|
الموروث الميتولوجي للمجتمع الأمازيغي: مبحث اجتماعي في المعتقدات والطقوس والفضاءات المقدسة في قبيلة ماست. بقلم: الحسين بوالزيت أو ماست- ماست- ”تعلمنا الأنتروبولوجيا الحديثة أن هناك تجليات عديدة للمقدس, وأنه يختلف من مجتمع إلى أخر ومن دين إلى أخر، ثم تعلمنا أن هناك تحولات للمقدس, فالمقدس متحول ومتحرك وليس ثابتا أو ساكنا كما قد نتوهم, يضاف إلى ذلك أن المقدس يتعرض باستمرار للتلاعب به من قبل الفاعلين الاجتماعيين (أي البشر)، وذلك لأنهم بحاجة إليه. الناس بحاجة إلى المقدس حاجتهم إلى الخبر. هذا ما تعلمنا إياه الأنتروبولوجيا الحالية (أو علم الأناسة الحالي). ولا يمكن للمرء أن يعيش بدون مقدس كما لا يمكنه أن يعيش بدون خبز. وهناك أنواع عديدة من الخبز، كما أن هناك أنواعا عديدة من المقدس كما قلت آنفا، وهذا يعني أن الدراسة العلمية للمقدس لا تعني الانتقاص منه أو المس به, وإنما تعني فهما أفضل لكل تجلياته وتحولاته تحديدا لبعض الفئات أو بعض الأشخاص من التلاعب به خدمة لمصالح شخصية أو سلطوية... إذن فينبغي أن ننظر للمقدس كشيء متحرك وفي الوقت ذاته جبار مستمر.“ (محمد أركون ‘الإسلام والحداثة‘) تتموقع الذات الجماعية الأمازيغية وعيا وغفلة, تحث تأثير موروث ميثولوجي, يسيطر على الذات والوجدان، فيقرر مصيرها ويسطر حاضرها ويشكل مستقبلها, حتى تصبح المتولوجيا معاشها وراهنها في اليومي والسنوي. تلك هي حالة المجتمع الأمازيغي القديم في شمال إفريقيا بصفة عامة وقبيلة ماست بصفة خاصة. هذا المقال يسعى إلى إنجاز دراسة أنتروبولوجية في الفضاءات المقدسة لقبيلة ماست كفضاء ثقافي Aire culturelle)) بالمفهوم الأنثروبولوجي الذي يعني حيزا جغرافيا وتاريخيا محددا بتواجد عناصر ثقافية مشتركة بين ساكنته. وقبيلة ماست(1) تقع جنوب سهل سوس وعلى مشارف سهل تيزنيت في الجنوب المغربي. فأول ما يميز هذا الفضاء الثقافي أنه يقع خارج الرصد العلمي: الأنثروبولوجي والسوسيولوجي, وهو ما يجعل الغوص المباشر فيه الوسيلة الوحيدة للإحاطة به وبمكوناته. وقد كانت المعايشة المباشرة للأهالي ولساكنة الفضاء الماسي الوسيلة الفعالة في رصده, زيادة على الأمر بخبايا اللغة الأمازيغية ودلالاتها, بالإضافة إلى تشربنا للروح الميثولوجية المنتشرة في الفضاء الماسي من خلال نشأتنا فيه، مما شكل مصدر المعلومة المباشرة. يضاف إلى هذا كله التكوين العلمي الذي حصلنا عليه من خلال الدراسة الجامعية والأكاديمية والذي ميزنا عند المستهلكين الآخرين بوعي الاستهلاك. والفضاء الثقافي الميتولوجي الماسي بما يحتوي عليه من ميتات متعددة تعتبر الشكل الأولي للانخراط في الوجود، وذلك عن طريق إعادة إنتاج الميثولوجيا واستعمالها في الحياة اليومية ونشاطات الوجود المتعددة. وتمثل هنا الميثولوجيا أحد أعمدة التعقل وللاتعقل الجمعي لهذه القبيلة التي تخترق فيه الميثولوجيا جميع جوانب حياة الإنسان وتؤطر حياته مند الولادة مرورا بمرحلة الشباب / الزواج إلى مرحلة الشيخوخة، وذلك على شكل دورة مغلقة يتم فيها إعادة إنتاج مجموعة من الميتات التي تختلف في وظائفها حسب المرحلة