخص طبيعي معروف. أما قاتل محسن فكري فهو نظام الفساد والشطط الذي يسكن وينخر إدارات ومؤسسات الدولة المغربية. وهذا ما يجعل من طحن محسن فكري جريمة تكاد تكون فريدة في بشاعتها وأسبابها. فلو أن المسؤولين وعوا بهول الفاجعة، وأدركوا حجم تأثيرها على النفوس والعقول، ومدى قدرتها على تحريك مشاعر السخط والغضب، لتفاعلوا معها بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب. لكنهم، وبسبب الغرور والإحساس الخادع بالثقة الزائدة بأنهم يتحكّمون في كل حركات وسكنات الشعب، اطمأنوا إلى أن الأمور تحت السيطرة الكاملة، كما هي العادة في حالات الغضب الشعبي. لو كانوا متواضعين يقبلون الإنصات لنبضات الشعب والمجتمع، وواقعيين اعترفوا بأن فاجعة طحن محسن فكري حالة خاصة وتتطلب معالجة خاصة، لسهل تطويق المشكل ومعالجته بلا أية خسارة، بل وبكثير من الربح السياسي للسلطة المخزنية نفسها. فقد كان يكفي فتح تحقيق جدي، إداري أولا ثم قضائي ثانيا، في الفساد "البحري" الذي كان السبب الحقيقي وراء الفاجعة. فلوبيات الفساد، المستفيدة من ريع الثروات السمكية، هي التي تدخلت، بنفوذها وسطوتها، لمصادرة أسماك الشهيد محسن فكري، الذي رأت فيه منافسا قد يهدد احتكارها لتسويق أنواع خاصة من الأسماك ذات الجودة الطلوبة. فليس الشهيد محسن هو الذي كان يملك المركب الذي اصطاد ذلك السمك المحظور في تلك الفترة، ولا هو من أوصله إلى الميناء ليُعرض للبيع بشكل غير قانوني. لم يُرد المسؤولون إذن حل المشكلة بالبدء من بدايتها، أي من البحر وما يجري فيه من نهب للثروات بسبب الريع والفساد. لأن لو اُتخذت الإجراءات وفُتحت التحقيقات الجدية، التي يفرضها القانون ويتطلّبها الموقف، وفي هذا الاتجاه "البحري"، لهدأت الأمور بعد شعور السكان واقتناعهم أن الدولة تعمل على إنصافهم، ورد الاعتبار لهم بتطبيق القانون في ما يخص المسؤولين الحقيقيين عن طحن الشهيد محسن. وارتباطا بالإنصاف ورد الاعتبار وتطبيق القانون، نذكّر أن وثيقة المطالب الشعبية التي صاغتها لجنة حراك الريف، تضع، في المرتبة الثانية بعد مطلب التحقيق في فاجعة طحن الشهيد محسن، وقبل أية مطالب تخص توفير مستشفى وجامعة، مطلبَ فتح تحقيق نزيه في جريمة القرن، المتمثلة في شيّ خمسة شبان بالنار داخل بناية البنك الشعبي بالحسيمة يوم 20 فبراير 2011. فإذا كان الحراك يؤكد على هذا المطلب، الذي يأتي الثاني في لائحة المطالب، فذلك لأن إغلاق التحقيق (وهل فُتح حتى يُغلق؟) في هذه الجريمة، ومن دون تقديم الجناة إلى العدالة، يعبّر عن أقصى درجات الاستهانة بالإنسان في المغرب، والاستخفاف بالعدالة والقانون، ويُبرز الاستعراض الوقح لسياسة اللاعقاب، التي تشكّل جريمة إضافية في حق ضحايا محرقة البنك الشعبي. ونتذكّر، كما هو مسجّل على "اليوتوب"، أن الوكيل العام للملك خاطب، في تلك الليلة التي طُحن فيها محسن فكري، الجماهير المحتجة، قائلا، قصد تهدئتها وطمأنتها، بأن القانون سيٌطبق بصرامة على كل المسؤولين عن هذه الفاجعة. فانبرى شاب من بين الجموع المحتشدة، والذي سنعرف في ما