|
|
مدافع شرس عن العربية يعترف أنها لغة جامدة
بقلم: محمد بودهان
(25 ـ 09 ـ 2018) في "فيديو" منشور على "اليوتوب" (https://www.youtube.com/watch?v=eF8uEHn8RE0)، يؤكد البرلماني والأستاذ الجامعي السيد المقرئ أبو زيد الإدريسي أن الأوروبيين والأمريكيين شرعوا، وبشكل «سري جدّا جدّا جدّا»، كما كرّر ذلك حرفيا ثلاث مرات، في ترجمة أرشيفهم الوطني، السياسي والعسكري والتاريخي والعلمي والثقافي...، إلى اللغة العربية، جاعلين منها اللغة الرسمية لهذا الأرشيف، بهدف تأمينه والحفاظ عليه كما هو «بعد ستة أو سبعة قرون»، كما جاء في كلامه. رغم ما يبدو في هذا الكلام من غرابة وخرافة وهُراء وإعلاء نرجسي من شأن اللغة العربية، إلا أنه، مع ذلك، يعبّر عن فكرة صحيحة وفهم صحيح لوظيفة ودور اللغة العربية واللغات الأخرى التي يُترجم ما كتب بها من أرشيف إلى العربية. ولإدراك ذلك وفهمه، ينبغي التغاضي عن الجانب الغريب والخرافي والهُرائي والنرجسي في كلام السيد المقرئ أبي زيد، والتركيز على شرحه للسبب الذي يدفع الدول الغربية إلى ترجمة أرشيفها الوطني إلى اللغة العربية. ما هو هذا السبب؟ لماذا لا تصلح اللغات الأخرى من غير العربية لحفظ الأرشيف؟ ولماذا تكون العربية الأصلح لهذا الحفظ؟ لماذا لا تصلح اللغات الأخرى من غير العربية لحفظ الأرشيف؟ لأن هذه اللغات، التي كُتب بها الأرشيف الحالي لتلك الدول المعنية بترجمة أرشيفها إلى العربية، ستكون، كما يشرح ذلك السيد المقرئ أبو زيد، بعد ستة أو سبعة قرون، قد تغيّرت بصورة كبيرة في قواعدها الصرفية وأدواتها النحوية، كالضمائر وحروف المعاني، وفي معجمها وألفاظها على الخصوص. وهو ما سيجعل الوثائق الحالية، التي تضمّ الأرشيف الحالي، غير مفهومة بعد ستة أو سبعة قرون، أو مفهومة بشكل يحرّف معانيها ويحوّر محتواها، ويعطي بالتالي للوثائق الأرشيفية مضمونا غير مطابق لمضمونها الأصلي الحقيقي، فيكون ذلك بمثابة ضياع للأرشيف الوطني لتلك الدول، إذ ما الفائدة من التوفّر على وثائق الأرشيف إن لم يكن أحد بقادر على فهم مضمونها؟ فلتدارك هذا الضياع، بعد ستة أو سبعة قرون، للأرشيف الوطني الذي يختزن ذاكرة الأمة وتاريخها، وهو الضياع الذي سيؤدّي إليه ضياع معاني الكلمات التي كُتب بها هذا الأرشيف منذ أزيد من ستة أو سبعة قرون، لجأت هذه الدول الغربية إلى ترجمته إلى العربية. لماذا؟ لأن العربية، كما يشرح الأستاذ المقرئ أبو زيد، وكما سنبيّن لاحقا بأمثلة توضيحية، هي اللغة الوحيدة التي لا تتغير قواعدها الصرفية ولا أدواتها النحوية ولا معاني كلماتها بعد ستة أو سبعة قرون أو أكثر، بل تحافظ على نفس القواعد ونفس الأدوات ونفس المعاني التي تدلّ عليها كلماتها، ودون أن يؤدّي مرور القرون إلى تغيّر في هذه القواعد والأدوات والمعاني. نلاحظ إذن، كما سبقت الإشارة، أن فكرة ترجمة أرشيف الأوروبيين والأمريكيين إلى اللغة العربية سليمة، وتنبني على فهم سليم لخصائص ووظائف كل من اللغات الأوربية واللغة العربية. فالقول إنه بعد ستة أو سبعة قرون ستكون اللغات الحالية التي دُوّن بها الأرشيف الأوروبي والأمريكي، مثل الإسبانية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية والإيطالية...