العمرية التي يتواجد فيها الفرد. وخلاصة القول هنا أن الميثولوجيا تعتبر إحدى الملازمات الأساسية للإنسان الماسي في وجوده، أي أنه بغيابها يغيب وبحضورها يحضر حتى ليكاد يتحول نشاط حياته إلى فعل وممارسة ميتولوجية, ذلك أن إفراغ الماسي من جانبه الميتولوجي يعني بشكل مباشر إفراغه من محتواه الحقيقي, وتدميرا لكينونته الداخلية، أي لهويته الثقافية بالمعنى الانتروبولوجي للكلمة. وبرغم الآثام البليغة للتعريب الإيديولوجي والسياسي الذي أقدم عليه المخزن مند عهد الاستقلال إلى اليوم, وما نتج كذلك عن انفتاح الفضاء الثقافي السياسي أمام العالم من جراء الاستعمال المفرط لوسائل التكنولوجيا الإعلامية الجديدة والتي هزت بعنف أساسات المجتمع الأمازيغي عموما والماسي خصوصا، وبرغم كذلك مواجهة الماسي لتحديات المدنية والحداثة (التحديث) المتأتية مع الاستهلاك المفرط والمتنوع, المادي والرمزي الإعلامي العربي، فإن الإنسان الماسي ما يزال يخضع لأنسجته الأصلية في التفكير وما زالت المتولوجيا تستحكم في ذوقه وفكره وممارسته اليومية, أي أن حدة المواجهة الحاصلة والقائمة بين الكيان الداخلي للإنسان الأمازيغي مع الخارجي/ الحداثي والعربي من خلال النموذج الثقافي الذي روجته القنوات الإذاعية والتلفزية المختلفة، أفرز إلى الوجود تساكنا وتعايشا في ذات الفرد، بمعنى أن الإنسان الماسي قام بعملية تكييف لثقافته الأصلية مع مختلف النماذج الثقافية الوافدة عليه. أي أن الكينونة الداخلية لهذا الإنسان الأمازيغي تمتنع عن السقوط والتفكك حتى في أحلك اللحظات التي تعرف مواجهة حادة بين كيان الفرد الداخلي والعوامل الخارجية. غير أن هذه المواجهة ينتج عنها تحقيق الإنسان الماسي لتوازن في شخصيته الثقافية، وذلك بالاعتماد على الميثولوجيا التي يعني زعزعتها أو تدميرها إفقاد الإنسان الماسي لهويته ولغته، أي تشحين عملية فعله عن الواقع ونفيه عن الوجود. يعتبر تعدد الأولياء والفضاءات المقدسة أولى الأشياء الجديدة بالاهتمام والملاحظة في قبيلة ماست التي لا يتجاوز عدد ساكنتها 20 ألف نسمة. فهناك سيدي الرباط وسيدي وساي وسيدي بولفظايل وللارحمة بنت يوسف وسيدي محند وسيدي بولكراكي وسيدي أحمد أومنصور وللاتغرمين وسيدي نبز ارن وسيدي شمهروش وآيت سيدي مومن وسيدي محند الشريف وسيدي الخاطر... ويحوز سيدي الرباط مكانه متميزة وقداسة كبيرة بين هؤلاء الأولياء حيث مرور النبي يونس هناك ووجود مسجد ورباط مقدسين فوق أرضه، إضافة إلى حجر يونس. وقصة هذا الحجر حسب الرواية الشفوية في قبيلة ماست, تعتبر المنطقة التي تسمى سيدي الرباط أي عند مصب واد ماست, المكان الذي لجأ إليه النبي يونس عندما نبذ في العراء بعد أن التقمه الحوت حسب ما هو موجود في سورة الصافات، الآيات 138 –147. وبحسب اعتقاد الأهالي فإن قدسية هذا الحجر تتجاوز كل الحدود, بحيث إن النساء يمارسن مجموعة من الطقوس والمعتقدات في شاطئ سيدي الرباط المقدس ومنها على سبيل المثال لا الحصر إثبات قصب في حفر موجودة بهذا الحجر مع وضع مجموعة من حفن الشعير والذرة والقمح. وتفسر النساء ذلك العمل بالبحث عن بركة النبي