| |
نهايات الطفل الأمازيغي (الجزء
الثاني)
بقلم: عناني إبراهيمWarir (أسيف ن دادس ـ
ورزازات)
أما الوجه الأخر للمفارقة فيتمثل في إخضاع هذه الفلسفة لغايات
خارجية غير مرتبطة بالمواد الأخرى، فينعدم تسجيل حضورها خارج فضاء المسجد، وإنما
يتم إخضاعها لغايات الفقيه المرتبطة بامتلاك السلطة.وبإيجاز فإن المعرفة داخل
المسجد لها علاقة حميمية مع الممارسات التربوية التي تعلي من شأن الطرائق والتقنيات
البيداغوجية على حساب المعرفة الفلسفية المنفصلة هنا عن البحث والتساؤل، وبما أنها
مرتبطة بالأشكال الثابتة، فإن تحقيقها سيتذكر لذاتها في تدريس ما لا يمكن تدريسه.
ارتباط المعرفة بالسلطة: تتأسس ثقافة المسجد على الارتقاء الأخلاقي فتصبح
فضائل السكوت وقلة الكلام، الطهارة والاحترام، علامات غير صحية لأزمات إنسان مريض
يكبت غرائزه الجنسية من أجل ترسيخ لنظرية امتلاك السلطة a will to power».فالغرائز
الفلسفية للفقيه تبني علاقات سرية بين العصا كإشارة فعلية للسلطة –وبين ولوج الجنة
كإطار معرفي إيديولوجي.فأسلوبه التسليطي يقوم بشحن الطفل الأمازيغي بعدد هائل من
البضائع المعرفية كأداة لتقويم أو تكريس القهر والنهر والتخويف وتسود ديكتاتورية
المعرفة إلى جانب قمعية العصا التي تعتمد على بناء الطاعة والاستبداد، وليس من أجل
النفع الوجودي على مستوى الواقع.وكما يقول ميشيل فوكو: "الخطاب ليس فقط ما يترجم
الصراعات أو أنساق السلطة،وإنما هذا الشيء الذي من أجله وبواسطته يمارس الصراع أي
السلطة التي يستهدف امتلاكها".
إن المقاربة التربوية داخل المسجد تتماشى مع عملية العصا وانحناء الرؤوس-كطريقة
عمودية من الفوق إلى الأسفل Top down appraoch. فالسلوكات غير اللسنية هي التي
تتحكم في السلوكات اللغوية للأطفال دون سن الرشد، فتصبح العصا منتجا للمعرفة ومحددا
لمسار العلم وتحل محل اللغة كأداة للتواصل.إنها تنظم وتسير الأطفال حسب أذواق
الفقيه ودوافعه المادية.وما دام الطفل يتقبل العصا كشرط لولوج الجنة، فإن نقل
المعرفة أو الزيادة في الإدراك والتثقيف لن يحتاج إلى لغة تواصلية تأخذ بعين
الاعتبار الخصوصيات الاختلافية والثقافية للطفل الأمازيغي. وفي غياب التواصل
والحوار، يقوم التعليم داخل فضاء المسجد ليس على تعليم اللغة العربية،وإنما على
تدريس نظرية اللغة المقدسة كنموذج مثالي يؤسس للنزعة المركزية ومبدأ التصنيف
العرقي،حيث يتم ربط العرق بكل أنواع المعرفة ويصبح الفقيه النموذج المثالي في البحث
العلمي الذي يقوم باختزال أو اختصار علوم الفلك والتاريخ والاجتماع بدون أسس ولا
مقومات الخصوصية الإبستملوجية لكل هذه الحقول، وما تعقيد تدريس نظرية اللغة إلا
مثالا يجسد نظرية التصنيف العرقي وشرعنة سلطة التراث وتسلط الفقيه نفسه، حيث يصبح
تدريس اللغة مسألة تنظيمية Regulatory لتوجيه السلوكات غير اللسنية، ويقول ميشيل
فكو في هذا الاتجاه: "إن السلطة تريد النظام والسلطة توفره لها".إن الطفل الأمازيغي
مهما استغرق في حفظ أو استظهار أو حتى تحقيق نصوص لغوية فإنه لن يرتقي إلى مرتبة أو
التساوي مع ذلك العقل المتماهي مع الأصل، أو ذلك العقل السلطوي الذكوري الذي يحول
تدريس اللغة إلى وسيلة يبرر بها التسلط الأبوي كوحدة لأصل الوجود.إن الطفل
الأمازيغي في تعلمه لنظرية اللغة العربية لن يتمكن أبدا من معرفة هذه اللغة في غياب
التواصل بها مع أفراد جنسه من جهة، أو مع الكائن الذي يدرسها من جهة ثانية.لن تكون
اللغة داخل المسجد وسيلة للتواصل والتحاور أو حتى الزيادة في المعارف ما دامت غير
معزولة أو منفصلة عن السلطة.إن المعرفة والسلطة زوجان لا يمكن الفصل بينهما كما
يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو: «On admit que dés qu’on
touche au pouvoir on cesse de savoir «.
إن الخطاب داخل مؤسسة المسجد يعاني من مفارقات وأزمات مركبة وعقد نقص تؤدي إلى
الشعور بالذنب.وبلغة نيتشه Nietzsche ،فإن مثال هذه الخطابات الفلسفية هي بمثابة
المكبوت الذي كثيرا ما قمعته الرقابة العامة والتقاليد الثقافية،فالفقيه الذي أراد
أن يكون طيب الحضارة،أو تعليم الطفل الأمازيغي أصبح ذلك الرجل المريض،الحامل لازمة
الأزمة: فهو من جهة يوجد على هامش المعرفة والتقاليد الفكرية الشرقية،فيقوم بنقل
المناهج والمفاهيم المتبلورة لهذه الثقافة وتطبيقها على الثقافة الأمازيغية.ونتيجة
للاصطدام الحضاري تصبح هذه المعرفة خارجية إن لم نقل مشوهة لأنها تفتقد إلى المتلقي
كاختلاف أنتروبولوجي وتفتقر كذلك إلى تواصل يلغي النظرة العدائية لفكر الآخر.أما
الوجه الآخر للمفارقة فهو صلاحية الانغماس في الثقافة الأمازيغية وتكوين معرفة
عميقة حولها. لكن الخوف من فقدان هوية المشرق العربي يفرض على الفقيه الاعتماد على
مقاربة غير ثقافية، ليجد نفسه يعبر عن انهيار تواصل الحضارات، والتي تتجسد في نهاية
اللغة ووظائفها، في نهاية التواصل بين الأجناس أو نهاية تطور الكائن في شمال
أفريقيا بشكل عام.
نهاية اللغة:لقد توصل الباحثون اللسنيون في المجتمعات الغربية إلى أن «تدريس
اللغة في علاقتها مع الناطقين الأصليين سياسة في كل مكان.حيث إن الأهداف من وراء
تدريس لغة للذين يتكلمون هذه اللغة هي بكل وضوح تنظيمية Regulatory .وعرفت هذه
الظاهرة باللسانية Linguicismكوجه من وجوه الإمبريالية اللسنية. فماذا سنقول عن
تدريس لغة بدون ناطقين أصليين لأناس لهم لغتهم الأصلية ولا يحتاجون إلى لغة أخرى
لتنظيم حياتهم اليومية؟ كيف يمكن تدريس نظرية لغة لا يتكلمها المدرس نفسه في حياته
اليومية لطفل يتمتع بكفايات لسنية قبلية وأولية تعمل «على تعبئة مجموعة من الموارد
المعرفية» ومرتبطة بسياقات ثقافية وظروف اجتماعية على حد تعبير Philippe Perrenoud
في تعريفه لمفهوم الكفاية؟ نحن أمام ظاهرة لسنية تتجاوز السياسي –التنظيمي، ولا
خيار لأي باحث لسني إلا أن يصفها ب «اللسنية الإرهابية» كمفهوم يتجاوز التفكير
المنطقي ويؤسس كشرعنة اللاعقل وللسنيات تلغي الاختلاف المادي لصالح التماهي
والتساوي في المطلق. إنه منطق التلذذ بعنف الفقيه، وتقبل الجروح والدماء كبديل
لوظيفة اللغة التواصلية وتلك هي نهاية اللغة.
