| |
افتاحية:
هل كان طارق بن زياد أمازيغيا؟
بقلم: محمد بودهان
مع تنامي الوعي بالهوية الأمازيغية وارتفاع
وتيرة المطالبة بالحقوق الأمازيغية، تحول طارق بن زياد إلى ما يشبه سيفا يشهره
المناوئون لهذه الحقوق في وجه المدافعين عنها والمطالبين باستعادة الهوية
الأمازيغية المقصاة من المغرب وشمال إفريقيا، وذلك عندما يذكّر هؤلاء المناوئون
النشطاءَ الأمازيغيين بطارق "الأمازيغي" الذي كرّس حياته لخدمة الإسلام والعروبة
والخلافة العربية بالمشرق، دون أن يثير لديه أصلُه الأمازيغي نعرة قبلية، ولا
عنصرية عرقية، ولا عصبية أمازيغية ضد الفاتحين العرب أو اللغة العربية. ويضيفون بأن
الأمازيغية التي يريدها المغاربة هي "أمازيغية طارق بن زياد"، وليست أمازيغية "كسيلة"
أو "الكاهنة".
والأهم في هذا الاستعمال العروبي لطارق "الأمازيغي"، ليس منطوقه الصريح، بل محتواه
الضمني، لكن الأكثر دلالة وبيانا: لقد تنازل طارق "الأمازيغي" عن أمازيغيته واعتنق
العروبة كهوية وانتماء وأصبح من أخلص خدامها والمدافعين عنها، فكان بذلك بطلا كبيرا
وعظيما، فلمَ لا تفعلون مثل طارقكم "الأمازيغي" وتنخرطون في خدمة العروبة والإسلام
السياسي؟
إلا أن السؤال الذي يغيب عند هؤلاء المستشهدين بطارق "الأمازيغي" الذي وظف
أمازيغيته لخدمة العروبة والإسلام، هو: هل كان طارق أمازييغا؟
وليس المقصود بهذا السؤال هو الأصل العرقي والإثني لطارق، والذي هو أصل أمازيغي لا
غبار عليه، بل المقصود هو الانتماء الهوياتي، مع ما يصاحبه من وعي بهذا الانتماء
والاعتزاز به والدفاع عنه والحفاظ عليه. فمثل هذا الانتماء الهوياتي كان غائبا عند
طارق، بعد أن عوّضه بالانتماء العروبي الذي كان يدافع عنه ويستعمل سيفه الأمازيغي
لنشره وفرضه، هوية ولغة، رغم أصوله الأمازيغية واستعماله للغة الأمازيغية في تواصله
مع السكان الأمازيغيين. فطارق "الأمازيغي"، على المستوى الهوياتي، لم يكن أمازيغيا
أبدا، لأنه لم يكن أمازيغي الأمازيغيين، بل أمازيغي العرب، أي يتبنى هويتهم ولغتهم
وإيديولوجيتهم رغم أن أصله الإثني يبقى أمازيغيا.
أن يكون المرء أمازيغيا أو فارسيا أو عربيا، ليس معناه أن يكون أصله العرقي
أمازيغيا أو فارسيا أو عربيا وتكون لغته الأصلية هي العربية أو الفارسية أو العربية
فحسب، بل أن يكون له الوعي بانتمائه الهوياتي واللغوي مع الدفاع عن هذا الانتماء ضد
كل من يحاول النيل منه أو القضاء عليه وتذويبه في انتماءات أخرى ذات طبيعة غازية
واستعمارية. فطارق لم يدافع لا عن انتمائه الأمازيغي ولا عن لغته الأمازيغية ولا عن
أرضه الأمازيغية، بل على العكس من ذلك، تحول إلى متعاون Collaborateur وجندي يدافع
عن لغة الأمويين والمحتلين وهويتهم، ويعمل على فرضها على السكان الأصليين مع إهداء
الأرض الأمازيغية، بكل خيراتها ونسائها، إلى الغزاة بفعلون بها ما يريدون. فهذه في
الحقيقة خيانة في حق اللغة الأمازيغية والأرض الأمازيغية والانتماء إليهما. وهذه هي
العناصر المكونة للهوية، ليس بمفهومها العرقي، بل بمفهوم الوعي بالانتماء إلى هذه
الهوية كشيء مختلف ومتميز عن الهويات الأخرى، مع الاستعداد للدفاع عن هذا التميز
وهذا الاختلاف كلما اقتضى الأمر ذلك. ولأن طارقا تخلى عن انتمائه الهوياتي
الأمازيغي مع تجنيد أمازيغيته لخدمة الانتماء العروبي، بالمفهوم السياسي الهوياتي،
لهذا أصبح جزء من تاريخ العرب وذاكرتهم أكثر مما هو جزء من تاريخ الأمازيغيين
وذاكرتهم، مثله مثل خالد بن الوليد وعقبة بن نافع، يعرفه ويعتز به العرب أكثر مما
يعرفه ويعتز به الأمازيغيون.
