|
حول حكاية "تاسردونت ن يسنضال" بقلم دمامي الحسين (ورزازات)في العدد 80 من جريدة "تاويزا" صدر مقال لأناروز سعداني يحلل فيه حكاية ”بغلة القبور“ بطريقة إثنوغرافية. ودون التقليل نهائيا من قراءته، أرى أنه يمكن إبداء ملاحظات منهجية وتقديم إضافات فيما يخص الحكاية المتداولة بعدة مناطق أمازيغية، والتي ترد بصيغ مختلفة، خصوصا بالجنوب الشرقي من المغرب بكل من أقاليم ورزازات، زاكورة والراشيدية. علما أن الحكاية متداولة حتى بالمناطق السوسية. إن ”بلغة القبور“ عبارة عن حكاية غرائبية أو عجائبية وليست بأسطورة. طالما أن الأسطورة تحكي حياة الآلهة أو البشر أنصاف الآلهة(1)، مثلما تحكي البدايات الموغلة في الماضي الفعلي الممكن ضبطه تاريخيا أو المغلفة بأغشية الأساطير. علما أن من خاصية الأساطير تحيينها طقوسيا في فترات دورية لا يمكن التصرف فيها. فمثلا بالنسبة للسنة الفلاحية هناك فترات دورية تقام فيها طقوس نمطية كعلامة على قدسية الاحتفال، رغم أن الذاكرة الشفوية لا تحتفظ نهائيا بالفعل المؤسس أو الأسطورة الأصلية. ومن أمثلة الأساطير التي يمكن الإشارة إليها ربط الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بفعل مؤسس هو غزو الزعيم شيشونق لمصر. كما أن موسم إملشيل عند آيت حديدو مرتبط بأسطورة محبوبين حال القدر القبلي دون تحقيق أملهما. وتخليد الذكرى هو تحيين للقصة وربط لذاكرة حاضرة بماض بعيد(2). مثلما يتحدث الأستاذ بودهان عن أسطورة الظهير "البربري"(3) كفعل مؤسس للحركة الوطنية الحضرية والتي تحيّن هاته الواقعة سنويا. انطلاقا من المعطيات أعلاه نجد أن خصائص الأسطورة إثنوغرافيا لا تنطبق على حكاية ”بغلة القبور“. فهي حكاية ذات وظيفة اجتماعية تهم ضبط الحركية المجالية للساكنة في الزمان. كما أن إحدى الملاحظات المنهجية التي يمكن إبداؤها هي ضرورة ضبط مكان الحكاية حتى تتم قراءتها أو تأويلها على ضوء الثقافة المحلية للمكان المحصل عليها فيه. إذ الكاتب يتحدث في مقاله كأن الأمر يتعلق بحكاية واحدة تسود في مجموع المجال الأمازيغي وتؤثث اللاشعور الأنثروبولوجي للأمازيغ. رغم أنه في حكايات الجنوب الشرقي نجد الحكاية مرتبطة بساكنة القرى المستقرين وليس بالرحل حيث تكون "تارير" أو الغولة هي البطلة، فيما أدت الهجرة والحركة المجالية للساكنة بظهور وسائل النقل وأثر الاستعمار على البنيات القبيلة التقليدية إلى ظهور حكايات "عيشة قنديشة". أما على مستوى المضمون فيلاحظ أن الكاتب يعتبر الميتاموفوز(4) "ترجمة للثقافة الجماعية التي تحتقر هذه المرأة" (عمود: 4، ص: 13). ثم يقول آخر المقال: "فهذه الأسطورة تترجم على أرض الواقع طريقة تعاطي المجتمع الأمازيغي مع وضعية المرأة، وهي طريقة تمتاز بالمرونة والليونة: إقناع المرأة بتبني سلوك لائق وبالتالي قيم المجتمع ككل". (عمود: 4. ص: 12). فبالنسبة لهاته المعطيات، ففهم وضعية المرأة في المجتمعات الأمازيغية التقليدية الرعوية والزراعية ليست بالمسألة البسيطة. فبقدر ما هي مبعدة من المجال العمومي الذكوري في سياق ثقافة ذات نزعة ذكورية حزبية، بقدر ما هي التي تؤبد هذا الاستعباد من خلال نقلها لميراث رمزي كثروات خلاص إلى أبنائها. هذا الميراث الرمزي يقلل من شأن المرأة، وإن لم يحل دون منحها البطولة في الحكايات على حساب الرجل. حول زمان الحكاية: كل الحكايات السائدة في الجنوب الشرقي –والتي سمعتها من أشخاص لهم إلمام بالميراث الثقافي المحلي- تربط تحول المرأة إلى ”بغلة قبور“ بالليلة المقمرة المضيئة. والفتيات التي تظهر لهن يكنّ ضحية خداع الليلة المقمرة حيث يخرجن من المنزل للاحتطاب ظنا منهن أن نجمة الصباح قد ظهرت أو أنهن تأخرن في الاستيقاظ إلى ما بعد الفجر(5). وفي إحدى الحكايات تطلب المرأة