تذكرنا جماعة الأطفال الأمازيغ وهم يتحلقون حول الفقيه بالكاتب الإنجليزي George
Orwell وروايته المعنونة ب»1948» كنموذج خيالي يعكس وقائع وضعية السلطة المطلقة
Totaletarianism، ومفاده أن التحكم في السلوكات اللسنية للأفراد أو اللغة التي
يتعلمونها يؤدي أوتوماتيكيا إلى التحكم في أفكارهم وسلوكاتهم غير اللسنية.
فالفقيه-مثل «الأخ الأكبر» « Big brother «بطل الرواية يراقب عقول الأطفال عن طريق
نظرية العصا كتحكم عن بعد،يراقبهم ويستمع إليهم على الرغم من أنه نائم.فكل من
مهارتي القراءة والاستماع تعملان ليس من أجل الفهم والاستفادة بل من أجل استمرارية
الطقوس وإرضاء الراحة البيولوجية للفقيه «The big brother is listening to you ».إن
وظيفة الاستماع كمهارة بيولوجية تتجاوز التعليم أو التثقيف لتشمل المجال
الأيديولوجي السياسي للعرق الوافد.فالاستماع إلى الطفل وهو يردد-يقرأ-Récite –إشارة
واضحة إلى تحقيق تغيير في سلوكه وقد لا يهم مدى استيعابه أو فهمه لما كان يردده.وكما
أشرنا إليه سابقا فإن إقحام بعض الأدوات اللغوية العربية داخل أشعار الزواج لم تكن
لها أية وظيفة ثقافية –معرفية، وإنما تعبر عن جزئية المثاقفة من جهة وتعمل على
إرضاء الحاجيات النفسانية للعرق الوافد من جهة ثانية. فالوافد يحس بالاستقرار
والأمن كلما استمر الكائن الأمازيغي في تحقيق المثاقفة على شكل التغني بأدوات لغوية
عربية خاصة كاستهلال للعقائد الشعرية الشفهية أو إدخال بعض المفاهيم العربية داخل
الطقوس الأصلية.إن راحة «الأخ الأكبر» «The big brotherونشاط جهازه السمعي يعتمدان
ترديد، وبصوت عالٍ، بعض المفاهيم العربية بإيقاع أمازيغي. فكيف للثقافة الوافدة أن
تسمح للغتها العربية أن تستهل أشعارا وقصائد غنائية أمازيغية رغم أن هذه اللغة كانت
تحمل مشروعا لمحاربة أو القضاء على هذه القصائد؟ هل سيمكن الاستماع، كمهارة
بيولوجية للفقيه، من التمييز بين قرع أو ضرب الألواح الممزوجة بكلمات عربية داخل
أشعار المساء؟
بالنسبة للطفل الأمازيغي وتماشيا مع وظائف طقوسه الصباحية أو المسائية فإنه يعتمد
على أسلوب المكر والخديعة، حيث إن عملية القراءة الصائتة (بالجهر) ما هي إلا حيلة
لكي ينام الفقيه وتفلت الرؤوس من العصا.وقد يتظاهر الأطفال بغير ما في أمرهم وتصبح
القراءة كمهارة بيولوجية بعيدة عن تلقين المعرفة لأن وظيفة الاستماع نفسها من طرف
الفقيه تتجاوز التغذية الراجعة Feed-back (لبناء الكفايات كشرط أساسي).وقد تستمر
المثاقفة في الاتجاه المعكوس وبشكلها المتناقض بين طرف مهمين يظن أن السلوكات
اللسنية بوحدها تتحكم في البنى الفكرية وبين طرف مغلوب على أمره ومحكوم عليه أن
يردد وبشكل ببغاوي لغة لا علاقة لها بوجوده الفكري المعاش فيتظاهر بالاستلاب
والتبعية وتلك هي نهاية العلاقة بين اللغة والفكر.
