| |
الدكتور عباس الجراري أو الدفاع
عن اللغة العربية بين هاجس الأمازيغوفوبيا
ووهم اليوطوبيا
بقلم: محمد
بودهان
نشرت يومية "العلم"، في أعدادها 20091، 20092 و20093 بتاريخ 30،
31 ماي و 1 يونيو، العرض الذي ألقاه الدكتور عباس الجراري، مستشار الملك وعضو
أكاديمية المملكة المغربية، في الندوة العلمية التي نظمتها هذه الأكاديمية بفاس
يومي 25 و26 ماي حول موضوع "قضايا استعمال اللغة العربية بالمغرب".
يتلخص مضمون العرض، بصفة عامة، في تمجيد اللغة العربية والدفاع عنها والمطالبة
بتطويرها وحمايتها، باعتبارها لغة الوحدة والهوية، ضد كل منافسة أو ازدواجية لغوية.
بالنظر إلى هذا المضمون، أي الدفاع عن العربية وإبرازها كلغة الوحدة والهوية، ليس
هناك جديد في مداخلة الدكتور الجراري، لأن هذا مثل هذا الخطاب التمجيدي للغة
العربية معروف ورائج إلى حد السأم منذ نشأة الحركة الوطنية التي نشأ معها هذا
الخطاب. أما العناصر التي يمكن اعتبارها إضافة جديدة جاء بها الدكتور الجراري حول
نفس الموضوع، أي الإعلاء من اللغة العربية وتمجيدها والدفاع عنها، فهو ما يتعلق
بحضور الهاجس الأمازيغوفوبي (الخوف الغير المبرر من الأمازيغية)، ولو بطريقة ضمنية
ومسكوت عنها، في عرض الدكتور الجراري حول اللغة العربية، والتوسل بالأطوبيا utopie
لحل مشاكل هذه اللغة وجعلها لغة العصر والحداثة والتنمية والعلم.
هاجس الأمازيغوفوبيا: إذا كانت وراء خطاب التعريب، المدافع عن العربية
والممجد لها، اعتبارات ديماغوجية وسياسوية أصبحت اليوم معروفة ومكشوفة لدى القاصي
والداني، فإن وراء عرض الدكتور الجراري، المدافع والممجد هو كذلك للغة العربية،
هاجس الأمازيغوفوبيا، الذي يوجه ويؤطر جزء من عرضه حول اللغة العربية. لنحلل هذا
العرض بشيء من التفصيل:
عندما يؤكد الدكتور الجراري أن العربية هي لغة الوحدة، فالضمني المسكوت عنه، هو
المقابل للغة الوحدة، أي لغة التقسيم والتفرقة، التي هي الأمازيغية دون أن يسميها
أو يذكرها صاحب العرض صراحة، لكن أشار إليها بـالعاميات أو "اللهجة العامية". يقول
الدكتور: «ويبقى بعد هذا أن اللغة العربية هي الخيط الواصل بين المغاربة كافة، وكذا
بين العرب والمسلمين على العموم، والجامع لشملهم، والمعبر عن انتمائهم، والرامز
لوحدتهم». لهذا ينبغي أن تكون لها «السيادة الكاملة، بعيدا عن أية هيمنة تكون للغة
أجنبية كيفما تكون هذه اللغة، وبعيدا كذلك عن كل محاولة لفرض لهجة عامية محلية،
مهما يكن لهذه اللهجة من حضور في الواقع والتراث»، ويقول كذلك في نفس السياق: «ولا
إمكان لتحقيق هذه التنمية بلغة أجنبية أو بشتات لغوي مهما يكن في المجتمع من تعدد
وتنوع». ثم يضيف: «إن الابتعاد عن اللغة العربية في كلتا الصورتين، سواء باللجوء
إلى لغة أجنبية أو لهجة عامية، لا يؤدي ولن يؤدي سوى إلى تقوية تيار التغريب وزرع
بذور النزعات العرقية والنعرات العنصرية التي لا تفضي عند تمكنها من النفوس إلا إلى
الصراع والصدام، ثم إلى التفرقة والانقسام، ومن ثم إلى إيجاد هويات ممسوخة وكيانات
ممزقة...». ألسنا أمام قراءة جديدة "للطيف"؟ واضح أن "اللهجة العامية" المعنية هنا
هي الأمازيغية لأنها هي التي تطالب بالاعتراف بلغتها وهويتها المتميزتين عن اللغة
والهوية العربيتين، وهي التي "تحاول" فرض نفسها، وهي التي لها حضور في الواقع
والتراث...
