| |
الطفل
الأمازيغي بين»هيرو» كبداية للتاريخ وبين ذاكرة "المحرقة" كنهاية للتاريخ
بقلم: عيناني إبراهيم: warir n dades
«إن لم تصم يوم السابع والعشرين من رمضان،
سيرميك الخزاف (Aqddar) داخل فرنه لكي تحرق». ومازال الطفل الأمازيغي دون السادسة
من عمره يرددها حتى أغمي عليه داخل بيت مظلم مليء بالبراغيث. وقع ذلك في أحد تلك
الأيام القاحلة في ظلا ل القصبة لما بعد الظهر. أحس الطفل، ومن شدة الجوع، بأن جسمه
لم يعد يقدر على حمل رأسه، فألقى به على ركبة أمه وهي تنقي وتقشر الجزر للعشاء.
استقر موضوع الدردشة للنساء المجاورات أخيرا حول أسرار رجالهن وقصصهم حول الختان
والطهارة، فتمظهر الطفل بالنوم لأن آثار الختان لا زالت موشومة في ذاكرته.
...لكن طرطشة الجزر تتطاير في الهواء لتستقر أخيرا على شفتيه الجافتين... وأخيرا
بدون شعور، تطاولت أصابعه لتسرق قطعة لا بأس بها لأن لسإنه لم تعد تسد رمقه...
ولماذا استعملت المرأة المجاورة أيضا يدها في خفاء؟... وعلى إثر صيحة هذه الأخيرة،
قفز الطفل واقفا... «إنه الخزاف، إنه قادم إليك...»، وهي تشير بيدها نحو الضفة
الأخرى معلنة قدوم الخزاف بحماره إلى القصية.
دخل الطفل البيت المظلم الذي كان يخشاه دائما...
وانطلقت مراسيم المحرقة بهجوم لسعات البراغيث... وبعد شهور من الغيبوبة وانقطاعه عن
العالم الخارجي، أيقظته رنات «الهر هرة» التي كانت تستعملها الأم من أجل التنويم في
أوقات ينعدم فيها الطعام والمأكل...
Ahraru yahraru: Ahraru ni hrira:n
Abrahim abrahi:m
Ashka:d nsat d ghuri
Aghrum urtitufi:t
Zbib iherm zari:e
Ahraru yahraru:
في إطار الحديث عن نهايات الطفل الأمازيغي، وقعت مؤخرا في غرام البدايات التي استهل
بها كتاب «نهاية الإنسان» لـ»فرانسيس فوكوياما» في شكله المترجم إلى العربية،
وبالضبط هذا الاقتباس من رواية «كل رجال الملك» لروبرت وارين:
«نهاية الإنسان هي المعرفة، لكن شيئا واحدا لا يمكنه أن يعرفه: إنه لا يستطيع أن
يعرف ما إذا كانت المعرفة ستنقذه أم أنها ستقتله. سيقتل، نعم، لكنه لا يستطيع أن
يعرف ما إذا كان قد قتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم
يكتسبها، والتي كانت ستنقذه لو أنه عرفها»
نهاية الطفل في هذه القصة كتجربة هرمنوطقية ليست هي المعرفة فحسب بل إساءته لتأويل
معرفة وافدة ومفروضة عليه. إنه لم يعرف أن «لا شيء خارج اللغة» وأن النصوص
الميتافيزيقية التي تدعي المعرفة والخلاص تحتوي على تناقضات داخل استعمال اللغة
بطريقة تصل بها إلى ما وراء الحقيقة التاريخية. فالنص الميتافيزيقي «إن لم تصم...»
يبني ويخرب في نفس الوقت وذلك باستعمال فلسفة الوعظ واللهو بالعلامات واستعمال
أقنعة المجاز.. «لا أحد ينفلت من لعبة اللغة». إن غياب المدلول المتعالي، «يقول
الفيلسوف» دريداـ Derrida.J)).”يوسع المجال واللعب بالمعاني بدون نهاية”.
