| |
في المسالة
الأمازيغية
بقلم: محمد مغوتي ( تمسمان)
أن المتتبع للشأن الأمازيغي ببلادنا يسترعيه
الركود الذي تعرفه الحركة الأمازيغية المغربية، ذلك أن الموجة التي تنامت خلال
العشرية الأخيرة من القرن السابق، والتي تهيأت بفعل الأنفراج الحقوقي الذي أخرج
الأمازيغية من سجل “الطابوهات”، طبعت ما بات يسمى في أدبياتنا السياسية بـ”العهد
الجديد” بطابعها الخاص، حيث ارتفع مستوى السقف النضالي ليصل إلى حدود المطالبة
بدسترة اللغة الأمازيغية كلغة رسمية للبلاد، وبجرأة لم يعهدها الشارع المغربي عموما...
لكن هذه الحركة النشيطة سرعأن ما دبت في أوصالها – وبقدرة قادر- حالة من السكون
المريب وغير المنتظر. فما الذي حدث إذن؟
لا يتعلق الأمر في هذا المقام بسرد كرونولوجي للوقائع بقدر ما يعبر عن قلق شخصي
لازمني طويلا، واضطرني للإدلاء بموقف يحاول أن يلامس المياه الراكدة للمسألة
الأمازيغية...
عندما تأسس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في خطاب أجدير الشهير، في أكتوبر 2001،
تحمس الكثيرون ممن يشتغلون في الحقل الجمعوي الأمازيغي باعتبار هذا الإعلأن خطوة
كبيرة نحو الدخول في الصلح بين الدولة والفاعلين الأمازيغيين، ذلك أن هذه المبادرة
اعتبرت اعترافا رسميا من السلطات المغربية بشرعية الحركة الأمازيغية ومطالبها، وقد
سارت الأمور في المرحلة التي تلت هذه الخطوة كما يشتهيها الجميع، حيث بدا واضحا أن
تغيرا عميقا قد حدث في موقف الدولة المغربية من هذا الملف الذي كأن، وإلى وقت قريب،
يصنف ضمن لائحة المحرمات. ولكن الصدمة التي أحدثتها اليد الممدودة للدولة تجاه
الأمازيغيين تحولت في خضم التهييء لتشكيلة المعهد إلى ناقوس ينذر بتأجج الصراع بين
الفاعلين الأمازيغيين لاقتسام الكعكة والتشرف بالانضمام إلى المجلس الذي ستوكل إليه
مسؤولية تسيير المعهد، حيث بدا واضحا التخبط والتهافت داخل الأوساط “المناضلة” في
القطاع الجمعوي والثقافي الأمازيغي خلال تلك المرحلة.
إن استرجاع هذه الوقائع يعتبر في تصوري مدخلا أساسيا لفهم حاضر الحركة الأمازيغية.
فالتهافت والعشوائية ظلا منذئذ سمتين مميزتين لكل التحركات والمحطات التي عرفها ملف
الأمازيغية. وقد ظهر ذلك جليا في الغموض الذي اكتنف مهام وصلاحيات المعهد وأسلوب
تعاطيه مع المسألة بشكل عام. وحتى عندما تعلق الأمر بالتعاطي مع أكثر المواضيع
إثارة للجدل وهو الحرف المقترح للكتابة، كان الخلاف بين فرقاء الحركة الأمازيغية
داخل وخارج المعهد هو سيد الموقف. وواضح أن سبب صعوبة التوصل إلى إجماع يضع مستقبل
اللغة الأمازيغية في الطريق الصحيح مرده الأساسي هو التسييس الذي لف تفاصيل ـ
مفاوضات الحرف. نعم إن الفرقاء المكونين للمعهد تخلوا- عندما سنحت الفرصة لينبعث
المارد الأمازيغي من رماده- عن المصلحة العامة وانخرطوا في حسابات ضيقة خيبت أمال
وانتظارات الأمازيغيين ومعهم كل مكونات الشعب المغربي باعتبار الأمازيغية ملفا
وطنيا يهم جميع المغاربة في إطار التنوع الثقافي والوحدة الوطنية.
لقد تم في الأخير، وبصعوبة، تجاوز معضلة الحرف عندما اختيرت “تيفناغ “ عنوانا
للمرحلة الجديدة وتذكيرا بعراقة لغة سكان المغرب الأقدمين (كما تنعتنا مقررات
التاريخ في المدارس الابتدائية). ولكن ما تلا ذلك الإعلان لم يخرج عن إطار التخبط
والارتجالية، فكانت أبجدية تيفناغ التي تبناها المعهد واعتبرها وثيقة رسمية- تحصر
اللسان الأمازيغي في ثلاثة وثلاثين حرفا- دليلا واضحا على التسرع والاستقطابية (وأنا
لا أستعمل الكلمة هنا للاستهلاك الإشهاري)، فقد بادر أصحاب القرار القوي في دهاليز
المعهد إلى اعتبار اللسان السوسي (تمزيغت) ناطقا رسميا باسم التنوع الأمازيغي،
فألغيت حروف أصيلة في لساننا ينطق بها أمازيغ الأطلس والريف على وجه التحديد،
وتعالت مجموعة من الأصوات مطالبة بإعادة النظر في لائحة الحروف لتقوية النسيج
الثقافي للأمازيغية. (وقد شاركت مع عدد من أساتذة التعليم الأساسي الذين استفادوا
من الأيام التكوينية الأولى- والأخيرة - التي أقيمت بين7 و18 يوليوز2003 بتازة
لتدريس اللغة الأمازيغية، في إصدار تقرير تقييمي لأشغال الأيام التكوينية يتضمن
دعوة لتصحيح الأبجدية وتضمينها الحروف الناقصة وخصوصا الثاء والذال...)، دون أن تجد
مثل هذه المطالب أي اهتمام يذكر، فقد تواصلت سياسة الأذن الطينية عندما صدر مقرر
اللغة الأمازيغية لتلاميذ المستوى الأول من التعليم الأساسي الذي تم في إطار
الشراكة بين المعهد ووزارة التربية الوطنية (ثيفاوين ا تمزيغت)، وقد بدا جليا أن
الاتجاه السائد والمعلن هو تدريس تمزيغت (اللسان السوسي) كلغة فصحى توحد بين مكونات
التعدد اللغوي الأمازيغي، والحال أن الحسم في لغة معيارية موحدة يتطلب أبحاثا
أكاديمية وحصرا شاملا لكل الكلمات الأمازيغية الأصيلة سواء في الريف أو الأطلس أو
سوس، وهو عمل كان من الأجدر أن يناط بذوي الاختصاص، والاعتماد على الموروث الثقافي
الزاخر في الأدب المكتوب والشفوي، وأن يتم بكل حزم وتريث حتى توضع القاطرة على
سكتها الصحيحة.