وحتى يكون الدكتور الجراري منسجما مع "السياسة البربرية الجديدة"، ينصحنا بقوله: «وحتى
حين يوجد مظهر ما لهذا التنوع والتعدد ـ كما هو حال الأمازيغية في المغرب على سبيل
المثال ـ فإنه ينبغي معالجته بما يحفظ له ثراءه وقيمته في إغناء المكونات
الاجتماعية والثقافية، ولكن كذلك ـ بل قبل ذلك ـ بما يحافظ عن اللغة الوطنية
والرسمية التي هي الآصرة الجامعة واللحمة الموحدة لذاك المجتمع». فالعناية إذن بـ"اللهجات"،
ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة للعناية بالعربية وتقويتها والحفاظ عليها. وهذا هو
مضمون "الاستئناس" كما ينص عليه الفصل 115 من "الميثاق الوطني للتربية والتكوين".
نلاحظ إذن حضور هاجس الأمازيغفوبيا بقوة في عرض الدكتور الجراري، والتي (الأمازيغوفوبيا)
تغرف من أسطورة "الظهير البربري"، كما يتضح ذلك عندما يلوح بفزاعة التقسيم والتفرقة
التي يربطها بما يسميه بـ"اللهجة العامية" التي يقصد بها الأمازيغية.
هذا التهويل، الضمني،الخفي واللطيف، من خطر الأمازيغية هو الذي جعل الدكتور الجراري
يجيز لأصحاب اللغة العربية ما منعه على أصحاب اللغة الأمازيغية. فهو يعترف أن
استعمال اللغة «مرتبط بحق أصحابها في التوسل بها دون غيرها، سواء للتواصل فيما
بينهم، أو للإبداع، أو لاكتساب المعارف والعلوم. ومن العجيب أن العالم كله يتحدث عن
حقوق الإنسان، وعن أبرز هذه الحقوق أولا وهو حق الاختيار، استنادا إلى الانتماء وما
يستلزم من حاجات». فلماذا يمنع على الأمازيغيين حق اختيار انتمائهم إلى هويتهم
الأمازيغية واستعمال "لهجتهم العامية" ـ كما يسميها ـ بربط ذلك الحق بالتفرقة
والتقسيم؟ لماذا هذا التناقض بين الدفاع عن حق اختيار اللغة والانتماء ورفض هذا
الحق عندما يتعلق الأمر "باللهجة العامية"؟ هذه إحدى نقائض الأمازيغوفوبيا. ثم هل
اختيار العربية بالمغرب كان قرارا حرا وإراديا؟ ألم يجدها التلاميذ الأمازيغ مفروضة
عليهم في المدرسة بقرار سياسي عروبي؟
ولم الإعلاء من قدر العربية بربطها بالوحدة، والتهويل من "اللهجة العامية" بربطها
بالتفرقة؟ متى كانت اللغة العربية عامل وحدة وتوحيد؟ أليست هي لغة كل الدول العربية
ومع ذلك فهذه الأخيرة مقسمة إلى دويلات بينها في الغالب صراعات ونزاعات وحروب؟ فلم
لم توحد العربية العرب إذن؟ أليست جماعة البوليساريو مغاربة يتكلمون العربية ومع
ذلك يطالبون بالانفصال وإنشاء جمهورية عربية أخرى ـ وليس جمهورية أمازيغية ـ لغتها
هي العربية وليس "اللهجة العامية" الأمازيغية؟ لماذا إذن لم يندمجوا في الوطن الأم
نتيجة لوحدة اللغة التي هي العربية؟ وعلى العكس من ذلك، نجد العديد من الدول، ذات
كيان موحد مع وجود لغات وطنية متعددة بهذه الدول، مثل إسبانيا وسويسرا وبلجيكا
وكندا... إن اللغة ليست ـ ولم تكن ـ سببا للتوحيد ولا للتقسيم، لكنها قد تصبح عاملا
لهما إذا كانت أسبابهما السياسية أو العرقية أو الدينية متوفرة. فالذي يجمع الناس
ويوحدهم ضمن شعب واحد وداخل وطن واحد هي إرادة العيش المشترك أولا، قبل لغاتهم
وثقافاتهم وأديانهم؟
إذا كان الأستاذ الجراري يعبر هنا في عرضه عن رأيه الخاص كأكاديمي وباحث، فإن كونه
مستشارا للملك ويشتغل بالقصر الملكي، يطرح أكثر من سؤال حول موقفه المناوئ
للأمازيغية التي يسميها "اللهجة العامية"، وقد يقدم بعض التفسير "للسياسة البربرية"
الجديدة التي يهيئها مستشارو الملك، وكذلك للاستخفاف الذي تواجه به قرارات المعهد
الملكي للثقافة الأمازيغية للنهوض بهذه الأخيرة في الإعلام والتعليم والفضاء
الاجتماعي. وهنا نفهم كذلك جيدا موقف الأستاذ عبد الحق المريني، الذي يشتغل هو كذلك
بالقصر الملكي، من الأمازيغية، والذي (الموقف) سبق أن أثار ردود فعل قوية داخل
الحركة الأمازيغية، سنفهم موقفه عندما نعرف أنه تلميذ وفي لأستاذه الدكتور عباس
الجراري.
