|
|
آفة الفرانكوفونيين في كتاب: "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"
بقلم: محمد بودهان
(31 ـ 01 ـ 2019) من المفاهيم الجديدة التي جاء بها الكاتب والمفكر المغربي السيد حسن أوريد في كتابه "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب" (مطبعة النجاح لجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2018، 342 صفحة. صدرت طبعته الثانية في 2019)، والذي أعتبره كتابا في فلسفة التربية، مفهوما "الفرانكفوني" و"الإنسان ما بعد الاستعماري"، وإن كان المفهومان يعنيان شيئا واحدا ويحملان مضمونا واحدا مع اختلاف فقط في سياقات استعمال أحدهما دون الآخر. معنى "الفرانكفوني"، كما هو متداول ومفهوم في المغرب، يحيل على ذلك المغربي المتشبّع بالثقافة الفرنسية، المتمكن من اللغة الفرنسية التي يفضّل استعمالها على اللغات الوطنية، والمدافع عن القيم الفرنسية التي يودّ أن تنتشر بالمغرب ويتبنّاها المغاربة. هذا الفرانكفوني المغربي، ينتقده الكاتب انتقادا حادّا، بل يشنّ عليه هجوما شديدا وشرسا ( صفحة 185 و186). وهو أمر قد يبدو ظاهريا غريبا وغير مفهوم، إذ كيف لمثقف حداثي مثل الأستاذ أوريد، الذي ارتوى من فكر الأنوار الفرنسي، وتلقى تكوينا باللغة الفرنسية، وألّف بها عدة كتب، ويكتب بها في عدة منابر إعلامية وثقافية، ويحاضر بها، ويدرّس بها العلوم السياسية بالجامعة، (كيف له) أن يهاجم الفرنكوفونية والفرنكوفونيين؟ أليس هو واحدا منهم؟ بل أليس هو واحدا من كبارهم ومشاهيرهم؟ رفعا لهذا اللبس، يوضّح لنا الكاتب أنه يقيم تمايزا فاصلا وحدا عازلا بين اللغة الفرنسية، كلغة فكر وعلم ومعرفة وتنوير وتحرّر، وبين الفرانكوفونية ذات الحمولة الاستعمارية (صفحة 186). ولهذا يقول عن الفرانكوفونيين: «فليس مستعملو الفرنسية بالضرورة دعامة للفكر الحر، ولو هم في الغالب على المستوى الفردي أصحاب رؤية عقلانية، ولكنهم على المستوى العام، لا يجدون غضاضة في التعامل مع مؤسسات عتيقة والدفاع عنها، شأنهم شأن الإدارة الاستعمارية التي وظفت المخزن القديم أو الشريف بنعتها، واستعملت الزوايا وتركتها سادرة في غيبيتها واستغلالها بل ومجونها، ودعمت الاتكالية من خلال تشجيعها للطرقية» (صفحة 185)، مضيفا بأن هؤلاء الفرانكوفونيين يشكّلون «إحدى دعائم الاستعمار الجديد» (186). وهنا يلتقي الفرانكوفوني مع ما يسميه الكاتب بالإنسان ما بعد الاستعماري، ليشكلا في الحقيقة ظاهرة واحدة، ولو أنه تحدّث عن الثاني بمعزل عن الأول، متطرّقا إليهما في سياقين مختلفين تفصل بينهما مائة وأربعون صفحة. فما هو الإنسان ما بعد الاستعماري؟ من أخص صفاته، كما يعرضها الكاتب بالصفحة 41، أنه يتميز بسلوك كلبي Cynique من تجلياته أنه يتظاهر بأنه يؤمن بشيء ما ويدافع عنه، في حين أنه في الحقيقية لا يؤمن بذلك الشيء، بل يرفضه ويستهجنه. وهو ما كان يفعله، كما يلاحظ الكاتب، مسؤولو الحماية الفرنسيون، حين كانوا يدافعون عن التقاليد المخزنية العتيقة، ويحمون الخرافات والمعتقدات الدينية المتخلفة ويشجعون عليها، لكنهم كانوا في قرارة أنفسهم يحتقرونها ويحتقرون ممارسيها ويعتبرونهم متخلفين وجهلة. وهذا ما يفعله اليوم، كما يشرح السيد أوريد، المسؤول التقنوقراطي الذي يساند الاستبداد ويحمي الفساد ويسكت عن الظلم، رغم تكوينه الفرنسي وتشبّعه بالثقافة الغربية التي ترفض الاستبداد والفساد والظلم. هذا التقنوقراطي، ذو السلوك الكلبي، يمثّل، كما يوضح الكاتب، الوجه المغربي للمسؤول الاستعماري للحماية الفرنسية. ولهذا يرى أنه «لا يمكن أن نبلغ ما نبتغي من ثورة ثقافية إلا بإنسان جديد» (صفحة 41). ويمكن القول إنه يعرّف هذا الإنسان الجديد بالسلب، أي بما ليس هو أو بما ليس فيه، أي كنقيض للإنسان ما بعد الاستعماري. يقول عن هذا الإنسان المغربي الجديد إنه: «إنسان يقطع مع إنسان الالتقاطية الذي هو نتاج سياق معين، يكتفي بنقل ما حُمّل، أو إنسان هجين، يحمل تقنيات الإنسان الحديث، أو بعضا منها ولكن ذهنه مطبوع بثقل التقاليد، لا يدرك الدقة، ويسبح في العموميات، وغير قادر على طرح القضايا الوجودية أو طرحها خارج القوالب التقليدية ويكتفي بترديد ما قدمه "السلف" في الأمر، أو نموذج الإنسان الاستعماري، مما أسميه الإنسان ما بعد الاستعماري، فهو حاذق للتقنيات، له بنية ذهنية عقلانية، واع بالعمق الفلسفي للإنجازات المادية، ولكنه على غرار النموذج الاستعماري يتعامل مع الاتجاهات التقليدانية تعاملا نفعيا، فهو يمقتها في قرارة نفسه، ويرضخ لها في آن كما يفعل دهاقنة الاستعمار في السابق، بل هو يتعامل بهذا الشعور المثبط ألا وهو الكلبية، أي عدم الإيمان بشيء، والتعامل كما لو أنه يؤمن به. لا بد لمن يعمل لبناء الإطار الذي ننشده أن يتجاوز الإنسان ما بعد الاستعماري، مما نجد صورا له عند كثير من التكنوقراط. لا يمكن أن نستنسخ الإنسان التقليدي، ولا أن نعيد نموذج الإنسان الهجين، فكل هذه النماذج لا تحمل نسغ الحياة ولا تستطيع أن تعبد الطريق وتقتحم آفاق جديدة لثورة ثقافية ننشدها» (صفحة 41). وهذا السلوك الكلبي، الذي يميّز الإنسان ما بعد الاستعماري، هو ـ ولو أن الكاتب لا يشير إلى ذلك بشكل صريح وواضح ـ سلوك ملازم كذلك للفرانكوفونيين، كما يتجلّى ذلك، على سبيل المثال، في دفاعهم، من موقع مناصبهم ومسؤولياتهم ومهامهم الحكومية والسياسية، عن شيء وهم في قرارة أنفسهم يحتقرونه ويرفضونه، كما فعلوا عندما فرضو العربية كلغة للتدريس وهم لا يحبّونها ويحتقرون أصحابها ويربأون بأنفسهم أن يدرس بها أبناؤهم. فكانت النتيجة أنهم هم الذين أوصلوا التعليم إلى الحضيض الذي وصل إليه بسلوكهم الكلبي هذا، عندما يدافعون عما لا يؤمنون به، ويفرضون على المغاربة ما لا يريدونه لأنفسهم ولا لأبنائهم. فالفرانكوفونية، كما هي ممارسة في المغرب، قبل أن تكون استمرارا لإدارة الحماية الاستعمارية في وجهها الوطني المغربي، فهي سلوك كلبي بامتياز. وهذا ما يبرز بشكل صارخ لدى الفرانكوفونيين عندما « ينبرون مدافعين عن البنيات العتيقة، ليس عن إيمان، ولكن غطاء لمصالحهم كما كانت تفعل الإدارة الاستعمارية. وهم من يدفع إلى ممارسات غيبية بدعوى روح الإسلام» (صفحة 185)، كما كتب الأستاذ أوريد. فإذا كان هدف هؤلاء الفرانكوفونيين هو ربط المغرب بفرنسا، فذلك ليس من أجل أن يكون مثلها في الديموقراطية والحرية والحقوق والتقدّم والعدالة الاجتماعية، وإنما ليكون تابعا لها ماليا واقتصاديا، خاضعا لإملاءاتها ومصالحها، لما في هذه التبعية وهذا الخضوع من خدمة لمصالح فئة هؤلاء الفرانكوفونيين الذين يمثلون «استمرارية للمنظومة الاستعمارية»، كما كتب المؤلف، مميّزا بين اللغة الفرنسية والسلوك الفرانكوفوني، موضّحا ذلك بقوله: «فكم من دعاة الفرانكوفونية لا يحسنون الفرنسية ويتكلمونها كما يتكلمها مرشد سياحي. وفهمهم للحداثة كمعرفة مرشد سياحي للغة الأجنبية، يقصرها على بعض التعابير النمطية والمكررة، ويحسبونها تقنيات وسلوكات. وليس مهما في عرف سدنة الفرنكوفونية، أن تحسن اللغة الفرنسية، ولا أن تنطبع بفكر حر نقدي، والمهم أن تسبح بحمد المراكز الثقافية التابعة للمؤسسات الفرنكوفونية، والمهم أن ترتبط بالرأسمال فتستطيع أن تحتضن تظاهرات ما تقيمه المراكز الثقافية وترعاه وتسهم في تمويله. وليس يطلب منك أن تحسن الفرنسية سوى الرطانة بها، ولا يطلب منك أن تستوعب قيم فلسفة الأنوار، ولا الفكر الداعي للتحرر، وتكفي بعض المصطلحات يرطن بها المرء، وشبكة من العلاقات». فهم «ليسوا أصحاب فكر، وقصارى أمرهم أن ينقلوا تقنيات، مثل التقويم الهيكلي، وبعض تقارير اليونسكو، وتقنيات التنمية البشرية، وهم مسؤولون عن الوضعية التي آل إليها التعليم، وما سمي بمحاربة الفقر والهشاشة، ومنهم من تقلد مسؤولية التعليم وهو يجهل اللغة العربية [...]. وبضاعته من الفرنسية مزجاة ولا تتجاوز الرطانة والحديث المعتاد. هم استمرارية للمنظومة الاستعمارية ولنظرتها المستعلية، يحنون إلى العهود الاستعمارية أو يبعثونها، ويرتبطون بعلاقات اقتصادية ومالية ووجدانية قوية بفرنسا، ولهم تداخل مع المصلح الأمنية، ولهم امتدادات في الوسط الإعلامي، ويضطلعون في الإعلام بالزجر، أو استمرارية للمقاربات البوليسية بطريقة أخرى، وإن هم أضحوا يوظفون بعض الأقلام باللغة العربية» (صفحة 186) وهكذا فإن الفرانكوفونيون، بدل أن يجعلوا من اللغة الفرنسية غنيمة، حسب كاتب ياسين وكما نقل عنه ذلك الأستاذ حسن أوريد، يجعلون منها، بسلوكهم الكلبي والاستعلائي الاستعماري، هزيمة لأنها تُبقي المغرب في التبعية والتخلف. فارتباطهم بفرنسا ليس له علاقة إذن باللغة الفرنسية ولا بفكر الأنوار الفرنسي، وإنما هو من أجل مصالحهم الاقتصادية والمالية. هذا المفهوم الجديد للإنسان ما بعد الاستعماري، الذي يمثّله الفرانكوفونيون المغاربة، وخصوصا الذين يتحمّلون منهم مسؤوليات تسيير شؤون الدولة، من المفاهيم الجديدة الهامة ذات القيمة التفسيرية والوظيفة البيداغوجية، لأنه مفهوم مفتاح يسمح لنا بفهم الوضع السياسي والاقتصادي بالمغرب. فالجميع يتحدث عن استشراء الفساد وتعاظم الاستبداد، وعن نهب المال العام، وعن سياسة اللاعقاب، وعن رداءة الخدمات الاجتماعية، وعن تدهور المنظومة التربوية، وعن فشل مشاريع التنمية... لماذا كل هذه الأدواء التي تصيب الجسم المغربي؟ لأن الدولة يسيّرها الفرانكوفونيون بالمعنى الذي شرحه الأستاذ أوريد. فالقرارات السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية توجد بيد هؤلاء الفرانكوفونيين. وهذا شيء طبيعي إذا عرفنا أن الدولة المغربية الحديثة هي نفسها دولة فرانكوفونية، لأنها بنْت فرنسا ومن صنع ليوطي الفرنسي. وهذا ما يفسّر أن الفرانكوفونيون بالمغرب هم نسخة للإنسان الاستعماري، يعيدون، بلعبهم دور الإنسان ما بعد الاستعماري، إنتاج الإدارة الاستعمارية لفترة الحماية الفرنسية. ولهذا يمكن اعتبار الفرانكوفونية، بالمعنى الذي شرحه الأستاذ أوريد، الوجه الآخر لسياسة التعريب: فكما أن الفرانكوفونية لا تجعل المغاربة يتقنون اللغة الفرنسية وإنما تجعل المغرب تابعا لفرنسا، فكذلك سياسة التعريب لم تجعل المغاربة يتقنون العربية وإنما جعلتهم تابعين للعروبة، منتحلين الانتماء إليها، مستميتين في الدفاع عن هذا الانتماء الزائف والمنتحل. وهذا شيء مفهوم إذا عرفنا أن سياسة التعريب قرّرها وفرضها الفرانكوفونيون أنفسهم، رغم أنهم يحتقرون العربية ولا يريدونها لأبنائهم، كما سبقت الإشارة. كل هذا يبيّن أنه لا يمكن تحقيق أي إصلاح حقيقي بالمغرب، ولا أية نهضة حقيقية إلا بشرط واقف، وهو إنهاء هيمنة الإنسان الفرانكوفوني على دواليب الدولة ومراكز القرار. أتوقّع مدى ابتهاج التعريبيين وهم يرون الأستاذ أوريد يهاجم خصومهم الفرانكوفونيين، ويعتبرهم آفة تعيق تقدم المغرب وتمنع تحرره من التخلف والتبعية وثقافة الفساد والاستبداد. ولا شك أنهم سيستقوون بهذا الموقف، المناهض للفرانكوفونية، لدعم حربهم ضد الفرانكوفونيين الذين يتهمهم هؤلاء التعريبيون بالدفاع عن لغة المستعمر وتهميش اللغة العربية. لكن على رِسلهم! وليتمهّلوا ويتأملوا. فإذا كانوا يعتقدون أن الأستاذ أوريد، ولأنه يهاجم الفرانكوفونيين، فهو يرفض الفرنسية ويدافع عن العربية، كما يفعلون هم أنفسهم كتعريبيين، فهم مخطئون مرتين: ـ لأنهم لم يستوعبوا مفهوم الفرانكفوني، كما شرحه الأستاذ أوريد، كمفهوم جديد لا علاقة له باللغة الفرنسية. ـ ولأن الفرانكوفوني مفهوم لا علاقة له باللغة الفرنسية، فإن مناهضة الأستاذ أوريد للفرانكوفونيين لا يعني، كما قد يعتقد التعريبيون، مناهضته للغة الفرنسية. ولهذا فهو يدعو، الشيء الذي قد يحوّل ابتهاجهم من مهاجمته للفرانكوفونيين إلى غضب ضدّه، إلى تدريس العلوم بهذه اللغة الفرنسية منذ التعليم الأساسي، معترفا في نفس الوقت أن التجربة قد أبانت «عن فشل تعليم المواد العلمية باللغة العربية»، مستدركا للتخفيف من غضب هؤلاء التعريبيين: «لا لقصور اللغة العربية، ولكن لأن أصحابها لا ينتجون العلم والتقنية» (صفحة 161). هذا التفضيل للفرنسية على العربية كلغة لتدريس العلوم، يُبرز المعنى الجديد لمفهوم الفرانكوفوني الذي جاء به كتاب "من أجل ثورة ثقافية بالمغرب"، حيث يدعو الكاتب إلى اعتماد اللغة الفرنسية كلغة لتدريس العلوم، ولكن بعد تخليصها من الفرانكوفونية التي توظّف هذه اللغة فقط لأهداف وفي حدود ضمان تبعية المغرب السياسية والاقتصادية والمالية لفرنسا.
|
|