| |
الحكـــم
الديني، خطوة إلى أين؟
بقلم: الهر عزيز-Sud-Est-بودجام.
كثيرا ما تتسرب الى مسامعنا جمل مثل"نريد دولة
اسلامية"، و"الحكم الاسلامي هو البديل"’ و"شرع الله واجب اتباعه في الحكم"...
وكل هذا الكلام قد يستحسنه الآخرون الذين لا يعرفون ما وراء هذه الجمل الفضفاضة، أو
بتعبير آخر لا يعرفون إلى أين ستجرنا هذه الخطوة التي يطبل لها من طرف من امتلأت
قلوبهم بأوهام عصر يرون فيه العدل والخلاص من القهر الحالي. فالعصر الذهبي الذي
تعتقده جل الحركات الاسلاموية لا أساس له من الصحة. أي أن الدولة الاسلامية لم تكن
أبدا إلا في مرحلة "محمد"، والتي لا يمكن نسخها. وإنما كانت هناك دولة سياسية بصبغة
اسلامية. هذا ما يقوله التاريخ. لكننا لا نستطيع مقارعتهم به، فهم أعداؤه، إنهم
ينطلقون من نقطة ليرسموا خطا في اتجاه لا يرضون عنه بديلا، فهم يقولون بأن عدل عمر
لا يمكن أن يتحول الى ظلم، وأن عثمان المبشر بالجنة لن يكون غيرذلك الرجل الصالح...
لذلك فنحن حينما أردنا أن نناقش هذه الدولة الاسلامية، التي يريدونها أن تكون في
بلدنا، قررنا أن لا نركز على دحض طروحاتهم بالتاريخ (تاريخ الخلافة)، بقدر ما سنحلل
ذلك بالمستقبل والحاضر، أي بالمنطق العقلي والنظري.
إنني حينما أرفض الدولة الدينية ليس لأنني ضد الدين، ولكنني لا أريد أن نخطو
بالمجتمع الى منزلق خطير. فلنتصور أننا قبلنا بالحكم الإسلامي، وكان هناك خليفة
لنا، أي "ولي لله على أرضه". هل تعلم خطورة هذا الكلام؟ ألا ترى أن المعارضة في
الدولة الدينية لا وجود لها؟ فمعارضة الحاكم ستدخل في معارضة الله ما دام الحاكم
يستمد شرعيته منه (أي من الله). هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن كل الذين يريدون
السلطة، يستطيعون أن يجدوا دليلا وحجة من الكتاب والسنة، فكل واحد منهم سيبرهن لك
أنه على حق وأنه ولي الله على أرضه. الشيء الذي يعطينا صورة بأن هناك آلهة كثيرة
تتصارع، وأن الرحمان إله والغفور إله والرزاق اله آخر... وإذا ما حسمنا في هذا
الأمر، ووجدنا صيغة أو نهجا لا خلاف فيه بين إثنين، وهذا أمر مستحيل لأن القضية
الواحدة تجد لدى رجال الدين الواحد احتمالين على الأقل، حسب ميزان الحلال والحرام.
وخير مثال هو ما كتب عن الماركسية والرأسمالية. حيث أن هناك مقالات تستدل بأيات
قرآنية وأحاديث نبوية عن إن الاشتراكية منبعها من الاسلام ولا تتعارض معه، ونفس
الشيء بالنسبة للرأسمالية.
فإذا ما قلنا تجأوزا بأن الدين لا يحمل إلا وجهة نظر واحدة، وحأولنا الدخول في بعض
التفاصيل الأخرى كبناء مشروع، ولنقل إنه بناء جامعة مثلا، ولنتصور أن صاحب المشروع
قد كلفته الدولة المسلمة ببناء هذا المشروع، أو قل إنه الوزير المكلف بالإعمار،
أراد أخذ أموال من بيت مال المسلمين لبناء مسجد (حتى لا ندخل في خلاف حول عمل
المقأولات هل هو حلال أم حرام ) سيبدأ كلامه قائلا: "بسم الله الرحمان الرحيم،
يأيها الناس لقد تسلمت المبلغ... من الخزينة كي أبني المسجد إن شاء الله". وهذه هي
الإشكالية، بل كل الاشكالية. فحينما تدخل مشيئة الله في أمور تخص المصلحة الجماعية
للناس، تحدث الأزمة، أزمة الصعوبة في تحديد القرارات السياسية والقرارات الدينية.