فهم خاطئ لمفاهيم بسيطة ترتبط باللغة:
إذا كان ربط الدكتور الجراري للعربية بالوحدة و"للهجة العامية" بالتقسيم والتفرقة،
يدخل في ما هو إيديولوجي وخلافي، فإنه حاول بناء دفاعه عن العربية على مفاهيم علمية
يسهل التحقق منها، مثل "اللغة الوطنية"، "اللغة الأم"، اللغة الرسمية"...
ضمن هذا الجانب "العلمي" يقول الدكتور: «إن اللغة العربية في حاجة ـ لكي تكون لغة
العصر وما يجد فيه من معارف وعلوم ووسائل التواصل المستحدثة ـ إلى أن تعتبر اللغة
الأم، أي اللغة الوطنية والرسمية».
يقيم الدكتور إذن معادلة ـ خاطئة طبعا ـ بين "اللغة الأم"، "اللغة الوطنية" و"اللغة
الرسمية"، مع أن بين هذه المفاهيم الثلاثة فرقا كبيرا واضحا ومعروفا: فـ"اللغة الأم"
هي تلك التي يكتسبها ـ وليس يتعلمها ـ الطفل من أمه في السنوات الأربع الأولى. أما
"اللغة الوطنية" فهي التي يتخاطب بها المواطنون في وطن ما. وهي ليست بالضرورة
مساوية "للغة الأم". فمثلا اللغة الفرنسية هي لغة التخاطب لكثير من المغاربة دون أن
تكون هي لغتهم الأم. فالغزو أو الاستعمار، أو مجرد المثاقفة، قد يجعل من لغة ما،
ليست باللغة الأم في بلد ما، لغة وطنية بشكل كلي أو جزئي. أما اللغة الرسمية فهي
اللغة التي يفرضها قرار سياسي كلغة السلطة والإدارة والوثائق الرسمية. وهذه
الأخيرة، أي اللغة الرسمية، قد لا تكون هي اللغة الأم ولا هي اللغة الوطنية، بل لغة
أجنبية، كما هو حال الإسبانية بالمكسيك، والفرنسية بالسينيغال، والإنجليزية بالهند،
والعربية الفصحى بدول شمال إفريقيا، التي ليست لا لغة وطنية لأن لا أحد من
المواطنين يستعملها في التخاطب اليومي، ولا اللغة الأم لأي من المغاربة ولا لأي أحد
في العالم كله. فهي لغة لا يكتسبها الطفل عن أمه في السنوات الأربع من عمره، بل
يتعلمها ويكتشفها لأول مرة عند التحاقه بالمدرسة.
هذا الخلط بين هذه المفاهيم الثلاثة، الذي وقع فيه الدكتور الجراري، يبدو أنه ناتج
عن اعتقاده أن مثلما تصبح لغة ما رسمية بقرار سياسي وإداري، فكذلك تصبح لغة ما هي
اللغة الأم بنفس القرار. وهذا غير ممكن لأن انتقال اللغة الأم من الأم إلى الطفل
يشبه ـ أقول يشبه فقط ـ انتقال الخصائص البيولوجية التي تتحكم فيه العوامل الوراثية
التي لا سلطة للقرار السياسي عليها. فاللغة العربية، كي تكون هي اللغة الأم
للمغاربة ينبغي أولا أن تكون لغة التخاطب اليومي للأمهات. وهذا شيء غير موجود، بل
مستحيل. أما اللغة الأم الحقيقية للمغاربة فهي الأمازيغية والدارجة المغربية،
وستحتفظان بمكانتهما هذه مهما كانت القرارات السياسية التي تفرض أن تكون هذه اللغة
أو تلك هي اللغة الوطنية أو الرسمية أو اللغة الأم.
اللغة العربية كلغة يوطوبية: إذا كانت اليوطوبيا Utopie والإيديولوجيا
تشتركان في كونهما تطلعا نحو شيء مثالي لا يوجد بعدُ، فإنهما تختلفان في أن ما هو
مجرد إيديولوجيا قد يتحقق ويصبح واقعا، في حين أن اليوطوبيا هي ما لا ـ ولن ـ يوجد
أبدا. وهذا المدلول الاصطلاحي للفظ «اليوطوبيا» يطابق معناه اللغوي اليوناني الذي
يعني «ما لا يوجد في أي مكان».
