| |
الشعر الأمازيغي بالريف: مقاربة تاريخية
(الجزء الثالث)
بقلم: اليماني قسوح، عبد المطلب الزيزاوي (جامعة محمد الأول، وجدة)
2-1 الخصائص الفنية للشعر التقليدي
الأمازيغي بالريف
2-1-أ ـ العروض والإيقاع:
يقوم النظم الشعري الأمازيغي التقليدي بصفة عامة على أسس عروضية، وإيقاعية تتمثل في
"تييات" (م تيت)، وهي وحدات صوتية من مقطع واحد يتشكل منها القالب الإقاعي
والعروضي، الذي تقولب فيه الوحدات المعجمية المكونة للبيت، ويعرف هذا القالب في
منطقة سوس والأطلس ب- "تالايت" أو "تنانايت"، وقد تم حصر عدد من النماذج العروضية
انطلاقا من متن عدة آلاف بيت شعري، من تاشلحيت وتامازيغت، في سبع وثمانين صيغة
تتمثل في مركب من المقاطع من قبيل:
أي لايل أيلا لايل أيلا لال(47)
أما في الريف، فقد خضع النظم الشعري التقليدي ل- "رميزان أنعاشي" أو "رميزان ن-بويا"(48).
بمعنى أن البيت الشعري "ئزري" "izri» يقاس بالحركات الصوتية ، syllabes عددها 12
حركة صوتية في كل شطر شعري. وفي جل الأحيان يتطلب اكتمال معنى كلام الشاعر 24 حركة
صوتية، وهو ما يسمى ب- "ئزري" أو البيت الشعري المستقل.
وتجدر الإشارة إلى أن ميزان "رالا بويا" هذا يعطي إيقاعا وجرسا موسيقيا متميزا، وهو
ما يجعل الأشعار قابلة للحن، وهذا في الأصل يعود إلى كون القصيدة الشعرية، والشعر
بصفة عامة عند ئيمازيغن، تولد مغناة، أو أثناء الغناء في مختلف المناسبات، وهي إحدى
مميزات الإبداع الشعري الأمازيغي(49).
لنقترب أكثر من هذا العروض الذي على وزن "رميزان أنعاشي رالا بويا"، من خلال بعض
الأمثلة.
يقطع هذا الميزان حسب الحركات الصوتية كما يلي:
Ayawrala yaral yaral ayawral ralla buya
11 -12-- 9- 10 -- 7- 8 -- 5- 6 -- 3- 4 -- 1- 2
وقد يختلف النطق كما يلي:
Ayaralla yaral ayaralla buya
لنأخذ أمثلة من شعر المقاومة، من ملحمة "دهار أوبران"(50). يقول الشاعر الأمازيغي:
Aya dh'ar u baran aya ssus n yexsan
11- 12 -- 9 -10 -- 7- 8 -- 5- 6 -- 3- 4 -- 1- 2
Wi zayk igharen azays ighar zman
11-12 -- 9 -10 -- 7 - 8 -- 4 –5 -6 -- 1 -2-3
Aya mulay muhend aya dud’ imendi
11-12 -- 11-12 -- 9-10 -- 7-8 -- 5 -6 -- 3 -4 -- 1 -2
Ghares fud' tayd'at' iâed’ras u beddi
11 -12 -- 9- 10 -- 6 –7 -8 -- 4-5 -- 1-2-3
هكذا نجد أن :"ئزري izri» البيت الشعري المستقل يتكون من: 24 حركة صوتية، وعلى هذا
المنوال الأصيل بني شعر الريف. إلا أن ضرورة اكتمال معنى كلام الشاعر في بعض
الأحيان، تتطلب زيادة إحدى الحركات الصوتية، وهذا نادرا ما يحدث.