إن عملية التفكيك التي نحن بصدد ها ونحن نتناول هذه القصة القصيرة – كتاريخ للطفل
الأمازيغي داخل المنطقة الجنوبية الشرقية للمغرب ـ لا تهدف إلى إيجاد المعنى أو
الكشف عنه بقدر ما تهدف إلى إعادة كتابة تاريخها الحقيقي تماشيا مع أطروحة
التفكيكيين التي تقر بأن تاريخ الفكر البشري، ومنذ أمد بعيد، ما هو إلا نوعا من
الكتابات الخيالية على شكل محكيات كبيرة. إن البنية اللغوية لهذه القصة تتأسس على
اللهو بالكلمات على شكل ثنائيات مضادة. الصوم / المحرقة، الطفل/ البراغيث، الجو ع/
الجزر، الطفل /الختان، أهرارو/ اهريران، النساء/ الختان...”اختلافات وآثار الآثار”.
“لا شيء يعني أي شيء على ألإطلاق” باستعمال تعابير دريدا. هذه السلسلة اللانهائية
من الكلمات تعتبر مقاطع غير متساوية لذات الطفل الأمازيغي. إنها أساليب التواريخ
التي مرت على خشبة مسرح الكائن الأمازيغي.. لغات تعلن رغبتها وحنينها إلى شرعنة
الذات وهيمنتها. فالطفل الأمازيغي، وبعد استيقاظه من كابوس الميتافيزيقا العربية
ومحرقتها الرمزية، يعود إلى الأصل، “اهرارو”_ نسبة إلى”هيرو” إلاه الخلق والسماء
والقوة عند الفراعنة، حيث كانت تطرح إشكالية الهوية والأصل وعلاقاتهما بالحكم
والسلطة. ومرورا أيضا بالمقطع اللغوي “أبراهيم أبراهيم َََA brahim a brahim» إحالة
إلى تأثير الديانة اليهودية على الذاكرة الشعبية الأمازيغية. إن التأرجح بين هذه
المقاطع اللغوية يشير إلى تنوع الهوية الأمازيغية ويزكي الأطروحة القائلة بأن
التاريخ هو استبدال وتعويض رواية برواية أخرى. فكل التجارب الروحانية التي عرفتها
«تمزغا» تتميز بذلك التخلي أو التنازل عن ذلك الدافع الحنيني إلى الكليانية وشرعنة
الذات لصالح تجربة أخرى أكثر قوة وأكثر رشاقة في استعمال التمثيل الرمزي، وبالتالي
حكاية (تاريخ) أكثر إبداعية لتجاوز المبتافيزقا المهيمنة.
بين «هرهرة» الفراعنة كبداية و»هرهرة» الأمازيغ كنهاية
نهاية الإنسان حكاية ستشبه لغويا حكاية بدايته: البداية مع أسطورة «هيروس» أو
«هيرو» ولو بإيجاز :»اوزيريس»»»Osiris يتزوج أخته «ايزيس»((Isis، لكن أخاه الشرير
Seth)) كان يغار من أخيه وحاربه حتى الموت ثم قطع جسده إلى أربعة عشر قطعة ووزعها
على كل مناطق مصر القديمة. وعندما علمت «ايزيس» بذلك، قامت بالبحث عن هذه الأجزاء
المشتتة فجمعتها باستثناء العضو الجنسي الذكوري (Penis) لزوجها. وباستعمال السحر
صنعت عضوا من طين النيل بعدما دفنت الأجزاء الأخرى. ومن خلال هذه العملية حملت
بـ»هروس أو هيرو» وولدت الابن الذي سيصبح من بعد «اله السماء»وينتقم لاغتيال أبيه
«أوزيريس» من خلال عدة حروب انتهت بموت عمه Seth)).