بعد أنه ناصر الزفزافي، ورد على الوكيل العام: "كيف سنثق أنكم ستطبقون القانون إذا كنتم لم تطبقوه في ما سبق عندما أُحرق الشبان الخمسة في البنك الشعبي؟". إذا كان ناصر الزفزافي، الذي لم يكن أحد يعرفه بعدُ، قد أثار قضية محرقة الشبان الخمسة كمثال على عدم تطبيق القانون في حالات الجرائم التي تكون الدولة، بشكل أو آخر، طرفا فيها، ويكون الضحايا هم من أبناء الشعب البسطاء، فذلك لأن هذه الجريمة البشعة حاضرة بقوة في وعي السكان، والتي جاءت جريمة طحن محسن فكري لنكء جرحها المفتوح. إذا كانت السلطات المخزنية لم تقم بواجبها في إنصاف أهالي المحترقين ومحاكمة المتورطين في الوقت المناسب، فقد كان من السياسة الحكيمة أن تتدارك هذا الوقت وتعيد فتح تحقيق، وبنية حسنة وجدّية، في هذه الجريمة، التي هي جريمة القرن بكل المقاييس، تفاعلا مع هذا المطلب الحقوقي للحراك الشعبي، والذي لا يرمي إلى أكثر من تطبيق القانون وإعمال قواعد العدالة. ففتح تحقيق جديد، جدي في هذه الجريمة، كان، بلا شك، سيهدّئ من الغضب الشعبي العارم، ويعيد الثقة إلى السكان في الدولة ومؤسساتها، وخصوصا في عدالتها، لأن الغضب الشعبي الذي تسبب فيه طحن محسن، إذا كان قويا وعارما، واستمر بلا نهاية ولا توقف، فذلك لأنه نتيجة للغضب المتراكم منذ إحراق الشبان الخمسة. لكن السلطة لم تكتف بهذه الأخطاء، التي ساهمت في تأجيج الغضب وتقوية الحرك، بل سترتكب خطأ قاتلا أعطى انطلاقة جديدة لحراك الريف، وذلك عندما سمحت، أثناء مباراة الوداد البيضاوي وشباب الريف الحسيمي يوم ثالث مارس 2017 بالحسيمة، وبتخطيط مسبّق كما تدل على ذلك كل المعطيات ذات الصلة بالموضوع، ولا سيما أن فريق الوداد كان هو الفائز، لمئات "البلطجية" المحسوبون على مشجعي فريق الوداد بالاعتداء، بعد نهاية المباراة، على السكان، ومداهمة المحلات التجارية، وتكسير أبواب المنازل، وإتلاف منقولات المقاهي، وتخريب السيارات، وسلب المارة أغراضهم ونقودهم، مع سبّ نابٍ وعنصري في حق الريفيات والريفيين، وكل ذلك على مرأى ومسمع وبعلم السلطات الأمنية والإدارية. في الحقيقية، هذه الواقعة هي التي ستحوّل الحراك، الذي كان قبل ذلك مقصورا على شباب من العاطلين ومن الطلبة ونشطاء الحركة الأمازيغية، إلى حراك شعبي حقيقي كيفا وكمّا، حيث ستلتحق بالتظاهرات والمسيرات مختلف الفئات العمرية والجنسية، من الصغار والكبار والإناث والذكور، ومختلف الفئات المهنية من تجار وحرفيين وصناع و"بحريين" ورجال أعمال وأساتذة ومحامين...، بعد أن اقتنع الجميع أن السلطة المخزنية تحرّض "بلطجيتها" على الريفيات والريفيين، وتستقدم من خارج الحسيمة من يعيث فسادا بمدينتهم، لاستعمال ذلك في النهاية قصد التأليب على الحراك، لمغالطة المغاربة أن هذا الحراك يمارس الفوضى والتخريب، ويُتلف الممتلكات ويعتدي على الأشخاص، حتى تبرر السلطة المخزنية التدخل القمعي الذي كانت تحضّر له. لكن السحر انقلب على الساحر، إذ أن "نشاط" هؤلاء "البلطجية" بالحسيمة يوم ثالث مارس 2017، أعطى نفسا جديدا للحراك، ومنحه القوة والوحدة