من هنا يكون الشعر الأمازيغي موزونا، ووزنه عبارة عن وحدات صوتية تجعل الألفاظ
والتراكيب التي تحمل المعاني معبرة ومنغمة، لذا نجد أن الشاعر يحرص على هذه التقنية
الأساسية "الوزن"، وقليلا ما يعمد الشاعر إلى الخرق والخروج، عن نموذج "للابويا"،
فيصبح أنموذج الكتابة الشعرية أنموذجا حرا، أو ما يسمى ب-"ئزري ئنوفسرن"(51). لا
يتقيد بالوزن المألوف والمتفق عليه جماعيا، وهذا ما نلمسه في المثال التالي(52):
T'usid t'ebrat t'usid t'ura
T’sid x remrak u sewggasa
Araht’iwd aya yet’ma
Ighzar u âenkic
Ud fent’id’ idva
ومعروف أن الشاعر الشعبي بالريف كان يغير الإيقاع، من قصيدة لأخرى، وذلك حسب السياق
والموضوع وحدة العاطفة أو فتورها، وحسب طبيعة الألفاظ المستعملة والمعبرة، وحسب
مزاج ونفسية الشاعر المتحكمة في الإيقاع، فالشاعر الذي يتغنى بجمال حبيبته، وهيامه
بها سيكون إيقاعه أرق من الشاعر الذي يصف معركة، ويحمس المجاهدين ويحرضهم على
القتال، حيث الإيقاع يتميز بالثورية والدينامية، والأصوات الجهورة، كما في المثال
التالي(53):
T'urid tviyara t'urid at'ar cuc
Afghent at’inhjab a tucent I wexbuc
Inewjiwen ag uxxam rewziâet’ yeccit umuc
ويتسم الإيقاع كذلك بطابع الحزن والمأساة، والأصوات الحلقية والصفيرية، عندما يكون
مقام الاستشهاد وبكاء أبناء الريف والأقارب، كما في القصيدة التالية(54):
Yemma wig i hdvan i r barud n jjemâa
T’it’i tamezgarut a hemmadi a yuma
Ssejjent ayt mas ksin gi t’awra
T’sejjit ma yemmas t’ewt’a g fadden t’ewdva
Mukas gha ggegh I mawsa ar u jij t’nnidd’ra?
Mukas gha ggegh I rehrir gi ssenduq I racca?
Mukas gha ggegh I miya yemmewcen gi rehma?
Mukas gha ggegh I fatima gi rehnani t’ ewwa?
2-1-ب القافية:
استعمل الشاعر الشعبي القافية، سواء في نظمه "للإيزري" أو "الإيزران"، أو "ثيقسيسين".
وتراوحت القافية في القصيدة الأمازيغية الريفية منذ القديم، بين القافية الموحدة
التي تحافظ على وحدة القصيدة، والتنويع. الأمر الذي جعل هذا الشعر خصبا، وجمالا
وبهاء.
ومن أسباب وحدة القافية، ارتباط الشعر ـ كما أكدنا سابقا ـ بالغناء، بينما نميل إلى
تفسير تعدد القافية، وتنوعها، باشتراك عدد كبير من الشعراء في إبداعها فيزيد هذا،
ويغير ذلك، حتى تستقر على مضمون وأسلوب ما تروى به. يقول الشاعر الشعبي(55):
Aya dh'ar ubaran aya sus aya xsan
Wi zayek igharen ighar zayes zman
Mani yeduqaz rbarud’ mani sghuyyen yaysan
Mani yeqqim râeska issad‘ am iserman
A t‘icuccay nnes am rferfar yawan
Ar qebtvan wilba t‘at‘dvcaged ihalqa
Aya kkar râeskar nnec rad’ij ma yeddar
A âuma wafqi x srak Ig yewdva
Cek a remqeddem d’abarrah ma ruxa
Kenniw ayt temasaman d’imjah’d’en zi rebda
Tjah’d’em sufus nwem jah’d’ent ra ttiniba
Si qed’wah nwem taryant ak isura
At’aqbitc n tamasaman ggagh abrid’ aneâd’a
Anah gha umezzawru aya dcar n lemjah’d’a
T’urid ttvayyar ad’ sid’i brah’im it’awt’a
T’ewt’it’ s rbumbat’ t’andrited zeg ujenna
T’awt’a lmujah’idin t’awwa n ssvuhuba