إن البحت عن الحقيقة والمعرفة كتمثيلية وكشرح كوني للأشياء يتم دائما عن طريق
اختراع أساطير جديدة على شكل «نظرية الكل». نظرية تتأسس غالبا على خيال علمي منظم
ومنطقي. فالتجربة الهرمنوطيقية للفراعنة مثلها مثل كل التجارب التي مرت في تاريخ
تمزغا تأسست على التأويل لأن مسألة الحقيقة والمعرفة يتم تمثيلها على شكل رواية أو
حكاية. فمسألة الهوية مثلا تمت «هرهرتها» بشكل لم يقرر ولم يحسم في أمرها. لعبة
لانهائية من العلامات التي تضم الحرفين - الهاء والراء- (H-R) يكون المعنى فيها
معتمدا على اختلافية الصوامت ومرتبطة بإشكالية واستحالة إيجاد هوية ثابتة أحادية
المعنى. فالتنوع اللفظي والنطقي للإله الفرعوني «هيرو» أوهروس «»Horus»Heruمرتبطة
دائما بالمسألة السياسية أو الثقافية لمصر القديمة، وبالتالي فإن الاختلافية في
الاسم والمعنى مرتبطة دائما بالأسطورة السائدة ومرتبطة أيضا بالحرف الأبجدي وعلاقته
بالكتابة والتاريخ. إن محاولات الفراعنة في إيجاد تسمية واحدة توحدهم، وفي إيجاد حل
لصراع الآلهة على طول تاريخهم وداخل مناطق مختلفة في مصر القديمة، قد آلت إلى وجود
أكثر من خمسة عشر شكلا مختلفا لـ»هيرو» أو «هروس». وبشكل إجمالي يمكن التمييز بين
مجموعتين: أسماء «هيروس الشمسي» كابن «لآتون» أو (RE) -»راع» وأسماء» هيروس»
«الاوزيري كابن «ازيس»(izis) . «فهيرو»، إله السماء، سمي كذاك (heru ) «البعيد» حيث
وصفوه بالصقر أو الباز ويرمز إلى الزعامة والمراقبة التامة والصرعة الفائقة: لا شيء
ينفلت من أعين»هيرو». (ويشبه إلى حد كبير «الأخ الأكبر»Big Brother»» في رواية
«جورج أورويل»1984). وبما أنه يمثل السماء فإنه يحتوي على الشمس والقمر (إحالة إلى
عينيه) وبذلك عرف بـharmerty (هروس ثنائي العين) وعندما انتصر على عمهset) ) أصبح
يعرف ب harsiesis»أو هيرو أور.و هار.ور» (heru ur.har. Wer)) بمعنى هروس الأكبر أو
العظيم. وتتغير تسميته كابن»لأزريس»وكأخ «لازيس». يسمى أيضا haroeris) «هروس»
البالغ أو الأكبر كحاكم لمصر العليا لتتغير التسمية أيضا عندما حكم مصر السفلى بعد
انتصاره على عمه (set) وتستمر سلسلة الأسماء والمعاني لتشمل الحكمة، الخلق، النظرة
الروحانية، الحماية والنور... فالأبجدية - الهرهرة هنا كتاريخ- تصبح استعارة
للعلامة لأن لا أحد يتخيل أن الحرف يعني أي شيء إلا في اختلافه وإدماجه مع الحروف
الأخرى. وكما يقول ديريدا «ما يوجد داخل الكلمات هو شيء آخر مختلف لما تعنيه هذه
الكلمات».
إن الإشكالية المرتبطة باختلافية وتنوع الأسماء والأدوار حسب الفترة والمنطقة داخل
مصر القديمة، يزكي الأطروحة القائلة بأن الديانات تكوّن نوعا من التطور الثقافي،
وتدشين لنوع جديد من المعنى للمجموعة وذلك بخلق أسطورة غامضة حول أصل الكائن. بما
أن هروس كابن «أوزيريس» كان موجودا فقط بعد وفاته، وبما أن «هروس» بشكله التنكري
كان زوج «ازيس»، فإن الاختلاف بين هروس وأوزيريس غير واضح، فمع مرور الأجيال يصبح
هروس الشكل البعeي(resurrection) "لأوزيريس".(osiris) إذن هروس يصبح في ما بعد يشخص
أو يتطابق مع «أزيريس» ويصبح أبا لنفسه وعرف ب(heru-sematawy) أي موحد الأرضيين...
