|
|
في دحض خرافة "اختيار" الأمازيغيين الطوعي للعربية
بقلم: محمد بودهان 28 ـ 01 ـ 2015) في تبريرهم لسياسة التعريب المقيتة، يكرر التعريبيون المتحولون جنسيا، أي الذين تحولوا من جنسهم (هويتهم) الأمازيغي إلى الجنس العربي، بلا ملل ولا كلل، أن الأمازيغيين هم الذين اختاروا اللغة العربية بمحض إرادتهم، وأحبّوها واعتنوا بها وحافظوا عليها، ولم يفرضها عليهم أحد. لكن ما معنى الاختيار؟ يكون هناك اختيار عندما تُعرض عليك أشياء عديدة (أكثر من واحد)، فتفضّل أحدها على الباقي. وبذلك التفضيل تكون قد قمت بعملية "اختيار" طوعي وحر. فهل عُرضت على الأمازيغيين عدّة لغات ففضّلوا العربية وأعرضوا عن الأخرى حتى يصح القول بأنهم اختاروها؟ فما حدث لهم مع العربية هو نفس ما حدث لهم مع اللاتينية عندما استعملوها وكتبوا بها، ليس لأنهم اختاروها من بين لغات أخرى عُرضت عليهم، بل لأنها دخلت إلى بلادهم قسرا مع الاستعمار الروماني، ودون أن يكون لهم خيار في ذلك. ونفس الشيء حدث لهم مع الفرنسية التي فرضها الاستعمار الفرنسي بالمغرب، ودون أن يختاروها أو يفضّلوها على لغات أخرى. ونفس الشيء حدث للبرازيل ولجنوب إفريقيا وللمكسيك مع اللغات البرتغالية والإنجليزية والإسبانية، التي أدخلها وفرضها الاستعمار على هذه الشعوب دون أن يكون لها في ذلك رأي أو خيار. لكن بعد مغادرة المستعمر احتفظت هذه الشعوب بتلك اللغات لأسباب دينية أو ثقافية أو اقتصادية أو تعليمية... هذا ما حدث كذلك للأمازيغيين مع اللغة العربية، التي دخلت إليهم عنوة على أسنّة الرماح عن طريق الغزو العربي، ودون أن يكون لهم في ذلك خيار ولا رأي. ولما قضوا على الاستعمار العربي الأموي، احتفظوا باللغة العربية للأسباب التي ذكرنا، كما احتفظوا، ولنفس الأسباب، بلغة الاستعمار الفرنسي بعد جلائه. فاحتفاظ هذه الشعوب، كما في أمثلة البرازيل وجنوب إفريقيا والمكسيك وشمال إفريقيا، بهذه اللغات التي هي في الأصل "استعمارية"، لا يعني "اختيارا" طوعيا لها فقط لأن الاستعمار الذي أدخلها في لم يعد موجودا. ذلك أن انتفاء "الاختيار" ثابت بمجرد أن هذه اللغات دخلت عن طريق الغزو والحرب والغلبة. أما اللغة الإنجليزية مثلا، أو غيرها من اللغات المدرّسة في المغرب كالألمانية والإيطالية والروسية، فهي حقا من اختيار الأمازيغيين/المغاربة بمحض إرادتهم (طبعا من خلال مؤسساتهم ودولتهم صاحبة القرار)، لأنهم قرروا تعلّم هذه اللغات وإدخالها إلى بلادهم طواعية، ولم يدخلها الاحتلال والغزو كما حصل مع اللاتينية والعربية والفرنسية. فهل ينطبق هذا التعامل الاختياري للأمازيغيين مع هذه اللغات على اللغة العربية أيضا؟ هل سبق لهم أن قرروا تعلم اللغة العربية وإدخالها إلى بلادهم بمحض إرادتهم، وقبل الغزو العربي لبلادهم؟ في هذه الحالة يصح القول بأنهم اختاروا العربية. لكنها حالة لم تحصل، كما هو معروف. هكذا يصل التعريبيون، المتحولون الجنسيون، بتصورهم للتاريخ كما أرادوه أن يكون وليس كما كان، إلى طريق مسدود ومأزق حقيقي. وأمام الإحراج الذي يسبّبه لهؤلاء المتحولين الجنسيين تعلّقُهم بالعروبة العرقية، بمضمونها العنصري الجاهلي، والتي يدافعون عنها ويحمونها من خلال دفاعهم وحمايتهم لسياسة التعريب الإجرامية، بدأوا يلتفّون على الموضوع، مبرئين عروبتهم من أية نزعة عرقية، مرددين أن العروبة تحمل مضمونا لغويا وثقافيا، وليس عرقيا أو عنصريا. وهكذا فالمغرب عربي، ليس بانتمائه إلى العرق العربي، بل بانتمائه إلى الثقافة العربية واستعماله للغة العربية. لكن لماذا، يا ترى، لا نسميه، في هذه الحالة، بالمغرب الفرنسي للانتشار الواسع للثقافة الفرنسية بهذا البلد، واستعماله للفرنسية، كلغة علم واقتصاد وأعمال وحداثة، بشكل يفوق استعماله للعربية؟ بل لماذا ليست "السنيغال" بلدا فرنسيا بسبب الانتشار الواسع للثقافة الفرنسية بهذا البلد الإفريقي واعتماده للفرنسية لغة رسمية؟ ولماذا ليست "الأرجنتين" بلدا إسبانيا للانتشار الواسع للثقافة الإسبانية بهذا البلد الأمريكي واعتماده للغة الإسبانية لغة رسمية؟ ولماذا ليست "جنوب إفريقيا" بلدا إنجليزيا بسبب الانتشار الواسع للثقافة الإنجليزية بهذا البلد الإفريقي واعتماده للإنجليزية لغة رسمية؟ ولماذا انضم المغرب إلى جامعة الدول العربية، الخاصة بالدول ذات الانتماء القومي العربي؟ فلو كانت هذه الجامعة تسمى جامعة الدول المستعمِلة للعربية، لما كان لنا اعتراض على هذا الانضمام، الذي سيكون مثل انضمامه إلى المنظمة العالمية للفرنكوفونية التي تخص الدول المستعملة للغة الفرنسية، أو ستكون صفة "عربي"، التي يلحقها التعريبيون بالمغرب ودولة المغرب، مثل صفة "اللاتينية" التي تلحق بأمريكا الجنوبية للدلالة على انتشار اللغات ذات الأصل اللاتيني بهذه البلدان الأمريكية، وهي الإسبانية والبرتغالية. ولكنها لا تعني إطلاقا أن هويتها إسبانية أو برتغالية أو لاتينية. ولهذا أطلقت عليها هذه الصفة "اللغوية" بمجرد انتشار هاتين اللغتين بهذه البلدان في القرن التاسع عشر. في حين أن اللغة العربية، ورغم انتشارها ببلدان تامازغا منذ الغزو العربي في القرن السابع الميلادي، واستمرار استعمالها، منذ ذلك التاريخ، كلغة للسلطة، وللتعليم، وللكتابة، وللتدوين، وللإنتاج الثقافي، إلا أن المنطقة لم يسبق أبدا أن سُميت بـ"المغرب العربي" إلا بعد الاستعمار الفرنسي لها، والذي أعطى لها انتماء عربيا، فأصبحت تسمى بـ"المغرب العربي"، أي المغرب المنتمي هوياتيا إلى العرق العربي. فلو أن هذه العبارة ـ "المغرب العربي" ـ تعني مغرب اللغة العربية، وليس مغرب العرب والعروبة العرقية، لكانت "المملكة العربية السعودية" تعني مملكة اللغة العربية وليس المملكة ذات الانتماء العربي. نريد بهذه التوضيحات أن نبيّن أن ما يهمّ، في عبارة "المغرب العربي"، ليس هو صفة "عربي"، والتي قد تحيل، حسب السياق، على اللغة كما في عبارة "اللغة العربية"، بل مدلولها الذي لا يقصد به إطلاقا اللغة العربية ولا الثقافة العربية، بل الانتماء العربي بمضمونه القومي العرقي. وهذا شيء معروف وواضح يكاد يفقأ العين. فليس لأن المغرب يستعمل العربية ولذلك تقرر تعريبه، وإنما لأنه أصبح ذا انتماء عرقي عربي منذ 1912، ولذلك وجب تعريبه. هكذا