يونس، وبالتالي التوسط لديه حتى ترزق الفتاة الراغبة في الزواج رجلا في أقرب الآجال. كما أن لمس ذلك الحجر من طرف المصابين ببعض الأمراض يساعدهم على الشفاء. وليست هذا الاعتقاد الوحيد المنتشر بين الأهالي، خاصة النساء اللواتي تكثر طقوسهن في التاسع من ذي الحجة من كل سنة في ذلك الموضع بآيت ماست. إن الموسم الديني الذي ينعقد في سيدي الرباط يوازي أداء فريضة الحج، وبجوار حجر يونس تصلي النساء الظهر والعصر تقليدا لما يقام في مكة. بالإضافة إلى هذا توجد رواية شفوية في قبيلة ماست مفادها أن الحجاج الماسيين يطلب منهم أقرانهم في المشرق والعالم أن يحجوا نيابة مرة واحدة في سيدي الرباط مقابل أن يحجوا لهم في مكة مرتين ويقولون ”من ذا الذي يحج لنا في سيدي الرباط مرة واحدة نحج له حجين“. وهناك اعتقاد كبير لدى المسلمين في المغرب مفاده أن رجلا سيخرج في آخر الزمان من سيدي الرباط، هذا الرجل يسمى المهدي المنتظر وسيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا, كما أن هناك اعتقادا آخر وهو أن الملَك إسرافيل الذي سيعلن عن نهاية العالم سيقوم بذلك في شاطئ سيدي الرباط المقدس. هذا فيما يخص بعض الميتات المرتبطة بسيدي الرباط. وعلى العموم فالميثولوجيا المرتبطة بالفضاءات المقدسة في قبيلة ماست تتوقف عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل فضاءات مقدسة كل واحد منها يلعب دورا معينا في الحياة الدينية لساكنة قبيلة ماست. وفيما تبقى من هذا المقال سنقوم برصد موجز لكافة الفضاءات ومختلف الأدوار التي يقوم بها كل فضاء مقدس على حدة. ينتشر مرض إعاقي نفسي عصبي، في قبيلة ماست لم يجد له الأهالي من تفسير لأسبابه سوى رده إلى كائنات خارقة تدعى ”الأرواح“ أو الجن. هذا المرض يسمى باللغة الأمازيغية ”تميمونت“. ويصاب المرء بهذا المرض حسب اعتقاد الماسيين عند انتهاك أحد الأفراد لقداسة أحد الأماكن المسكونة بالجن، أو إفراغ الماء الساخن في أنابيب المياه المستعملة أو عدم البسملة عند دخول أحد الأماكن المغلقة أو بعض الأماكن المخصصة مثل الحمامات أو غيرها من الأماكن... وترفض الذهنية المحلية الاعتراف بكون المرض متأتيا عن أسباب موضوعية صحية. وما زالت شرائح كبيرة من آيت ماست على درجة معينة من الولاء للتفسيرات الميثولوجية لهذا المرض. ومن أجل التخلص من ذلك المرض يقصد الأهالي العديد من المزارات المقدسة. منها على سبيل المثال سيدي شمهروش الذي يعتبره زواره ضريحا للجن وتنفع زيارته في علاج الصابين بالأمراض التي يسببها الجن. ويزداد اعتقاد الماسيين في وجود علم خاص بالجن ويزداد إيمانهم بوجوده خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار إقرار القرآن لوجود كائنات نورانية غير مرئية تسمى الجن, يمكن أن تلحق الأذى ببعض الأشخاص الذين يعتقدون في حرمتهم. إذن، التفسير الأوليائي لعلاج هذا المرض وإرجاع الأسباب المؤدية إليه إلى كائنات أسطورية يكاد يكون أمرا مشتركا بين جميع الأهالي الذين يعجزون كل العجز على فهم الوجود العلمي للمرض ليشتد تعلقهم بالتالي بالتفسيرات الميثولوجية بصفتها أوغل