إنه الموت والحياة في نفس الوقت (وهذه فكرة استمرت إلى داخل المسيحية عندما اعتبر
عيسى ابن الله)
إن إشكالية ومعضلة الانتماء أو الأصل تتجسد عادة في المقاطع الصوتية بما لها من
ارتباط بالموسيقى والأشعار. فمثلما كان «هروس» كأب وكابن في نفس الوقت (هروس ابن
هروس أو هيرو ابن هيرو ) ممثلا و بشكل رمزي بهذه المقاطع (ihu-ahi-ehi_uhy) كذاك
كانت الهوية عند الأمازيغ مرتبطة بإشعار هيرو وطقوسه يوم الزفاف :”فأهرارو ن
هريران”(ahraru ni hrira:n) مرتبطة دائما بالطفل و أشعار أمه المرتبطة برغبة الطفل
في الرجوع إلى بطنها بعد انعدام وقلة المأكل. و»هيرو ن ورو»(hiru n wirru يجسد
الصراع بين العروس وعروسته أو يجسد الانتقال من مجتمع أبوي إلى مجتمع أميسي وذلك
بالإعلان جهرا أن «هيرو» ينتمي إلى «ورو». وقد تسمح هذه الآلية الموسيقية بخلط
الإثنين، وذلك باستعمال مقطع جديد «أهنعورو» (ahinaawiru) كأشعار لليوم الأخير من
الزفاف «تسي «(tissi) بما له من ارتباط بالخصوبة أو الجنس وخاصة امتحان العضو
الجنسي الذكوري. إن اللهو بالحروف والكلمات هو أساس كل الديانات التي أتت من بعد
عصر الفراعنة، وخاصة تلك المنبثقة من الأساطير المتمركزة حول الذوات الغامضة في
أصلها ومنبعها الأنثروبولوجي التي سميت بشكل إجمالي فيما بعد «ديانات
اوزيريس»-»ديونيزس» (osiris-dionysus). فالعالم، ومن منظور هذه الديانات لا يصبح
أكثر من العالم – علامة، فقط بنية سيميائية، و»دال يعني ويمثل نفسه» باستعمال
تعابير دريدا. إن الذات الأمازيغية وهرهرتها (مثل هرهرة الفراعنة) تزكي فشل الكائن
في شمال أفريقيا في إيجاد هوية كاملة مستقلة، وتقر أن الذات أصلا مقاطع تاريخية
متفرقة ومشتتة على شكل محكيات تستدعي التأويل من أجل ملء الفراغ. «فأبراهيم
أبراهيم» كمقطع صوتي يتناغم مع «أهرارو نيهريران»، ليس في أحسن حال من هذا الأخير
لكن فقط مختلف عنه. فإلى جانب كونه مقطعا تاريخيا مكونا للهوية الأمازيغية، فإنه
يثير الانتباه إلى تنوع اللفظية أو المنطوق داخل قصة الطفل ويزكي»أسطورة بابل» حول
تعدد الألسن وتعدد المكونات للهوية الواحدة. (مقارنة البلبلة بالبربرة، موضوع يستحق
التأمل في موضوع قادم).
إذا كانت الاستنتاجات التي توصلت إليها تفكيكية دريدا، وعن تناوله لتاريخ الفكر
البشري، تقر بأن هذا الأخير بشكل عام نوع من الكتابات الخيالية أو على شكل محكيات،
فإن الهرمنوطقية، وباسم رائدها "كادمير"Gadamer»، تقر أيضا أن التفكير الفلسفي ليس
بعلم على الإطلاق، إذ ليس هناك ادعاء شامل لمعرفة كاملة باستثناء واحدة، «الاعتراف
بمحدودية الكائن البشري»، والاعتراف بذلك يعني الاعتراف بعدم وجود نهاية للتاريخ،
فالتاريخ من هذا المنظور مثله مثل الفلسفة الميتافيزيقية، ليست بعلم أو بالأحرى لا
يوجد هناك علم للتاريخ، إنه محكية كباقي المحكيات. وإذا افترضنا أن التواريخ التي
تحتوي عليها قصة الطفل الأمازيغي روايات عابرة، فهذا يستدعي إعادة كتابتها وكتابة
التاريخ الأمازيغي من جديد وجعله مقابلا للتجديد عن طريق التأويل. يكتب كاذامير
Gadamer في كتابه «النص والتأويل»: «إن الخاصية المميزة للتجارب التاريخية هي أننا
نقف وسط حدث ما دون أن نفهم ما يحدث لنا قبل أن نعرف ما قد حدث لنا في النظر إلى
الوراء. وبالتالي فإن التاريخ يجب إن يكتب من طرف كل حاضر جديد». في رحاب هذه
القصة، لن نفهم السبب في استعمال واختيار الأم الأمازيغية للمقطع اللفظي»أبراهيم
أبراهيم» إلا بالرجوع (أي إعادة كتابة التاريخ -) إلى الوراء. «فكل البدايات»
يلاحظ» كإذامير «تستلقي في الظلمات... ويمكن توضيحها فقط بضوء ما يأتي مؤخرا ومن
منظور اللاحق...». فدعوة الأم الأمازيغية لإبراهيم ليكون ضيفا عندها – على الأقل
بتوفير الملجأ – رغم انعدام الطعام، ليست محاولتها لإنقاذ طفلها من ولاية المحرقة
فحسب، وإنما إشارة واضحة بأن وضعيتها النفسية ليست على أحسن حال من حالة إبراهيم
النبي وهو يضع السكين على رقبة ابنه، وما لذلك من علاقة بعذاب وتناقض المسؤولية
والتضحية. إن عناصر قصة الأم الأمازيغية وإبراهيم، كالمقدس، والمسؤولية وكذلك
التضحية يمكن فهمهم داخل سياق الجريمة الجماعية والعفوية للنساء في اختيار الطفل
«كقربان» وكتضحية وما لها من علاقة بالعنف الإنساني المختفي وراء المقدس. إنها
الصورة التي تحدث عنها «دريدا» عندما قال بأن «الأخلاق تستدعي الكراهية وجريمة
القتل». فعوض نعث الطفل بالضحية البريئة، قامت النساء بوصفه بالآخر القبيح وذلك
المكروه الذي يستحق العقاب، فالمقدس، وبسبب غموضه الموروث، هو وسيلة مثالية لهدم
وتفكيك المفاهيم الميتافيزيقية مثل المسؤولية والتضحية.