إن نظرية "الأخ الأكبر" القادمة من المشرق العربي حول علاقة اللغة بالفكر قد تبدو
وللوهلة الأولى مشابهة مع الفرضية المشهورة Metalinguistics والمعروفة بفرضية Sapir
and worf.يعلن worf في هذا الصدد «بأننا نقوم بتشريح الطبيعة تماشيا مع الخطوط التي
رسمتها لنا لغتنا الأم». هنا يتم الارتكاز على استحواذ أو هيمنة اللغة على الطرق
الفكرية للإنسان.لكن قياس هذه الفرضية على مستوى التطبيق وداخل فضاء المسجد يطرح
عدة إشكالات:فاللغة التي يتعلمها الطفل الأمازيغي داخل المسجد ليست لغة الأم لأي
أحد من الأطراف المعنية داخل مسار المثاقفة،وبالتالي فإن نظامها الصوتي وقواعدها
المرفولوجية ليست لها روابط فعلية ممارساتية بالعادات التقنية والاقتصادية وحتى
الجمالية لثقافة الطفل الأمازيغي. والأسوء من ذلك هو أن هذه اللغة تقوم وبشكل ثابت
«بتشريح» مثالي ميتافزيقي لواقع بعيد في الزمان والمكان، مغاير في الوجود لواقع ذلك
الكائن الذي يدرسها.فالمشكل يبقى مطروحا حول نوع السلوكات – لسنية كانت أم غير
لسنية- والتي تحدد الأخرى لتكون جزءا من المثاقفة أو نتيجة للمثاقفة؟ هل طورت
الثقافة المشرقية ومن خلال الفكر المسجدي نظرتها الخاصة إلى العالم وعلى منوال ذلك
كونت بالتالي لغة-كقواعد وكبنى لسنية-لتساير هذه النظرة أم أنها طورت لغة أبجدية
غير وظيفية وغير تواصلية على شكل قواعد معقدة تقدس الإعجاز فقط لتساير الفكر
اللاهوتي للمشرق العربي؟ لماذا لم تثر الثقافة الوافدة في تاريخها الطويل أي اهتمام
باللغة الأصلية «لتشريح» واقع الطفل الأمازيغي؟
قد تنطبق فرضية Sapir and worf بشكل نسبي على الأمازيغية –كلغات الأم ليس فقط
كوسائل اللهجات للتعبير عن المعرفة الثقافية أنها أيضا في إعطائهن شكلا مختلفا
للفكر الأمازيغي بشكل عام.لكن الفرضية لن تنطبق على اللغة الوافدة والتي يتعلمها
الطفل داخل المسجد على أساس أنها لغة ثالثة (L3) (باعتبار العامية المغربية لغة
ثانية(L2)).ومن جهة ثانية فان الفرضية لا يمكن إسقاطها على فضاء المسجد لأن
السلوكات الاجتماعية والاقتصادية للفقيه وبشكل عام فلسفته المادية التي تميز بين
المعرفة والسلطة وكلها دلائل تثبت إعطاء الأسبقية أو الأولوية للفكر على حساب اللغة.وبما
أن نظرية اللغة داخل المسجد تكرس المبدأ الواحد في الوجود لتعميق سلطة المطلق على
حساب الاختلاف،فإن هناك قانونا ماديا يحكم تاريخ هذه النظرية ويمكن نعته «بالمادية
الميتافيزيقية» أو الازدهار الميتافيزيقي.فالفقيه، كحامل لهذه الفلسفة المادية
يتستر وراء الفكر المتعالي بخلق لغة وخطاب لسني يبرر الاستحواذ والتسلط على كل ما
هو مادي.فالتفكير المادي هو الذي جعل الفقيه يخلق لغة تمتزج بالعصا وتتكلم عن
الازدهار الميتافيزيقي وتجعل الطفل يبتعد عن الأشياء المادية في حياته والتطلع إلى
مادية مثالية، و كما يقول المثل الأمازيغي: « Aynna yellan g tuxsast n muc ayd
isseryigin tawjjimt nnes » «كل ما في داخل راس القط هو الذي يحرك ذيله» أو "كلما