والمصداقية والاستمرارية. فبعد أن كانت التظاهرات، قبل ثالث مارس، لا تتجاوز بضعة آلاف مشارك، أصبح المشاركون فيها بعد "موقعة" 3 مارس يتجاوزون عشرات، وحتى مئات الآلاف. أما عندما قام الوفد الوزاري برئاسة وزير الداخلية بزيارة الحسيمة، أواخر ماي 2017، للاجتماع مع الساكنة حول مطالبها كما أُعلن عن ذلك، فقد كانت تلك فرصة لحل أزمة الحراك لو قبل وزير الداخلية بلقاء لجنة من الحراك الشعبي لتدارس ملف المطالب. لأن لو جرى التفاوض مع النشطاء المعنيين حول هذه المطالب، لأمكن إقناعهم أن ضمن هذه المطالب ما هو قابل للتحقيق وفي مدة قصيرة، وفيها ما يحتاج تحقيقه إلى مدة طويلة، وفيها ما هو صعب التحقيق في الظروف الحالية. فبدل الالتقاء بالمعنيين، تم الترويج أنهم يرفضون أي حوار. وهذا افتراء وبهتان لتبرير ما كانت السلطة المخزنية قد قررته سلفا من اعتقال ومعاقبة النشطاء والانتقام منهم. هكذا فوّتت السلطة المخزنية، بسبب استهانتها بفاجعة طحن الشهيد محسن، فرصا كثيرة كانت متاحة لها لحل أزمة حراك الريف بالتي هي أحسن لها وللوطن. والمشكل، كما سبقت الإشارة، أن الأزمة كانت تكبر وتتّسع كلما ضيّعت السلطة فرصة سانحة لاحتوائها، إلى أن أصبحت عاجزة عن ذلك. وقد اعترفت بعجزها ـ أو باختيارها لهذا العجز ـ عندما لجأت إلى المقاربة القمعية من استعمال للقوة والعنف، ومن اعتقالات ومحاكمات لوقف المظاهر المادية (التظاهرات السلمية) فقط للحراك، لكن مع استمرار أسبابه المتمثلة في استمرار الظلم، وما يصاحبه من "حكرة" وقهر وشطط، وتضييق على الحريات، ومس بالكرامة، وغياب للعدالة الاجتماعية. وهي أسباب، بدل أن تُضعفها أو تقضي عليها المقاربة القمعية، وما يصاحبها من عنف قضائي، فهي، على العكس، تؤجّجها وتزيد من حدّتها وتوفر شروط بقائها ودوامها، وذلك لأن هذه المقاربة هي نفسها ذروة الممارسة لنفس الظلم الذي كان وراء اندلاع الحراك الشعبي بالريف. والدليل الآخر أن هذه المقاربة القمعية هي ظلم صريح في حق الريف ونشطاء حراكه الشعبي، هو أن الملك نفسه اعترف بتقصير وتلاعب المسؤولين بالمشاريع التي خُصّصت لتنمية إقليم الحسيمة ولم يُنجز منها شيء يُذكر، حتى أنه اضطر إلى اتخاذ إجراءات عقابية في حق عدد من هؤلاء المسؤولين. وهذا يعني أن ملك البلاد يتبنّى خطاب نشطاء حراك الريف الذين خرجوا إلى الشارع للتنديد بفساد المسؤولين، واستهتارهم بمصالح السكان، وشططهم في استعمال السلطة، وإبقائهم المنطقة مهمّشة ومتخلفة اقتصاديا وتنمويا. فالذين يجب إذن أن يكونوا في السجن هم المسؤولون الفاسدون المستهترون بمصالح الوطن والمواطنين، وليس هؤلاء الريفيون الغيورون الذين فضحوا المسؤولين الفاسدين والحكام الظالمين. وهذا هو الزلزال السياسي الحقيقي الذي سيقوّض الفساد والظلم مثلما يقوّض الزلزال الأرضي المباني الهشة والمغشوشة. أما إذا بقي فاضحو الفساد والظلم في السجون، ضحايا لعنف قضائي جائر، فسيكون الزلزال السياسي مجرد صفر على اليسار، وخدعة لصرف النظر عن هذا العنف القضائي نفسه، الذي يتعرّض له نشطاء حراك الريف. |
|