ففي حديثه عن المسؤولية والواجب يقول دريدا :»إن مفاهيم المسؤولية... القرار أو
الواجب محكوم عليهما قبليا ومسبقا بالتناقض... المعضلة هي نفسها لا شيء أكثر من
التضحية...»( موهبة الموت: the Gift of death). فالمسؤولية لدى دريدا لا تستطيع
أبدا أن تكون مسؤولية لأنها تحتفظ في داخلها بنواة اللامسؤولية. فكل حالة من
المسؤولية تضم بالضرورة «خيانة»، فضيحة وتضحية مطلقة لكل الإمكانيات الأخرى
للمسؤولية.
إن لامسؤولية النص «إن لم تصم...» يتجسد في إيحائه إلى ما هو غامض وهوسه بما هو غير
واضح. فالمقدس، وبسبب غموضه الموروث والقابل للتأويل، هو وسيلة مثالية لهدم وتفكيك
المفاهيم الميتافيزيقية مثل المسؤولية والتضحية.
وتماشيا مع الطرح الأنثربلوجي التوليدي (Eric Gans)، والذي يقول بانبثاق الثقافة
الإنسانية من داخل «حدث بدائي أصلي»، فإن العناصر المكونة للطفل من لغة، وعقيدة
ومسؤولية وتضحية يمكن فهمها داخل هذا «الحدث الأصلي» للطفل وهو يتوسط مجموعة من
النساء كمركز لدائرة أو حلقة من الكائنات البدائية... ويمكن فهم ارتباط المقدس
بالمسؤولية في سياق الجريمة الجماعية والعفوية في اختيار الطفل «كقربان». فالكشف عن
الضحية له علاقة بالعنف الإنساني المختفي وراء المقدس. فعملية الصلب للسيد المسيح
مثلا يجعل المسيحيين يواجهون تلك الجريمة الإنسانية أو العنف الجذري الذي صنعه عيسى
في قبوله بأن يصلب. ونفس الشيء يقال عن اليهود في معاناتهم عن طريق التطابق وتقمص
دور الضحية. وهذا الموضوع الذي يشير فيه دريدا إلى أن السر الخفي داخل أخلاق
المسيحية أو ما سماه «بالشيطان المقدس»، وخضوع إبراهيم المطلق إلى ربه وإرادته
بالتضحية وما يضم ذلك من تناقضات هو موضوع كتاب دريدا «موهبة الموت» و قراءته لكتاب
«الخوف والارتعاش» للفيلسوف»كيير كيجارد»»Kier Kegaard».
إن تأكيد النص»إن لم تصم...» على العنف، الخوف والغموض والسرية يزكي الأطروحة
القائلة بأن تنظيم العنف يشجع المسؤولية، فالتجربة الاختزالية للعقيدة من طرف الطفل
ومسؤولية أمه المتناقضة المؤدية إلى الغيبوبة أو «المحرقة» لا تختلف عن السر الخفي
داخل تضحية إبراهيم. فإذا كان غموض لغز المسيحية وتضحية إبراهيم قد أعطيت عن طريق
الخوف، العاصفة، البرق، وبلبلة الألسنة، فإن قصة الطفل الأمازيغي كقانون وكثقافة
جديدة استبدالية، قد أعطيت عن طريق النار والعنف أو المحرقة لتأكيد التذكر وعدم
النسيان. وكما يقول دريدا «إن عقيدتنا غير مضمونة... لأن الاعتقاد... لا يجب أبدا
أن يكون يقينيا... نشارك إبراهيم ما لا يمكن تشاركه، سر لا نعرف أي شيء عنه...»