التي تتحول من مرافقتها الاختباء بظل الصخرة الوحيدة في المكان المنبسط لتقضي ما كتبه الله لها، مما يجعل من التحول قدرا ذا بعد غيبي. ولفهم معطى الزمان يجب أن نستحضر ربط قيام المشعوذات بأعمالهن في الليلة المقمرة، بما فيها طقس إنزال القمر(6). ففي التحذير من الخروج ليلا محاولة للحيلولة دون ممارسة الشعوذة كأداة سحرية تمكن الإناث من قلب الأدوار الاجتماعية وتوجيه الذكور الوجهة التي يريدونها، أي بصيغة أخرى قلب التقسيم القبلي للأدوار الجنسية بإخراج الرجل –بطريقة سحرية عدما نشأ أو ربي على منطق ذكوري - من المجال العمومي الذكوري إلى المجال الخصوصي محددا في علاقته بزوجته. وهذا التحول يمس كذلك مركز الحماة وسلطتها على زوجات الأبناء وعلى أبنائها الذكور الذين يمنحونها وجودا اجتماعيا بعدما منحتهم وجودا بيولوجيا. كما أن الحكاية تهدف إلى عدم استغلال الليل كوقت إضافي لتحقيق سبق فردي على حساب الآخرين. وفي حالة وجود سبب اجتماعي أو موضوعي تكون النتيجة بدون خسائر كقصة ذلك الشخص الذي كان يسقي حقولا له ليلا تبعا لتنظيم عملية السقي، فوجد بغلة شبهت له ببغلة أحد ساكنة القرية فاقتادها إلى إسطبل منزله لتسليمها في الغد لصاحبها المفترض، لكنه في الصباح وجد امرأة من القرية طلبت ستر ما وقع. وهو ما لم يقم به حسب الحكاية. وبغض النظر عن صدق الحكاية وبالتركيز على وظيفتها فهي تظهر أن الناجي كان يقوم بعمل لصالح أسرته، ما يجعل المهدد بدفن ”بغلة القبور“ له هو من يتواجد ليلا بدون مبرر مقنع، أي من يتواجد لسبب غير أخلاقي أو مشتبه فيه. كما أن رعب الحكاية موجه للأرامل الشابات اللواتي يتوفى أزواجهن عنهن في سن مبكرة دون الحسم في كونهن حوامل أم لا. إذ تربط الروايات التحول كذلك بعدم احترام فترة العدة حيث تدخل المرأة في علاقة جنسية غير شرعية تؤدي إلى خلط الأنساب. وفي مسخها ”كبلغة قبور” حرمانها من الإنجاب نهائيا أو من مستقبل زواجي. ولإظهار رعب الحكاية أورد قصة واقعية(7) مفادها أن بغلة كانت طليقة كل ليلة فانتشر خبرها وأصبح الكل –بما فيهم معلمون من خارج المنطقة - يتجنب الخروج ليلا ويحذر من ذلك، فيما انتبه الراوي أن البغلة لشخص يتعمد إطلاقها ليلا حتى لا تشعر الساكنة بعلاقة غير شرعية مرتبطة بأرملة. وإن كانت الحكاية تظهر استغلال الحكاية لمن لا يعتقد بها. أصل الحكاية: قد يتعلق الأمر بحيوان طارئ على المجال القبلي حيث لم يعتد الساكنة من قبل رؤيته. أو حيوان انقرض. مبرر هذين الافتراضين حكاية الجدة التي رأت زرافة في كتاب القراءة لأحد حفدتها فقالت إنها ”بغلة القبور“. كما يحكى أن ساكنة دادس في إحدى اللحظات التاريخية لم يغادروا قصباتهم لمدة شهر خوفا من حيوان كان يعبث بمحاصيل الحقول معتبرين إياه "خّو" أي حيوانا مخيفا. هذا الحيوان لم يكن إلا الجمل. رغم أن القصة قد تفهم بغزو الرحل لمجال الساكنة المستقرة بدادس الذين لم يكونوا رعاة. والدليل عدم امتلاكهم لمكان الاحتطاب، أي الخلاء. وإلى غاية عهد الحماية كانت نساء دادس يقايضن الحطب وروث الماشية (Igheyayen) التي تحضرها نساء الرحل بالحبوب والتين الجاف. كما يمكن القول إن حكاية ”بلغة القبور“ هي حكاية مستقرين، أي المزارعين. مما يسمح بالقول إنها تبرز تحولا في مركز أو وضعية المرأة من عالم الترحال إلى عالم الاستقرار، حيث الحكاية علامة عل تراجع مركز المرأة في حياة "ءيغرم" أو حياة الاستقرار حيث بدأ يتشكل تقسيم جنسي للأدوار الاجتماعية أكثر وضوحا مدعوما بثقافة فقهية، في مقابل حضور المرأة في عالم الرجل بشكل يساوي أو يقارب حضور الرجل، حيث الحركية المجالية مشتركة، فيما في مجال الاستقرار تصبح حركية المرأة المجالية محدودة. وتخضع على مستوى الإرث لميز يصل حرمانها بالتحبيس عكس إرث