وليس غريبا إذن أن يمجد المعارضون للمطالب الأمازيغية طارقا "الأمازيغي" ويدعوا
المطالبين بالحقوق الأمازيغية إلى الاقتداء به في التعامل مع الأمازيغية، أي
إنكارها والتخلي عنها كهوية وانتماء، أو استعمالها لخدمة الهوية العربية. وهذه هي
الأمازيغية التي يريدها الرافضون للأمازيغية: أمازيغية المتعاون طارق بن زياد، أي
أمازيغية العروبيين وليست أمازيغية الأمازيغ، أي الأمازيغية التي تقصي الأمازيغية
وتقتلها.
وقبل طارق بن زياد، كان هناك القديس "الأمازيغي" سان أغسطين Saint Augustin (القرن
الرابع الميلادي) الذي يعتبر معلمة ومرجعا في الديانة المسيحية والفكر المسيحي،
وحتى في اللغة اللاتينية. وقد بدأت الحركة الأمازيغية، في المغرب والجزائر، بعد أن
اكتشفت أن هذا المفكر الفذ كان أمازيغيا، تستشهد به كمفكر وكاتب أمازيغي ذي بعد
عالمي، وتقدمه كدليل على النبوغ الأمازيغي. وهنا نتساءل كذلك: هل كان القديس سان
أغسطين أمازيغيا؟ ماذا أعطى للهوية الأمازيغية والأرض الأمازيغية واللغة الأمازيغية
حتى يفتخر به الأمازيغيون ويستحضروه كنموذج في الإبداع والفكر والعطاء الأمازيغي؟
لقد كرس حياته، مثل طارق من بعده ـ مع كل الاختلافات التي تفرق بينهما ـ لا لخدمة
اللغة الأمازيغية والأرض الأمازيغية والإنسان الأمازيغي، بل لخدمة اللغة اللاتينية
للمحتل الروماني ونشر المسيحية والبحث فيها والتنظير لها والتفاني في الدفاع عنها،
حتى أصبح مرجعا مؤسسا للمسيحية التي كانت تفتقر آنذاك إلى فلسفة ومذهب فكري منسجم
ومتماسك. لقد ألف سان أغسطين عشرات الكتب، لكن لا نجد بها أثرا للأمازيغية ولا
لانتمائه إلى الأمازيغية، بل قد نستشف منها شعورا بالذنب لديه لكونه ولد أمازيغيا
(انظر: "Le complexe d'Augustin dans les confessions de Saint Augustin" للأستاذ
حسن بنعقية في "تاويزا"، العدد 105 وما تلاه). أبعد هذا نعتز ونفتخر بسان أغسطين
ونقدمه كمفكر أمازيغي؟ ينبغي بالأحرى أن يعتبر خائنا لأرضه ولغته وهويته، ويستحضر
ليس لتمجيده كمثل يحتذي به، بل لشجبه وتجنب الاقتداء به.
هذه نماذج قديمة (طارق وسان أغسطين) من "الأمازيغيين" المتعاونين مع العدو، الذين
باعوا أنفسهم للهويات والثقافات واللغات الأخرى الغازية، والتي أصبحوا يخدمونها
أكثر من المنتمين الأصليين إليها. أما في القرن العشرين، فقد حولت "الحركة
الوطنية"، وبمساعدة الاستعمار الفرنسي، كل المغاربة إلى "طوارق" و"أغسطينات"
متعاونين ومجندين لخدمة العروبة والقومية العربية والفكر الشرقاني المتخلف، بعد أن
أقصيت الأمازيغية نهائيا طيلة 50 سنة كاملة من الاستقلال باعتبارها رجسا من عمل
شياطين التفرقة والتقسيم والصهيونية والفتنة العنصرية. وقد برز "طوارق" و"أغسطينات"
اشتهروا ببلائهم الحسن ضد هويتهم الأمازيغية والدفاع المستميت عن العروبة وتاريخها
وثقافتها ولغتها، كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري، "الطارق الجديد"، الذي كرّس
حياته، على غرار سان أغسطين، لخدمة الفكر العربي والثقافة العربية، مع ندائه بإماتة
الأمازيغية رغم كونه أمازيغيا ـ عرقيا فقط وليس هوياتيا ـ ويتحدث اللغة الأمازيغية.
أو كما فعل عبد السلام ياسين الذي تنكر لأمازيغيته التي اعتبرها ضرة يجب تطليقها
لأنها تهدد العربية بعد أن اعتنق الإيديولوجية الإسلاموية ـ وليس الإسلامية ـ
الوهابية المشرقية، التي جعل منها مرجعيته وهويته وانتماءه، حتى أصبح يري في منامه
قيام نظام إسلاموي يحكم المغرب تحت إمارته وخلافته.
