| |
التجريد
كخلاص وهروب الأمازيغ من التجريد كخلاص (تتمة)
بقلم: عيناني إبراهيم warir n dades
فمند أن تأقلم الكائن الأمازيغي مع الفكر
العربي الوافد عليه كلعبة للحفاظ على بقائه – وليس من أجل الزيادة في المعارف كما
هو الحال بالنسبة للهجرة إلى أوروبا – فإنه لم يعمل أي شيء إلا تفكيك ملايين من
البنيات واختزال عناصرها وتقليصها بشكل يستحيل معه إعادة إدماجها. إن كل أنشطة هذا
الفكر الوافد عندما نفحصه عن قرب نجده نوعا من"سكون آلي منتج" حيث إن قوة هذه الآلة
الوافدة على تمازغا وسرعتها، وبدون نهاية، تفوق كمية التناغم والتنظيم الموجود
داخلها. وبشكل عام، فهذه الحضارة الوافدة آلة معقدة غريبة تؤدي إلى شيء منظم في
اتجاه وضعية أو حالة من السكون أو الشلل ـ شلل الأمازيغ في الجبال. فهي كقوة داخلية
تعرقل نشاط الهوامش، تنمو لكي تكون يوما نهائية. فأصحابها ينظرون إليها كأمل في
بقاء العنصر العربي، لكن وظيفتها الحقيقية هي ما سماه الفيزيائيون "بالآنتروبي
ENTROPY»، وتعني قياس الفرق بين حرارة الآلة المنتجة للحرارة وبين حرارة الشيء الذي
يستهلك أو يستقبل تلك الحرارة. فحالة الشلل واللاحركة – التخلف بشكل عام ستصل إليه
تمازغا عندما تنتشر فيها حرارة الآلة الوافدة كلية (ولحسن الحظ فمعظمهم في المناطق
الباردة). فلحد الآن، ولسوء الحظ، فجميع المؤسسات والسلوكات التي حاول الكائن
الأمازيغي أن يتعلمها أو يكتسبها تكون آنية ومرحلية، فدورها كآلة متقنة يجعل من
نشاطها التسريع بالانحطاط الذاتي. فعوض الحديث عن علم "الأنثربلوجيا"ENTROPOLOGY
كدراسة تصف صيرورة وعدم الاندماج أو الوحدة، وبتعبير آخر دراسة صيرورة وأسباب تشتت
الأمازيغ، فظهور البداوة من جديد وانعدام التواصل بين القوى السياسية داخل تمازغا،
وبالتالي بين الأمازيغ أنفسهم هو ما أدى إلى خلق مجتمعات أمازيغية "باردة"، "بدون
تاريخ". وهذا هو التاريخ المشؤوم الذي كانت تشير إليه فلسفة "شوبنهاور" حينما قال:
"ابتدأ العالم بدون الجنس البشري وسينتهي بدونه". ونفس الفكرة يدعمها لفي ستراوس
حين اعتبر أن: "العالم يتجه وبسرعة نحو خرابه الذاتي الإيكولوجي."
عقول متوحشة لكن أصولية
إن الحديث عن فلسفة التاريخ المشؤوم لشوبنهاور سيجرنا إلى تناول مفهوم اللاشعور
الجماعي كقيمة مشتركة بين"لبيدية فرويد" والنمادج الأصلية "لكارل يونج"، مرورا
بالصور الهائجة لبنوية لفي ستراوس ووصولا إلى مفهوم الأصالة عند"هيدغر". إن استمرار
نشاط الذاكرة الشعبية أو اللاشعور الأمازيغي على هامش فلسفة مركزية تدعى: "فلسفة
الأنوار والكليانية" ما هو إلا عودة إلى الأصولية الأمازيغية. لقد شاءت الأقدار أن
تصطدم الثقافة العربية بالحالة الطبيعية والبشرية للكائن الأمازيغي حيث أصبحت تتحكم
تعسفيا في طاقة حياته، فحرمته من المتعة واللذة باسم قيم عليا، فسخرت الجسم والجنس
الأمازيغيين خدمة لأهدافها، وبالتالي تحولت الثقافة من تعبير عن الإنسان إلى أداة
لقمعه وكبث غرائزه. وبإيجاز فعندما تكون الثقافة ذات طابع أخلاقي صارم ومضاد للحياة
أو للطبيعة فإن نتائجها تحدث التعصب والأمراض النفسية على نطاق واسع.