فلنتصور أن هذا المشروع لم يتممه صاحبه فهل سنحاسبه أم لا؟
إذا ما قلنا نعم، فسنكون في تناقض مع ما سلمنا به، ألم نقل بأننا مسلمون، وأنه (أي
صاحب المشروع ) قد اشترط في اتمام عمله مشيئة الله، إذن فالله هو الذي لم يشأ؟ وإذا
ما قلنا لا. فمن الذي سيضمن لي أنه صادق وأنه لا يتلاعب بأموالنا تحت مشيئة الله،
أي أننا في هذه الحالة سنضطر الى رفض المشاريع التي يذكر فيها "إن شاء الله". وهكذا
نكون قد رفضنا إقحام الدين في السياسة. وهذه هي العلمانية، فهي فصل الدين عن
السياسة.
قد يقول قائل وماشأننا نحن؟ فسنترك صاحب المشروع لله، هو أعلم بنيته. وإذا ما غشنا
فالله سيعاقبه. وهنا سنرد عليه: وما شأننا بالذي لا يقوم بالشعائر الدينية؟ أليس
الدين لله؟ إذن ما دخلنا نحن في دين الإنسان؟ فالله من سيحاسبه. أما نحن فلنتحاسب
على الأمور التي تجمعنا ولنترك ما بين الفرد وربه لله.
إن أولئك الذين يرفعون شعار الحكم الاسلامي لا يستطيعون إعطاء برامج سياسة واضحة
موضوعية للأمور الدنيوية. فليقدموا لنا برنامجا سياسيا للدولة الدينية التي
يتصورونها، أو دستورا ينظم أمورها، أو حلا للخلافات الفقهية حول الحاكم وهل يكون
قريشيا أم لا؟ وحول الشورى هل هي ملزمة أم لا؟ و حول الأمازيغية وما موقعها في
الدولة الإسلامية التي يحلمون بها؟ فليردوا على هذا إن استطاعوا، وليستعدوا للمزيد
وليردوا على مأورد في التاريخ حول عثمان الذي قرب أقاربه، وتصرف في أموال بيت المال
دون وجه حق مع إغداق جله على المقربين (ص20)* أ هو سياسة أم دين؟ وثورة خمسة عشرة
من المبشرين بالجنة عليه وهم علي بن أبي طالب، عبد الرحمان بن عوف، الزبير بن
العوام، سعد ين أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله (ص21). وحول عمر الذي عطل قطع يد
السارق وأجل حد شارب الخمر في الحرب الى حين العودة، الى جانب منعه الزكاة للمؤلفة
قلوبهم بدعوى أن الإسلام لم يعد في حالة ضعف (ص47). أليس كل هذا مخالفا لما جاء في
النص؟ وهل هذا يعني أن نكفر عمر بتجأوزه حدود الله أم أنه محق لفطنته الى أن الدين
لله والسياسة للجميع؟
فليجيبونا عن حل البطالة والأزمات الثقافية...
هل قطع يد السارق وجلد الزاني والزانية هو الحل؟ هل صلاة الاستسقاء حل للجفاف الذي
يعانيه الفلاح؟ هل السياحة الدولية حرام ويجب استبدالها بسياحة وطنية تتم فيها
زيارة القبور والترحم على الموتى؟ هل المصاريف التي تنفق على مجاري المياه لا أساس
لها لأن قضاء الحاجة سيكون في الخلاء بعد ممارسة الذهاب والإياب الذي سيكون رياضة
للبدن وراحة للنفس؟ هل الحبة السوداء ستوفر علينا جلب معدات طبية وأدوية وبناء
مستشفيات ومراكز للبحث العلمي...؟ هل برؤوس صوامع المساجد سنواجه الرؤوس النووية
والصواريخ؟ هل الصعود الى الفضاء يكون بقراءة الأمداح والتصوف؟...
