|
|
الدارجة بين الجهل المقدّس ودعاوى الأكاديميين
بقلم: محمد بودهان
(26 ـ 11 ـ 2018) بين الجهل المقدّس والجهل الأكاديمي: إذا كانت التفسيرات الخاطئة، المؤسَّسة على قناعات دينية خاطئة، والتي يتبنّاها العامّة في فهمهم لموضوع اللغة، تنتمي إلى ما سمّاه المفكر الفرنسي أوليفيي روا Olivier Roy بـ"الجهل المقدّس" La Sainte Ignorance، الذي اختاره عنوانا لكتاب له حول الموضوع، فإن انتشار تفسيرات خاطئة، بخصوص نفس الموضوع، لدى مثقفين ومفكرين وجامعيين، ينتمي إلى ما سبق أن سمّيته، بالعدد 33 من شهرية "تاويزا" ليناير 2000، بـ"الجهل الأكاديمي"، أي ذلك الجهل الذي يصدر عن باحثين وعلماء وأكاديميين وأساتذة جامعيين ومتخصّصين، وهو ما يُضفي على هذا الجهل طابعا "علميا" و"أكاديميا" بحكم الموقع العلمي والأكاديمي لأصحابه. ولا يعني هذا ـ حاشا الله ـ أن هؤلاء الأساتذة والباحثين هم فعلا جهلاء، بالمعنى الحقيقي، بالموضوع المعني، أو تنقصهم المعرفة العلمية الضرورية لبناء فهم سليم لهذا الموضوع. وإنما يعني ذلك أنهم ينطلقون من قناعاتهم التعريبية كمقدّمات لتحليل الموضوع، وهو ما يحُول دون الفهم السليم لهذا الموضوع، لأنهم يخوضون في تحليله ومناقشته، ليس من أجل بناء هذا الفهم السليم، وإنما من أجل الدفاع عن نتائج جاهزة ومسبّقة تخص هذا الموضوع، وهي النتائج التي ينطلقون منها كمقدمات. ففي موقفهم من الدارجة، كما سنناقشه في ما سيأتي، ينطلقون من تمجيدهم للعربية وللتعريب كمقدمة. ثم يستخلصون من هذا المقدمة النتيجة التي تؤكد تمجيد العربية والتعريب. فليس هناك إذن جديد في التحليل والمناقشة، ولا تقدّم في المعرفة التي تخص الموضوع. فكل ما هناك هو حلقة مُفرغة، حيث تتكرر المقدمة في النتيجة، المكرورة نفسها في المقدمة. ننطلق من تمجيد العربية والتعريب، لننتهي إلى تمجيد العربية والتعريب. وقد كان النقاش حول الدارجة وعلاقتها بلغة التدريس، والذي أثارته، هذه المرة، كلمات دارجة تضمّنها كتاب للمستوى الابتدائي للموسم المدرسي 2018 ـ 2019، فرصة لاختبار مدى حضور هذا النوع من الاستدلال، الذي يعبّر عن "جهل أكاديمي"، بالمعنى الذي أوضحته، لدى مجموعة من المثقفين والمفكرين المغاربة، دون الكلام عن الحضور القوي للجهل المقدّس خارج الأوساط الأكاديمية، كالقول إن العربية لغة مقدّسة، وأنها لغة الجنة، وهي التي اختارها الله لكلامه القرآني، وهي اللغة الأولى التي تكلّمها آدم... أما التحجّج بكونها لغة الوحي والقرآن كدليل على قدسيتها وسموها وعبقريتها وخلودها، فهو شيء شائع حتى عند بعض الأكاديميين والأساتذة الجامعيين. فهذا الدكتور السيد المقرئ أبو زيد الإدريسي، أستاذ جامعي متخصص في اللسانيات، يقول بأن الدول الغربية معتكفة، وفي سرية تامة، على تدوين أرشيفها الوطني باللغة العربية لأنها هي اللغة الوحيدة الخالدة التي لا تتغير معانيها بعد ستة أو سبعة قرون عندما تكون اللغات الأخرى قد تغيرت بشكل لن يعود معه من الممكن قراءة وفهم الأرشيف الحالي الذي دوّن بهذه اللغات (انظر مداخلة الأستاذ المقرئ أبي زيد على "يوتوب"، وانظر ردنا على رابطي "هسبريس" و"تاويزا"). رغم شيوع هذه الحالات، التي يمثّلها الأستاذ المقرئ أبو زيد، والتي يختلط فيها الجهل المقدّس بالجهل الأكاديمي، أو الجهل المؤسَّس كما سمّاه الراحل محمد أركون، إلا أنني سأركّز، في هذه المناقشة، ودائما بخصوص موضوع الدارجة، على ظاهرة "الجهل الأكاديمي"، بالمعنى الذي سبق شرحه، والذي تكشف عنه بعض الآراء التي ساهم بها أصحابها، الجامعيون والأكاديميون، في النقاش الذي أثارته هذه الدارجة في علاقتها بلغة المدرسة. فبدل أن يفسّر لنا أصحاب هذه الآراء، من الأكاديميين والأساتذة الجامعيين، لماذا لا تصلح الدارجة أن تكون لغة مدرسة وتدريس، يكتفون بتبرير عدم أهليتها لذلك. وشتان ما بين التفسير، الذي ينبني على معطيات علمية وموضوعية، وبين التبرير الذي يستند إلى قناعات ذاتية واختيارات إيديولوجية. ولهذا تشكّل هذه التبريرات ـ وهي نسخة مطابقة لنفس التبريرات التي يكرّرها التعريبيون لمناوأة الأمازيغية ـ، التي استند إليها هؤلاء المعارضون لخيار التدريس بالدارجة، مجرد دعاوى أو مزاعم، لا تدعمها دراسة علمية ولا بحث أكاديمي، رغم أن أصحابها يتكلمون بصفتهم العلمية والأكاديمية. فما هي هذه الدعاوى أو المزاعم أو التبريرات، التي يعتمد عليها أصحابها لحرمان الدارجة من أن ترقى إلى لغة كتابة وتدريس؟ دعوى تعدّد الدارجات لتبرير حرمانها من المدرسة: من المبررات التي اعتمد عليها الرافضون لإدخال الدارجة إلى المدرسة لتأهيلها حتى يمكن لها أن تكون لغة تدريس في المستقبل، زعمهم أن هناك دارجات مختلفة من منطقة إلى أخرى، يصعب على المنتمي إلى هذه المنطقة أن يفهم دارجة المنتمي إلى منطقة أخرى، فضلا على أن هذا التعدّد، سواء تقرّر تدريس جميع الدارجات مراعاة للمساواة الديموقراطية بينها، أو تقرّر اختيار إحداها فقط دون الأخريات، فهو معضلة عندما يتعلق الأمر بالمدرسة. فهذا الدكتور أحمد شحلان يقول للتهويل من هذا التعدّد المزعوم: «لكي نكون عادلين في تعليمنا، يجب أن نضع مقرراً دراسياً لكل جهة من الجهات [...]. وعندها علينا أن نقسم المقررات حسب الجهات وحسب التقسيمات السياسية. وعندها سنحدث قطيعة بين المعارف في البلد الواحد، ثم نحدث قطيعة بين الأمة» (انظر مقاله بجريدة "هسبريس"). ونفس الشيء يقوله الدكتور إدريس الكنبوري في مقاله بجريدة "هسبريس" حيث كتب: «فإن الدارجة في المغرب ليست موحدة في الشمال والجنوب والغرب والشرق، فلكل جهة لهجتها المحلية التي لا تفهمها الجهة الأخرى»، محذّرا أن يؤدّي ذلك إلى تهديد للوحدة الوطنية كما جاء في إحدى تدويناته على "الفايسبوك": «لأن استعمال الدارجة مشروع للتفكيك الوطني لا للتوحيد. ذلك أن الدارجة دارجات». وهذا ما سبق أن عبّر عنه، أيضا، الأستاذ عبد الله العروي في حوار مطوّل له حول الدارجة بيومية "الأحداث المغربية" في أعدادها من 20 إلى 25 نونبر 2013، حيث قال إن مشروع تدريس الدارجة ثم التدريس بها ذو أبعاد «تروم تقويض الوحدة الوطنية». ويقول في نفس الحوار ليشرح، وبطريقة كاريكاتورية، اختلاف الدارجات من منطقة إلى أخرى: «إن المعلم البيضاوي الذي يعين بـ"أشاون" (شفشاون) لن يستطيع التواصل مع تلامذته الذين لا يفهمون دارجته البيضاوية، كما لا يفهم هو كذلك دارجتهم الشاونية»، و«سيصير التلميذ الشفشاوني معلما وسينقلب المعلم البيضاوي إلى متعلم» (انظر مناقشتنا لموقف الأستاذ العروي بجريدة "هسبريس"). لن نناقش فوبيا تعدد الدارجات عند هؤلاء المفكرين بتبيان أن حتى على فرض وجود دارجات قد تُدرّس كلها، وليس دارجة واحدة، فليس من الضروري أن يؤدّي هذا الوضع اللغوي المتعدد إلى تفكيك الوحدة الوطنية، كما يثبت ذلك وجودُ عدة دول موحّدة رغم أنها تضمّ لغات متعددة، رسمية ومدرّسة. لن نقف إذن عند هذا الجانب الفوبي السياسي لأن ما يهمّنا، من هذه المناقشة لموضوع الدارجة، هو الجانب اللسني والبيداغوجي في ارتباطهما بلغة التدريس. الغريب أن حتى العامّة من غير المتعلمين، الذين اعتادوا القول بأن الاختلافات الجهوية بين فروع الأمازيغية لا تسمح للمتحدث بأمازيغية هذه الجهة من التفاهم مع المتحدث بأمازيغية جهة أخرى، لم يغامروا بالقول إن المتحدث بدارجة منطقة مغربية معيّنة لا يفهم دارجة منطقة مغربية أخرى. ويبدو أن الأساتذة، الذين أشرنا إليهم، يحصرون وحدة اللغة في وحدة معجمها، فيستنتجون من اختلاف هذا المعجم من منطقة مغربية إلى أخرى اختلافا لدارجة كل منطقة عن دارجة منطقة أخرى، وهو ما يوضّحه الدكتور شحلان بمثال أن «"بغرير" مراكش هو "خرينــﮕـو" وجدة. و"غريبة" الرباط هي "بهلة" فاس». لكن لو كان صحيحا أن اختلاف المعجم من منطقة إلى أخرى داخل لغة واحدة، مثل الدارجة في حالتنا هذه، سيؤدّي إلى وجود دارجات متعددة، لنتج عن ذلك، أيضا، ولنفس السبب، وجود لغات عربية متعددة تختلف من بلد إلى آخر ضمن البلدان التي تستعمل اللغة العربية، بل من شخص إلى آخر من بين المستعملين للغة العربية. فتكون عربية لبنان، التي تستعمل كلمة "الموجبات"، كما في عبارة "قانون الموجبات والعقود اللبناني"، للدلالة على التعهّدات التي ينظمها القانون المدني، وعربية المغرب، التي تستعمل كلمة "الالتزامات"، كما في عبارة "قانون الالتزامات والعقود المغربي"، للدلالة على نفس الموضوع وبنفس المعنى، لغتين مختلفتين، لا يمكن معهما للباني والمغربي أن يفهم أحدهما عربية الآخر. وهذا غير صحيح، طبعا. ونفس هذا المنطق، الذي استند إليه أصحابنا لإقناعنا أن الدارجة دارجات مختلفة، سيعني، أيضا، عندما أسمّي في كتاباتي، أنا الذي أتقن العربية وأكتب بها، ملكَ الحيوانات بـ"لأسد" أو "الليث"، ويسمّيه كاتب سعودي بـ"الضرغام" أو "الهزبر"، وهما كلمتان لا أعرفهما ولا أفهم معناهما ولم يسبق لي أن وقفت عليهما في نص أو تعبير، (سيعني) أن العربية التي يكتب بها ذلك السعودي