تلك إذن مجموعة من الملامح التي بدا عليها المشهد الأمازيغي بوجه عام منذ تأسيس
المعهد، وهو مشهد يعبر عن كثير من العشوائية وغياب التنسيق بين الفعاليات المهتمة
بهذا الشأن في بلادنا، الأمر الذي أدى إلى خلل شامل في الفعل والممارسة، ففي
الميدان التربوي يتم تدريس الأمازيغية في غياب أدنى الشروط الديداكتيكية المنظمة
للعملية التعليمية، سواء على مستوى تكوين الأساتذة أو الطرائق البيداغوجية المرتبطة
بفعل التدريس، كما أن الهوة بين القول والفعل تبدو واسعة إلى أبعد الحدود، ففي
الوقت الذي يحتفي الخطاب الرسمي بمبادرة دخول الأمازيغية إلى المدرسة، يطالعنا
الواقع الميداني على لامبالاة واستخفاف شديدين بالمسألة، إذ ما الجدوى من تعلم
اللغة في القسم الأول إذا كانت لا تتواصل في الأقسام الموالية؟؟؟. إن هذا السؤال
وحده كفيل بأن يرسخ لدينا انطباعا مفاده أن مشروع تدريس الأمازيغية قد أقبر في
المهد مع سبق الإصرار والترصد، ذلك أن مشروعا من هذا القبيل يتطلب تظافر جهود كل
الفاعلين في الحقل التربوي وخطة شاملة تضع في اعتبارها جدة المسألة وجديتها، وهو ما
لم يتم للأسف الشديد، فأصبحت بذلك الأمازيغية (كما أرادها صانعو الميثاق تماما)
مجرد ‘’وسيط’’ للاستئناس. وهكذا أصبحت المهمة برمتها مجرد مضيعة للوقت والجهد
والمال العام.
إن أزمة الحضور الأمازيغي في بعده التربوي لا يمثل سوى فيض من غيض، ذلك أن دواليب
الحركة الأمازيغية أصابها الشلل وباتت في حاجة لمن يزيل ركام الصدأ الذي علاها،
فالعمل الجمعوي الذي شكل رصيدا نضاليا نعتز ونفتخر به، بات في المرحلة الراهنة
عنوانا للمناسباتية والفولكلور والبهرجة، وهكذا غاب السجال الثقافي الذي طبع مسار
الحركة الأمازيغية في الفترة السابقة بين مختلف أطيافها، وفسح المجال أمام الخلافات
الشخصية الضيقة التي لا تخدم بأي شكل من الأشكال إلا أولئك المتنكرين لوزن
الأمازيغية ومكانتها في النسيج المجتمعي المغربي. وهكذا فإن استمرار حالة الركود
هذه لا يمكنها إلا أن تكرس مزيدا من التراجع في سجل التاريخ النضالي الأمازيغي الذي
راكم الكثير من المكتسبات وكسر جدار الصمت الذي لف فضاء الأمازيغية في مغرب ما بعد
الاستقلال، منذ تأسيس”الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي” سنة 1967م...
قد يبدو للبعض أن هذه الورقة تحمل نظرة سوداوية للواقع، ولكنني مؤمن مع ذلك أن قطار
الأمازيغية قد زاغ عن سكته، وأصبح الوقت مناسبا للاستفادة من الأخطاء التي كشفت
عنها مرحلة ما بعد المعهد، وحتى لا يمثل المعهد ذاته عقبة أمام شق طريق المستقبل
بثبات، تلزم العودة إلى العمل الجمعوي الجاد والحضاري لإبراز الوجه الحقيقي والمشرق
للأمازيغية ليس باعتباره تراثا طاله النسيان، بل بوصفه معبرا عن تجذر التاريخ
المغربي الذي يعتبر إرثا للمغاربة أجمعين في ظل التنوع الثقافي لأبناء هذا الشعب.
وعندما يتحقق هذا نكون حقا قد تابعنا العمل المطلوب دون أن ننخدع بالسراب ولا نصدق
من يصف الواقع الراهن للحركة الأمازيغية بوقفة لتأمل الذات أو استراحة المحارب...
محمد مغوتي (تمسمان)، في 1ماي 2006
|