التفسيرات الموجودة والممكنة. فكلما اصطدمت الذات بصعوبات الحياة وفشلت في فهم بعض الظواهر التجأت إلى الموروث الميثولوجي الذي اكتسب كل مصداقية في التفسير والفهم. وبجانب الفضاءات المخصصة لعلاج بعض الأمراض الأخرى التي تمارس فيها طقوس أخرى كالتحكيم في فض النزاعات والخلافات بين الأهالي, النساء خصوصا, كما هو الشأن مثلا لضريح سيدي بولفظايل على الشاطئ حيث يقع فيه القسم عند وقوع خصام, أو تشكك أو اتهام, ويصاحب عملية القسم مهابة وخشوع, وخوف والكاذب في ذلك القسم، باعتقاد آيت ماست، يصاب بعقاب ما حق وشديد. وتضفي الميثولوجية الأمازيغية على كهف موجود في دوار إدامحيا العديد من الخوارق والمعاجز مثل رواية القوم مقدرته على إيقاف وتعجيز كل سارق أو لص يمر فوق تربته ومجاله إلا وتفشل حركته حتى طلوع الشمس. إن كان مروره ليلا بما يعني انكشافه أمام الملإ. وليست هذه معاجزه الوحيدة بل يحكي أن امرأة ذهبت إلى ذلك الكهف حاملة إليه قربانا على شكل ديك بمواصفات محددة ومعينة, وأخبرها ساكن الكهف من الجن أنهم قاموا بتغيير مقرهم، وأن مقرهم الجديد هو مكان بدوار تكمي الجديد يدعى سيدي شمهروش السالف الذكر. كما أن كهف آيت سيدي مومن له قدرة كبيرة على إعطاء بعض الملكات والمواهب الفنية, بحيث إن الراغب في امتلاك إحدى المواهب الفنية ما عليه إلا أن يذهب إلى ذلك الكهف ويمكث فيه ليلة أو ليلتين, وفي الصباح الموالي يجد نفسه يملك ملكة فنية معينة ويصبح بالتالي من أمهر الفنانين في القبيلة, كما أن تربته المقدسة تستعمل في الاعتبار (الانتقام) من الشخص الذي اعتدى على فرد آخر في القبيلة. وينتشر بأرض القبيلة الماسية العديد من الفقهاء الذين يحاربون الجن, الذين يستعملون العديد من التقنيات ترجع في أصلها لحقب تاريخية قديمة. وهؤلاء الفقهاء يتوفرون على تصورات كثيرة مرتبطة بالجن والكائنات الخفية التي لها وقع كبير وعنيف على الجوانب الاجتماعية والنفسية للإنسان الماسي, وهذا ما أظهر إلى الوجود ”مؤسسات“ مهمتها الوساطة والاتصال بالجن والتعامل معه. ويبدو تعلق الماسيين بهذه الفئة من الناس تعلقا كبيرا وشديدا بفعل سيطرة عوامل الفقر والخصاصة والاحتياج في صفوف الأهالي. لذا يعتبر ”الفقيه“ الطبيب الروحي والجسدي والأسطوري لهم نظرا لما يمثله من ملجأ في ساعات الحسرة المرضية: النفسية والجسدية، وعلى الخصوص علاج الأطفال الصغار الذين يصابون ببعض الأمراض المعروفة في القبيلة باسم ” إكضي“. ومن علامات هذا المرض كثرة البكاء والنوم الطويل حتى الموت. وتختص كذلك مؤسسة الفقيه في علاج بعض الأمراض التي تصيب الكبار، ومنها ما يصطلح عليه ”الثيقاف“ أي عدم القدرة على فض البكارة أثناء الزواج. ويلجأ الماسي إلى الفقيه كلما ألم به مكروه ما وليس الأمر ناتجا عن عدم قدرته للمعالجة عند الطبيب النفسي، بل إن خطاب هذا الأخير متعال وعلمي كما أن جهاز مفاهيمه في غاية التعقيد والتشابك, وأما خطاب الفقيه فهو شعبي عادي وتسكيني ويبدو بليغا على عكس خطاب الطبيب الذي يبدو في غاية الركاكة وغير مقنع بالنسبة للذات المنهكة معنويا ونفسيا. ويتحول هنا الفقيه من