يفكر فيه القط هو الذي يحرك ذيله».إن معظم الأنتروبولوجيين يرجحون كفة السلوكات
الاجتماعية وتأثيرها على اللغة،فهذا Dell Hymes ينادي إلى إثنوغرافية الكلام»
Ethnography of speaking» كمقاربة للغة ليس فقط كنظام لوحدات تعبيرية لكن انطلاقا
من المعنى الثقافي لهذه الوحدات،كسلوك داخل سياق ثقافي ووظائف اجتماعية للتعبير
ويقول(1964، Dell Hymes ) «لا أحد يستطيع أن يقول أي شيء بأية طريقة أو بأية صيغة
لأي شخص أخر وفي أية مناسبة بدون أي هدف».وبما أن الأهداف داخل فضاء المسجد لم تكن
الزيادة في المعرفة أو التثقيف،فإن تغيير سلوك الطفل الأمازيغي كأهداف إجرائية هي
التي تعطي حجما للغة تماشيا مع الطرق المعرفية التي سطرتها الأفكار المشرقية
العربية والتي تم تكييفها مع الواقع الجديد لإرضاء الحاجيات البيولوجية للفقيه.
نهاية التواصل: إن تعليم أو تدريس اللغة العربية هو من أجل تقديس أو تمجيد
هذه اللغة نفسها لقوة خارقة داخل الجهاز التربوي للمسجد.فنظرية اللغة محكوم عليها
أن تكون «وضيعية» أو قاعديةPrescriptive كوجه للارتقاء أو التعالي اللسني. فالطفل
الأمازيغي يجد نفسه يردد قواعد لغوية معقدة للغة لا يطبقها في حياته اليومية، فتبعد
اللغة عن وظيفتها الثقافية –التواصلية.فالطفل الأمازيغي يمكث النهار كله في المسجد
بدون أدنى مكونات أو شروط للتواصل، اللهم ذلك التواصل مع ذاته والمتمثل في حدود
حريته وقدراته التواصلية وضعف قوته في إجراء حوار مع استاذه أو إقامة علاقة معه.وبدون
تشارك أو تبادل بين الطرفين، فإن التفاعل اللسني يأتي إلى نهايته.فانعدام مبدأ
الانسجام والتبادل المستمر بين الفقيه وطلابه لأن عنصر التغذية الراجعة Feed-back
ينبني على أحادية الاتجاه حيث تملأ الألواح في الصباح وتمسح في المساء، فيقوم
الفقيه بتقويم الطقوس الجسدية أو الطقوس غير اللسنية وليس تقويم »معلومات تفيده في
تصحيح الفارق بين الهدف المتوخى والنتيجة التي حصل عليها» الطالب.
إن قيام الطلاب بتلك الطقوس البدنية ما هو إلا وجها يعبر عن فشل التواصل، بل إنها
وسائل اختزالية ومعيارية للتعبير أو لتقوية الإحساس بالإعجاز أو فشل الحوار.وقد
تكون سلوكا للتقرب من هبة الإعجاز وقدسية القواعد اللغوية نفسها والصعوبات الدلالية
المرتبطة بثقافة الشحن»Cargocult» .وفي غياب الحوار والتفاعل وتبادل التأثير
والتأثر فإن الفقيه يستغل سذاجة الأطفال الصغار وذلك بتمرير كثافة أو ضخامة
المعلومات عن طريق القراءة الصائتة: باللحن والإيقاع ينسي الكشف عن الأخطاء أو
تصحيحها ويفتح المجال للضجيج كعائق للتواصل حيث ينعدم التقييم وبداخله التشخيص أو
التصحيح.وتبعا للتوجه المادي لهذا التواصل فإن الفقيه يقوم بتضييع التلاميد على شكل
ألواح خشبية دون ربط الأحاسيس أو تبادل المشاعر.فيتم إغفال تمثلات الطلاب وبنياتهم
الذهنية القبلية وكل ما يتعلق بسيكولوجية المتلقي.وقد يزيد الاتجاه الأحادي المادي
للعصا وهي تنزل على الألواح أو على الرؤوس في تكريس نظرية التواصل وتمهد لطقوس
التلذذ أو الاستمتاع بإيقاع العصا المنسجم مع إيقاع القراءة الصائتة.