الماشية الذي تحصل منه على نصيبها. ولقد أدت الحركية المجالية للساكنة القروية إلى تعويض حكاية ”بغلة القبور“ قاتلة الشباب وخصوصا الشابات العذارى، وحكاية الغولة آكلة الأطفال(8) بحكايات عيشة قنديشة. هذا التحول في بطل الحكاية يعكس تحولا في مصدر الثروة. فبعدما كانت الماشية هي "لمال"(9)، أصبحت الثروة هي الأرض، وأخيرا أصبح المال هو النقود. على سبيل الختم: إن فهم الحكايات الأمازيغية يمكن أن يتعدد بتعدد المقاربات المعتمدة من أدبية وتحليل نفسية وأنثروبولوجية. ولقد كان المقال محاولة لفهم حكاية ”بغلة القبور” انطلاقا من مرجعية أنثروبولوجية تستحضر معطى القرابة كمحدد لقراءة الحكاية دون إغفال قيم ثقافية تدور في فلك هذا المعطى، والتي تساهم في توضيح الهدف الاجتماعي من الحكاية. هاته القيم كالاعتقاد في أموثل، أناروز، ومؤسسة تافركانت وتاضا وصورة العلاقات الاجتماعية كما تقدمها الأمثال كانت حاضرة كخلفية وإن لم يصرح بها، على أمل العودة إليها في مقال لاحق. هوامش: 1- يقول جون بيير فرنان: "إنها [الأسطورة] تروي مجموعة الأعمال المنظمة التي كان يقوم بها الملك أو الإله، تلك الأعمال التي كانت الشعائر تحاول أن تشخصها". في: دفاتر فلسفية: نصوص مختارة. رقم 1: التفكير الفلسفي. ص: 18. إعداد وترجمة: ع.السلام بنعبد العالي ومحمد سبيلا، دار توبقال، 1991، الدار البيضاء. كما أن هنري فرانكفورت في كتاب "ما قبل الفلسفة" يجعل من خاصية الأسطورة الإلقاء الجهوري لها. 2 - بما أن مرجعية المقال هي أنثروبولوجية القرابة فأسطورة إملشيل قابلة للتأويل على ضوء الاعتقاد في أناروز (يرادف الأمل والإحباط) كأداة لضبط السلطة الذكورية. 3 - أنظر تقديمه لكتاب: الظهير "البربري" أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر، لمحمد منيب، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2002، الرباط 4 - الحكايات التي تتحدث عن المسخ أو التحول لا تقتصر على بلغة القبور، بل تشمل كل من أخل بالأخلاق الاجتماعية كعدم احترام الأطعمة الذي أدى إلى مسخ فتيات إلى نجوم الثريا (La pléiade) أو امرأة إلى قمر. ومسخ كوكب عرس ذهب قبل الأوان إلى صخور، ومسخ اللقلاق الذي كان يغش في الميزان. 5 - في إحدى الروايات التي لا أتذكر لسوء الحظ مجال تداولها أن بغلة القبور تظهر في فصل الشتاء في اليوم الكثير المطر فيما لا تظهر نهائيا في فصل الصيف. وإذا ربطنا هاته الرواية بالمعطى الزماني نجد أن أهم الأشغال الزراعية تتم في الصيف في مناطق سقوية تحتاج للرعاية ليلا ونهارا وفق نظام توزيع الماء الذي يندر في هذا الفصل في المناطق الشبه صحراوية للجنوب، بينما في فصل الشتاء تقل الأنشطة الفلاحية الخاصة بالبقول طالما أن أهم الأشغال من حرث وجمع للأعلاف تتم في الخريف. 6 - نجد وصفا أدبيا لهذا الطقس في رواية "شجيرة حناء وقمر" لأحمد التوفيق، وعند الرومان فإن Médée الابنة الصغيرة للشمس تدعي التأثير على مجرى الكواكب وخصوصا إنزال القمر إلى الأرض. وفي دادس تعتبر البقع الظاهرة على القمر والتي تسمى "تافولا" من فعل نساء ساحرات حسدن القمر في جماله فأنزلنه لتشويهه. 7 - حكاها لي الصديق حماد آيت الطالب أستاذ بمركز المعلمين والمعلمات بورزازات. 8 - في شمال المغرب فـ“التابْعة“ هي بغلة قبور، يقول عبد السلام الداشمي: “La mule est appelée, en arabe dialectal du Nord du Maroc (Baghla), et “Baghla et Kabour” signifie aussi “Atabaâ” (“La poursuivante des tombes”) dont le rôle essentiel est de poursuivre à mort les enfants”. In: De la séduction maternelle négative, p: 61, Pub: La Faculté des lettres de Rabat, 1995. 9 - يستعمل الرحل لفظة المال للحديث عن الماشية.
|
|