يؤدي إذن تبرير المتحولين الجنسيين للعروبة العرقية بخدعة الثقافة واللغة، إلى طريق مسدود، مرة أخرى، كما نرى. إلا أنه يجب الاعتراف أن هروبهم من العروبة العرقية نحو اللغة والثقافة، يمثّل تراجعا لهذه العروبة العرقية وتقدما للأمازيغية، ويبرز أن هذه الأخيرة تحاصر التعريبيين وتزحف لتدمير معاقلهم العرقية وأصنامهم القومية. فبعد أن كانوا، قبل القرن الحالي، يرفضون رفضا باتا أن يعني لفظ "عربي"، عندما ينعت به المغرب ودولته، شيئا آخر غير معناه القومي العرقي، ها هم اليوم يقولون، مكرهين، وفي تناقض تام مع مسلماتهم العرقية، أن الأمر يتعلق باللغة والثقافة وليس بالهوية والانتماء العرقي. وفي حربهم على المطالب الأمازيغية، يقول هؤلاء التعريبيون، المتحولون جنسيا، بأن هذه المطالب خلقها الاستعمار. ودليلهم على ذلك أن هذه المطالب لم تكن معروفة قبل دخول فرنسا إلى المغرب، كما لم يسبق، قبل هذا التاريخ، أن كانت هناك حركة أمازيغية في أية فترة من تاريخ المغرب. صحيح، وصحيح جدا، أنه لم تكن هناك مطالب أمازيغية ولا حركة أمازيغية قبل دخول فرنسا إلى المغرب. لكن لماذا؟ لأن المغرب لم يكن، قبل هذا التاريخ، عربيا ولا دولة عربية، ولم تكن هناك، بالخصوص، سياسة للتحويل الجنسي (بمعنى القومي الهوياتي) الذي يسمى التعريب، الرامي إلى تغيير الجنس الأمازيغي للمغاربة بجنس عربي. فكل ما تطالب به الحركة الأمازيغية هو أن يعود المغرب، على المستوى الهوياتي، إلى ما كان عليه قبل 1912: بلد أمازيغي إفريقي بشعب أمازيغي ودولة أمازيغية، دون أن ينفي ذلك وجود أمازيغيين من أصول عربية. فهل يقبل المتحولون الجنسيون العودة إلى الوضع الهوياتي لما قبل 1912، حتى تختفي الحركة الأمازيغية وتنتهي المطالب الأمازيغية؟ ولإصرارهم على ربط المطالب الأمازيغية بالاستعمار الفرنسي وأسطورة "الظهير البربري"، ولشيطنة الحركة الأمازيغية التي ترفض التعريب وتطالب بإدراج اللغة الأمازيغية في مؤسسات الدولة وباستعمالها في الوثائق الرسمية، يواجه التعريبيون هذه الحركة بالسؤال الاستنكاري التالي: لماذا لم يسبق للمرابطين ولا الموحدين ولا المرينيين ولا العلويين ولا أية دولة أمازيغية أخرى أن استعملت اللغة الأمازيغية في وثائقها ومراسلاتها، ولا كتبتها بحرف "تيفيناغ"؟ فلماذا تريدون تدريس الأمازيغية واستعمالها الكتابي بحرف "تيفيناغ"؟ فهل أنتم أكثر أمازيغية من أجدادكم المرابطين والموحدين؟ هذا صحيح أيضا، وصحيح جدا. فلم يسبق لأية دولة أمازيغية أن استعملت الأمازيغية كلغة كتابة وتدوين. وهذا ما نريده ونطالب به نحن اليوم أيضا: أن يكون المغرب دولة أمازيغية تستعمل اللغة العربية كما كانت تفعل الدول الأمازيغية قبل 1912. فالمشكلة ليست مع العربية كلغة، بل مع استعمالها كهوية وإيديولوجية وأداة للتعريب، ونشر وتعميم قيم التحول الجنسي (دائما بمعناه القومي الهوياتي). فعندما يكون المغرب دولة أمازيغية، لن يكون هناك مشكل مع العربية لأنها مجرد لغة لا تحوّل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي. وسيكون المغرب، في هذه الحالة، مثله مثل السنيغال