ومن جهة أخرى تتحدث التتفكيكية عن لعبة النحو واللغة وعلاقتها بالمسؤولية عند تنظيم
هذا العنف بشكل تناقضي: فالاختلافية بمفهوم دريدا تتجسد في تناقض الميتافيزيقا مع
نصها، أي مع ذاتها. فإذا كان الصوم مثلا حقيقة مطلقة، فإن كلمات البشر بتأويلها لا
تكون مباشرة وغير كافية لكي تعيد تمثيلية الصوم. هنا يمكن ربط الاعتقاد أو المقدس
عند الطفل الأمازيغي بحدث ظهور اللغة. فالنص»إن لم تصم...» في وضعية الكلمة تحت
المسح: «تنتج ما كانت تسعى إلى محاربته... فهي تسمح لحضور العلامات في الوقت الذي
تمنع حضورها». وإذا كانت اللغة أو قواعد لعبتها الميتافيزيقية هي الاعتقاد في
التقابل العادي بين اللغة والعالم الذي تمثله، فإن تجربة الطفل الأمازيغي غير بعيدة
عن تعجب «نيتشه» حينما صرخ ذات مرة: «آه،أخاف بأننا ما زلنا نعتقد في الإله، لأننا
مازلنا نعتقد في النحو». وفي نفس الاتجاه حول علاقة اللغة بالمقدس يؤكد» رولان
بارت»R.Barth)) عدم قدرة الإنسان تفهم حقيقة المعتقد لأنها غير مفهومة. ففي ملاحظته
لدوغمائية الكنيسة يقول: «ليس مجمل لغة الإنسان لغة حول الإله، ممكن أنها في
الحقيقة كذلك، ويجب أن تكون، مبدئيا لا نستطيع إعطاء أدلة على أنها شيء آخر».
(«بارث» يؤمن بالحقيقة الإلهية ويؤمن بعدم قدرتنا على شرح ذلك و»دريدا» يختلف عنه
في تأكيده للأصل الإلهي للغة أو ألوهية أصل اللغة). إن المنطق المسيطر داخل الخطاب
الموجه إلى الطفل مبني على الوعظ والسيف، خطاب بقلب بدوي ولسان اسلاموي، وهو قبل كل
شيء مجاز واستعارة –»عقاب من لم يصم... هو المحرقة»- وبما أن كل شيء داخل اللغة
اعتباطي ومستبدل، وبما أن الموضوع مسجون داخل هذه اللغة، فإن الحقيقة مستحيلة بدون
فهم هذا المجاز. فالطفل، وداخل تجربته الاختزالية للمقدس سيقول مع «بارث»: «أننا
نحتاج إلى عقيدة داخل عقيدتنا»، أي لزومية إضافة شيء آخر إلى العقيدة لكي تثبت
نفسها وتتحمل المسؤولية المنوطة بها.
إن رجوع الأم إلى «الهر هرة» بما لها من علاقة بالانتماء والأصل الفرعوني للاما
زيغ، ورجوعها إلى قصة إبراهيم وما لها من ارتباط بالتضحية ولا مسؤولية المسؤولية،
ليس فقط إضافة تؤكد إعاقة أو نقصان المعتقد الحالي المهيمن أو نهاية تاريخه، ولكنه
إشارة بأن "الحضور لن يكتمل أبدا داخل الخطاب الإنساني" كما يقول (Winquist 1986)
لأن «مشكلنا ليس هو غياب الإله لكن حضور وحقيقة مفهوم الإله». إن «هرهرة» الأم تؤكد
أيضا أن محكيات كل العصور مرتبطة بمفهوم التحرر البشري من مفاهيم الهيمنة
والاستبداد الطاغي. وهذا ما يطرحه «كادمير» ( (Gadame في إطار حديثه عن»هيجل» :»ليس
هناك مبدأ للعقل أعلى من مبدأ الحرية... ونفهم التاريخ الواقعي من منظور هذا
المبدأ: كشيء يتجدد دائما، وكصراع لانهائي من أجل الحرية".
(يتبع)
|