، غير مفهومة بسبب تغيّرها وتغيّر معجمها على الخصوص، هو فكرة سليمة وصحيحة ومعروفة ومعترف بها. فإذا كان، مثلا، كل شخص متمكّن اليوم (نحن في سبتمبر 2018) من اللغة الفرنسية، قادرا، بالتالي، أوتوماتيكيا على قراءة وفهم نصوصها المعاصرة، مثل قراءة وفهم أخبار الجرائد الفرنسية، فلا يعني ذلك أنه قادر أيضا على قراءة وفهم نصوص فرنسية قديمة، مثل النص الفرنسي المعروف بـ"ميثاق ستراسبورغ" Les serments de Strasboug، المحرَّر في 842 ميلادية، أو "أنشودة القديسة أولالي" La cantilène de Sainte Eulalie، التي يرجع تاريخها إلى 880 ميلادية ("Séquence de sainte Eulalie", Encyclopédie Universalis)، أو "أغنية رولان" La Chanson de Roland، التي نُظّمت في بداية القرن الثاني عشر ("Chanson de Roland", Encyclopédie Universalis)). وعجز هذا المتمكّن من اللغة الفرنسية عن قراءة مثل هذه النصوص المكتوبة بفرنسية قديمة، مرّت عليها أكثر من سبعة قرون (لنبقى في العدد من القرون الذي استشهد به السيد المقرئ أبو زيد)، لا يرجع إلى تضمّنها لألفاظ لم تعد شائعة الاستعمال ولذلك يمكن فهمها بالرجوع إلى معاجم اللغة الفرنسية، وإنما يرجع، فضلا عن قواعدها الصرفية وأدواتها النحوية المختلفة عن قواعد وأدوات الفرنسية الحديثة، إلى أن هذه الالفاظ القديمة والمجهولة الدلالة، انقرضت واختفت ولا وجود لها في القواميس المعروفة للغة الفرنسية. فمثلا نقرأ في "ميثاق ستراسبورغ" كلماتAmur, Deo, poblo, fradre… ، التي تعني بالفرنسية الحديثة: Amour, dieu, peuple, frère (https://fr.wikipedia.org/wiki/Serments_de_Strasbourg#Les_manuscrits)؛ ونقرأ في "أنشودة القديسة أولالي" تعبير وكلمات Elle no'nt eskoltet, manatce, preiement, virginitét, ، التي تعني بالفرنسية الحديثة: Elle n'écoute pas, menace, prière, virginité (http://w3.restena.lu/cul/BABEL/T_CANTILENE.html)؛ ونقرأ في "أغنية رولان" كلمات reis, Espaigne, Emperere, muntaigne، التي تعني بالفرنسية الحديثة roi, Espagne, empereur, montagne (https://fr.wikisource.org/wiki/La_Chanson_de_Roland/Joseph_B%C3%A9dier/La_Chanson_de_Roland/Texte). وهي كلها كلمات لا وجود لها في أي من المعاجم المعروفة للغة الفرنسية. وحتى لو فُهمت بعض هذه الكلمات، فإن اختلاف القواعد الصرفية والأدوات النحوية والبنية التركيبية لهذه الفرنسية القديمة عن قواعد وأدوات وتراكيب الفرنسية الحديثة، يجعل فهمها أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. ولهذا لو كانت تكفي الاستعانة بالمعجم لفهم هذه النصوص الفرنسية القديمة، لما كان في قراءتها وفهمها أي مشكل على الإطلاق، ذلك أن أي متمكّن من الفرنسية قد يصادف كلمات لا يفهمها حتى في الفرنسية الحديثة، كفرنسية الجرائد مثلا، حيث يرجع إلى معجم اللغة الفرنسية لمعرفة معنى الكلمات المعنية. وهذه الأمثلة من اللغة الفرنسية تصدق على اللغات الأوروبية الأخرى مثل الإسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية... فبالنسبة لهذه الأخيرة، الإنجليزية، من الصعب اليوم على متمكّن من هذه اللغة، التي يقرأ ويفهم بها الجرائد الصادرة باللغة الإنجليزية، أن يقرأ ويفهم نصوص الإنجليزية القديمة (Old English)، مثل تلك النصوص التي تُعرف بـ"الأحداث الأنحلوساكسونية" Anglo-Saxon Chronicle، والتي كُتبت في القرنين الحادي والثاني عشر(http://dictionnaire.sensagent.leparisien.fr/Chronique%20anglo-saxonne/fr-fr/)، أو مثل