فالبنية الأنطلوجية للكائن الأمازيغي تشبه إلى حد ما الخاصية الزمنية للوجود لدى "هيدغر"
في كتابه "الكائن والزمان" فبالإضافة إلى إمكانية الوجود كظاهرة للمستقبل وانفتاحه
على الوجود كجميع الكائنات هناك سمة القذف، فوجوده في الجبال والكهوف وانعزاليته
جعلته غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء والأشخاص خارج ذاته، إنه نوع من
الاستلاب ممزوج بذلك المفهوم البطولي في اتخاذ القرار في وجه عالم غامض ومنعدم، حتى
أصبح مع مرور الوقت كائنا غير تاريخي. ثم هناك سمة السقوط حيث وجد الكائن نفسه
مسبقا في بيئة روحية، مادية وتاريخية مشروطة حيث فضاء الإمكانيات محدودة. إنه
السقوط بعد الترحال ليجد نفسه موجودا وسط موجودات هي في نفس الوقت موجودة أو غير
موجودة. وكثيرا ما نسمع داخل أساطير"ترير" قصة المرأة التي تضع ماء وحجارة داخل قدر
وتشعل له النار لتوهم أطفالها بأنها تطبخ لهم طعاما فسكتوا.
ومن خلال المثاقفة اضطر الكائن الأمازيغي إلى الانفصال عن طبيعته الأصلية كمبدأ
للنمو والقوة وفقد أو نسي المعنى الحقيقي لوجوده. فباستعماله للغة مفروضة عليه لا
يفهمها – العربية – فإنه لم يعد يعرف ماذا يعنيه لأن تلك اللغة الوافدة تؤجل المعنى
الحقيقي لوجوده كما هو موجود. وعادة ما يتم تشييء تلك التجربة على شكل نماذج أصلية
داخل اللاشعور الجماعي تتردد داخل الأساطير. قد نجد هذه الصور من حكايات "الغول"أو
"ترير" حينما يتقمص الغريب شخصية الأب أو إلام الأمازيغيين من أجل الاستيلاء على
أطفالهم وممتلكاتهم. فقوة وأهمية هذه التمثلات الجماعية تشكل وترشد تجارب الكائن
الأمازيغي في الجبال والكهوف. فهذه النماذج الأصلية كما يعرفها "كارل يونج" نظام من
الرموز تظهر في الأساطير لتشخص العقد الموجودة داخل اللاشعور الجماعي.
وبإطلالة سريعة على كل الأساطير وكل الأشعار الوجدانية الأمازيغية، سنجد أن هذه "الروايات
الكبرى" تشترك ليس فقط في مفهوم الهروب أو الفرار، بل أيضا في مفهوم اقتراب الموت
بعد الهروب من الموت. وهذا موضوع سماه "هيدغر" "الكائن في اتجاه الموت"، ويشبه إلى
حد ما "تأملات الموت" عند S.AUGUSTINE في الفكر الديني، لكن تشير إليه أطروحة "هيدغر"
حول الوجود، فإننا عندما نعيش الحياة في أقصاها أو نقابل نهايتنا، آنذاك نستطيع أن
نضع جانبا حالة حياتنا اليومية، التي تصل إلى علاقة حميمية مع ذواتنا.
إن الكائن الأمازيغي عندما يدعى أنه يوجد على تخوم أو هوامش الموت، يستجيب لنداء "عيش
الحياة" ويسترجع أصالته. ولتحقيق إلا صالة كما يقول "هيدغر" يجب اتخاذ القرار
للاستجابة لنداء القدر. وبما أن قدر الكائن الأمازيغي محدد من طرف قوى خارج نطاقه،
فبعيدا أن يكون شيئا يخلقه أو يغيره، فإن قدره أو مصيره يوجد قبل وجوده في الجبال
والكهوف، إذن فاتخاذ القرار والهروب من الأخلاق السائدة هو ما حدد مصيره. لكن تحقيق
إلا الأصالة هنا يعني عكس تطبيق الحرية، فاستجابته لمصيره فكرة معكوسة للأطروحة
التي تجعل لسنيا من كلمة "أمازيغي" ذلك الكائن الحر الذي يهرب إلى الجبال لأنه لا
يقبل من يملي عليه القوانين. بالتأكيد فهروبه من الميتافيزيقا العربية، والتي قامت
بتزوير وتأجيل التجربة ألأولية لوجوده كان مشروعا لاسترجاع المعنى الأصلي لوجوده.
وكما يقول "هيدغر"، يمكن تحقيق الوجود... عن طريق صدمات المصير فقط لأنه في أعماق
الوجود يوجد المصير... الوجود قدري داخل العزم... فالكائن يكون متفتحا على وجوده في
العالم من أجل... الظروف السعيدة التي تأتي في طريقه وذلك من أجل شر الحوادث.