هي عربية أخرى مختلفة عن العربية التي أكتب بها. وهذا ليس غير صحيح فقط، بل هو خُلف وهراء. فما غاب عن أساتذتنا الأجلاء هو أن ما يوحّد لغة ما ليس استعمال المتواصلين بها لنفس الكلمات ونفس التعابير للدلالة على نفس الأشياء ونفس المعاني. «فاللغة الموحّدة، بهذا المعنى الحرفي والضيق الذي تعنيه صفة "موحّدة"، هي لغة افتراضية وغير موجودة في الواقع، لأنها قد توجد فقط في فضاءات ضيقة ومعزولة، كما داخل عائلة منطوية على نفسها، لا يعرف أعضاؤها إلا نفس التعابير ونفس الألفاظ المحدودة، التي اكتسبوها كلغة أم انتقلت إليهم من جدتهم، والتي يعيدون إنتاجها كما هي لعدم تواصلهم مع العالم الخارجي بسبب عزلتهم. لهذا فلغتهم موحّدة، أي يستعملون نفس المعجم ونفس التعابير للدلالة على نفس الأشياء» (انظر مزيدا من الشرح لهذه المسألة ضمن موضوعنا "أي تصور وأية مقاربة لتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة؟" على رابط "تاويزا"). وإنما توحدّها المدرسة، أو ما يقوم مقامها، عندما تعلّم لجميع المتعلمين نفس الكلمات التي تختلف من منطقة إلى أخرى، ونفس التعابير التي تتنوّع من منطقة إلى أخرى. وهكذا علّمتني المدرسة أن "الضرغام" و"الهزبر" يعنيان الأسد، وهو ما جعلني أفهم النصوص التي تستعمل هذين الاسمين كمرادفين لكلمة "أسد". ولأن الدارجة لم تثر ردود السادة الأساتذة، الذين استشهدنا بهم كنماذج، إلا لعلاقتها بالتدريس والمدرسة، فمشكلة تعدد الدارجات ـ نقول تعدد الدارجات مسايرة لمنطق أساتذتنا الذين نناقش آراءهم ـ هي إذن بسيطة وحلها بسيط، وهو أن المدرسة، عندما تُدرّس الدارجة، وهو ما يصدق كذلك على الأمازيغية، ستتكلّف بتوحيد هذه الدوارج حيث سيتعلّم التلميذ الوجدي أن "خرينــﮕـو" يُسمّى أيضا "بغرير"، ويتعلّم التلميذ المراكشي أن "بغرير" يُسمّى كذلك "خرينــﮕـو"، ويتعلّم التلميذ الفاسي أن "بهلة" تُسمّى كذلك "غريبة"، ويتعلّم التلميذ الرباطي أن "غريبة" تُسمّى أيضا "بهلة". أقول هذا مسايرة، كما أشرت، لمنطق الرافضين للدارجة بمبرر أنها لغة غير موحّدة، مكررين نفس المبررات الواهية التي لا زال البعض يعارض بها تدريس الأمازيغية. أما في الحقيقة، اللسنية والتواصلية، فهي أن الدارجة لغة موحّدة شفويا قبل أن تتدخّل المدرسة لتوحيدها، كما شرحت. ذلك أن اللغة قد توحّدها المدرسة، كما قلت، لكن يمكن، وقبل المدرسة والكتابة، وهذا هو الأصل في وحدة اللغة، أن يوحدّها التواصل الشفوي بين مختلف مستعملي تلك اللغة، رغم أنهم لا يتحدثونها بشكل واحد وموحّد، من حيث المفردات والصيغ التعبيرية التي تختلف من منطقة إلى أخرى. لكن كل واحد، مع ذلك، يفهم كلام الآخر الذي لا ينتمي إلى منطقته، وهو ما يعطي لهذه اللغة الوحدة التي تستمدها من وحدة التفاهم Intercompréhension، وليس من وحدة الألفاظ والتعابير المستعملة في الأصل بطرق مختلفة حسب اختلاف المناطق، كما سبقت الإشارة. فلأن التواصل بنفس اللغة، حتى وإن كانت صيغها مختلفة من منطقة إلى أخرى، لا ينقطع بين أعضاء المجموعة التي تستعمل هذه اللغة ذات الصيغ المختلفة، ينتج عن ذلك أن كل واحد من هؤلاء "يتعلّم" ويفهم "لغة" الآخر. وهو ما يجعل متحدثي هذه اللغة يتفاهمون في ما بينهم، رغم أن كل واحد منهم يستعمل "لغته" الجهوية، المتمثلة في المفردات والتعابير الخاصة بمنطقته. هكذا توحّدت الدارجة المغربية وأصبحت تشكّل Une Koinè، أي لغة مشتركة للمغاربة، ليس لأن جميعهم يتحدثونها بطريقة متجانسة ومتطابقة، وإنما لأن كل واحد منهم يستطيع أن يتواصل مع الآخر ويفهم ما يقوله. فرغم أن الدارجة الشاونية ليست هي الدارجة المراكشية، ولا هذه هي الدارجة الوجدية، إلا أن الشاوني والمراكشي والوجدي إذا التقوا، فإنهم يتواصلون في ما بينهم ويتفاهمون دون أدنى صعوبة، رغم أن لكل واحد "دارجته" التي تختلف عن "دارجة" الآخر. وليس هناك ما يدحض نظرية السادة الأساتذة حول تعدد الدارجات المانع، حسب زعمهم، للتفاهم بين المنتمين لجهات مختلفة، من تذكيرهم أنهم، في تنقلاتهم، لأسباب عائلية أو مهنية أو سياحية، إلى جهات أخرى من المغرب خارج الجهات التي ينتمون إليها ويتحدثون دارجتها، لم يحتاجوا إلى ترجمان ولا إلى لغة الإشارة للتواصل مع أبناء الجهة التي حلّوا بها، بل كانوا يتواصلون ويتفاهمون مع هؤلاء دون أدنى صعوبة أو عائق. فهل يستطيعون إنكار ذلك أو تكذيبه؟ ولا ننسى، فضلا عن سهولة وسائل التنقل والتواصل بين منطقة وأخرى، الدور الكبير والحاسم الذي لعبته، في تحقيق هذا التوحيد للدارجة، الإذاعة والتلفزيون والمدرسة خصوصا (نعم المدرسة لأن لغة التلقين هي الدارجة. أما العربية فهي مقصورة على الكتابة: الملخصات، التمارين، الفروض، الاختبارات والامتحانات...)، ثم الإدارة التي تشتغل وتتواصل مع المواطنين بالدارجة في الغالب الأعم، مما جعل من هذه الدارجة لغة للدولة لأن مؤسساتها ومرافقها وإدارتها تتعامل شفويا بالدارجة، إلا ما يخص الوثائق فهي مكتوبة بالعربية أو الفرنسية. نعم يمكن القول إن الدارجة، قبل القرن العشرين، كانت تتشكل من "دارجات" جهوية من الصعب على من ينتمي إلى جهة أن يتواصل ويتفاهم مع المنتمي لجهة أخرى. لماذا؟ لأنه لم يكن هناك تواصل بين الجهات لانعدام وسائل التنقّل المتوفرة اليوم، كما لم تكن هناك ضرورة اقتصادية لهذا التنقل لأن كل جهة، بل كل قبيلة، كانت تعيش على اقتصاد الاكتفاء الذاتي ولا تحتاج إلى أسواق تقع في مناطق نائية وبعيدة للتبادل التجاري، كما يحدث اليوم. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن هناك تعليم مدرسي عمومي يعمل على توحيد الدارجة، ولا إدارة عمومية ولا تلفزة ولا إذاعة تساهم في هذا التوحيد، بالشكل الذي سبق أن شرحناه. فانقطاع التواصل بين المناطق وغياب عوامل التوحيد التي أشرنا إليها، وهي المدرسة والإدارة والإعلام التلفزي والإذاعي، جعل دارجة كل منطقة تنمو وتتطوّر بمعزل عن دارجة المناطق الأخرى. لكن هذا الواقع تغيّر في القرن العشرين، وخصوصا بعد الاحتلال الفرنسي الذي كان له دور فعّال في توحيد الدارجة المغربية من خلال فك العزلة عن المناطق، وتسهيل التواصل والتبادل بينها، ومن خلال التعليم والإدارة والإعلام الإذاعي. ومع أواخر القرن العشرين، أصبحت الدارجة لغة مشتركة، ليس للمغاربة فقط، بل لكل المغاربيين من ليبيين وتونسيين وجزائريين وموريتانيين، إذ أصبحوا قادرين، إذا اجتمع مغربي وجزائري وتونسي وليبي وموريتاني، على التفاهم في ما بينهم باستعمال الدارجة رغم اختلاف بلدانهم وتباعد بعضها عن البعض بمسافات طويلة. لكل هذا فإن القول، وفي القرن الواحد والعشرين، ومن طرف مثقفين وأكاديميين مرموقين، إن الدارجة المغربية هي "دوارج" مختلفة ومتنوّعة لا يسمح اختلافها وتنوّعها بتدريسها، لأن «لكل جهة لهجتها المحلية التي لا تفهمها الجهة الأخرى»، هو قول لا يمكن تصنيفه إلا ضمن "الجهل الأكاديمي"، الذي يتسبّب فيه ليس نقص في العلم والمعرفة، بل زيادة في الأيديولوجيا التعريبية التي لا ترى أن العربية لغة، وإنما ترى أنها هي اللغة. دعوى أن لغة الأم ليست هي لغة الأمّة: بما أن الذين يدعون إلى التعليم بالدارجة ينطلقون من مفهوم "لغة الأم"، التي أثبتت دراسات علمية ميدانية ومقارنة (انظر مقال الدكتور عبد الله الحلوي: "الدارجة أم العربية؟" بـ"هسبريس")، وكذلك علم النفس المعرفي واللسانيات التطبيقية، أنها الأنسب للتعليم حتى لا تكون هناك قطيعة بين لغة البيت، التي يتقنها الطفل/التلميذ، ولغة المدرسة، فقد عمل الرافضون للدارجة، كلغة مدرسية، على تفنيد مفهوم لغة الأم كلغة صالحة للمدرسة. هذا ما فعله الدكتور شحلان عندما ناقش نصا لمنظمة "اليونسكو" يعرّف لغة الأم. يقول هذا التعريف، ضمن ما جاء فيه: «وهي كذلك (أي لغة الأم) اللغة المكتسبة بطريقة طبيعية تمامًا من خلال التفاعل مع المحيط المباشر، دون أي تدخل تربوي ودون تلقين لغوي مكتسب عن وعي. وتبعاً لنظريات Noam Chomsky وغيره من اللغويين، فصفة "لغة الأم" تستمر حتى سن الثانية عشرة. بعد هذه الخطوة (يقصد سن الثانية عشرة)، يظهر التباينُ في الحذق اللغوي لدى المتكلمين، وأي لغة يتم تعلمها تعتبر لغة ثانية». ويستنتج الدكتور شحلان من هذا التعريف الخلاصة التي يريدها ويبحث عنها رغم أن النص لا يتضمّنها، كما سنشرح، فيقول: «وتسمح لنا هذه العبارة الأخيرة (يقصد عبارة: "وأي لغة يتم تعلمها تعتبر لغة ثانية")، أقول تسمح، بأن نفهم أن اللغات التي تستعملها فرنسا وإنكلترا وأمريكا ووو، كلها لغات ثوانٍ تختلف عن لغة الأم حسب التعريف، لأن هذه اللغات تأخذ عند هؤلاء الناس، بواسطة قواعد النحو والصرف والبلاغة التي لا تدخل في تعلم لغة الأم ولا يعرفها الفرنسي أو الإنجليزي أو الأمريكي الذي لم يدخل المدرسة (الأمي) لسبب من الأسباب. إذاً نفهم بناء على هذا القول، أن نص اليونسكو يفرق بوضوح بين "لغة الأم" الطبيعية، و"لغة الأمة" المبنية على القواعد النحوية (تركيباً وصرفاً وبلاغة)». قلت