الترجمة إلى الإنجليزية القديمة لذلك الدعاء المسيحي المسمّى "أبونا" Our Father، حيث نقرأ كلمات Fæder, heofonum, nama, willa, ، التي تعني في الإنجليزية الحديثة، Father, heaven, name, will (https://fr.m.wikipedia.org/wiki/Histoire_de_la_langue_anglaise). فحتى في الحالة التي يمكن أن تتوفّر فيها معاجم لهذه اللغة الإنجليزية القديمة، والتي يمكن أن تشرح معاني هذه الكلمات التي لم تعد معروفة ولا مستعملة في الإنجليزية الحديثة، فإن الاختلاف في القواعد الصرفية والأدوات النحوية والبنية التركيبة لهذا الشكل القديم للغة الإنجليزية عن شكلها الحديث، يجعل فهم هذه النصوص القديمة أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا، كما قلنا بخصوص الفرنسية القديمة. بل إن الأستاذ المقرئ الإدريسي يذهب أبعد من ذلك ويقول، في نفس الخطاب، وبشيء من المبالغة، إن هناك صعوبة حتى في قراءة وفهم بعض الكلمات في نصوص الطبيب الفرنسي "كلود برنار" Claude Bernard التي كتبها في القرن التاسع عشر، وهي فترة ليست بالقديمة بالنسبة للغة. ولنتصوّر أن مثل هذه النصوص، المكتوبة بالفرنسية القديمة والإنجليزية القديمة، هي أرشيف (وهي بالفعل كذلك ولو على مستوى محدود) وطني لفرنسا وبريطانيا وأمريكا. فسيكون ذلك بمثابة ضياع مؤكد لهذا الأرشيف الثمين. هذا ما عرفه وانتبه إليه، حسب منطق الأستاذ المقرئ أبي زيد، المسؤولون بالدول الغربية فبادروا، قبل فوات الأوان، إلى ترجمة أرشيفهم الحالي إلى اللغة العربية قبل أن تصبح لغتهم الحديثة الحالية، بعد ستة أو سبعة قرون، في حكم لغة قديمة لا يقرأها ولا يفهمها أحد. لماذا تصلح العربية أكثر من غيرها لحفظ الأرشيف؟ أما في ما يتعلق بالعربية، فخلافا لهذه اللغات، التي أشار إليها الأستاذ المقرئ أبو زيد، والتي بينّا ان اختلاف شكلها القديم، الذي كانت عليه قبل أكثر من سبعة قرون، عما هي عليه اليوم، يجعل من الصعب قراءة وفهم نصوصها التي كُتبت في تلك الفترة الماضية (قبل أزيد من سبعة قرون)، فإن الذي هو متمكّن اليوم من اللغة العربية، وقادر بالتالي على قراءة وفهم أخبار الجرائد الصادرة بالعربية، فهو قادر أوتوماتيكيا على قراءة وفهم أقدم النصوص العربية، مثل المعلّقات وخطاب قس بن ساعدة، ناهيك عن نصوص لكتاب قدامى مثل ابن هشام، الطبري، الجاحظ، ابن خلدون، ابن عربي... نعم قد لا يفهم هذا القارئ معاني بعض الكلمات، وهو ما قد يحصل حتى عندما يقرأ النصوص العربية الحديثة مثل النصوص الصحفية. لكن يمكنه الرجوع إلى أي معجم عربي ليحدّد له هذه المعاني. فالفرق، وليس بالصغير، بين اللغة العربية واللغات الغربية التي يقصدها السيد المقرئ أبو زيد، والتي أشرنا إلى أمثلة منها، هو أن هذه اللغات تتغيّر وتتطوّر مع مرور القرون، في معجمها وقواعدها الصرفية وأدواتها النحوية (الضمائر، حروف المعاني...)، وبشكل يجعل الشكل القديم لنفس اللغة مختلفا جذريا عن شكلها الحديث، عكس العربية التي تحتفظ على شكلها الأول والأصلي، معنى ومبنى، صرفا ونحوا، تركيبا ومعجما، مهما مرّ عليها من قرون. ولأن القواعد الصرفية والأدوات النحوية والبنية التركيبة للغة العربية قارة وثابتة لا تتغير، فيكفي الرجوع إلى المعاجم العربية للوقوف على معاني الكلمات غير المفهومة في نص حديث أو قديم. وهكذا تكون العربية لغة ساكنة وثابتة، واللغات الأوروبية متحوّلة