A t’aqbitc n tamasaman ggagh abrid’ aneâd’a
Anari gha ayt’ âezza t’amwat’ n lemjah’d’a
Aya rhakem ameqran yetvzemman batvatva
A râeskar nnec la wahed ma yebqa
Amezyan ameqran kurci iwedda
Ameggaru nsen d’i rehmam ig yudva
T‘aâessast‘ a buymejjan t‘ekka d‘ayes carira
Kannit aswit' anwar d' jwaru ma ruxa
H‘ayyih‘ a muray muhend
Arebbi d‘anex t‘gha yejjen ad‘ yeddar
Huma wa ditid‘ef urumi axanegh iâedda
2-1-ج الأسلوب:
يمتاز الشعر الأمازيغي التقليدي بالريف، بأسلوب سهل نابع عن الطبع والفطرة دون
الميل إلى التصنع أو التكلف. وذلك حتى يكون في متناول الجميع. فهو أسلوب يفهمه عامة
الشعب، ويتجاوب معه، كما يمتاز بالدقة والواقعية والميل إلى التعبير المباشر،
والجمع بين الرقة والجزالة، ومن خصائصه: عنصر القص والسرد، والحركة والحيوية،
والتشخيص والحوار(56).
2-1-د الصورة في الشعر التقليدي الأمازيغي بالريف:
إن الشعر الأمازيغي بمنطقة الريف، شأن جميع الأشعار العالمية ، عرف استعمال الصورة
منذ عهد قديم، باعتبار ها وسيلة من وسائل التعبير الشعري، هادفا من وراء ذلك، توضيح
المعنى وتقريبه من أذهان المتلقين، خاصة في فترة المقاومة، حيث كان جهد الشاعر
الشعبي ينصب على إلهاب حماس الجماهير، وتأليبهم ضد الاستعمار... فلم يكن يغرق كثيرا
في أعماق النفس، ولم يكن يستكشف المناطق المجهولة في العوالم الداخلية، ولم يكن
يرتاد الزوايا المظلمة من الأحاسيس والمشاعر المجردة من الإنسان، فكانت أغلب الصور
تعتمد حاسة البصر. أي أنه كان يتعامل مع أشياء المحيط وما حوله تعاملا نقليا، وفي
بعض الأحيان تعامل مقارنة بغية تقرير المعنى، وتأكيده(57).
إن الصور المستعملة صور متنوعة، وحية غالبا ما تكون ملموسة مستمدة من البيئة
المحلية. إن الشعر الأمازيغي التقليدي بالريف يبدو لنا كمرآة، يعكس صورا، أو وقائع
وأحداثا وقضايا. صورة للطائرات وهي تستعد للهجوم، أو المجاهدين في حلبات القتال،
والأم والحبيبة، والأقارب يودعون الأبناء والأعزاء، في حلة من الحزن والكآبة... إذن
هناك صور عديدة يمكن أن نجد بينها صورا حقيقية وأخرى مجازية، كما يمكن أن نجد بينها
استعارات، وتشبيهات عديدة أيضا، صيغت بلغة أمازيغية بدوية متينة ومعبرة، يخترقها
أحيانا ألفاظ دخيلة من لغات المثاقفة.
أما المعجم المستعمل في هذا الشعر، فنجده مستوحى من الواقع، وخاصة من الطبيعة
بعناصرها الحية والجامدة. ويلاحظ أن استعمال الألفاظ يلائم سياق الشعر، مثلا
استعمال لفظة "موضا" الدخيلة من اللغة الإسبانية، للإحالة على الحداثة. والتي أثارت
نقاشا واختلافا في الفهم، حتى على المستوى الشعبي، كما يعكس ذلك البيت التالي:
Tesrant mudva mudva ksent t'ikembucin
A mudva d'i reâqer aya t’ihebbujin
-3 الشعر الأمازيغي الحديث بالريف
نقصد به مجموعة الإبداعات التي ظهرت منذ العقود الثلاثة من القرن الماضي، مع ظاهرة
تحول الأدب الأمازيغي من مرحلة الشفهية إلى مرحلة الكتابية، وانبعاث الوعي
الأمازيغي، وظهور مجموعة من الفعاليات والتنظيمات الجمعوية(58)، المنتمية للحركة
الأمازيغية، التي عملت على تقديم الدعم والتأطير، والتنظيم في المجال الثقافي.