إن الدكتور شحلان استنتج من تعريف "اليونسكو" ليس ما يقوله التعريف، بل ما يريد الدكتور شحلان أن يقوله هذا التعريف، لإقناعنا أن لغة الأم لا يمكن اعتمادها كلغة تعليم ومدرسة. ويستشهد، كأمثلة توضيحية، بالفرنسية والإنجليزية المستعملتين بفرنسا وبريطانيا وأميركيا، موضّحا أنهما لغتان يتعلّم الفرنسيون والبريطانيون والأمريكيون قواعدهما النحوية والصرفية والتركيبية في المدرسة، ولذلك فلا علاقة لهما، كما يستنتج، بلغة الأم الفرنسية والإنجليزية، بدليل، حسب رأيه، أن الأمّيين، الفرنسي والبريطاني والأمريكي، الذين لم يدخلوا المدرسة، يجهلون قواعد هاتين اللغتين. النتيجة التي يريد إيصالنا إليها الدكتور شحلان هي أن الفرنسية المعتبرة لغة فرنسية بفرنسا، والإنجليزية المعتبرة لغة إنجليزية ببريطانيا وأمريكا، هما الفرنسية والإنجليزية اللتان تُتعلّمان في المدرسة كلغتين ثانيتين مختلفتين عن اللغة الأولى التي هي الفرنسية الفطرية (لغة الأم) للفرنسي، والإنجليزية الفطرية للبريطاني والأمريكي. وكل ذلك من أجل أن يقنعنا أن حالة الفرنسية والإنجليزية هي نفسها حالة العربية التي يتعلّمها التلميذ في المدرسة المغربية، بقواعدها النحوية والصرفية والتركيبية، كلغة ثانية مختلفة عن لغته الفطرية الأولى التي هي الدارجة بالنسبة للتلميذ الدارجفوني. فالالتباس الذي وقع فيه الدكتور شحلان، وأراد أن يلبّسه لنا ويوقعنا فيه، هو أنه يعتبر كل لغة تُتعلّم عن طريق المدرسة فهي تدخل في ما سمّاه تعريف "اليونيسكو" باللغة الثانية، التي تُكتسب بعد لغة الأم وتختلف عنها. إذا كان هذا صحيحا بالنسبة للعربية ـ وهو مصدر الالتباس الذي وقع فيه الدكتور شحلان ـ لأنها فعلا لغة ثانية وجديدة بالنسبة للتلميذ الذي يأتي إلى المدرسة وهو يتقن لغته الأولى، التي هي الدارجة كلغته الفطرية، أي كلغة أم، فإن هذا ليس صحيحا بالمطلق في ما يخص غالبية اللغات الأخرى كالفرنسية والإنجليزية اللتيْن استشهد الدكتور شحلان بهما. ذلك أن التلاميذ الفرنسيين والبريطانيين والأمريكيين، عندما يلتحقون للمرة الأولى بالمدرسة، فلا يتعلمون لغة ثانية جديدة ومختلفة عن لغتهم الفطرية الأولى التي هي لغة الأم التي يتقنونها، كما هو حال التلميذ المغربي، وإنما يتعلمون فقط الكتابة بنفس لغتهم الفطرية (لغة الأم) التي يعرفونها ويتواصلون بها، ويتعلمون قواعدها النحوية والصرفية والتركيبية، التي كانت حاضرة في استعمالهم للغتهم الفطرية دون أن يكونوا واعين بها وضابطين لها. فالفرق إذن كبير، وكبير جدا، بين التلميذ المغربي الذي يبدأ، يوم دخوله إلى المدرسة، في تعلّم لغة جديدة وأجنبية عنه، وهي العربية المدرسية أو الفصحى، وبين التلميذ الفرنسي والبريطاني والأمريكي (لنحتفظ على أمثلة الدكتور شحلان) الذين يبدأون، يوم ولوجهم للمرة الأولى إلى المدرسة، في تعلّم الكتابة بلغة يعرفونها ويتحدثون بها، مع ما يصاحب تعلّم تلك الكتابة من اكتشاف لقواعدها النحوية والصرفية والتركيبية. فهذه اللغة المدرسية، التي يتعلم التلميذ الفرنسي والبريطلني والأمركي كتابتها وقواعدها، ليست إذن لغة جديدة ولا ثانية، كما ذهب الدكتور شحلان، قياسا على حالة العربية التي هي فعلا لغة جديدة وثانية بالنسبة للتلميذ المغربي. فالالتباس الذي وقع فيه الدكتور شحلان هو خلطه بين لغة مدرسية جديدة وثانية ومختلفة تأتي بعد اللغة الأولى التي هي لغة الأم، وبين تعلّم الكتابة في المدرسة، مع ما يستلزم ذلك من تعلّم للقواعد النحوية والإملائية، للغة سابقة يعرفها التلميذ ويتواصل بها لأنها هي نفسها لغته الأولى. النتيجة أن ما يسمّيه الدكتور شحلان "لغة الأمة" في مقابل "لغة الأم" هي، بالنسبة لغير العربية كالفرنسية والإنجليزية، نفس لغة الأم في مستواها الكتابي، والذي لا يختلف عن مستواها الشفوي إلا في ما يخص الشروط التي تفرضها الكتابة، مثل رسم الحروف بدل نطقها، والالتزام بالقواعد الإملائية التي تستلزمها هذه الكتابة. أما القواعد النحوية والصرفية، فكما هي مطلوبة في الكتابة، فهي حاضرة كذلك في الاستعمال الشفوي للغة الأم، سواء كان الناطق بهذه اللغة واعيا أو غير واعٍ بتلك القواعد، ومستوعبا أو غير مستوعب لها. وهكذا تشكّل هذه اللغات الحية، مثل الفرنسية والإنجليزية، التي يدرسها ويدرس بها التلميذ الفرنسي والبريطاني والأمريكي، امتدادا للغته الفطرية التي اكتسبها في البيت. فالمدرسة لا تعلّمه إذن لغة جديدة وثانية، كما يعتقد الدكتور شحلان قياسا على العربية، وإنما يقتصر دورها على تنمية وتطوير لغته الفطرية الأولى، وذلك بتوسيع معجمها وإغناء تعابيرها حسب توسّع معارف التلميذ، تبعا لتقدّم مستواه التعليمي واكتسابه لأفكار جديدة أكثر تجريدا تخصّ مجالات دراسية معينة، مثل التاريخ والجغرافية والفيزياء وعلوم الأرض والرياضيات والاقتصاد والقانون...، وهي أفكار يُعبّر عنها بمفاهيم هي كمات لغوية. وهكذا تغتني لغته موازاة مع اغتناء أفكاره وتوسّع معارفه، نتيجة للعلاقة السببية المتلازمة بين اللغة والفكر. هذه الاستمرارية بين لغة البيت ولغة المدرسة هي ما يسهّل التعلّم المدرسي ويجعله عملية طبيعية، لا تختلف في مبادئها عن الطريقة التي يكتسب بها الأمي، انطلاقا من لغته الفطرية وخارج أي تعلّم مدرسي، ألفاظا جديدة وتعابير جديدة للدلالة على الأفكار والمهارات والتجارب الجديدة التي يكتسبها طيلة حياته العادية والمهنية، والتي تنمّي لغته الفطرية موازاة مع تنمية تجاربه ومهاراته وممارساته الحياتية. في حين أن التلميذ المغربي، فلأن لغته المدرسية لغة ثانية وجديدة (العربية الفصحى)، فهي لذلك تشكّل قطيعة ـ وليس استمرارية ـ مع لغته الفطرية (لغة الأم) الأولى. وهو ما يجعل التعلّم بهذه اللغة الجديدة شاقّا ومكلّفا في الوقت والجهد والمال، وغير فعّال ولا منتج لأنه عملية غير طبيعية، تشبه الطريقة التي كان سيتعلّم بها الأمي مهارات مهنية جديدة تستعمل ألفاظا جديدة، لو كان يُشترط عليه تعلّم لغة جديدة أولا ليكتسب بها هذه المهارات المهنية الجديدة. ففي حالة هذا التلميذ المغربي، الذي يتعلّم باستعمال العربية لغة للتدريس، تصبح غاية التعلّم، أي غاية المدرسة، هي تعلّم هذه اللغة العربية. أما عندما يكون التدريس بلغة الأم، كما عند التلميذ الفرنسي والبريطاني والأمريكي، فإن الغاية من التعلّم والمدرسة هو تعلّم المعارف والأفكار والعلوم والمهارات. أما الاعتراض أن مسألة لغة الأم لا تُثار إلا لمواجهة العربية، ويُسكت عنها عندما يتعلّق الأمر بالفرنسية رغم أنها ليست بلغة أم للتلميذ المغربي، فهو في الحقيقة تأكيد غير مباشر لما قلناه عن الفرق بين التدريس بلغة الأم والتدريس بلغة أخرى جديدة ومختلفة عنها. فالفرنسية ـ وكل اللغات الأجنبية الأخرى الحية ـ، حتى وإن لم تكن لغة أم للمغاربة، فهي تتمتع بوضع لغة الأم في بلدها الأصلي. وهو ما يجعل التلميذ الذي يتعلّمها يستطيع، عند إتقانها، استعمالها في التخاطب مع كل الذين يتقنونها، عكس العربية التي لن يتخاطب بها في الشارع وفي الحياة مع أي ممن يتقنونها لأنها لغة مقطوعة الصلة بالشارع وبالحياة. ولهذا إذا كانت الأمازيغية والدارجة أفضل، كلغتي تعليم، من الفرنسية لكونهما لغتي أم، فإن هذه الأخيرة، أو أية لغة أجنبية أخرى تستعمل في التخاطب، أفضل بكثير، كلغة تعليم، من العربية. وهذا واضح إذا عرفنا أن المهاجر المغربي الأمي المستقر بفرنسا يتعلّم، وبدون مدرسة، وفي مدة قد تطول أو تقصر حسب الأشخاص والمحيط الذي يعيشون فيه، هذه اللغةَ الفرنسية كلغة للتخاطب وهو يجهل كتابتها لكونه أميا. وهذا ما يضفي على هذه اللغة، بالنسبة لمن يتعلمها بدون مدرسة ولا كتابة، ودون أن تكون لغته الفطرية الأصلية، صفة لغة الأم حسب أحد تعاريف "اليونسكو" الذي أورده الدكتور شحلان، وهو التعريف الذي يقول: «وهي كذلك (أي لغة الأم) اللغة المكتسبة بطريقة طبيعية تمامًا من خلال التفاعل مع المحيط المباشر، دون أي تدخل تربوي ودون تلقين لغوي مكتسب عن وعي». وهذا ما لا يتوفر في اللغة العربية التي لا يمكن تعلمها إلا عن طريق المدرسة أو ما يقوم مقامها. مما يجعل منها لغة نصف حية أو نصف ميته على اعتبار أن اللغة الحية هي التي يمكن تعلمها في الشارع وفي البيت وفي المعمل...