التي تستعمل الفرنسية دون أن يحوّل ذلك جنسَها السنيغالي إلى جنس فرنسي، أو البرازيل التي تستعمل اللغة البرتغالية دون أن يحوّل ذلك جنسَها البرازيلي إلى جنس برتغالي... وكما أفعل أنا الآن: أكتب بالعربية كأمازيغي ـ هوياتيا وليس عرقيا ـ أستعملها للدفاع عن الهوية الأمازيغية للمغرب وللدولة المغربية. إذن أعيدوا، أيها التعريبيون المتحولون جنسيا (هوياتيا وقوميا)، الهويةَ الأمازيغية لدولة المغرب، كما كانت قبل 1912 في الفترات التي تستشهدون بها مثل فترة المرابطين والموحدين، وسنتوقف عن المطالبة باستعمال الأمازيغية في الكتابة، وسنكتفي ـ مسايرة لاستدلالكم ـ بالعربية، كما كان يفعل أجدادنا، كما تقولون، في ظل دولهم الأمازيغية. ثم إذا كان أجدادنا المرابطون لم يعتنوا بالأمازيغية ولم يستعملوها في الكتابة والتأليف، واكتفوا بالعربية كلغة للدولة بها كانوا يكتبون ويؤلفون، كما تقولون، فلماذا تريدون أن نفعل كما فعل أجدادنا المرابطون، ونهمل لغتنا الأمازيغية ولا نؤهلها لتكون لغة رسمية، ونعتني فقط بالعربية ونكتفي بها للاستعمال الكتابي؟ ولماذا تطالبون أنتم بالتعريب وفرض اللغة العربية كلغة للكتابة والتدريس، ولا تفعلون مثل أجدادكم ـ أو من تعتقدون أنهم أجدادكم ـ في الجاهلية، الذين لم يسبق لهم أن استعملوا العربية في الكتابة ولا أهّلوها لذلك ولا طالبوا به، ولا ألفوا أو دوّنوا بها قبل عهد الإسلام، إذ كانوا يكتفون باستعمال السريانية أو الفارسية أو العبرية للكتابة بالنسبة لمن كان يجيد منهم الكتابة بها؟ إن أنانيتكم البدائية والجاهلية جعلتكم تريدون للآخرين ما لا تريدونه لأنفسكم، مع أنكم تعرفون الحديث النبوي الشريف الذي يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». لقد اتخذ التعريبيون من غياب الاستعمال الكتابي للغة الأمازيغية، قديما، الحجة القاطعة، أي التي يقطعون بها رأس الأمازيغية، على أن هذه اللغة لا يمكن أن تكون لغة كتابة وتدريس، وإلا لسبق للأمازيغيين أن كتبوا ودوّنوا بها تاريخهم وثقافتهم. فلأنهم كانوا مقتنعين أنها لا تصلح لذلك، فقد اختاروا العربية كلغة كتابة وثقافة وحضارة. رغم أن الأبجدية الأمازيغية (تيفيناغ) هي إحدى أقدم الأبجديات التي عرفها التاريخ، والتي لم تنقطع الكتابة بها، وبشكل نهائي، في أية مرحلة أو فترة، بفضل "الطوارق" الذين حافظوا على هذه الكتابة بشكل مستمر، إلا أنه لا يجب أن نكذب على أنفسنا ونقول إن الأمازيغية كانت لغة كتابة لأن "الطوارق" حافظوا على استعمالها الكتابي. ذلك أن كتابة الأمازيغية عند "الطوارق" كانت تقليدا شعبيا، أو نوعا من اللعب الشعبي، أكثر منها ممارسة حقيقية للكتابة بالأمازيغية، أي الكتابة المستعملة في التدوين والتأليف والتدريس والإنتاج الثقافي المكتوب. ولأن موضوعنا ليس مناقشة الأسباب الي حالت دون تطور الاستعمال الكتابي للأمازيغية، والتي يأتي على رأسها عدم استمرارية الدولة الأمازيغية، فإننا سنعترف، كما يريد التعريبيون، بأن اللغة الأمازيغية لم يسبق أن كانت لغة كتابية، ولهذا اختار الأمازيغيون استعمال لغات أجنبية أخرى