مجرد ”مشعوذ حقير“ إلى خبير في الطب النفسي ولكن بدون وعي بحقيقة ممارسته. ونفس الشيء يصدق على بعض الأمراض الأخرى كمرض العيون. فالفقيه يوصي زائره ممن يشتكي من احمرار حاد في العين ببناء ”كومة“ من الحجارة في ملتقى الطرق, ويعتقد أن أي فرد يقوم بتحطيم تلك الأحجار الثلاثة المتراصة واحدة فوق الأخرى سوف ينقل إليه مباشرة تلك الآفة. إنه نموذج واحد من وصفات الفقيه التي ما زالت تجد آذانا صاغية حتى الآن. إن السر في نجاح وصفات الفقيه هو التواصل النفسي الحاصل بينه وبين زواره, إن مفردات اللغة مشتركة بينهما, كما أنهم يتواجدون في نفس الحيز الجغرافي مما يسهل التواصل بينهم, فالفقيه هنا نجده ملما يشكل كلي بحركات وسكنات ذلك المقهور اجتماعيا, فالعديد من الأمراض تنسب من طرف الماسي إلى عوامل خارقة كالمرور على مياه المنازل الملوثة أو بالعين أو إفراغ الماء الساخن في قنوات الصرف الصحي بدون بسملة. ولا يزال اعتقاد راسخ لدى الماسيين في إمكانية علاج من تعرض لكسور في أطراف جسده عند بعض الأشخاص الذين يستعملون الكي بالنار على الموضع الذي تعرض للكسر، والشية في يده محركا إياه فوق رأس المريض. وهذه ربما وسيلة للاستقطاب القديمة والموغلة في القديم مادامت المواد المستعملة فيها كذلك من أقدم المواد التي استعملت في التطبيب قدما. ويجري (أسنكرو) مصحوبا بترديد بعض التراتيل والآيات القرآنية. ونجد نمطا آخر من الفضاء المقدسة التي تهيمن على تفكير الإنسان الماسي خاصة في مجال استشراف الغيب وصحيفة الأهالي المستقبلية، أي النطق باسم الخفي وآلاتي في المستقبل. ويصدق هذا على سيدي بنزارن الذي ينبئ بالغيب ويرد الصدى مخبرا الماسي بالخبر الآتي والخفي في مستقبل الدهر، ويصدق هذا أيضا على نوع من النبات البوري يسمى ”كوك نخار“. هذا النبات يستعمل في استشراف المستقبل والتنبؤ بالغيب خاصة للفتيات الراغبات في معرفة الوجهة التي سيتزوجون إليها بحيث تعمد الفتاة المقبلة على الزواج التي تزين تلك النبتة البورية بمختلف أنواع الزينة ولفها في ثوب أحمر ووضعها تحث وسادة النوم وفي المنام سوف تحلم الفتاة بالوجهة التي سوف تتزوج إليها في المستقبل وكل ذلك بفعل إيحاءات ”كوك نخار“ . تكتسح الميثولوجيا سائر أنشطة الماسي الاجتماعية. إنها جهازه المعرفي والثقافي للانخراط في الوجود ووعيه, فهو لاشيء دونها, إنها العقل وبها التعقل أي الفكر وآلة التفكير في نفس الوقت, وسيطر سيدي وساي على طقوس الزواج وحلاقة الشعر (تحجامت)، أي حلاقة قليل من الشعر للصبي الجديد في مرقد الوالي من طرف آمة سوداء, إعلانا للانخراط والتعاضد الدموي والعصبي الرابط بين أفراد العشيرة, كما أن هذا الوالي له مقدرة على إخبار المرأة المتزوجة بإمكانية أو عدم إمكانية الإنجاب, بحيث إن النساء يعمدن إلى وضع صينية من الدقيق، وبعد ترديد بعض التراتيل وتلاوة ما تيسر من القرآن تنام المرأة. وفي الصباح الباكر تراقب تلك الصينية فإذا وجدت فيها آثار أقدام طفل صغير فإنها تتيقن من إمكانية الإنجاب وإذا كان العكس فإنها تكتشف أنها امرأة عاقر لا سبيل لها إلى الإنجاب. إن سيطرة الطابع