فالمصير (أو القدر) لا ينبثق من تصادم الأحداث والظروف، حتى بالنسبة لمن هو غير
عازم، يمكن قيادته أكثر من الذي اختار ومع ذلك لا يستطيع أن يبقى بدون مصير". إذن
فالمشكلة الموجودة ليست هي حريتنا في خلق المصير أو تغييره، بل هي هل بإمكاننا أن
نتقبله وننفتح عليه أو نخضع له، فالمصير له مضمون سياسي ويحدد عن طريق الاعتراف
الرسمي بمجموعة من الناس مرتبطين بعنصر الجنس والإرث واللغة. فعندما يربط الكائن
نفسه بإرثه وينادي إلى"الانتماء إلى"، وبداخله ذلك الصراع من أجل الأصالة فإنه ينتج
الاختلاف بين ما هو أصالتي وما له مصير، وبين من هو لا أصالتي وذلك بتأجيل عالم
لكائن اللاأصيل. وبالكشف عن الفاني من هذا التاريخ وتسليط الضوء على هذه
الميتافيزيقا الخالدة وتحطيم أصنامها لأن مقولاتها اللغوية لا تصلح لهذا الزمن،
سيتمكن الكائن الأمازيغي من تحقيق التجربة الأصلية للوجود عندما كان الحضور حاضرا.
وهذه التجربة لها علاقة بمفهوم المصير واللاشعور الجماعي كما يعرفها "كارل يونج"
حين أشار إلى أن "سيكولوجيتنا الشخصية ما هي إلا غلاف رقيق... فالعامل القوي الذي
يغير حياتنا بكاملها ويغير سطح عالمنا المعروف، والذي يكوّن التاريخ هو السيكولوجيا
الجماعية. فهذه الأخيرة تعمل تماشيا مع قوانين مختلفة كليا عن قوانين وعينا.
فالنماذج الأصلية هي القوى التي تقرر أكثر... وليس منطقنا الشخصي ولا تفكيرنا
التطبيقي... بالتأكيد فالصور النموذجية "archetypal images» هي التي تحدد مصير
الإنسان."فقيمة الهروب والرجوع إلى الأصل – كنموذج أصلي تتكرر في اسطورة "تتبيرت
توراغت" – "حمو أونامير" في الرواية السوسية، وتتمثل في هروب الرجل الأمازيغي ببنته
الجميلة مخافة أن يأخذها منه السلطان. فهذا الكائن إلا صالتي وعى أن هناك ظروفا
خطيرة وربط نفسه بإرثه عن طريق الهروب. فواجبه هو شق الطريق إلى البدايات لكي تكون
النهاية الميتة معوضة ببداية جديدة. فانتهاكه لروابط الدم – التخلي عن زوجته
وارتكابه لجريمة زنى المحارم – محاولته لاغتصاب ابنته، والكل يشير إلى رغبة الكائن
الأمازيغي في تحقيق أخلاق أو إيطوس مفقودة وليس رغبة في الرجوع إلى ما هو طبيعي
حيواني. إن محاولة الاغتصاب هاته – كنموذج أصلي ـ تكشف عن ذلك المكبوت أو ذلك
اللاشعور الجماعي والذي يؤرخ لفترة وفود الأخلاق العربية إلى شمال إفريقيا ويفصح عن
تلك المغالطة التاريخية حول مفاهيم إلا قارب وإلأخوة والمحبة، ويؤكد أن ما تدعيه
الثقافة إلا سلامية من إخاء وقرابة بعيد عن الواقع. إن الرجوع إلى أمثال هذه
النماذج الأصلية هي الطريقة الوحيدة لتحقيق إلا صالة الأمازيغية وتجاوز عالم الكائن
اللاأصالتي المبني على عقل منطقي وفلسفة أخلاقية تؤرخ للنسيان والقيم المطلقة. إن
الكائن الأمازيغي لا يحتاج إلى زيادة في هذا المنطق، وبشكله اللاهوتي، لكن يحتاج
أكثر إلى الانفتاح تجاه الوجود اللامنطقي واللاعقلي، هذا الوجود الأقرب ألينا. وبما
أن العقل ومبادئه مبنية على التزييف،"فمجال اللامنطقي" يقول "نيتشه" كان في الأصل
أوسع بكثير من مجال المنطقي. على أن الكائنات العديدة التي كانت تفكر بطريقة غير
تلك التي نفكر نحن بها، قد هلكت، وربما كانت هذه الكائنات أصدق منا... فالميل
الغالب إلى أن نتعامل مع....(التجريد) على أنه مماثل وهو ميل لا منطقي – إذ لا يوجد
شيء مماثل في ذاته – هذا الميل هو الذي كون كل أسس المنطق منذ البداية....".
|