وفي الوقت الذي تمكن بعض من أبناء وبنات الريف، من ولوج المدرسة والجامعة، بشق
الأنفس، من توسيع التعليم العصري بعد الاستقلال. هذا إلى جانب ظهور بعض الجرائد
والمجلات التي أصبحت منابر يلجأ إليها الشعراء الشباب لنشر إبداعاتهم.
ويتميز هذا الشعر بالخلق والإبداع، وتعدد أسماء مبدعيه الشعراء، وبكونه إبداعا
كتابيا بالدرجة الأولى، لأنه لا يرتبط بمجالات الثقافة الشفوية، التي ينبع منها
الشعر الغنائي التقليدي. وهو بذلك يعتمد على النشر في تبليغه إلى القراء، وكتابته
لا تتم لأغراض تدوينية، وتوثيقية يتولاها الباحث أو المهتم دون الشاعر المعني ذاته،
بل إن الأمر يتعلق بالتأليف، وقرض كتابي في جوهره يقوم به الشاعر/المؤلف، الذي
يحتفظ بحق امتلاكه لإبداعاته المنسوبة إليه، وحتى في انتقال القصيدة الشعرية
الحديثة، من الديوان إلى الأداء الغنائي من طرف فرق موسيقية جادة، فإن ذلك لا ينزع
عن النص خاصية الكتابية، بقدر ما يكرسها، على غرار النصوص المؤداة في الآداب
العالمية، كلمات تؤدى وفق أعراف الشعر الغنائي الحديث(59).
كانت بداية هذا الشعر على مستوى منطقة الريف عسيرة، ومتأخرة نسبيا مقارنة بمنطقة
سوس مثلا(60) لأسباب تتعلق بتأخر المنطقة في الاندماج، ومسايرة التحولات التي حدثت
بمغرب ما بعد 1956. بفعل سياسات الحصار والتهميش، والإقصاء المفروضة عليه تاريخيا.
تمت أجرأة هذه البداية الصعبة من طرف مجموعة من الشعراء الشباب ذوي مستويات ثقافية
متباينة، حاولوا من خلال مواهبهم أن يخرجوا إبداعاتهم الشعرية مكتوبة على الورق،
شاركوا بها في مهرجانات وندوات الشعر الأمازيغي التي نظمتها جمعية الانطلاقة
الثقافية.
جاءت هذه التجربة الفنية في خضم بداية تحول الوعي التقليدي بالهوية إلى الوعي
العصري(61)، كما صادفت عودة عدد من الأطر والطلبة والأساتذة من الجامعات الفرنسية،
التي انتقلوا إليها لمتابعة الدراسات العليا. فكانت فرصة لهم للإطلاع على تجارب
الحركات الهوياتية، والمناهج العلمية، والاحتكاك بأطر الحركة الأمازيغية الجزائرية.
وأثناء العودة اندمجوا في الجامعات المغربية، ومشرفين على جمعيات ثقافية، استقطبت
أفواجا من الشباب الريفيين المتخرجين من المدارس والجامعات، والذين استفادوا من
توسيع التعليم.
تأثر جيل هذه التجربة بالمرجعية الواقعية، وتشبع بالآراء التقدمية وبديلها السياسي،
وسمح لهم المناخ السياسي ـ المتسم بنوع من الانفتاح خلال هذه المرحلة، قبل أن يتعثر
ويتراجع في بداية الثمانينات ـ برفض الوعي السائد لدى الفئات السائدة التي كان
هدفها تكريس الواقع والحفاظ عليه. وتشبع هذا الجيل بالفكر الجدلي، وباستشرافه لوعي
ممكن يطمح إلى التغيير، عن طريق النضال والتضحية(62).