، وبدون مدرسة ولا مدرّس، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية... ومن هنا تكون هذه اللغات أنسب وأصلح، كلغات تدريس وتكوين، في غياب لغتي الأم الأمازيغية والدارجة، من العربية عندما تُعتمد كلغة للتدريس. دعوى أن الدارجة لا تعلّم التلميذ معرفة جديدة لأنه يعرفها أصلا: من المبررات التي يُستند إليها لرفض الدارجة كلغة تدريسية، دعوى أنها لا تعلّم التلميذ شيئا جديدا لأنه يعرفها ويتقنها أصلا. يقول الدكتور شحلان: «فإذا وضعنا هذين الاسمين (يقصد "بغرير" و"غريبة") وغيرهما في مقرر مدرسي لم نقم بشيء، لأنه لا جديد معرفي بالنسبة للطفل الذي جاء ليتعلم، فهو يعرفهما أصلا، ووجودهما في المقرر عبث». ويضيف: «ولو كانت اللهجة الدارجة هي المقصود من العملية التعليمية، لكنا نعبث عندما نفتح المدارس وكل مؤسسات التعليم، لأن الكل يعرف اللهجة سليقة». ونفس الموقف يتبنّاه الدكتور الكنبوري الذي كتب في إحدى تدويناته على "الفيسبوك"، بخصوص النقاش حول الدارجة: «استعمال الدارجة لا يضيف للمخزون المعرفي للتلميذ شيئا، إنه يلقنه أشياء يعرفها سلفا. المدرسة في هذه الحالة تصبح امتدادا للشارع لا مؤسسة للتكوين، وهي لا ترتفع عن الشارع بل تنزل إليه». اعتبار الدارجة لغة لا يتعلّم منها التلميذ شيئا جديدا في المدرسة لأنه يعرفها أصلا وسليقة، هو موقف يعبّر عن فهم خاطئ للوظيفية الحقيقية للمدرسة، وذلك نتيجة لما ألفناه من اضطلاع المدرسة المغربية بتعليم التلميذ لغة جديدة لا يعرفها، وهي العربية، وهو ما رسّخ قناعة "شبه علمية" أن وظيفة المدرسة هي أن تعلّم التلميذ أولا لغة جديدة لا يعرفها ولا يتقنها، ليتعلّم بها، في مرحلة ثانية، المعارف والعلوم والأفكار... وقد سبق أن بيّنا (انظر مقالنا: "لم التدريس بالعربية...؟" على رابطي "هسبريس" و"تاويزا") أن هذه الوظيفة، المسندة للمدرسة المغربية بسبب لغة التدريس الجديدة والغريبة عن اللغة لفطرية للتلميذ، هي سبب مشاكل وتخلّف نظامنا التعليمي لأن هدف التعليم يصبح، ليس اكتساب المعارف والعلوم والأفكار والمهارات، بل اكتساب اللغة العربية، حيث تتحول الوسيلة إلى غاية فتضيع الغاية الحقيقية من التعليم والتي هي اكتساب التفكير والمعارف والعلوم والمهارات. نعم قد تكون الغاية هي إتقان لغة من اللغات، الجديدة والأجنبية عن لغة الأم، عندما يتعلق الأمر بتدريس هذه اللغة. وتدريس لغة ما جديدة شيء آخر ومختلف عن لغة التدريس، التي كلما كانت هي اللغة الفطرية للتلميذ كلما كان التعلم سهلا وطبيعيا ومفيدا ومنتجا، كما سبق أن شرحنا. بل إن التدريس بلغة الأم يسهّل كذلك تعلم اللغات الأخرى المدرّسة كلغات ثوانٍ وأجنبية. ولهذا لا أفهم كيف يقول الدكتور شحلان: «ولو كانت اللهجة العامية كافية بنفسها، لوجدنا في العامة علماء في علم الفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة ووو بالسليقة والطبيعة، وهكذا دواليك». فهل الفرنسية والألمانية ولإنجليزية لغات كافية بنفسها فأنجبت، بسبب كفايتها الذاتية هذه، "باستور" Louis Pasteur و"إينشطاين" Albert Einstein و"ستيفن هاوكينك" Stephen Hawking؟ فمهما كانت اللغة راقية ومتطوّرة، فإن إتقانها واستعمالها الشفويين، كلغة فطرية أولى، من طرف أمّي من العامّة لا يعرف قراءتها وكتابتها، لن يجعلا منه عالما في الفلك والرياضيات والفيزياء والفلسفة ووو... بالسليقة والطبيعة. فاللغة في حد ذاتها، ومكتفية بنفسها، لا تتضمن علم فلك ولا رياضيات ولا فيزياء ولا فلسفة... وإنما استعمالها الكتابي والتعليمي، وليس فقط الشفوي كما عند الأمّيين، هو الذي يجعل منها أداة لتحصيل هذه المعارف وتطويرها والإبداع فيها. فالفرق بين لغة تتمتّع بوضع لغة الأم، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية (الفشتالية) والأمازيغية والدارجة...، واللغة العربية التي فقدت هذا الوضع بصفة نهائية وأبدية، هو أن تعلّم مختلف المعارف، مثل الفلك والرياضيات والفيزياء والطب والفلسفة...، يكون، بالنسبة للتلميذ الذي تكون لغة تدرسيه هذه المعارف هي لغته الفطرية، أسهل وأفضل وأفيد وأنجح من تدريسها له بالعربية كلغة غير متداولة في الحياة. فهل نذكّر السيد شحلان بما يعرفه جيدا، وهو أن الدول التي حقّقت نهضة اقتصادية وتكنولوجية، مثل كوريا وفنلندا واليابان والسويد وهولاندا وماليزيا وتركيا...، هي دول تعتمد لغة الأم كلغة للتدريس، بجانب لغات حية تستعمل في التداول والتخاطب كالإنجليزية؟ فهل التعليم المتطوّر في هذه الدول هو عبث لأنه يستعمل لغة الأم التي يتحدثها الناس في الشارع ويعرفها التلميذ سليقة؟ دعوى أن التعريب لا دخل له في فشل نظامنا التعليمي: في ردّه على من يقول بأن التعريب خرّب تعليمنا، يقول الدكتور شحلان: «الذي خرب تعليمنا هو الجهل بوجود المخزون المصطلحي (يقصد للغة العربية)، هو التكوين الأجنبي لمن يضع المخططات الدراسية أو من يأمر بفعلها، هو صعوبة تلقين العلوم بالعربية على من قل زادهم فيها. افتحوا أقساماً جامعية تجريبية في تعليم العلوم المذكورة، يشرف عليها أساتذة أكفاء في اللغة العربية، وبهذه المعاجم التي ذكرنا، وسترون أي الأقسام أكثر استيعاباً، التي تعلم بالعربية أم تلك التي تعلم بلغة غيرها». رغم أن مسؤولية التعريب على فشل المنظومة التربوية في المغرب شيء مؤكد، تكفي لإثباته المقارنة البسيطة ـ والدكتور شحلان مؤهل لإجراء هذه المقارنة لأنه عايش كل مراحل تطور النظام التعليمي المغربي ـ بين مستوى تلميذ لسنوات السبعينيات بالسنة الأولى من التعليم الثانوي (يقابله الجذع المشترك)، وتلميذ في القرن الواحد والعشرين بالسنة النهائية من التعليم الثانوي التأهيلي (السنة الثانية باكالوريا). وستكون النتيجة صاعقة وصادمة، قد لا يصدّقها من لم يعايش تدهور النظام التعليمي منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، كما خبره وعايشه الدكتور شحلان وكاتب هذه السطور، وهو ما يسمح لنا، نحن الاثنين، بإجراء المقارنة التي أشرت إليها، لأننا نتوفر على كل عناصرها الخاصة بالمجموعتين من التلاميذ: المجموعة لما قبل تعريب التعليم، والمجموعة لما بعد هذا التعريب. تُبرز هذه المقارنة أن الكفاءات اللغوية للتلميذ الأول، في الكلام والقراءة والكتابة، بالفرنسية والعربية واللغات الأجنبية المدرّسة، وفهم نصوصها المكتوبة وتحليلها ومناقشتها، تفوق كفاءات التلميذ الثاني المتقدم في مستواه التعليمي عن الأول بسنتين. نكتفي بالاستشهاد بالكفاءات اللغوية دون غيرها، لأننا، أولا، بصدد مناقشة موضوع لغوي وهو لغة التدريس، وثانيا لأن من يملك كفاءات في اللغة فهو، باعتبار اللغة الوجه الآخر للفكر، يملك بالتأكيد ـ أو يسهل عليه أن يملك ـ كفاءات أخرى في مجالات معرفية أخرى. وعندما نبحث عن سبب هذا التدهور للتعليم، والذي تكشف عنه هذه المقارنة، سنجده يكمن في متغيّر بارز يشكّل الفارق بين ما كان عليه التعليم من مستوى جيد ومتقدّم، وبين ما هو عليه اليوم من رداءة وتخلّف. هذا المتغيّر هو فرض العربية كلغة للتدريس في الابتدائي والثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي. فكان ذلك بداية للسقوط ـ بل للسقطة ـ الحر للتعليم في المغرب. نعم نعترف أن هناك عوامل أخرى لهذا السقوط، لكن دورها كان ثانويا وغير مباشر، عكس التعريب الذي كان بمثابة الضربة القاضية والقاصمة، والسببَ الفوري المباشر. أما التعريبيون، ومنهم الدكتور شحلان والدكتور الكنبوري، فيرجعون، كما هو معلوم، تدهور التعليم، ليس إلى لغة التدريس، بل إلى قرارات تخص سياسة التعليم يتخذها مسؤولون فرنكوفونيون ومعادون للعربية، حسب رأيهم. ويُستنتج من كلام الدكتور شحلان عندما يقول: «افتحوا أقساماً جامعية تجريبية في تعليم العلوم المذكورة، يشرف عليها أساتذة أكفاء في اللغة العربية، وبهذه المعاجم التي ذكرنا، وسترون أي الأقسام أكثر استيعاباً، التي تعلم بالعربية أم تلك التي تعلم بلغة غيرها»، أنه لا يفرّق بين الدور الحاسم للغة التدريس في مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي ودورها العادي في مرحلة التعليم الجامعي. ولهذا فهو يطرح تدريس العلوم بالعربية على مستوى التعليم الجامعي. مع أن العربية ليست مشكلا أن تُدرّس بها العلوم في الجامعة ولا أن يكوّن بها الأطباء والمهندسون في هذا المستوى من التعليم العالي. هي مشكل فقط في مرحلة التكوين الأساسية، التي تشمل التعليم الابتدائي والثانوي. لماذا؟ «لأن في هذه المرحلة، الممتدة من التعليم الأولى حتى نهاية مستوى التأهيلي (الباكالوريا)، يتشكّل تفكير التلميذ ويكتسب المهارات المعرفية الأساسية، وتتبلور رؤيته للعالم وفهمه للأشياء والمجتمع والتاريخ... وعندما تتدخّل لغة نصف حية في إنتاج هذا التفكيرَ، وصنع هذه المهارات وصوغ هذه الروية والفهم، فإن كل هذه المقوّمات، من تفكير ومهارات ورؤية وفهم، تكون هي نفسها نصف حية، أي قاصرة وناقصة ومتخلفة ومتجاوزة وغير صالحة، نظرا لتأثير اللغة على تشكّل الفكر ونموّ التفكير. وهذا ما يجعل العربية غير ملائمة أصلا لاكتساب العلوم الحقة، من فيزياء وكيمياء وفلك وطب وبيولوجيا وهندسة... نعم يمكن لعالِم تلقى تكوينه العلمي بلغة حية ومتداولة، أن يستعمل العربية في مرحلة لاحقة، كأن يدرّس بها في المستوى الجامعي، لأنها لن تعيقه عن اكتساب العلم الذي سبق أن حصّله باستعمال غير اللغة العربية» (من مقال: "لِمَ التدريس بالعربية...؟) ولهذا فإن ما يدعو إليه الدكتور شحلان من مقارنة بين نتائج تدريس العلوم بالعربية بأقسام جامعية، وبين نتائج أقسام من نفس المستوى تُدرّس تلك العلوم بلغات أخرى، غير مجدٍ وخارج الموضوع الذي يخص لغة التدريس الأنسب والأفضل، حتى لو أثبتت مقارنة النتائج أن الأقسام العربية متقدّمة عن الأقسام التي تستعمل غير اللغة العربية. ستكون المقارنة مجدية بين أقسام جامعية لتدريس العلوم بالعربية أو بغيرها، وبطلبة درسوا في المرحلة الابتدائية والثانوية بغير العربية، وبين أقسام أخرى من نفس الشعبة ونفس المستوى الجامعي ونفس لغة التدريس، لكن بطلبة درسوا في المرحلة الابتدائية والثانوية باللغة العربية. فالأكيد أن نتائج الطلبة الذين كانت لغة دراستهم الابتدائية والثانوية هي العربية، ستكون أضعف من نتائج الذين كانت لغة دراستهم الابتدائية والثانوية هي غير العربية. فالعربية قاصرة، لكونها ليست لغة أم ولا تُستعمل في التخاطب، فقط كلغة أساسية للتكوين الأساسي، الذي يشمل المرحة الابتدائية والثانوية. أما بعد هذه المرحلة، فهي تصلح، مثل اللغات الأخرى، لتدريس العلوم في الجامعة وتكوين الأطباء والمهندسين. وفي دفاعه عن التعريب والعربية الفصحى يقول الدكتور الكنبوري في إحدى تدويناته على "الفايسبوك": «من عناصر هذا الخطاب (يقصد الخطاب الداعي إلى الاستعمال المدرسي للدارجة) أن فشل سياسة التعريب في المغرب دليل على فشل الفصحى. [...] نحن نقول إن سياسة التعريب ليست وحدها من فشلت. فشلت سياسات كثيرة منها سياسة التصنيع وسياسة التقويم الاقتصادي وغيرها من السياسات. فشل سياسة التعريب سببه "السياسة" لا التعريب». نعم، صحيح أن سياسة التصنيع وسياسة التقويم الاقتصادي وغيرها من السياسات فشلت. لكن لماذا فشلت؟ لأن التعليم، الذي هو الصانع للإنسان الكفء والمؤهل لإنتاج أسباب الثروة والتنمية الاقتصادية، والذي (الإنسان) هو شرط لكل سياسة تصنيع ناجحة، ولكل تخطيط اقتصادي ناجح، فشل فجرّ معه، كتداعيات لفشله، فشلَ كل السياسات ذات الارتباط بما هو اقتصادي وتنموي. ولماذا فشل التعليم في صنع هذا الإنسان الكفء المؤهل؟ لأن لغة التدريس التي هي العربية، غير كفأة ولا مؤهلة لتكوين إنسان بكفاءات ومهارات ومعارف يتوقف عليها نجاح سياسات التنمية والتقدم لبلد ما. ويضيف الدكتور الكنبوري في نفس التدوينة، وبشأن نفس الموضوع، ليٌقنعنا أن الدعوة إلى الدارجة مشروع فاشل: «سياسة التعريب فشلت، رغم أن العربية الفصحى موجودة من قديم، ولنقل فقط منذ 1956 [...]. كيف فشلت سياسة تعليمية لغتها قائمة من زمان وتنجح سياسة لغتها مجرد مشروع؟». إذا كانت سياسة التعريب قد فشلت رغم أن العربية قائمة منذ زمان، أفليس ذلك بكافٍ لوحده لإعطاء المشروعية لتجريب الدارجة كبديل عن العربية الفاشلة؟ الدكتور الكنبوري يستغرب من الدعوة إلى الدارجة لإنقاذ التعليم الذي أفشلته العربية الفاشلة، مع أن ما كان سيثير الاستغراب حقا هو الإصرار على الاستمرار في ممارسة ما ثبت فشله، ورفض اللجوء إلى حلول ممكنة للخروج من هذا الفشل. فحسب هذا الموقف للدكتور الكنبوري، لا ينبغي إذن على الإنسان أن يتعلّم من الأخطاء ويعمل على تصحيحها وتجاوزها، بل عليه الحفاظ على نفس الأخطاء ومواصلة تكرارها وإعمالها. وهذا ما حدث بالفعل مع تعريب التعليم بفرض العربية لغة للتدريس: فجميع المسؤولين والسياسيين يعرفون ويعترفون أن ذلك كان خطأ قاتلا للتعليم. ولكن لا أحد يمتلك الشجاعة لتصحيح هذا الخطأ. ولتبرئة العربية كلغة للتدريس من مسؤوليتها في تدنّي مستوى أداء النظام التعليمي في المغرب، يقول الدكتور الكنبوري في تدوينة أخرى: «لنكن صرحاء. اللغة لم تكن مشكلة أبدا ولن تكون. الطفل لديه قدرات للتعلم بأي لغة كانت. في المرحلة الاستعمارية كانت فرنسا تذهب إلى الأطفال في البوادي النائية وتدخلهم إلى المدرسة وهم لا يعرفون كلمة واحدة بالفرنسية. لذلك كان الجيل الأول والثاني أكثر تعليما وأكثر كفاءة. في مرحلة الاستقلال كان التعليم بالعربية الفصحى. وكان الطفل لا يعرف كلمة واحدة بالفصحى، لكن التعليم كان قويا وأعطى نتائج. أنا درست على يد أحمد بوكماخ في مقرراته العبقرية الفذة وبدأت كتابة الشعر في السنة الأولى إعدادي، وكان معي تلاميذ جهابذة في الشعر والأدب والمسرح. لم نسمع أبدا أن هناك مشكلة في اللغة». كل هذا صحيح، لكن بعد تصحيحه: ـ نعم الطفل لديه قدرات للتعلم بأية لغة. لكن بشرط أن يكون متمكّنا من لغته الفطرية الأولى (لغة الأم) كلغة أساسية للتعلم ـ أو عند غيابها من لغة ليست لغته الفطرية ولكن لها أصلا وضع لغة أم ـ، والتي عبرها وانطلاقا منها يسهل عليه تعلم أية لغة أخرى والتعلم بها. وغياب لغة مثل هذه، أي كلغة أم للتلميذ أو كلغة لها وجود كلغة أم لغير التلميذ، تكون لغة التدريس والتعلم بالنسبة للتلميذ المغربي، هو الذي يفسّر ضعف تعلّمه بالعربية وباللغات الأجنبية الأخرى، لأن لغته الأساسية، التي هي العربية، لا تتمتع بوضع لغة أم لأحد في كل الدنيا، ولا لغة التخاطب في الحياة، بل هي لغة الكتابة فقط، مما يجعل منها لغة نصف حية أو نصف ميتة، كما قلت وكررت، وهو ما يفسّر إعاقتها وقصورها اللذيْن تنقلهما إلى من يتلقّى تكوينه الأساسي بها. ـ نعم، في فترة الاستعمار الفرنسي كانت فرنسا تذهب إلى الأطفال في البوادي النائية وتدخلهم إلى المدرسة وهم لا يعرفون كلمة واحدة بالفرنسية. لذلك كان الجيل الأول والثاني أكثر تعليما وأكثر كفاءة. وهذا صحيح لأن لغة التدريس، التي هي الفرنسية التي ليست لغة أم للتلميذ إلا أنها، كما سبق أن شرحت، موجودة أصلا كلغة أم بالنسبة للفرنسيين، وموجودة كلغة تخاطب في الحياة، وهو ما يجعل التعلّم بها لا يختلف إلا قليلا، من حيث دور اللغة وفاعليتها، عن لغة الأم حتى بالنسبة للتلميذ غير الفرنسي. والشاهد على ذلك، كما سبق شرح هذه المسألة، أن التلميذ المغربي الذي يتقن الفرنسية يستطيع استعمالها في التخاطب مع مغاربة آخرين يتقنونها. في حين أن المغاربة الذين يتقنون العربية الفصحى لن يستعملوها في التخاطب في ما بينهم، لأنها لم تعد تقوم بوظيفة التخاطب، بعد أن أصبح استعمالها محصورا ومقصورا على ما هو كتابي فقط. ـ أما أن «في مرحلة الاستقلال كان التعليم بالعربية الفصحى. [...] لكن التعليم كان قويا وأعطى نتائج»، فهذا غير صحيح إطلاقا. فالمشكل لا يتعلق بالعربية كلغة تدرّس، وهو ما كان متاحا وممارسا منذ الاستقلال. وإنما المشكل هو لغة التدريس، والتي كانت، كما يعرف الدكتور الكنبوري، هي الفرنسية منذ السنة الثالثة ابتدائي في كل نظام التعليم العمومي العصري، والتي كانت تدرّس بها ليس المواد العلمية فقط كالرياضيات (الحساب كما كان يُسمّى في ذلك الوقت) والعلوم الطبيعية، وإنما حتى المواد الأدبية مثل الاجتماعيات والفلسفة في التعليم الثانوي. ولهذا لا بد من التدقيق والتوضيح والتصحيح أن التعليم إذا كان «قويا وأعطى نتائج»، في تلك الفترة التي تلت الاستقلال، كما يقول الدكتور الكنبوري، فذلك لأن لغة التدريس كانت هي الفرنسية وليس العربية التي لم تكن سوى لغة تُدرّس. ـ ونفس الشيء يقال عن فترة مقررات أحمد بوكماخ. فطيلة هذه الفترة التي كانت تُستعمل فيها كتب بوكماخ، كانت لغة التدريس هي الفرنسية وليس العربية. وإذا كان هناك «تلاميذ جهابذة في الشعر والأدب والمسرح»، فذلك لأن العربية كانت تُدرس كلغة بجانب الفرنسية كلغة للتدريس. وهو ما جعل التلاميذ يستوعبونها كلغة، عكس تلاميذ اليوم الذين هم أقل تمكّنا في العربية من نظرائهم لتلك الفترة، رغم أن العربية هي اليوم لغة التدريس. لماذا؟ لأن العربية تُدرّس اليوم، ليس كلغة كما كانت في تلك الفترة، بل كإيديولوجيا وهوية مفروضة كلغة للتدريس، ترمي ليس إلى جعل التلميذ يتقن هذه اللغة ويعبّر بها كتابة، بل إلى جعله عربيا، انتماء وهوية، قلبا وعقلا، شعورا ووجدانا. فضاعت اللغة العربية، رغم كونها لغة التدريس، ونجحت العروبة ونجح التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي من خلال فرض العربية كلغة للتدريس، أي كهوية عربية وإيديولوجيا تعريبية تمارس عملية التحويل الجنسي على المغاربة. وقمة الجهل الأكاديمي عند العديد من هؤلاء الأكاديميين التعريبيين، والذي تغذّيه نظرية المؤامرة، هي أنهم يقولون إن الدعوة إلى تبنّي الأمازيغية والدارجة كلغتين مدرسيتين هي دعوة فرنكوفونية، ترمي إلى التمكين للغة الفرنسية عندما لا تجد لها ندّا ولا منافسا في مستوى اللغة العربية. مع أن الحقيقة هي أن التدريس بالعربية هو الذي يمكّن للفرنسية ويرفع من قيمتها في السوق اللغوية بالمغرب. لماذا؟ لأن العربية، بعد أن فقدت وظيفة التخاطب في الحياة، فقدت ما كان سيجعل منها ندّا حقيقيا ومنافسا يهدّد بجدية الفرنسية. ولهذا نجد أن التلميذ المغربي، ورغم أنه يدرس الفرنسية كلغة والعربية كلغة للتدريس، إلا أنه يستطيع استعمال هذه الفرنسية في التخاطب في السوق والمقهى مع من تعلّموها من المغاربة، والتحدّث بها كذلك في الشارع بفرنسا إذا سافر إليها. لكنه لا يستطيع، كما سبقت الإشارة، التخاطبَ في الشارع بالعربية مع من يتقنونها قراءة وكتابة، لا في المغرب ولا في بلد عربي. وهنا يظهر تفوّق الفرنسية، كلغة حية تُستعمل في التخاطب، على العربية كلغة تستعمل في الكتابة فقط ولا تستعمل في التخاطب، مما يجعل منها لغة معاقة، نصف حية أو نصف ميتة، وعاجزة بالتالي على أن تكون ندّا ومنافسا للفرنسية. وهذا ما يوفّر كل الفرص والشروط لهيمنة الفرنسية. ولهذا فإن اللغتين الوحيدتين القادرتين على منافسة الفرنسية وطردها وإزاحتها من عرشها اللغوي في المغرب، هما الأمازيغية والدارجة. لماذا؟ لأنهما، مثل الفرنسية وعكس العربية، تؤدّيان وظيفة التخاطب الشفوي في الحياة. فإذا توفرت الإرادة السياسة لاستعمالهما كلغتين مدرسيتين وكتابيتين، فإن الفرنسية ستختفي تلقائيا من المغرب كلغة مهيمنة في أجل قد لا يتعدّى ثلث قرن من الزمن. لماذا؟ لأن وظيفة التخاطب التي تقوم بها الفرنسية كلغة حية، والتي لا تستطيع أن تقوم بها العربية، مما يجعل الأولى مهيمنة ومتفوّقة، ستقوم بها الأمازيغية والدارجة اللتان ستكتسبان، بولوجهما المدرسة والتعليم، وظيفة الاستعمال الكتابي، مما سيؤهّلهما لأن تقوما بكل وظائف الفرنسية، من تخاطب وكتابة. كل هذا يبيّن ويؤكّد أن التعريب سياسة فرنكوفونية تخدم اللغة الفرنسية، وأن المناوئين للأمازيغية والدارجة باسم الدفاع عن العربية، هم مدافعون عن الفرنسية. والخطير في هذا الدفاع عن الفرنسية هو أن أصحابه، التعريبيين المتحوّلين، يمارسونه دون وعي بذلك في الغالب، لأن الإيديولوجية التعريبية أعمت أبصارهم وبصائرهم. دعوى أن الدارجة لا تملك مصطلحات علمية: كذلك يقول هؤلاء الرافضون لولوج الدارجة إلى المدرسة إن هذه الدارجة لا تملك مصطلحات علمية، ولا تراكما ثقافيا، ولا غنى معجميا ليسمح ذلك باعتمادها لغة مدرسية. يقول الدكتور شحلان: «وهذا لا يصدق على "الدوارج" المصطبغة بصبغة المحلية، الخالية تماماً من مدونات المصطلح العلمي بطبيعتها الوظيفية المياومة. وإنما يصدق على اللغة الموَحَّدَة المقعَّدة ذات التراكم المعرفي الشامل». ويقول الدكتور الكنبوري: «إن الدارجة في المغرب لا يمكن أن تكون "لغة" للتدريس للأسباب المعروفة، أنها تفتقر إلى معجم مستقر ولا تتوفر على قواعد منضبطة يمكن الجريان عليها وليست لديها قابلية للارتفاع إلى مستوى الأداء المعرفي». وقد سبق للأستاذ العروي أن قال بأن الدارجة لا تتوفر على نصوص لتدريسها للتلميذ. التذرع، لرفض تدريس الدارجة والتدريس بها، بفقرها المعجمي والمصطلحي وعدم توفّرها على تراكم ثقافي، يعبّر عن نظرة سكونية ولا زمانية إلى اللغة الدارجة، تساوي بين زماني ما قبل وما بعد تدريسها واستعمالها الكتابي، أي تنظر إليها حتى بعد تدريسها واستعمالها الكتابي، ليس كما ستكون بعد هذا التدريس والاستعمال الكتابي وبسببهما، بل كما هي الآن، أي كلغة شفوية، محرومة من المدرسة ومن الاستعمال الكتابي. ومن الطبيعي أن لغة بهذا الوضع لا يمكن إلا أن يكون معجمها فقيرا وتراكمها الثقافي منعدما وغائبا. وهذا ما كانت عليه العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية (الفشتالية) والكورية واليابانية ووو، قبل أن تدخل عالم الكتابة والتعليم. فما يجعل اللغة تكتسب مصطلحات جديدة وتُراكِم إنتاجا ثقافيا هو تعليمها المدرسي قصد استعمالها الكتابي، الذي يفتح لها الباب الواسع للإنتاج الثقافي والفكري، مع ما يصاحبه ويؤدي إليه من تهذيب معجمها وإغناء مصطلحاتها، والارتقاء بها إلى لغة لنقل وإنتاج الفكر والمعرفة والعلم والثقافة. فلا معنى إذن للقول، لرفض تدريس الدارجة، إنها لا تملك مصطلحات علمية ولا تراكما ثقافيا، ذلك أن وضعها هذا، كلغة بلا مصطلحات علمية ولا تراكم ثقافي، هو الذي يعطي الشرعية والمشروعية لإدماجها في التعليم وجعلها لغة كتابية ليمكّنها ذلك من إنتاج واستعمال المصطلحات العليمة، والإبداع في المجال الثقافي والفكري بفضل ارتقائها إلى وضع لغة كتابية. ولهذا لا يمكن الحكم على الدارجة كما هي اليوم، بدون مصطلحات ولا تراكم ثقافي. فلا معنى لهذا الحكم إلا بعد أن تستفيد من المدرسة والكتابة لمدة كافية لأن تجعلها تعيد إنتاج نفسها كلغة مدرسية وكتابية. وباستعمالها المدرسي والكتابي المتواصل، ستخضع تلقائيا لعملية تهذيب وتطوير يؤديان، تلقائيا كذلك، إلى الاحتفاظ على ما هو أنسب وأصلح، معجما ومصطلحا وتعبيرا، وهو ما سيسمح لها بإنتاج واستعمال مزيد من المصطلحات والمفاهيم حسب مجالات المعرفة التي ستُستعمل فيها الدارجة كلغة مدرسية وكتابية. فإذا كانت المدرسة لن تصنع لغة دارجة جديدة، لأن هذه موجودة خارج المدرسة، إلا أنها، كما يجري العمل مع كل اللغات الحية (المستعملة في الكتابة وفي التخاطب في الحياة)، ستصنع مستواها الكتابي، بإكراهاته الإملائية والتعبيرية والمصطلحية، دون أن يعني ذلك أن هذا المستوى الكتابي هو لغة جديدة تختلف عن الدارجة الشفوية، كما في حالة اللغة العربية التي لا تملك إلا مستوى واحدا هو المستوى المدرسي الكتابي، بسبب فقدانها النهائي والأبدي لوظيفة التخاطب الشفوي في الحياة. ولهذا فإن تساؤل الدكتور مصطفى بنحمزة (انظر مقاله بـ"هسبريس") «عن ألفاظ عامية بإمكانها أن تنوب مناب كلمات من مثل الذمة والأهلية والسبر والتقسيم وتنقيح المناط وغيرها من كلمات المعجم الأصولي»، لا معنى له إلا بالنسبة للوضعية الحالية التي توجد عليها الدارجة كلغة محرومة من المدرسة ومن الكتابة. أما عندما تلج المدرسة والكتابة، فإن الممارسة المدرسية والكتابية ستجعلها، كما أشرت، تنتج الألفاظ التي تحتاج إليها للتعبير عن المفاهيم الجديدة الخاصة بمجال معرفي معيّن. وفي هذه الحالة، المتعلقة بالمفاهيم الأصولية التي مثّل بها الدكتور بنحمزة، يمكن للدارجة أن تنحت ألفاظا جديدة تنتمي إلى معجمها الأصلي، للتعبير عن هذه المفاهيم الأصولية، أو تكتفي بالاحتفاظ على تللك الألفاظ العربية نفسها وتتبنّاها كألفاظ جديدة تغني معجمها ومصطلحاتها، كما فعلت العديد من اللغات، كالعربية نفسها التي تبنّت، حديثا، ألفاظا أجنبية مثل: ديموقراطية، برلمان، ديكتاتورية، تكنولوجيا...، وكما فعلت قديما بالنسبة لألفاظ مثل: شيطان، جهنم، زمهرير، برنامج، سلسبيل... فمشكلة المفاهيم والمصطلحات لا تُطرح إذن إلا بالنسبة لأصحابنا الذين يتصوّرون أن الدارجة ستدخل إلى المدرسة بوضعها الحالي، الذي هو وضع غير مدرسي وغير كتابي، لتستمر على نفس الوضع، أي كلغة غير مدرسية وغير كتابية. التناقض هنا ناتج عن النظرة السكونية واللازمانية إلى الدارجة، والتي تجعل أصحابها ينظرون إلى هذه الدارجة، وهي تدرّس وتُكتب، على أنها نفس الدارجة المحرومة من المدرسة ومن الكتابة. مع أنهم لو استطاعوا النظر إلى الموضوع أبعد من الأرنبة التعريبية لأنوفهم، لأدركوا أن جميع اللغات، التي تستعمل اليوم في إنتاج العلم والثقافة والفكر والتكنولوجيا، بدأت كالدارجة، أي كلغات شفوية وفقيرة في مفاهيمها ومصطلحاتها. لكن بفضل التعليم والكتابة، وصلت إلى ما هي عليه اليوم. ويكفي أن نذكّرهم، مرة أخرى، أن اللغة المالطية، وهي في الأصل لهجة مغاربية تونسية لا تختلف كثيرا عن الدارجة المغربية، كانت إلى حدود 1934 أضعف وأفقر، من حيث المصطلحات والمفاهيم المجردة، من الدارجة المغربية الحالية بسبب انقطاع علاقتها بالعربية وبالعالم العربي والإسلامي منذ أن استولى المسيحيون على "مالطا" في أواخر القرن الحادي عشر (انظر مقالنا حول اللغة المالطية على رابط "تاويزا"). لكن منذ أن قررت الدولة المالطية استعمالها ابتداء من 1934 كلغة رسمية للدولة وفرضتها كلغة مدرسية وكتابية، أصبحت اليوم لغة العلم والاقتصاد والتكنولوجيا والطب والهندسة، بل أصبحت إحدى اللغات الرسمية للاتحاد الأوروبي. فهل تساءل دكاترتنا عن الطريقة التي تعاملت بها الدارجة المالطية مع المصطلحات العلمية والمفاهيم الفكرية المجردة، وهي التي لم تكن قبل ولوجها إلى المدرسة والكتابة، سوى مجرد لهجة شفوية بدائية لا تصلح لنقل المعرفة ولا لإنتاجها؟ دعوى أن اعتماد الدارجة سيُحدث قطيعة مع التراث: ومن الدعاوى التي يبرر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون رفضهم لأن تصبح الدارجة لغة مدرسة وكتابة وإنتاج ثقافي وفكري، تخوّفهم من انقطاع الصلة بالتراث العربي الإسلامي المكتوب بالعربية الفصحى. فالأستاذ العروي يقول بأن الدارجة، إذا تم إقرارها كلغة مدرسية وكتابية، «ستخلق جيلا جديدا منفصلا تماما عن العربية وثقافتها وما تزخر به من كنوز ستحرمه من الاطلاع عليها»، تضمّ «كتاب "ألف ليلة وليلة" و"بخلاء الجاحظ" و"كليلة ودمنة"». ويقول الدكتور شحلان بأن العامّيات «كلها لم تصنع علماً لأنها انفصمت عن تراث لغوي تمثل فيه إرث أربعة آلاف سنة زماناً». بل هو يربط مفهوم قداسة العربية بكونها لغة التاريخ والتراث، فضلا عن كونها لغة لقرآن. يقول في هذا الصدد: «فأنا أجد مفهوم القداسة متمثلا في اللغة العربية من وجهين: الأول لأنها لغة تاريخي وتراثي ولغة القرآن». ولذلك يحذّرنا من أن استعمال الدارجة، كلغة مدرسة وكتابة، سيؤدّي إلى القطيعة مع تراثنا، إذ «نحدث قطيعة بينا وبين موروثنا المعرفي التاريخي المحلي والتاريخي الإنساني». ويكرّر الدكتور الكنبوري نفس الشيء عندما يشرح أن التعليم بالدارجة سيؤدّي إلى «القطيعة المعرفية والثقافية بين الأجيال المستقبلية وبين التراث العربي»، موضّحا في تدوينة على الفايسبوك أن الداعين إلى الدارجة، «في ظل الحملات ضد الإسلام وأبي هريرة والأحاديث ووووو، يعرفون أن المعركة لن تنجح من دون قطع الشجرة من الأسفل لكي ينشأ جيل لا تحتاج معه إلى حملة أصلا، لأنه يكون قد فقد الروابط مع تاريخه من خلال قطع وريد اللغة [...].