للكتابة، كما فعلوا عندما كتبوا ودوّنوا وألّفوا ودرَسوا ودرّسوا باللغة العربية. سنساير إذن منطق التعريبيين ونقول إن الأمازيغيين كانوا "متخلفين"، ليست لهم حضارة ولا ثقافة ولا لغة مكتوبة، إلى أن أخرجهم العرب من هذا "التخلف"، وأدخلوهم إلى طور الحضارة والثقافة بفضل لغتهم العربية، والإسلام الذي جاؤوا به رحمة بالأمازيغيين وإحسانا لهم. ولهذا فنحن لا نناقش هنا استعمال الأمازيغيين للعربية، لأننا نسلّم، كما يريد التعريبيون، أن لغتهم الأمازيغية كانت "متخلفة"، ومجرد لهجات متفرقة لا تصلح أن تكون لغة كتابية. لكن ما نناقشه هو السؤال التالي: هل كان لا بد للأمازيغيين أن يفقدوا هويتهم الأمازيغية وجنسهم الأمازيغي، ويصبحوا شعبا بجنس عربي وهوية عربية ودولة عربية، فقط لأنهم استعملوا اللغة العربية كلغة كتابة؟ نطرح هذا السؤال لأن: ـ أولا، "عروبة" المغرب، كشعب وكدولة، كما تلخص ذلك عبارة "المغرب العربي"، لم تثبت في أية فترة تاريخية قبل 1912، كما سبقت الإشارة. وأتحدّى من يدعي العكس أن يأتينا بمصدر يسمي المنطقة بـ"المغرب العربي" قبل 1912، ولا يسميها "بلاد إفريقية" أو "بلاد البربر" أو "الغرب الإسلامي". أما اللغة العربية فقد كانت معروفة ومستعملة من طرف الأمازيغيين قبل 1912. مما ينتج عنه أن استعمال العربية لم يؤدّ إلى تحول الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي. ـ ثانيا، هناك تجارب تاريخية عديدة لشعوب عديدة، كانت "متخلفة" ـ دائما مسايرة لمنطق التعريبيين ـ مثل الشعب الأمازيغي، فاحتلتها شعوب أجنبية حملت إليها الحضارة والثقافة والرقي، وعلّمتها لغتها الأجنبية التي أصبحت هي اللغة التي تستعملها تلك الشعوب التي كانت، مثل الأمازيغيين "المتخلفين"، بلا حضارة ولا ثقافة ولا لغة مكتوبة. لكن الفرق، الكبير جدا، هو أن كل هذه الشعوب، التي صارت، كما فعل الأمازيغيون، تستعمل لغات حضارية أجنبية، مثل العديد من الدول الإفريقية ودول أميركيا الجنوبية، لم تصبح، كما سبق بيان ذلك، ذات هوية جديدة تابعة لهوية الشعب صاحب اللغة الحضارية الأجنبية، كأن تصبح ذات هوية فرنسية أو إسبانية أو برتغالية أو إنجليزية. لماذا، إذن، العربية هي وحدها التي تجعل من الشعب الذي يستعملها شعبا عربيا، ومن دولته دولة عربية؟ واضح إذن أن وظيفة العربية، في هذه الحالة التي تعرّب فيها هوية الشعوب غير العربية التي تستعملها كلغة ثقافة وكتابة، هي وظيفة تعريبية هوياتية وإيديولوجية، وليست لغوية ولا ثقافية ولا حضارية. هذه الوظيفة التعريبية الهوياتية الإيديولوجية للعربية، هي ما نرفضه ونحاربه كشعب أمازيغي ذي هوية أمازيغية إفريقية غير عربية. فنحن لا نرفض ولا نحارب العربية كلغة، عندما لا تستعمل لتعريبنا وفرض العروبة العرقية كهوية لنا. ولنلاحظ جيدا أن العربية لم يسبق أن كانت مهمتها، قبل 1912، هي هذه الوظيفة التعريبية الهوياتية الإيديولوجية. ولهذا لم يكن للمرابطين، كما يحلو للتعريبيين أن يقولوا، أي مشكل مع العربية، لأنهم كانوا يستعملونها كمجرد لغة لا يفضي استعمالها إلى تعريبهم وتحويل جنسهم الأمازيغي