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأحزاب السياسية المحسوبة آنذاك على الخط اليساري
والتقدمي، قامت بدور في تشجيع هذا النوع من الشعر لكسب الشباب وتسييسه تحت غطاء
إيديولوجي، وعلى الرغم من استغلال هذه الأحزاب للأمازيغية والثقافة الشعبية، فإنها
خدمتها بطريقة لا شعوريةـ، حيث ساهمت في تطوير حركة الشعر في المنطقة، وفي هذا
الصدد يمكن الإشارة إلى مجلة "طريق الشباب" التي كانت تصدرها شبيبة حزب "التقدم
والاشتراكية" فرع الناظور، كل ستة أشهر. ويكتب فيها باللغات الثلاث: الأمازيغية،
والفرنسية، والعربية، وكانت تحتضن أقلاما واعدة، وتنشر فيها قصائد أمازيغية،
ودراسات نقدية مواكبة للشعر الريفي.
وفي هذا الصدد أيضا، لعبت جمعية الانطلاقة الثقافية دورا مهما وبارزا، من خلال
أنشطتها وبرامجها، والتي كان يسهر على إدارتها أساتذة وأطر جامعية متنوعة المشارب
والتخصصات، تساهم في تكوين الشباب الريفي المثقف، الذي يعي حضارته وهويته، وذلك عن
طريق عقد الأسابيع الثقافية، والندوات والمحاضرات، والأغاني الشعبية والمسرح
والفن(63).
في هذا الجو ظهر مجموعة من الشعراء، الذين أسسوا لما يسمى بالشعر الأمازيغي الحديث
بالريف، من خلال مجموعة من القصائد الموحدة والملتزمة، ذات الربط الموضوعي، والفني،
والشعوري. وتتمثل هذه المجموعة في الشاعر سعيد موساوي، ومرزوق الورياشي، وأحمد
القادري وغيرهم(64). منهم من استكمل مشواره الإبداعي، ومنهم من توقف(65).
والملاحظ أن شعراء هذه التجربة، حاولوا قدر الإمكان تجديد القصيدة الريفية على
مستوى المبنى والمعنى، وحاولوا قدر إمكانهم أن يعطوا لها نفسا جديدا، بعد أن سيطر
على الساحة الأدبية الريفية، خاصة خلال الستينات، بعض النصوص التي تخلو من الوظيفة
الجمالية(66).
وقد ساهم هؤلاء الشعراء في تطوير الأغنية الريفية، بعد أن كانت رخيصة، يغلب عليها
التقليد لأغاني الشرق، والغزل الفاحش(67). حيث ظهرت مجموعات غنائية جادة من بينها
مجموعة "ئريزام" و"بنعمان" و"ئثران"(68).
غير أنه خلال هذه الفترة لم يتمكن أي شاعر من إصدار ديوان شعري. بل لوحظ خفوت
وتراجع لبعض الأصوات، خلال الثمانينات من القرن الماضي. ويعزى ذلك إلى الظرفية
السياسية، حيث تعرض ذلك الهامش والانفتاح الذي عرفته أواسط السبعينات، مما فتح
المجال للمواجهة بين الحكم والمعارضة على المستوى الوطني(69).
وكان لهذا التشدد السلطوي أثر مباشر على الإبداع الأمازيغي، من خلال محاكمة أحد
الأطر والشعراء الأمازيغ، مثل المرحوم علي صدقي أزايكو، يوم 14 يوليوز 1982،
وإدانته بسنة سجنا نافذة، بسبب مقال له في مجلة "أمازيغ". كما تم منع انعقاد الدورة
الثانية للجامعة الصيفية بأكادير في الشهر الموالي... ناهيك عن الاعتقالات التي
شملت العديد من المواطنين بالريف خلال تلك المرحلة.
يعود سبب الجمود، بنسبة كبيرة إلى هذا التشدد السلطوي، وتعزز بأسباب ذاتية تهم
جمعية "الانطلاقة الثقافية"، فقد سمحت الآليات الديموقراطية أن يتولى المسؤولية في
مكتبها، عناصر من اليسار لا تضع ضمن أولوياتها إنماء اللغة والثقافة الأمازيغيتين،
مما أدى إلى تجميد نشاطها(70).
