|
أزمة النخبة المثقفة المغربية - ملاحظات أولية بقلم: الحسين بو الزيت أوماست ( ماست) يهدف هذا المقال بشكل أساسي إلى التعرف على واقع النخبة المثقفة المغربية وعلى رهاناتها كذلك من أجل الوقوف ولو بشكل جزئي على أزمتها الخطيرة داخل المجتمع المغربي. بالإضافة كذلك إلى موقعها هي وفكرها داخل المجتمع المغربي، أي الكشف عن موقع فكر النخبة المغربية بحقيقة الشعب المغربي انطلاقا من كون المغرب بلدا وحيز اجغرافيا له خصوصيته الحضارية والتاريخية و الثقافية. المعروف تاريخيا أن المغرب بعد الغزو العربي لشمال إفريقيا نشأت بينه وبين الشرق الأوسط علاقات معينة خاصة على المستوى الروحي و الديني، اعتبارا لكون الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية مركز الديانة الإسلامية. ولكن ما يهمنا نحن في هذا المقال هو التعرف على الطريقة التي يمثل بها فكر النخبة المغربية هذا الحدث التاريخي ونتائجه الكثيرة والكبيرة. والملاحظ في هذا الإطار أن النخبة المثقفة المغربية لا تتعامل مع هذا الحدث بما يكفي من الموضوعية التاريخية (وحتى الإيديولوجية)، بحيث عملت على إعطاء هذا الحدث دلالات رمزية قوية مشحونة بشحنات نفسية كبيرة و اعتبرته بالتالي البداية الحقيقة للتاريخ المغربي، ضاربة بعملها ذلك عرض الحائط آلاف السنين من التاريخ و الحضارة، اعتبر فيها شمال إفريقيا بمثابة مركز تقل العالم المعروف آنذاك. وتأسيسا على ذلك فإن فكر النخبة السياسية والمثقفة المغربية أو تمثلاتها لم تستطع استيعاب وفهم أن التاريخ المغربي والهوية المغربية سبقت في وجودها وتكونها بآلاف السنين على وصول العرب " لفاتحين" إلى المغرب وشمال إفريقيا بشكل عام، وبالتالي فالعلاقة الروحية والدينية التي نشأت بعد غزو المغرب من طرف العرب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلغي الخصوصية المغربية من الناحية الثقافية والحضارية و الهوياتية. وبكلمة واحدة يمكن القول هنا إن الشخصية المغربية والهوية الوطنية طرحت من قبل فكر النخبة المثقفة المغربية لا انطلاقا من خصوصيات المجتمع المغربي الذي تشكل الحضارة الأمازيغية عمقه وجوهره، و لكن انطلاقا من استلهام واستيراد مفاهيم وأفكار لا تعبر عن واقع الشعب المغربي بقدر ما تعبر عن واقع المجتمع العربي في الشرق الأوسط الذي ترتبط به فكر النخبة المغربية قلبا و قالبا. وهكذا فإن هذه الأخيرة "تحلل" المجتمع المغربي لا انطلاقا من تحليل الواقع السوسيولوجي و الأنتروبولوجي لهذا المجتمع، بل عن طريق اعتماد نتائج تحليل واقع آخر هو واقع شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط بشكل عام. ومن هنا نشأت تلك الفجـوة و الهوة بين الفكر العروبي في المغرب و الواقع. من ذلك مثلا الحديث عن الكفر كمعطى سوسيولوجي خاص بالمجتمع العربي القديم، من حيث المدلول الرمزي للكلمة، وعن الجاهلية كمعطى تاريخي، يرمز إلى حقبة تاريخية هي الفترة ما قبل ظهور الإسلام في تلك المنطقة. بنفس اللغة و بنفس النسق الذي عرفت به في المجتمع العربي القديم من قبل النخبة المثقفة المغربية ذات التوجهات السلفية والأصولية بشكل خاص. ولكن الحقيقة التاريخية تؤكد أن إمازيغن عبر سيرورة تاريخهم العريق لم يعرفوا شيئا اسمه الجاهلية أو الكفر، بنفس المحددات الثقافية و الدينية السائدة في شبه جزيرة العرب. فظاهرة وأد البنات ودفنهن وهن ما زلن على قيد الحياة ظاهرة عربية بامتياز وعلامة اجتماعية عربية مسجلة في التاريخ. وكما هو معلوم لدى الجميع اليوم، ففي الوقت الذي يدفن فيه العرب بناتهم و هن على قيد الحياة كانت هنا في شمال إفريقيا في جبال الأوراس الشاهقة ملكة تحكم إمازيغن. باختصار شديد لا يمكن نقل نفس المفاهيم و نفس الظواهر من بيئة