ومتغيرة. إذا كان من الوارد أن ما قلناه عن الفرنسية والإنجليزية، كنموذجين يمكن أن يسريا على العديد من اللغات من غير العربية، قد يثير أسئلة واعتراضات، تجاهلناها حتى على افتراض أن تكون وجيهة، مثل إثارة مسألة الانتقال من اللهجة الشفوية إلى الاستعمال الكتابي للغة ومسألة اللغة الرسمية للدولة، لتفسير الفرق بين الشكل القديم للغة وشكلها الحديث، لأن ما يهمنا هو مسايرة منطق واستدلال الأستاذ المقرئ أبي زيد حتى نتائجه النهائية التي يفضي إليها، (إذا كان من الوارد) فأن ما قناه عن العربية من كونها لغة ساكنة وثابتة هو حقيقة لا يمكن دحضها ولا الاعتراض عليها. فقواعدها الصرفية والنحوية وحروفها للربط والمعاني وبنيتها التركيبية، وهي العناصر المشكّلة لروح اللغة، بقيت مطابقة لما كانت عليه منذ أن تشكّلت كلغة عربية في الجاهلية وصدر الإسلام، فضلا عن معجمها الذي بقيت معانيه، هو كذلك، قارة وثابتة حتى وإن اغتنى بألفاظ جديدة. وهذا ما يفسّر، كما سبقت الإشارة، أن أي متمكّن من العربية فهو قادر، اليوم، على قراءة وفهم أقدم نصوصها الجاهلية مع الاستعانة بالمعاجم لفهم معاني الكلمات التي يجهلها. وحقيقة هذا السكون والثبات في العربية واضحة أكثر عندما نرى تلميذا في المستوى الإعدادي يقرأ ويردّد ويفهم نشيد "طلع البدر علينا"، تماما كما كان يرددّه ويفهمه واضعو هذا النشيد منذ أربعة عشر قرنا ونصف، كأنه مجايل لهم وينتمي إلى عصرهم. اللغة بين الفناء والخلود: ماذا يعني هذا الاختلاف بين اللغة العربية وغيرها من اللغات، مثل لغات الدول الأوربية والأمريكية التي يتحدث عنها الأستاذ المقرئ أبو زيد؟ يعني أن هذه اللغات، بما أنها غير ثابتة، وتتحوّل بعد عدة قرون، وتتغيّر قواعدها الصرفية والنحوية والتركيبية والمعجمية بشكل يجعل أصحاب هذه اللغات من المعاصرين لا يفهمون ما كُتب بها في القرون السابقة، (يعني) أنها معرّضة للزوال والفناء حتى لو استمرت تحمل نفس الاسم كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية...، وذلك لأن ما كُتب بها، قبل أزيد من ستة أو سبعة قرون، يصبح في حكم الفاني ما دام لم يعد من الممكن قراءته وفهم مضمونه بعد هذه المدة من القرون، حسب كلام الأستاذ المقرئ أبي زيد. أما العربية، فلأنها ثابتة لا تتغير مهما مرّ على وجودها من قرون، ولا تتبدّل قواعدها ومعاني كلماتها التي احتفظت على نفس دلالاتها الأولى والأصلية، والتي تضمّها معاجم اللغة العربية التي يمكن لأي قارئ لم يفهم معنى كلمة في نص قديم أو جديد، الرجوع إليها ليجد المعنى أمامه جاهزا ومشروحا بنفس الدلالة التي استعملت بها تلك الكلمة للمرة الأولى ولو بعد عشرات القرون، فهي (العربية)، لذلك، وعكس اللغات الأخرى، لغة خالدة لا يلحقها الزوال والفناء. والنتيجة أن الأرشيف الوطني الذي كُتب بغير العربية الخالدة، أي كُتب باللغات الأخرى الفانية، يصبح هو نفسه معرّضا للفناء. وهذا ما انتبه إليه الغربيون، حسب منطق الأستاذ المقرئ أبي زيد كما سبقت الإشارة، فشرعوا في ترجمة أرشيفهم الوطني إلى اللغة العربية الخالدة حتى يضمنوا له الخلود، ويجنّبوه الفناء المهدّد للغاتهم في حالة ما إذا احتفظوا عليه مدوّنا بهذه اللغات الفانية. النتائج المنطقية لمنطق السيد المقرئ أبي زيد: ما هي النتائج المنطقية التي يؤدي إليها استدلال السيد المقرئ أبي زيد، في ما يتعلق بخصائص ووظائف العربية الخالدة، واللغات الأخرى الفانية؟ النتيجة الأولى هي، رغم ما يبدو في ذلك من مفارقة، أن خاصية الفناء المهدّد لغير العربية من اللغات، مثل اللغات الأوروبية التي ذكرها السيد المقرئ أبو زيد على سبيل المثال، هي ما يجعل هذه اللغات حية وحاضرة ومستعملة في الحياة، تواكب العصر، وتتطور مع مرور السنين، وتتجدد مع الجديد العلمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي... إنها لغات حية وديناميكية جدا إلى درجة أنها، تمشّيا مع منطق السيد المقرئ أبي زيد، لا تصلح لحفظ الأرشيف، لأنه شيء قار وثابت، في حين أن هذه اللغات حركية ومتجددة باستمرار. أما النتيجة الثانية فهي، رغم ما يبدو أيضا في ذلك من مفارقة، أن خاصية الخلود التي توصف به العربية هي ما يجعل منها لغة فانية وشبه ميتة، لأنها جامدة لا تتغيّر، ولا تواكب العصر، ولا تتطور مع مرور القرون، ولا تتجدد مع الجديد العلمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي... ولهذا فقد كان السيد المقرئ أبو زيد محقّا ومصيبا عندما يؤكد أن العربية هي اللغة الوحيدة الأنسب لحفظ الأرشيف، لأنها هي نفسها، كلغة جامدة وآسنة تعيش خارج الزمان ولا تنال منها القرون شيئا، عبارة عن أرشيف لحفظ متلاشيات الماضي. وبالتالي فهي لا تصلح للتعبير عن موضوعات وأشياء الحاضر، بل تصلح فقط للماضي، ولأشياء الماضي، ولما ينتمي إلى الماضي. إنها لغة مَتْحفية ولغة أرشيفية بامتياز، أي لغة الموت والفناء على اعتبار أن الأرشيف يتشكّل من معطيات "فانية" و"ميتة"، لم تعد صالحة للاستعمال في الحاضر، وإنما يُحتفظ عليها فقط لقيمتها التاريخية كما يحتفظ الإنسان على ذكرى أجداده الميتين. ولهذا فإن إكرامها يقتضي تركها تقوم بوظيفتها كمتحف لغوي، تختصّ في حفظ كل ما هو "ميت" من أرشيف وتراث وكل ما ينتسب إلى الماضي، وعدم إقحامها في ما هو جديد وعصري، وينتمي إلى الحاضر. أما النتيجة الثالثة، المكمّلة للنتيجة السابقة، فهي، رغم ما يبدو أيضا في ذلك من مفارقة، أن اللغة المهدّدة بالفناء، ليست تلك التي تتغيّر وتواكب العصر وتتطور مع مرور السنين، وتتجدد مع الجديد العلمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي حتى أنها لا تصلح لحفظ الأرشيف الذي يجب أن يبقى ثابتا في مضمونه، بل هي العربية التي هي لغة جامدة وثابتة ومحنّطة، لا تتغير ولا تتطور، حتى أنها الأصلح من بين كل اللغات، كما يعترف السيد المقرئ أبو زيد، لحفظ الأرشيف الذي هو أصلا معطيات يجب أن تبقى ثابتة لا يطالها تغيير ولا تحوير. أليس فناء اللغة هو توقّفها عن التغيّر والتطور والتجدّد، وبقاؤها نسخة مطابقة لما كانت عليه منذ قرون خلت؟ وقد عجبت، وأنا أستمع إلى كلام الأستاذ المقرئ أبي زيد، كيف أنه توصّل، وهو المدافع الشرس عن العربية، إلى ما أقوله وأكرّره من أن العربية لغة نصف ميتة أو نصف حية، لأنها تعيش بالكتابة فقط بعد أن فقدت وظيفة الحياة الأولى للغة، والتي هي الاستعمال الشفوي في الحياة. وقد توصّل، عبر سلوكه طريقا آخر واعتماده استدلالا مختلفا، إلى نفس الخلاصة عندما بيّن أن العربية هي اللغة الأنسب لحفظ الأرشيف، ليكون دورها شبيها بدور المتاحف، المتمثّل في الاحتفاظ على أدوات ومنتوجات تراثية تعبّر عن مراحل تاريخية قديمة. لغة الأرشيف ولغة التدريس: ما كان ليهمّنا أن تكون العربية لغة أرشيف وتراث، ولغة محنّطة تبقى مطابقة لما كانت عليه منذ خمسة عشر قرنا، لو أنها ليست مفروضة كلغة للتدريس. فما تأثير وظيفتها الأرشيفية والمتحفية على وظيفتها التعليمية والتدريسية، وما العلاقة بين الاثنتين؟ لقد رأينا أنه من الصعب على متقن للغة الفرنسية أو الإنجليزية أن يقرأ، اليوم، ويفهم الفرنسية أو الإنجليزية اللتيْن كُتبت بهما نصوص في القرن الثاني عشر. لماذا؟ لأن اللغة التي تعلّمها، كالفرنسية أو الإنجليزية، في نهاية القرن العشرين أو في بداية القرن الواحد والعشرين، تعبّر عن أفكار وتفكير هذا العصر، خلافا للغة القرن الثاني عشر التي هي مرآة لأفكار وتفكير ذلك العصر، الذي لم يعد موجودا. وبما أن العربية ذات طبيعة أرشيفية ومتحفية، ولغة جامدة وراكدة لا تتغير ولا تتطور منذ أن تشكّلت في الجاهلية والقرن الأول من الإسلام، مما يجعل من يتقنها في القرن الواحد والعشرين يستطيع قراءة وفهم نصوص تنتمي إلى الحقبة الجاهلية كالمعلقات مثلا، فإن استعمالها لغة للتدريس والتكوين، معناه، نظرا للعلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر، أننا سنجعل التلميذ يفكّر كما كان يفكّر القدامى في الحقبة الجاهلية وصدر الإسلام، حسب واقعهم وظروفهم وحاجياتهم. وينتج عن ذلك، بسبب أن عربية اليوم هي نسخة مطابقة لما كانت عليه منذ القرون الماضية، بل منذ الجاهلية، مما يؤهلها أن تصلح أكثر من غيرها لحفظ الأرشيف، كما يؤكد الأستاذ المقرئ أبو زيد، (ينتج عن ذلك) أن من يتلقّى تكوينا باللغة العربية في القرن الواحد والعشرين، سيتلقّى تكوينا في التفكير بعقلية القرون الماضية، أي بعقلية الأرشيف التي تتفوق فيها العربية على غيرها من اللغات باعتراف الأستاذ المقرئ أبي زيد، كما سبقت الإشارة. وهذا ما يفسّر أن التعليم في المغرب متخلّف، لا يواكب العصر ولا يساير التطورات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية، لأنه محكوم بذهنية المتحف والأرشيف والتراث والسلف، بسبب لغة التدريس التي هي أصلا لغة أرشيفية وتراثية ومتحفية وسلفية، كما سبق أن شرحنا. ولهذا تغيب على مناهج تعليمنا روح الإبداع والابتكار، وتنمية القدرة على مواجهة المشاكل وحلها، وتغلب عليها طريقة الحفظ والاستظهار التي تفرضها طبيعة اللغة العربية التي هي لغة أرشيفية، أي لغة حفظ وتخزين. فهذه اللغة، التي هي نسخة مطابقة لما كانت عليه منذ خمسة عشر قرنا، هي التي تتحكّم في أهداف التعليم التي جعلتها تدور حول تكوين إنسان يفكّر كما كان يفكّر من عاشوا قبله يقرون طويلة، وليس تكوين إنسان ذي تفكير عصري، تُكسبه المدرسة كفاءات ومهارات وعلوما ومعارف. ولهذا لا يمكن لتعليمنا أن يتقدّم ويكون ومفيدا ومنتجا وعصريا يساير المستجدّات العلمية والاقتصادية والاجتماعية، إلا إذا كانت لغة التدريس مرتبطة بعصرها، تساير المستجدّات العلمية والاقتصادية والاجتماعية، متحرّرة من لعب دور حافظة للأرشيف والتراث. وهذه اللغة لا يمكن أن تكون هي العربية للأسباب التي تكلّم عنها الأستاذ المقرئ أبو زيد، والمتجلّية في كونها لغة أرشيفية ومتحفية وتراثية، لأنها جامدة وساكنة وآسنة لا تتطوّر ولا تتغيّر. وهنا يجدر تكرار التوضيح أن العربية ليست مشكلا إلا عندما تُستعمل كلغة للتدريس والتكوين. أما أن تُدرّس كلغة، فهذا ليس أنه لا يطرح أي مشكل، بل هو مطلوب لمكانتها الدينية ووظيفتها الأرشيفية كلغة حافظة للتراث.
|
|