بحكم هذه الظروف، لم يظهر على الساحة بمنطقة الريف، أي ديوان شعري، إلى أن تغيرت
الظروف وظهر نوع من الانفراج مع بداية التسعينات مما سمح بعودة نوع من الدينامية،
إلى الحقل الثقافي والتنظيمي والإبداعي الأمازيغي، واستئناف النشاط الثقافي، من
خلال تأسيس جمعيات جديدة أصبحت تتبادل اللقاءات والمشاورات بعد ميثاق أكادير 1991.
وتدشين مبادرات إعلامية واكبت المرحلة، وسمحت بالإطلاع على مبادرات إبداعية متنوعة.
ساهمت هذه الدينامية الجديدة في انتعاش الحركة الشعرية بالريف، وهذا ما يمكن
ملاحظته. فإلى جانب الشعراء الذين لم تسمح ظروفهم بإخراج إبداعاتهم في شكل دواوين
واقتصارهم على نشرها في الصحف، أو المشاركة بها في المهرجانات واللقاءات المنظمة
لهذا الغرض، من طرف التنظيمات الأمازيغية المختلفة. صدرت مجموعة من الدواوين
الشعرية التي اعتمد أغلبها الخط الأرامي، والبعض الآخر الخط اللاتيني، وهذه
الازدواجية الخطية فرضت نفسها حتى على الشاعر الواحد(71).
وهذه لائحة بأسماء الدواوين التي نشرت من طرف شعراء، تجربة الشعر الحديث بالريف،
والتي يعود أغلبها إلى فترة التسعينات من القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
مجموعة الدواوين الشعرية الأمازيغية بالريف
1-3 تيمات الشعر الأمازيغي الحديث:
من خلال الاطلاع على المتون الشعرية لشعراء هذه المرحلة، يتضح أن التيمات التي أبدع
فيها الشعراء الأمازيغ في الريف، تكاد تكون مشتركة بين جميع الشعراء وليس هناك
تمييز، اللهم بعض الحالات الإستثنائية. ومن هذه التيمات: الهوية والانتماء، والغربة
والأرض، والتاريخ والمرأة، والأم والحب، والحياة والهجرة، والحرية والحقيقة،
والفراق والمعاناة، والأمل والصراع...
ولا تسعنا المساحة هنا لإعطاء أمثلة من كل الدواوين، فللقارئ متسع من الوقت لتلمس
ذلك. لكن يمكن القول إن نوع هذه الموضوعات يؤشر على تداخل المحلي بالوطني، والقومي
بالإنساني.
ويحضر الشعر في دواوين شعراء الريف، باعتباره سبيلا للانتفاض والثورة، واستشراف
الوعي الممكن والأمل المشرق، ويجسد كذلك أداة للتغيير ودك التخلف والاستلاب،
والإقصاء والتغريب والتهميش. مما يجعلنا نقول بوعي الشاعر الأمازيغي بالريف، بجعل
القصيدة تواكب مستويات تحديث المجتمع المحلي، والوطني والإنساني. كما أن الشاعر
الأمازيغي بالريف، قد وعى في خضم التناقضات الاجتماعية والثقافية، وصراع القيم، أن
الثقافة الأمازيغية التي يحملها، تشكل بالنسبة إليه المرجعية التي لا يمكن تجاوزها،
أو إنكارها وطمسها. مما جعله يستثمر الشعر كأداة للتعبئة الهوياتية. التي تشغل
المساحة الشاسعة في الشعر الأمازيغي المكتوب. فالخطاب الشعري يراهن على القضية
الإيديولوجية، متناسيا نوعا ما ـ وفي مواقع كثيرة ـ العناصر الجمالية والإبداعية،
التي يمكن أن يستعاض بها عن جماليات القول الشعري(72).
2-3 بعض الخصائص الفنية للشعر الأمازيغي الحديث بالريف: (يتبع في العدد القادم)
|