انطلاقا من هذه السلوكات غير اللسنية، يتبين أن نظرية اللغة عند الثقافة الوافدة
تعتمد على عنف النظرية في التدريس من أجل تغيير السلوكات التواصلية القبلية للطفل
الأمازيغي، فعادة ما يتوصل الفقيه مع «إمحضارن»-»محضريه» باللغة الأمازيغية، فتعطى
الأوامر وتصدر الأحكام عن طريق هذه اللغة ليس لتسهيل أو توضيح عملية التعلم، وإنما
فقط لإرضاء الفقيه في حاجياته المادية اليومية.وهذا ما يفسر أنه رغم مرور 15 قرنا
من تدريس اللغة العربية فإن هذه الأخيرة لم تصل إلى تكوين الكفاية التواصلية
Communicative Competence التي تنميها اللغات الطبيعية.فبعد مرور هذه المدة الطويلة
لازلنا نسمع عن مشروع طوباوي يهدف إلى تعريب الحياة اليومية للكائن في شمال أفريقيا.
نحن أمام نظرية لسنية متعالية تؤرخ لنهاية التواصل وترسخ لما يمكن إن نسميه
Communicative Incompetence مقارنة بمفهوم الكفاية اللسنية عند تشو مسكي،والتي يعني
بها تلك المعرفة الخاصة بالشخص والقدرة على استعمال اللغة.وبما أن هذا التعليم
أحادي الاتجاه لا يؤمن بنظرية العقل الماقبلي، ولم يعمل على تطوير الكفاية
الماقبلية التي يحملها الطفل الأمازيغي معه وهو يلج عالم المسجد، بل عملت على تغيير
أو على توجيه تلك الكفايات غير اللسنية وكل المهارات البيولوجية الطبيعية لكي تضع
حدا لكفاياته اللسنية. فعنف المقاربة لا يعلمه كيف يتعلم أن يتكلم أو يتواصل أو
يتحاور، بل تعلمه كيف يتعلم السكوت أو الاستماع كفاية في توجيه سلوكه.ففي الوقت
الذي يؤكد تشو مسكي بان »نظرية اللسانيات تهتم أولا بالمتكلم أو المستمع المثالي في
مجتمع متجانس بأكمله والذي يتكلم لغته بطريقة جيدة»،فإننا نلاحظ أن نظرية اللغة في
شمال أفريقيا تهتم أولا بتغيير أو إنهاء قدرات الطفل الأمازيغي وهو يتكلم لغة الأم
بطريقة جيدة وبشكل طبيعي، فوضعت وبدون انقطاع قواعد إعجازية لن تمكن الطفل
الأمازيغي، مهما فعل، من اكتساب اللغة العربية، كلغة تواصل وكعلاقة إنسانية بين
جنسين مختلفين أنتروبولوجيا، وباستثناء ذلك الخيال اللسني في السينما، فإن هذه
النظرية لم تعرف في تاريخها مجتمعا متجانسا، ففشلت في تكوين متكلم مثالي يتكلم
اللغة العربية «بطريقة جيدة» في حياته اليومية أو حتى داخل المؤسسات التي يفترض
فيها تطبيق النظرية. فبالإضافة إلى فشلها في الارتقاء إلى نظرية «وصفية»Descriptive»
(كما هو الحال في المجتمعات المجاورة)، فإن هذه النظرية ازدادت في تعقيد وضعيتها أو
قاعديتها المفروضة عندما استبدلت مفهوم «النسب الشريف» كبديل لذلك الإنسان العربي
الذي يفترض أن يتكلم لغته بطريقة جيدة فانتقلت من وضعية «وضيعية» لسنية إلى نظرية
الجنس السامي-المثالي، فأعلنت نهاية الكائن الأمازيغي.
|