لماذا استحضار هذا التمييز بين الإيديولوجيا واليوطوبيا؟ لتبيان أن الدكتور الجراري
لا يتحدث عن اللغة العربية من وحهة نظر إيديولوجية، كما يفعل عندما يطالب بجعلها
لغة التعليم الوحيدة في كل مراحله ومستوياته، بل يتحدث عنها كيوطوبيا، أي كشيء لن
يوجد أبدا، أي كعدم. ويتجلى هذا التناول اليوطوبي للغة العربية عندما يقول إنه
ينبغي اعتبارها اللغة الأم، أي اعتبارها في حكم المنعدم الغير الموجود، لأنه من
المستحيل، استحالة مطلقة، أن تصبح العربية الفصحى يوما اللغة الأم لدى أي شعب في
هذه الدنيا، مثلما يستحيل، استحالة مطلقة كذلك، أن تصبح اللغة اللاتينية اللغة الأم
لأي شعب أو مجتمع.
ويستمر الدكتور الجراري في يوطوبيته عندما يدعو إلى جعل العربية «لغة الحياة العامة»
و«التخاطب اليومي». ولا يتردد في اقتراح إصدار قوانين ـ إذا اقتضى الأمر ذلك كما
كتب ـ تلزم بذلك وتعاقب المخالفين. وهذا شيء لا يمكن تصوره حتى لدى أشد الأنظمة
استبدادا وديكتاتورية، أي إلزام الناس بالتخاطب بلغة لا يتقنونها ولا يتكلمونها،
ومعاقبتهم عندما يخلون بذلك.
إن التعامل مع اللغة العربية كيوطوبيا خيالية مبتورة الصلة بالواقع، هو ما يسيء إلى
هذه اللغة ويجعلها حقا لغة متخلفة عن العصر والواقع، لأن عصرها وواقعها يوطوبيان
وغير موجودين، ولا علاقة لهما بهذا العصر وهذا الواقع. فالدكتور الجراري لا يطالب
أن تكون اللغة العربية كما هي في الواقع، ولا حتى بما ينبغي أن تكون عليه، بل أن
تكون كشيء مستحيل، وبالتالي مفارق للواقع، كأن تكون اللغة الأم ولغة التخاطب اليومي.
إن اللغة، أي لغة، لا يمكن أن تصبح لغة تقدم وحداثة وعلم بقرار إرادي وإداري
وسياسي، فبالأحرى أن تصبح هي اللغة الأم ولغة التخاطب اليومي. فلا توجد لغة تكون،
هي في حد ذاتها، متقدمة أو متخلفة، بل توجد فقط شعوب متقدمة أو متخلفة، فتكون
لغاتها متقدمة أو متخلفة تبعا لتقدم تلك الشعوب أو تخلفها. وبالتالي فلا يمكن أن
تصبح لغة شعب غير متقدم لغة متقدمة بمجرد توفر الإرادة والرغبة في ذلك.
وقد ذهبت هذه النظرة اليوطوبية بالدكتور الجراري إلى حد لومه للعرب، المعنيين
الأولين بمصير لغتهم العربية، عندما يتعاملون بواقعية، وليس بيوطوبية، مع لغتهم
فيستعملون إلى جانبها لغات أخرى (الازدواج اللغوي) ويتحدثون داخل المحافل الدولية
الرسمية بغير العربية، يلومهم الدكتور عن «الازدواج اللغوي الذي أضحى ظاهرة شائعة
في كثير من الأقطار العربية»، ويستغرب لما «يصدر عن بعض المسؤولين العرب من تجنب
الحديث بها ولجوئهم إلى لغات أخرى لتقديم خطبهم على نحو ما يلاحظ مثلا في منظمة
اليونيسكو وهيئة الأمم المتحدة».
رغم هذه اليوطوبية واللاواقعية في موقف الدكتور الجراري من اللغة العربية، إلا أنه
كان واقعيا وصادقا عندما كتب «أن موقفنا منها (أي اللغة العربية) هو أبرز مظاهر
واقعنا وما نعاني فيه من ضعف وانهيار، وحيرة وتردد، وعجز عن مصارحة الذات ومحاولة
علاج أدوائها». وهل هناك شيء أكثر عجزا عن مصارحة الذات من الدعوة إلى اعتبار
العربية الفصحى "اللغة الأم"، والمطالبة باستعمالها في "التخاطب اليومي" واقتراح
اللجوء إلى سلطة القانون لفرض ذلك؟؟
|