إلى جنس عربي. وحتى إذا سلّمنا، مسايرة لمنطق التعريبيين كما نفعل في دحضنا لآرائهم، أن الأمازيغيين قد اختاروا العربية طوعا ولم يفرضها عليهم أحد، فهذا يؤكد أنهم اختاروا العربية كلغة، ولم يختاروا العروبة العرقية كهوية وانتماء. أما اليوم، فإن العربية أصبحت أداة تعريب للمغرب وللشعب المغربي وللدولة المغربية. ولهذا نكرر القول إننا نريد أن نكون مثل المرابطين في ما يخص استعمال العربية كلغة، لكن مع بقائنا شعبا أمازيغيا ومغربا أمازيغيا ودولة أمازيغية، كما كان المرابطون. رددنا على التعريبيين ودحضنا أطروحاتهم انطلاقا، كما سبقت الإشارة، من استدلالاتهم بمقدماتها ونتائجها، ذاهبين معهم أن الأمازيغيين كانوا شعبا "متخلفا" لم يعرف الحضارة والثقافة إلا بفضل العرب ولغتهم العربية. أما الحقيقة، كل الحقيقة، فهي أن اللغة الحقيقية اليوم في المغرب، واللغة الرسمية عمليا، ولغة الحضارة والاقتصاد والعلم والتقدم، هي اللغة الفرنسية، وليس العربية. وهو ما يؤكد أن وظيفة العربية هي التعريب، وليس العلم والحضارة والاقتصاد والتقدم. أما الحقيقة الأخرى، فهي أن العربية كانت دائما، قبل 1912، لغة أجنبية في المغرب، إذ كان متقنوها ومجيدو الكتابة بها يعدّون على الأصابع. وحتى إذا كانت هي لغة الكتابة، فإن التدريس كان يجري، في شقه الشفوي البيداغوجي، باللغة الأمازيغية. وكاتب هذه السطور هو نفسه تعلّم، في الخمسينيات من القرن الماضي، قواعد كتابة العربية في الكتّاب عن طريق الأمازيغية، التي كانت هي لغة الإلقاء الشفوي للدرس. ولا زال يتذكر ما كان يحفّظه معلمو الكتاتيب للتلاميذ من نظْم أمازيغي لتعلم الكتابة بالعربية، مثل: «ألف أور إنقّض، الباء إيشت سوادّاي، التاء ثناين سنّج، الثاء ثلاث سنّج...» (حرف الألف لا نقطة له، حرف الباء بنقطة تحتية، حرف التاء بنقطتين فوقيتين، حرف الثاء بثلاث نقط فوقية...). وليس الأمر اليوم، ورغم جنون التعريب، بمختلف في ما يخص الوضع "الأجنبي" للغة العربية، التي هي لغة رسمية بقرار سياسي وإداري، ولكنها ليست لغة وطنية، لأنه لا أحد من المواطنين يستعملها في حياته، علما أن اللغة الوطنية تُعرّف على أنها اللغة التي يتخاطب بها المواطنون في وطن ما. ولهذا فإن الفرنسية، التي ليست رسمية دستوريا في المغرب، هي أكثر وطنية من العربية، لأن العديد من المغاربة يستعملونها في التواصل والتخاطب اليومي، مثل الأمازيغية والدارجة، اللغتين اللتين تتوفر فيهما شروط اللغة الوطنية. لماذا إذن يحتقر التعريبيون، المتحولون الجنسيون، اللغة الأمازيغية وحدها لأنها، كما يقولون، ليست لغة علم وحضارة ورقي؟ فهل العربية هي، اليوم، لغة علم وحضارة ورقي؟ اذكروا لنا عدد المنجزات الحضارية والعلمية التي أُنتجت باللغة العربية؟ لا شيء. فلماذا تستعرضون عضلاتكم فقط في مواجهة الأمازيغية، كما يفعل الجبناء الذين يستعرضون شجاعتهم المزعومة فقط في مواجهة الضعفاء والعزل؟ لماذا لا تعترفون أن العربية لغة قاصرة وعاجزة ومتخلفة عن لغات العلم والاقتصاد والتقدم والحداثة، لا فرق بينها، من هذه الناحية، وبين الأمازيغية، التي لا تتعبون من تكرار أنها متخلفة وقاصرة وعاجزة؟ لكن لا تنسوا أن الفرق الكبير بين اللغتين، هو أن العربية تنفق عليها الملايين، وتفرض فرضا في المدرسة والإعلام والإدارة والقضاء. ورغم ذلك فهي لا تزداد إلا عجزا وقصورا وتخلفا في ما يتعلق بالإنتاج العلمي والتكنولوجي. أما الأمازيغية، فهي ليست فقط محرومة من المدرسة والإعلام والإدارة والقضاء، ومن أي دعم مالي، بل ظلت محاربَة طيلة أزيد من نصف قرن، مع بذل الدولة الملايين، ليس للنهوض بها، بل للقضاء عليها وتصفيتها بنهج سياسة التعريب المقيتة والإجرامية. نقول هذا عن العربية، ليس تشفيا فيها أو كرها لها، بل فقط دحضا لمنطق التعريبيين، الذين لا يجدون ما يردون به على واقع قصور وعجز العربية الحالي، سوى ترديد أنها كانت في الماضي لغة علم ومعرفة وحضارة. لكن لماذا كانت لها هذه الكفاءة؟ ولماذا فقدتها اليوم؟ كانت لغة علم ومعرفة وحضارة بفضل الأعاجم، أي الشعوب غير العربية، مثل الفرس والأكراد والأتراك والأمازيغ والأفغان...، الذين أنتجوا العلم والمعرفة والحضارة باستعمالهم للعربية، وهو ما أهّلها أن تكون لغة علم ومعرفة وحضارة بفضل هؤلاء الأعاجم، وليس بفضل العرب الذين حصروها ـ وحاصروها ـ دائما في مهام المدح والهجاء. لكن منذ أن بدأت، انطلاقا من القرن السابع الهجري، هذه الشعوب الأعجمية، التي خدمت اللغة العربية وجعلت منها لغة العلم والمعرفة لعدة قرون، في الاعتناء بلغاتها القومية والكتابة بها واستعمالها في الإنتاج العلمي والثقافي والأدبي بدل العربية، كالفارسية والتركية والأفغانية والأردو...، تراجعت العربية ودخلت مرحلة الضعف والانحطاط، وأصبحت يتيمة لا أهل لها يعتنون بها وينمّونها وينتجون بها المعرفة والعلم، لأن أهلها العرب غير مؤهلين لذلك. وهذا ما عناه المستشرق الفرنسي "ريجيس بلانشير" ((Régis Blachère عندما قال: «إن العرب لا يستحقون لغتهم». وعندما يؤهل الأمازيغيون، في إطار دولة المغرب الأمازيغية، لغتهم ويشرعون في استعمالها في الكتابة والتأليف، كما فعل الفرس والأتراك، سيكون ذلك عاملا آخر يُضعف اللغة العربية، لأنها ستفقد شعبا خدم هذه اللغة لمدة طويلة. وهذه النتيجة يعرفها ويتخوف منها التعريبيون جيدا. لهذا يعملون كل ما في وسعهم لتعريب الشعب الأمازيغي ومحاربة لغته الأمازيغية حتى يضطر إلى استعمال العربية، الشيء الذي يحافظ عليها ويساهم في تنميتها. لكن التاريخ يسير إلى الأمام باطراد ولا يقبل العودة إلى الخلف. فالمغاربة ماضون في تأهيل لغتهم الأمازيغية حتى تكون لغة كتابة وتأليف في إطار دولتهم الأمازيغية. إلا أن ذلك لا يعني نهاية للعربية عند الأمازيغيين. فبحكم أنهم مسلمون، فستحتفظ العربية بمكانة محترمة في قلوبهم وعقولهم، يواصلون تعلمها، ليس كلغة علم، بل فقط كلغة دين وفقه وتراث وعبادة، بعيدا عن استخدامها كأداة لتعريبهم وسلخهم عن أمازيغيتهم. وفي هذه الحالة، التي يواصلون فيها تعلم العربية رغم أنهم أحرار في هجرها والتخلي النهائي عنها، يصحّ القول إنهم فعلا "اختاروا" العربية، لوظيفتها الدينية لا غير، ولم يفرضها عليهم أحد.
|
|