ومن بلد إلى آخر دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والحضارية السائدة في البلاد الأخرى، التي نحن بصدد التعامل معها، فلكل أمة مميزاتها الحضارية والسوسيولوجية والأنتروبولوجية. إذن الواقع المغربي واقع آخر وتعقيداته المجتمعية والسياسية تختلف جوهريا عن تعقيدات المجتمع العربي، ولكن مع كامل الأسف فهذه المواضيع لم تكن قط موضوع نقاش بحيث إن مثل هذه المواضيع تغيب بشكل كلي عن دائرة اهتمامات أفراد النخبة المثقفة المغربية. والنتيجة هي ما نحن عليه اليوم من خلط الأوراق و الأمور و إدخال الشعب المغربي في معارك سياسية طاحنة لا ناقة لـه فيها و لا جمل، كذلك ربط مصير الشعب المغربي بمصير شعوب أخرى في العالم لا يتقاسم معها أي شيء، اللهم إلا نفس المقدس الديني في بعض الأحوال. إذن كيف لنخبة تجهل تماما الواقع المغربي ووقفت عاجزة أمام فهمه أن تسعى إلى تغييره و تطويره!! فالديمقراطية في أوربا أطرها سياق سوسيوتارخي محدد و معين، يمكن تحديد أهم ملامحه في ظهور الدولة الوطنية بعد انتصار الثوارث المعروفة في الغرب، إضافة إلى تفكيك مختلف أنماط الحكم سواء القبلي أو الديني اللاهوتي ذو الطبيعة التيوقراطية، وكذلك اضمحلال أفكار الكنيسة وتراجع تحكمها إلى المجال الديني فقط، زيادة على ظهور القيم الليبرالية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، بظهور بنيات اقتصادية واجتماعية حديثة ومتطورة، قضت بشكل نهائي وكلي علي أنماط الإنتاج الأولية والبدائية، بمعنى أن النخبة المغربية عندما تتحدث عن الديموقراطية والتغيير لا تأخذ بعين الاعتبار العمق التاريخي في الوصول إليها وتحقيق التغيير المنشود داخل المجتمع المغربي، الذي ما زال مؤطرا بفكر وممارسة شبيهة إلى حد كبير بتلك السائدة في أوربا في القرون الوسطى، خاصة الجانب المتعلق بالطائفية. فأوربا كما هو معروف عرفت صراعا بين الكاثوليكية و البروتستانتية، استمر لمئات السنين، وبصور جد حادة و قوية في بعض المراحل، ولكن الدين اليوم في أوربا سواء كان كاثوليكيا أو بروتستانتيا تقلص دوره و امتداده السياسي والمجتمعي، وذلك بعد قيام الدولة الحديثة والعصرية ذات التوجه الوطني الذي يكرس مبدأ فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، بالشكل الذي يجعل المقدس الديني لا يمارس سلطة مركبة و مزدوجة في المجتمع: سلطة على الروح و على الجسد في نفس الوقت. ونعني بكل هذا أن النخبة المثقفة المغربية التي تتعامل بذلك الشكل لا يمكن أن تكون في مستوى المهام التاريخية الموكولة إليها موضوعيا ومنطقيا. وبالتالي لا يمكن الرهان عليها في تحقيق أي شيء لصالح الشعب المغربي، بل بالعكس سوف تساهم لا محالة في تعميق واقع الأزمة الفكرية في المجتمع المغربي، مما سيؤدي إلى الإبقاء على نفس الأفكار والعقليات التي ترسخت في المجتمع المغربي عبر القرون الماضية سواء على المستوى الفكري أو السياسي وكذلك على صعيد العلاقات الاجتماعية والصراع الاجتماعي الذي يتجه يوما عن يوم في اتجاه الاستهجان والاستلاب وإنتاج شخصيات فصامية مرضية لا تعرف موقعها في العالم ولا تعرف كيف تواجه تحدياته، مما يؤدي بها إلى اعتناق أفكار متطرفة وإرهابية تستعمل العنف في حسم أمور سياسية وفي التأثير في القرار السياسي في الدول المستهدفة. ودون الدخول في جدال سياسي عقيم وغير مجد مع هذه الجهة أو تلك، وادعاء امتلاك الحلول الصحيحة والحقيقية لهذه الأزمة، فالحل الصحيح في اعتقادي هو ما يفرزه الواقع من خلال تطوره بفكر نخبة واعية وبإرادة حقيقية في التغيير والتطور، واعتبارا كذلك لتفاعل الظواهر المختلفة من أهمها نوع التركيب الاجتماعي ونوع العلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع المغربي المعاصر، وكذلك طبيعة ارتباطه مع مراكز الهيمنة الروحية في العالم (الشرق الأوسط) الذي يفضي إلى تكون فئة اجتماعية دينية أرتوذوكسية تستغل هذا الارتباط الروحي وهذه العلاقة لتعميق جوهر الأزمة عن طريق الزج بالشعب المغربي وربطه بقضايا هذه المنطقة المشتعلة في العالم بأسره. وهذه العملية يقوم بها أفراد النخبة المثقفة المغربية سواء كانوا إسلاميين أو متياسرين أو متمركسين، بحيث أن هؤلاء أثناء قيامهم بتلك العملية يتبنون تارة بصورة تكاد تكون سطحية الحداثة ولمعاصرة فقط لمسايرة ما يروج في سوق الشعارات العالمي، وتارة أخرى تتبنى قيم السلفية والأصالة بعمق وإفراط للحفاظ على امتيازاتها السياسية والرمزية داخل المجتمع المغربي. إن النخبة المغربية فشلت بدون أدنى شك في القيام بدورها الحقيقي في المجتمع. أي تأطيره بأفكار و قيم مجتمعية حداثية وسلمية ومحاربة الأفكار الهدامة والإرهابية، وفشلها هذا لا يحتاج إلى بيان أو برهان بحيث اتسمت حياتها خلال سيرورتها التاريخية بالتوقف و التراجع، وهذا ما يشهد به واقعها المتردي. ولا يهمنا هنا البحث عن أسباب ذلك أهي أسباب موضوعية راجعة إلى التشكيلة الاجتماعية التي انبثقت منها ارتباطا بالعوامل السوسيوتاريخية التي تحكمت في ذلك أم أن ذلك راجع إلى القصور النظري و العلمي، الذي تولد عن إفراطها فيما هو إيديولوجي سياسوي غير موضوعي، و كذلك تبعيتها للشرق الأوسط و للمشارقة، مما أدى إلى اغترابها عن الخصوصية المغربية التي تشكل الخصوصية الأمازيغية حجز الزاوية فيها. وإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه في بنية النخبة المثقفة "العروبية" في المغرب، فإن موتها سيكون موتا فنيا بعد أن تنخر الشيخوخة جسدها ليصبح مكانها بالتالي المتحف أو القبر. في البلدان المتقدمة، النخبة المتقدمة هي التي تقود قاطرة التغيير و الإصلاح، ولكن مثقفينا في المغرب شغلوا أنفسهم بأمور جزئية، أمور سيسدل عليها الزمان ستاره بكل سرعة، ولكن الجوهري، والمهم فهو غائب عن دائرة اهتماماتهم، ومنه ما يتعلق بالمدى البعيـد والتطورات التي ستقع في المغرب ومنها كيفية القضاء على فكر التطرف والإرهاب، وتجاوز ثقافة إلغاء الآخر... ولكن نخبتنا المثقفة، المعزولة عن المجتمع، لا يمكن أن تطرح مثل هذه الأسئلة ولا تبحث بجدية في مثل هذه القضايا وذلك بتجنبها الخوض في مثل هذه الأمور. فالتغيير السياسي، كعملية سياسية، لا يمكن فصلها عما هو ثقافي لأن الخطاب الثقافي في جوهره يساهم في عملية التغيير على اعتبار أن الحديث عن الثقافة حديث في جوهره عن التوجه لسياسة الدولة في جميع الميادين، بما فيها علاقة الدولة كجهاز بالمجتمع بصفة عامة وشمولية. من هنا يكتسي الخطاب الثقافي الحقيقي أهمية قصوى في تحديد الملامح العامة لأية دولة في العالم. ودور النخبة المثقفة هو التأثير الفعلي في هذه العلاقة عن طريق طرح بدائل ثقافية ترتكز على نشر ثقافة السلم والتسامح والتعددية والاختلاف ونشر كذلك قيم الحداثة والمعاصرة في انسجام تام مع الواقع السوسيوثقافي، وكذلك التاريخي للشعب المغربي، وليس اعتناق أفكار وطروحات ثقافية وقيمية بعيدة كل البعد عن الواقع الثقافي الوطني، مما سيؤدي لا محالة، أولا إلى تدمير الثقافة الأصلية للشعب المغربي التي هي الثقافة والحضارة الأمازيغية وثانيا تقليد الغير تقليدا أعمى يؤدي إلى عواقب وخيمة على مصير الشعب المغربي عن طريق عملية نقل شعارات و أفكار إطلاقية غير قابلة للنقاش مما يؤدي بطبيعة الحال إلى نشر نزعة حربية فتاكة في صفوف أفراد الشعب المغربي وتهيئيهم ليكونوا قنابل قابلة للانفجار في أية لحظة بسبب قناعات سياسوية وإيديولوجية لم يعد بإمكانها إنتاج وإعطاء أي شيء لصالح الشعب المغربي.
|
|