الريفي على قبيلة ماست جعل الميثولوجيا تمتد إلى الحيوان كذلك. ففي عرف أهل المنطقة فالقنفوذ يعتبر في الأصل عالما كبيرا عارفا بأمور الدين ومتبحرا في العلوم الشرعية. إلا أنه عصى الله ومسخه على تلك الصورة. فالميثولوجيا الأمازيغية في قبيلة ماست ترى أن البهيمة نفسها نفس الإنسان، فكما أن هناك إنسانا ذا طالع مشؤوم، فنفس الشيء يصدق على البهيمة، لذلك يعمد الماسي إلى وضع رجل البهيمة في صينية مملوءة بالدقيق عند دخولها أول مرة إلى البيت أو يضع جمجمة كلب أو حصان يجانب الحقول لرد ضربات العيون الشريرة. وتتطور الميثولوجية المرتبطة بالحيوان لتسهل عوائد طبيعية خاصة, مع الأطفال, فعندما يغير الأطفال أسنانهم وهم على أمل في أسنان أجمل وأحسن تراصفا يتوجهون إلى أشعة الشمس قائلين ”فيدام ووغيول فيد وزنك“ (يا شمس أعطيتك سن الحمار فأعطيني سن الغزال) وهم يلقون بالسن باتجاه الشمس التي يعتقدون أنها تتلقفها منهم. وفي فضاء ريفي تكثر فيه الحمير يفسر زهق الحمار في الليل يكونه إعلانا بنزول إبليس إلى الأرض. أما نعيق البومة فينذر بالشؤم والموت، ونقيق الضفدع ينبئ بارتفاع درجة الحرارة. وتنسج الميثولوجيا الأمازيغية لدى الإنسان الماسي عديدا من الروايات حول الطيور وتتنوع النظرة إلى الطيور، فبعضها يثير البهجة والانشراح مثل ”تجكجوت“ التي يفتح لها الماسي أبواب بيته ويمنع قتلها تبركا بها لأن ذنَبها تشكل على هيئة سيف على بن أبي طالب، ويستمد هذا الطائر قدسيته واحترامه من منطلق اعتقاد الماسين زيارة هذا الأخير لمكة ومكوثه فيها قدرا معينا من الزمن. نلخص في النهاية إلى أن الميثولوجيا الأمازيغية ليست شيئا هامشيا في حياة الإنسان الأمازيغي عموما, بل هي نمط وعي للحياة والوجود يتم من خلالها ترتيب مجموعة من الأنساق الفكرية داخل منطق وجودي يحرك كل الفئات الاجتماعية داخل المجتمع الأمازيغي القديم، الذي مازال غير خاضع للرصد والبحث. وإيمانا منا بالموقع الهام والحساس الذي يحتله نمط الوعي الميثولوجي لدى شرائح واسعة من المجتمع الأمازيغي, أخذنا على عاتقنا اقتحام هذا المجال المغلق, علنا نساهم في نفض بعض الغبار عليه ومن ثمة إعادة الاعتبار لها في أفق إنجاز بحوث أخرى ترفع الستار عن البنيات الفكرية والاجتماعية والسياسية للمجتمع الأمازيغي القديم. هوامش: 1= ماست هذه هي التسمية الأصلية لهذه القبيلة الأمازيغية وقد حرفت إلى ماسة بعد التقسيم الإداري للتراب الوطني. 2= تحدد الرواية الشفوية مجال نفوذ قبيلة ماست من شاطئ سيدي الرباط في المحيط الأطلسي جنوب سهل سوس إلى أكوك على مقربة مدينة تيزنيت. 3= قصة النبي يونس توجد في سورة الصافات الآيات 138 – 147 4= رواية رجل يبلغ من العمر 100 سنة يدعى محمد أو الحسن. 5=Montagne R, coutumes et légendes de la côte berbère marocaine. Hespérid, volume IV, 4eme trimestre, 1924 P.113. 6= ”مؤسسات“ هنا بلفظ الجمع، ونشير هنا أن هذه المؤسسة مؤسسة اجتماعية قائمة الذات لها مواصفاتها ومحدداتها ولا تشير بالتالي إلى جنس بشري محدد ذكرا كان أو أنثى. 7= تسمى باللغة الأمازيغية تاوراشت.
|
|