هذا التاريخ الذي لا يراد له أن يستمر وأن يتذكره الجميع». كذلك يحذّرنا بدوره الدكتور مصطفى بنحمزة من أن التعليم بالدارجة سيؤدّي بالمتعلم إلى الانقطاع «عن تراث أمته فلا يقرأ منه فكرها أو أدبها أو قيمها، فيفقد بهذا معنى الانتماء إليها، وينحجر في شرنقة لهجته التي عزلته عن محيطه الثقافي والحضاري القديم والحديث». هذا التهويل من مخاطر القطيعة مع تراث الأمة، والتي قد يتسبب فيها التدريس بالدارجة، ويبرر بالتالي استبعادها كلغة تدريس، يطرح العديد من الأسئلة ويستدعي مجموعة من الاعتراضات: 1ـ على فرض أن هذا سيحصل بعد جيلين أو ثلاثة، لو أصبحت الدارجة لغة تدريس وتعليم، فهل من الضروري أن يؤدّي ذلك إلى هذه القطيعة مع التراث، حتى لو أن الجزء الأهم من هذا التراث يحتاج إلى مثل هذه القطيعة للتخلّص منه كعامل تخلّف وكابح لكل نهوض وتقدّم؟ لماذا لا نستحضر الكيفية التي تعاملت بها أوروبا المسيحية منذ عصر النهضة، ابتداء من القرن الخامس عشر، مع تراثها اللاتيني المسيحي، بعد أم لم تعد اللغة اللاتينية، التي دُوّن بها ذلك التراث، هي لغة التعليم والكتابة وإنتاج المعرفة ونقلها، إذ حلّت مكانها الدوارج العامّية، مثل الإيطالية والإسبانية والفرنسية والألمانية والبرتغالية... فحسب منطق هؤلاء الرافضين لتدريس الدارجة والتدريس بها بمبرر أن ذلك سيؤدّي إلى الانفصال عن تراث الأمة المكتوب بالعربية الفصحى، فإن الإيطاليين والإسبان والفرنسيين والبرتغاليين والألمان والهولنديين...، يكونون قد تخلّوا، منذ أن بدأوا في استعمال لهجاتهم العامّية التي حلّت محل اللغة اللاتينية في التعليم والإنتاج الكتابي، عن تراثهم الديني والثقافي والفلسفي للقرون الوسطى وما قبلها، المكتوب باللغة اللاتينية، وأحدثوا معه قطيعة تضيع معها كنوز هذا التراث. بل حتى الفرنسيون والهولنديون سوف لا يعرفون شيئا عن فيلسوفيهما الكبيرين، "سبينوزا" الهولندي (1632 ـ 1677) و"ديكارت" الفرنسي" (1596 ـ 1650)، لأن الأول كتب مؤلفاته باللاتينية والثاني كتب بها أهم كتبه الفلسفية، وهو كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى"، والذي ألفه في 1641 باللاتينية تحت عنوان "Meditationes de Prima Philosophia". لكن المعارضين لتدريس الدارجة والتدريس بها يعلمون ويعترفون أن لا شيء من هذه النتائج "القاطعة" للتراث ومع التراث، المكتوب باللاتينية، قد حدث وتحقق. وعلمهم واعترافهم بذللك هو اعتراف بأن الدارجة لن تؤدّي إلى القطيعة مع التراث، حتى لو حلت محل العربية كما فعلت الدوارج الأوروبية التي حلت محل اللاتينية، التي كُتب بها تراث ضخم وغزير. فالمعلوم أن هذا التراث اللاتيني محتفَظ به كاملا، بجزئيه الوثني والمسيحي، بعد أن تُرجم إلى اللغات الوطنية للشعوب الأوربية، وهي اللغات التي كانت تُعتبر، إبان هيمنة اللغة اللاتينية، مجرد عامّيات لا تصلح لنقل المعرفة ولا إنتاجها ولا كتابتها ولا تدريسها، كما يقول اليوم عن الدارجة الرافضون لها كلغة للتدريس والتعليم. فإذا لم يوجد اليوم، خارج المتخصّصين في اللغة اللاتينية، من هو قادر على قراءة كتب "سبينوزا" أو "تأملات" ديكارت في نصوصها اللاتينية الأصلية، فإن قراءة هذه الكتب هي متاحة اليوم لكل الأوربيين بلغاتهم الوطنية التي تُرجمت إليها هذه النصوص التراثية اللاتينية. النتيجة إذن، إذا كان صحيحا أن التدريس بلغات عامّية لبلدان أوروبية كانت لغة التدريس والكتابة بها هي اللغة اللاتينية لقرون طويلة، لم يؤدّ إلى القطيعة مع التراث المدوّن بهذه اللغة اللاتينية، وذلك بالرغم أن تدريس هذه اللغة لم يعد إجباريا مثل اللغات الوطنية للبلدان الأوروبية، والتي كانت في الأصل دوارج وعامّيات للتواصل الشفوي، وهو ما نتج عنه اختفاء اللاتينية، ليس فقط من الاستعمال الشفوي مثل العربية، بل حتى من التواصل الكتابي بها، عكس العربية، (إذا كان ذلك صحيحا) فهو أصحّ بالنسبة لحالة استعمال الدارجة كلغة تدريس وكتابة. لماذا هو أصحّ؟ لأن العربية ستستمر، عكس اللاتينية، كلغة تُدرّس كما كانت منذ الاستقلال حتى بداية ثمانينيات القرن الماضي عندما فرضت كلغة للتدريس. فتراث "الأمة"، المكتوب بالعربية، سيكون إذن في متناول كل متعلّم، إذ يمكنه الاطلاع على هذا التراث باللغة الأصلية التي كُتب بها وهي العربية، حتى لو أن لغة التدريس التي سيتلقى بها تكوينه هي الدارجة. إذن لن يؤدّي استعمال الدارجة ولا الأمازيغية إلى القطيعة مع التراث المكتوب بالعربية، وحتى في أسوأ الحالات التي يُفترض فيها اختفاء العربية، كما حدث للاتينية، من التعليم كلغة تُدرّس إجباريا. ففي هذه الحالة التي تمثّل الوضع الأسوأ، وكما جرى ذلك مع التراث المكتوب باللاتينية، يمكن مستقبلا للمغاربة، غير المتمكنين من العربية، أن يقرأوا التراث المكتوب بالعربية مترجَما إلى لغتهم الدارجة، مثلما قرأ العرب أنفسهم "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" وفلسفة الإغريق مترجمة من الفارسية واليونانية إلى لغتهم العربية. 2ـ ثم من هي هذه "الأمة" التي سيؤدّي تدريس الدارجة والتدريس بها إلى فقدان تراثها والقطيعة معه، كما يقول المعارضون لهذا التدريس؟ ـ فإذا كانوا يقصدون، من منطلق ديني إسلامي، "الأمة الإسلامية"، فهذه حجة ضدهم وليست معهم، ذلك أن الشعوب الإسلامية الأعجمية تدرس التراث الإسلامي وتحافظ عليه بلغاتها الوطنية غير العربية. فالأتراك والإيرانيون والباكستانيون والماليزيون والإندونيسيون يدرسون هذا التراث الإسلامي، ويحافظون عليه بلغاتهم الوطنية، التركية والفارسية والأوردية والماليزية والإندونيسية... فمن يمنع المغاربة من أن يدرسوا تراث الأمة الإسلامية، مستقبلا، ويحافظوا عليه بلغتيهم الوطنيتين، الأمازيغية والدارجة، مثل باقي الدول الإسلامية غير العربية، المشكّلة للأمة الإسلامية التي ينتمي إليها المغاربة؟ ـ أما إذا كانوا يقصدون، من منطلق قومي عروبي، "الأمة العربية" ـ وهذا ما يقصدونه بالفعل ـ، فسيكون اعتماد الدارجة لغة للمدرسة والتدريس فرصة لتأكيد الانتماء الهوياتي، الترابي واللغوي ـ الأمازيغي لكون الدارجة إنتاجا أمازيغيا نشأت بالبلاد الأمازيغية لشمال إفريقيا وعلى يد الأمازيغيين، مثلها مثل أمها الأمازيغية ـ، للمغرب، وقيام أمة مغربية مستقلة عن الأمة العربية التي يستميت التعريبيون، من سياسيين ومثقفين، في إلحاق المغرب بها قسرا وشذوذا عبر سياسة التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي إلى جنس عربي، والتي يسميها المدافعون عنها بسياسة التعريب. هكذا يكون تخوّف التعريبيين المتحوّلين من الدارجة، ليس بسبب ما قد تؤدّي إليه من قطيعة مع تراث الأمة، كما يدّعون، وإنما من القطيعة مع أمتهم العربية الوهمية. أقول الوهمية لأنها تقوم على وهم أن بلدان شمال إفريقيا ومصر والشام تنتمي كلها إلى أمتهم العربية. فالدارجة المدرسية مرفوضة، مثل الأمازيغية، ليس لأنها قد تفصلنا عن التراث، بل لأنها قد تفصلنا عن العرب والعروبة. فالتراث، مثل اللغة العربية، ليس إلا وسيلة للغاية التي هي التبعية للعروبة. فكل شيء، إذن، في منطق التعريبيين المتحولين، يصبّ في العروبة وفي التعريب والتحوّل الجنسي، القومي والهوياتي. وهذه الغاية العروبية والتعريبية هي التي جعلتهم يساوون بين التراث والعربية والعروبة. ولهذا فإن الحفاظ على التراث يعني لديهم الحفاظ على التبعية للعرب وللعروبة. دعوى أن العربية لغة فكر وعلم وحضارة: لا يكلّ التعريبيون، حتى يقنعوا أن العربية هي المؤهّلة دون غيرها لتكون لغة للتدريس والتعليم، من التذكير أنها لغة علم وحضارة وثقافة وفلسفة وأدب، وأنها اللغة الرسمية لأزيد من ثلاثمائة مليون من البشر، وأنها لغة رسمية كذلك لمنظمة الأمم المتحدة، وأن هناك إقبالا متزايدا على تعلّمها في كل العالم، وأن استعمالها في شبكة الأنترنيت في تنامٍ مطّرد... حتى إذا سلّمنا أن هذه المظاهر الإيجابية للعربية هي حقيقة لا تُناقش، فإن التحجّج بها لإثبات أنها هي الأولى بالاعتماد كلغة للتدريس، سيكون غير منتج ولا مفيد، لأنه خروج عن الموضوع وتهرّب منه وتهريب له إلى مجال فرعي وجانبي. سيكون ذلك التحجّج في محلّه لو كنا نقول إن العربية لا تصلح أن تكون لغة التدريس في التعليم الابتدائي والثانوي لأنها ليست لغة علم وحضارة وثقافة وفلسفة وأدب، وأنها ليست لغة رسمية لمنظمة الأمم المتحدة ولا لأية دولة في العالم، وأن هناك نفورا متناميا من تعلّمها لدى كل الشعوب، وأن استعمالها في شبكة الأنترنيت ضئيل جدا وفي تناقص مطّرد... إذن عندما نقول بأن العربية تشكّل، باعتمادها لغة للتدريس ـ وليس لغة تُدرّس كما كان يجب أن يكون وضعها ـ عاملا حاسما في تدهور النظام التعليمي في المغرب، فنحن لا ننفي ما ينسبه إليها التعريبيون من مفاخر وأدوار وتفوّق وتميّز. بل نضيف إلى ذلك أن العربية، إذا كنت لغة تبدو صعبة التعلّم والإتقان على من يجهلها، فإنه بمجرد ما يتقنها أي شخص ويستوعب نسقها اللغوي، ويضع يده على مفاتيح أسرارها النحوية والصرفية والاشتقاقية والبلاغية، حتى يهيم بها ويقع في هواها وغرامها، فتأسره برُوائها وجمالها، وتسحره بغنى معجمها وغزارة مترادفاتها، وتفتنه بروعة بلاغتها وعذوبة تعابيرها. إذا كانت العربية بكل هذه العبقرية والكمال، فكيف لا تستحق أن تكون لغة للتدريس لتنقل عبقريتها وكمالها إلى التلميذ؟ لأن اللغة، وهذا ما يتجاهله التعريبيون، تستمدّ حياتها من مصدرين: أولا من التخاطب الشفوي في الحياة، وهو المصدر الأول والأصلي والطبيعي لحياة اللغة، لأنه أصل ومصدر وجودها تاريخيا، ولأنه كذلك أصل ومصدر اكتساب الإنسان الفرد للغة، إذ يتكلّمها قبل أن يكتبها، وثانيا من الاستعمال الكتابي الذي يأتي في مرحلة ثانية، كما كان ظهوره تاريخيا لاحقا للاستعمال الشفوي للغة، وكما أن الفرد يتعلّم الكتابة في مرحلة لاحقة لاكتسابه للاستعمال لشفوي للغته الأولى أو الفطرية (لغة الأم). ومعلوم أن الاستعمال الكتابي للغة، رغم أنه عملية إرادية وغير طبيعية لأنها ليست تلقائية، بل تحتاج إلى تدخّل خارجي (المدرسة أو ما يقوم مقامها)، لتعليم هذا الاستعمال الكتابي، إلا أنه يتأسس على الاستعمال الشفوي للغة المعنية بالكتابة، من حيث هو امتداد وتطوير لها، ومستوى ثانٍ لممارسة نفس اللغة الشفوية كتابة. وبالتالي فلا يعتبر هذا الاستعمال الكتابي للغة لغة ثانية غريبة أو أجنبية عن أصلها الشفوي المستعمل في التخاطب. ومن هنا تكون اللغة الموسومة بالحية، مثل الألمانية والفرنسية والإنجليزية واليابانية والكورية والإسبانية (الفشتالية)...، تستمدّ حياتها من استعمالها الشفوي في التخاطب ومن استعمالها الكتابي، الذي قلنا إنه نابع ـ وتابع له ـ من استعمالها الشفوي الأول هذا. أما العربية فهي تحيا بالاستعمال الكتابي فقط بعد أن فقدت وظيفة التخاطب في الحياة. ولهذا فهي، كما أكرّر دائما، نصف حية لأنها تحيا بمصدر واحد للحياة وهو الكتابة، أو هي نصف ميتة لأن مصدرها الأول للحياة، وهو وظيفة التخاطب، قد مات واختفى. وينتج عن كونها لغة كتابية فقط لا تستعمل في التخاطب، أنها لغة اصطناعية وغير طبيعية، تُصنع في المدرسة صنعا كلغة ثانية وجديدة بالنسبة لمن يتعلّمها، لأنها لا تتوفّر على نسخة أولى وأصلية للاستعمال الشفوي في التخاطب ينبني عليها الاستعمالُ الكتابي ويكون امتدادا وتطويرا لها، كما رأينا بالنسبة للغات الحية. ولهذا عندما نتحدّث عن عبقرية العربية وكمالها، فذلك يخصّ فقط استعمالها الكتابي، والذي برعت وتفوّقت فيه بشكل ربما لا تضاهيه فيها اللغات الأخرى. ولهذا فحتى إذا أصبحت العربية لغة رسمية لكل دول العالم وليس فقط للدول العربية ولمنظمة الأمم المتحدة؛ وحتى إذا ألقى بها كل وزراء الخارجية لكل الدول خطاباتهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وليس فقط وزيرة خارجية النمسا التي استهلّت بها مداخلتها في افتتاح الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة ليوم 29 ـ 09 ـ 2018، وهو ما أصبح يتبجّح به التعريبيون كانتصار وتفوّق للعربية؛ وحتى إذا أوصى كل وزراء التعليم لكل دول العالم بتعميم تدريسها، وليس فقط وزير التربية الوطنية الفرنسي الذي دعا في تصريح له يوم 10 سبتمبر 2018 إلى تعميم هذا التدريس للعربية بالمدارس الفرنسية، وهو ما بات التعريبيون يذكّرون به بتباهٍ وافتخار كدليل على عالمية العربية وجدارتها وكفاءتها؛ وحتى إذا أتقنها كل أطفال العالم وليس فقط الطفلة المغربية، ابنة تسع سنوات، العبقرية مريم أمجون التي أحرزت، يوم 30 أكتوبر 2018، الجائزة الكبرى لمسابقة تحدّي القراءة العربي المنظّمة بدولة الإمارات، وهو ما غدا موضوعا شهيا لدى التعريبيين يستحضرونه كشهادة على سهولة تعلّم العربية والتمكّن منها لدى الأطفال كجزء من عبقريتها وعظمتها وتميّزها...، فإن كل هذا الذي يعتبره التعريبيون إشعاعا عالميا للعربية، وإقبالا متناميا على تعلّمها وتدريسها في كل بلدان المعمور، واستعمالا رسميا دوليا متزايدا لها، لن يعيد لها وظيفة التخاطب التي فقدتها بصفة نهائية وأبدية، ففقدت معها أهم مصدر لحياة اللغة. وبالتالي فإن كل هذه الخصائص، التي تجعل من العربية، في مجالها الخاص بالكتابة، لغة عبقرية وكاملة ومتفوّقة، راقية ورائقة، عظيمة وجميلة، ساحرة وجذّابة...، لن تجعل منها يوما لغة للتخاطب يستعملها في الشارع المجيدون لها من الوزراء الذين يلقون بها كلماتهم في مناسبات بروتوكولية خاصة، ولا الأطفال الذين يتقنونها مثل الصغيرة العبقرية مريم أمجون... ولهذا إذا كان صحيحا أن العربية، كما يذكّر بذلك التعريبيون، وهو شيء نتفق فيه معهم، لغة عبقرية وفذّة وكاملة، متميّزة ومتفوقة على العديد من اللغات الأخرى، أنتجت فكرا وثقافة وأدبا وعلما وفلسفة وحضارة...، فإن ذلك مقصور فقط على المجال الذي تحيا فيه وبه، وهو مجال الكتابة. وأين المشكل إذا كانت العربية لغة عبقرية وكاملة ومتميّزة في مجال الكتابة؟ أليس هذا سببا إضافيا يدعم أحقيتها في أن تكون لغة للتدريس، وهو مجال تُستعمل فيه اللغة المكتوبة؟ المشكل الوحيد هو عندما تُستعمل لغة للتدريس والتكوين في مرحلة التكوين الأساسية للتلميذ، التي تشمل المرحلة الابتدائية والثانوية. لماذا؟ لأنها، كما سبق شرح ذلك، ليست باللغة الفطرية (لغة الأم) للتلميذ ولا بلغة للتخاطب، وهو ما يفرض على هذا التلميذ تعلّمها كلغة جديدة وثانية، مبتورة الصلة بلغته الأولى. وهو ما يجعل التعلّم بها كلغة للتدريس عملية عسيرة تعيق التعلّم الطبيعي للتلميذ، لأن التدريس بهذه اللغة يتطلّب تعليم لغة جديدة، وهو ما يتضمّن في نفس الوقت العمل على مقاومة لغة التلميذ الفطرية، التي تقاوم بدورها تعلّمه لهذه اللغة الجديدة عندما تكون لغة للتدريس. كل هذا يجعل من التعليم، الذي يعتمد لغة لا تستعمل في التخاطب، عملا شاقّا ومكلّفا في الوقت والجهد والمال، وغير فعّال من حيث الحصيلة والنتيجة وجودة التكوين. وهذا عكس التدريس بلغة التلميذ، أي لغته الفطرية (لغة الأم) التي يتعلّم ـ كلغة يعرفها أصلا ويتقنها شفويا ـ قواعد كتابتها في المدرسة، التي تعمل على تنميتها وتطويرها، عكس ما يحدث مع العربية التي، بدل أن تطوّر لغة التلميذ الفطرية، تقوم بإقصائها ومحاربتها لإحلال محلها لغة جديدة ثانية. إذن الوضع المناسب للعربية، حتى تحتفظ على مكانتها كلغة عبقرية وفذة ومتميّزة، وذات باع طويل في الإنتاج الثقافي والأدبي والفكري، هو أن تُدرّس كلغة، وهو ما يتيح الفرصة للتعمّق في دراستها وإتقانها لمن يختارها كشعبة للتخصص. المثقّفون كعائق للاستقلال الهوياتي واللغوي للمغرب: تبيّن لنا هذه المناقشة أن العديد من المثقفين المغاربة، مثل السادة الأساتذة الذين أشرنا إلى مواقفهم من الدارجة، يعارضون ويرفضون كل ما هو مغربي أصيل باسم العربية والعروبة، وحتى باسم الإسلام الوهابي بالنسبة للبعض منهم. فإذا كانت معارضتهم للأمازيغية مفهومة لأنها تعبّر عن انتماء غير عربي، وهو ما يرفضونه، فإن معارضتهم للدارجة وحرمانها من المدرسة رغم أنهم يقولون بأنها لهجة عربية، هي شهادة على أنهم يعارضون ويرفضون كل ما هو مغربي أصيل، مثل الدارجة التي هي، مثل أمها الأمازيغية، منتوج مغربي محلي أصيل. والغاية من هذا الرفض للدارجة لتكون لغة مدرسة، هي رفض قيام أمة مغربية حقيقية ومستقلة لغويا وهوياتيا عن الأمة الوهمية، التي يسمّونها الأمة العربية. ولهذا فإننا نظلم المخزن عندما نحمّله مسؤولية كل مظاهر التخلّف التي يعاني منها المغرب، في الوقت الذي لا نلوم فيه المثقفين الذين يساهمون بقسط كبير في أساب هذا التخلّف، وعلى رأسها إلحاق المغرب بالعروبة التي لم تطلب منهم ذلك، والعمل على نشر فاحشة التحول الجنسي، القومي والهوياتي، بالاعتماد على الجهل المقدّس والجهل الأكاديمي حول هوية المغرب الأمازيغية، ولغتيه الهوياتين الوطنيتين، الأمازيغية وصنوتها الدارجة. وهذا ما يتطلّب من الأحرار والحرائر، حتى يبقى المغرب منبتا للأحرار كما يقول النشيد الوطني، وليس منبتا للشذوذ الجنسي، القومي والهوياتي، أن يناضلوا، ليس فقط ضد سياسة المخزن، بل ضد أفكار المثقفين الذين يعادون كل ما هو مغربي حقيقي وأصيل، مثل الأمازيغية والدارجة، ويقفون سدّا منيعا أمام الاستقلال الهوياتي واللغوي للمغرب، مكرّسين تبعيته، هوياتيا ولغويا وثقافيا، لأمتهم الوهمية، رافضين أن يكون أمّة مستقلة في هويتها ولغتها عن هوية خرافية ولغة أسطورية.
|
|