ألا يؤدي بنا كل هذا الكلام الذي قيل إلى ترك الدين بعيدا عن ممارستنا السياسية؟
أما يزال أحد يريد الدولة الدينية غير المقفلة عقولهم؟ أليست الدولة الدينية دولة
للتخلف والاستبداد؟ أليست دولة للقتلة والمجرمين باسم الله وباسم الدين (مع
استثناءات لا تشفع للذين ظلموا وقتلوا)؟ هل تعلم أن إصرارنا عل الدولة الدينية
ورفضنا للدولة العلمانية ليس إلا اصرارا على قيام الديكتاتورية الدينية؟ أ لا
يكفينا ما نحن فيه؟ هل نريد أن نعايش عبد الملك بن مروان الذي خطب على منبر الرسول
في المدينة بعد قتل عبد الله بن الزبير قائلا: "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد
مقامي هذا إلا ضربت عنقه"،ثم نزل(ص51). أو يزيد بن معأوية الذي نفذ هجوما على
المدينة عذب فيه أهلها وقتلهم، وانتقم من الأنصار لنصرتهم للدين(ص51/52)؟. إن
إصرارنا على الدولة الدينية ليس إلا إعطاء الفرصة لخليفة كالمتوكل العباسي الذي كان
منهمكا في اللذات والشراب حيث كانت له أربعة آلاف سرية وطأهن جميعا(ص52). أو
كالوليد بن يزيد الذي عرف بشرابه ولواطه ورشقه المصحف بالسهام، وقد أنشد في ذلك
شعرا مخاطبا المصحف(ص52) :
أتتوعد كل جبار عنيد فها أنا ذاك الجبار العنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا ربي مزقني الوليد
أو كأبي العباس السفاح الذي أعلن يوم مبايعته: "الله علينا وختم بنا كما افتتح بنا
فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير"، والذي بدأ بأن أخرج جثث خلفاء بني
أمية من قبورهم فجلدهم وصلبهم وأحرق جثثهم ونثر رمادهم في الريح (ص53). أو....
هل هذه هي الدولة التي نريد؟ هل هذه هي الدولة التي نخاف عليها من العلميانية؟
إذا ما كانت هذه العلمانية التي ستخلصنا وتقينا من مثل هذه الدولة وستحفظ رقابنا من
سفاح يقطعها، مشروعا صهيونيا فشكرا للصهاينة لغيرتهم على الإسلام والمجتمع. لكنني
لا أعتقد أن الصهاينة إذا ما كانو يكنون الحقد على الإسلام سيفعلون مثل هذا،
فالأقرب الى الصواب أنهم يمولون الجماعات الاسلاموية ويدفعون الى خلط الدين
بالسياسة وليس العكس. فمن الأكثر خطرا على الدين والمجتمع غير مثيلة هذه الدولة
التي يراد لنا أن نخطو إليها من طرف المقفلة عقولهم؟
بالإضافة إلى هذا فالعلمانية لم تأتنا عن طريق الشمال (أوروبا)، فهي موجودة عندنا
في ثقافتنا الأمازيغية المتجذرة في التاريخ، إذ أن القوانين المسيرة للأمازيغ لم
تكن لتتحيز لليهودي أو المسلم أو المسيحي... وإنما لصاحب الحق. إذن فممارسة
العلمانية ليست جديدة علينا أو غريبة عنا. فهي فينا وشعار "أمرنا شورى بيننا" كان
دائما لصيقا بمعاملتنا في أنظمتنا القبلية. ويمكن القول إن مرادف العلمانية أو
الدليل على وجودها هو "أزرف".
فحينما تثار مسألة الدولة العلمانية لا تجد في تصور الحركات الاسلاميوية إلا
علمانية فرنسا وانجلترا – ولا نستغرب لتجاهل العلمانية الأمازيغية لأن القضية
الأمازيغية مغيبة ومحاصرة في جميع الميادين. فالتصور أو التعريف الذي تعطيه هذه
الحركات للعلمانية هو اللادينية وفصل الدين عن الإنسان. فهل هذا ممكن؟ هنا سنورد
كلام الأديب "جبران خليل جبران" في كتابه "النبي"، والذي لن نستطيع أن نضاهيه في
التعبير عن مدى شمولية الدين وتوغل الأحاسيس، بل ارتباطها بالإنسان. يقول: "أليس
الدين كل ما في الحياة... من يستطيع ان يفصل إيمانه عن أعماله، وعقيدته عن مهنته...
من يستطيع أن يبسط ساعات عمره أمام عينيه قائلا: هذه لله وهذه لي وهذه لنفسي وهذه
لجسدي؟ فكل من يعتقد أن العبادة يفتحها ثم يغلقها فهو لم يبلغ بعد هيكل نفسه الذي
نوافذه مفتوحة من الفجر الى الفجر".
(*): محمد شكري سلام، الإسلام: الدين و السياسة (نقد فرج فودة للاصولية الإسلامية)،
منشورات اختلاف، الصخيرات، المغرب. (كل الاستشهادات هنا مأخودة من هذا المرجع).
|