فليس هناك إذن، على مستوى الوعي بالهوية والدفاع عنها، أي فرق بين محمد عابد
الجابري وعبد السلام ياسين وبين سان أغسطين وطارق بن زياد. وبالتالي لا نرى مبررا
لإدراج هذين الأخيريْن ضمن المفكرين والقادة الأمازيغيين التاريخيين، في حين ينظر
إلى محمد عابد الجابري وعبد السلام ياسين كقوميين إسلامويين أمازيغوفوبيين، مع
أنهما لا يختلفان في تعاملهما مع الأمازيغية عن طارق وسان أغسطين.
أما الذين يشكلون النقيض المباشر لسان أغسطين وطارق، وغيرهم من "الأغسطينات"
و"الطوارق" الأمازيغيين، والذين على الحركة الأمازيغية أن تفخر وتعتز وتستشهد بهم
كنماذج للأمازيغيين الأحرار والأمازيغيات الحرات، فهم: القائد المناضل الوطني
"كسيلة" (أقصيل) الذي قاوم الطغيان وتصدى لعدوان المجرم الدكتاتور عقبة بن نافع،
ودافع عن الإنسان الأمازيغي ومات من أجل الأرض والعِرض الأمازيغيين، وكذلك الملكة
المقاومة "الكاهنة" (ديهيا) التي ردت الغزاة على أعقابهم ذودا عن الأمازيغية
والإنسان الأمازيغي والكرامة الأمازيغية، وأيضا البرغواطيون الذين عملوا على تمزيغ
الوطن والشعب وحتى الإسلام بجعله إسلاما أمازيغيا، إسلام التسامح والانفتاح واحترام
الاختلاف، وليس أسلام العنف والتكفير والانغلاق. فهذه هي الأمثلة التي ينبغي على
الحركة الأمازيغية استحضارها وتمجيدها والافتخار والاستشهاد بها كنماذج للرجال
الأمازيغيين الحقيقيين والنساء الأمازيغيات الحقيقيات الغيورين والغيورات على أرضهم
وهويتهم.
إن استعادة الوعي السليم بالهوية الأمازيغية يقتضي التخلص من الوعي الزائف المقلوب
المستلب الذي شحنت به "الحركة الوطنية"، ومشتقاتها وامتداداتها الفكرية والحزبية
والدولتية، عقول المغاربة منذ الاستقلال إلى الآن، هذا الوعي الزائف المتمثل في
تمجيد طارق بن زياد وإدانة كسيلة وديهيا والبورغواطييين، مع أنهم هؤلاء لم يفعلوا
أكثر مما فعله عبد الكريم الخطابي أو موحا أوحمو الزياني.
قلت إن طارقا بن زياد "الأمازيغي" يمجده العروبيون ويعتبرونه بطلا "أمازيغيا" فتح
الأندلس لنشر العربية والإسلام. لكن هناك سؤلا لا يطرح حول هذا "الحب" العربي لطارق
"الأمازيغي": ماذا كان جزاء العرب لهذا الطارق "الأمازيغي" الذي أفنى حياته في
خدمتهم؟ ألم يكن هو الإذلال والاحتقار والحبس والإهانة إلى أن مات معدما ومتسولا في
ارض الغربة بالشام، مجهول القبر ـ إن كان له قبر ـ الذي لا يعرف مكانه؟ وهذا ما
يدعو إلى الاستغراب حقا: كيف لقائد مثل طارق، وبمثل منجزاته وفتوحاته، يجهل
المؤرخون كل شيء عن قبره والأرض التي دفن بها؟ مع أن المألوف مع مثل هؤلاء الفاتحين
العظماء أن يكون قبرهم ضريحا ومزارا يحج إليه المسلمون من كل أصقاع الدنيا. فكيف
يعقل أن طارقا، الذي أوصل الإسلام إلى جبال البيريني الفرنسية، مجهول القبر، وأن
نهاية حياته غير معروفة بدقة، في حين نجد إدريس الأول ـ وكذلك الثاني ـ، الذي جاء
إلى المغرب هاربا لاجئا، وجائعا متسولا يطلب الأمن والأمان، بقام له ضريح بقبة
خضراء ويحتفل بذكرى وفاته رسميا كل سنة، مع أنه لم يفتح أندلسا ولا حارب كفارا ولا
أحرق سفنا ولا ألقى خطبة؟
إن التعامل المهين والظالم للعرب مع طارق، رغم كل الخدمات التي قدمها لهم، ليعبر عن
قمة العنصرية والغدر والنكران للجميل. وفي ذلك درس مبين وعبرة بليغة لكل المغاربة
المتهافتين على خدمة الإيديولوجيات الشرقانية العروبية. فهل يعتبر هؤلاء؟
|