|
افتتاحية: الحسيمة أو سيرة البطل التراجيدي بقلم: محمد بودهان يقول الفرنسيون: «Il ne restait que ça» للتعبير عن حدث مفاجئ جاء ليزيد وضعا، هو في الأصل سيء جدا، تفاقما وترديا. إلا أن المثل الأمازيغي أبلغ وأفصح في التعبير عن مثل هذه الحالة، إذ يقول: «Ayujil ittru, arebbi yarenni as»، أي أن اليتيم يعاني والله يزيد في معاناته. وهذا ما ينطبق تماما على الحسيمة التي ضربها زلزال غادر ومدمر ليلة الإثنين/الثلاثاء 23 ـ 24 فبراير 2004. باستعراضنا لتاريخ الحسيمة ـ والريف بصفة عامة ـ سنلاحظ أن هذه الأخيرة كانت، منذ أواخر القرن التاسع عشر، عرضة لسلسلة من الضربات المخزنية التي لا تختلف آثارها المدمرة عن الآثار المؤلمة لزلزال صباح الثلاثاء 24 فبراير. ففي أواخر القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1898، أرسل المخزن الفاسي بعثة عسكرية لـ"تأديب" قبيلة "إيبقّيون" المجاهدة بنواحي الحسيمة، بسبب دفاعهم عن أرضهم ضد الأطماع الأوروبية التي كانت تهدد شواطئهم. انتصر الريفيون على جيش السلطان وألحقوا به الهزيمة. فلجأ قائد الجيش المنهزم بوشتى البغدادي إلى استعمال الإسلام كما فعل قبله معاوية عندما رفع المصاحف وهو على مشارف الهزيمة في معركة صفين. فقد التمس قائد الجيش المخزني من البقيويين وضع السلاح والالتحاق بالمسجد لأداء الصلاة ليبدأ بعد ذلك التفاوض بين الطرفين حول شروط وقف إطلاق النار. لكن بوشتى البغدادي كان قد أمر ما تبقى من رجاله بالهجوم على المصلين العزل والفتك بهم والقضاء عليهم. وكذلك كان الأمر. ومنذ ذلك التاريخ والسلطات المخزنية تضرب المنطقة كلما كان ميزان القوة في صالحها، ولو بالاستعانة بالمستعمر الأجنبي. ثم جاءت حرب الغازات السامة ضد الريفيين ما بين 1921 ـ 1927، والتي شارك فيها المخزن إلى جانب القوتين الاستعماريتين الفرنسية والإسبانية. وفي 1958 ـ 1959 أباد الجيش المخزني، بقيادة ولي العهد آنذاك (الحسن الثاني)، القبائل واغتصب النساء ونهب الممتلكات. كل ذلك بمساعدة من الطائرات المقاتلة الفرنسية التي صبت حرائق "نابلمها" على السكان والماشية. وفي 1984 سيعود الجيش المخزني مرة أخرى إلى الريف، ولو بدرجة أقل من 1958، لـ"تأديب" الريفيين ـ خصوصا بمدينة الناظور ـ الذين سماهم ملك البلاد في خطاب رسمي بـ"الأوباش" وأخرجهم من زمرة ”الرعايا“. وعندما لا يستعمل المخزن الجيش والطائرات والرصاص، خلال الفترات التي تفصل بين الحملات العسكرية على الريف، فهو يستعمل سلاح التهميش والحصار والاستعراب. ورغم الحملات العسكرية على الريف واستمرار سياسة الحصار والتهميش، فإن الحسيمة لم تزدد إلا نموا وازدهارا حتى أنها ربما هي المدينة الوحيدة بالمغرب التي لا توجد بها دور من الصفيح ولا متسولون أمازيغيون. ورغم الاستعراب والتعريب والشرقنة، فلم تزدد إلا أمازيغية وتشبثا بالهوية الأصلية لسكان المغرب حيث إنها المدينة الأولى بالمغرب من حيث عدد الكتابات الأمازيغية على واجهات المقاهي والمحلات التجارية. وهذا قبل قرار جعل تيفيناغ الحرف الرسمي لكتابة الأمازيغية. وإذا كان المخزن، منذ 1984، قد أوقف حملاته العسكرية المباشرة على الريف، فإن "جهات" أخرى ستنوب عنه وتتحالف معه للقيام بنفس المهمة ولتحقيق نفس الهدف. إنها ضربات الطبيعة والقدر. فما أن رفع المخزن يده العسكرية عن الريف منذ 1984 كما أشرت، حتى امتدت يد الطبيعة لتضرب بدورها ـ في تحالف غريب مع المخزن قد يسهل تأويله كتضامن إلهي مع المخزن "الشريف" ـ المنطقة في 1994 بزلزال لم يحرك ساكنا لدى السلطات التي تركت الضحايا يواجهون مصيرهم دون مساعدة ولا مواساة. وفي نوبر 2003 ستكرر الطبيعة ضربتها للمنطقة بإغراقها في فيضان جرف الأخضر واليابس. ويبدو كأن مقاومة الريفيين وتحديهم وصمودهم لكل الآفات الطبيعية والمخزنية أغضب الطبيعة فقررت أن تنتقم منهم أكثر وتبرهن لهم أنها الأقوى وأنها تعاقب من يتحداها، فحركت الأرض من تحتهم محدثة زلزالا عنيفا، قاتلا ومدمرا على الساعة الثانية والنصف ليلا. وكأنها باحتيارها لهذا التوقيت أرادت أن لا يفلت أحد من قدرها وصممت قتل أكبر عدد من السكان لأن الجميع، في تلك اللحظة، يكون نائما بمنزله إلا من كان مسافرا خارج المنطقة. إنها ضربة الغدر والمكر كالتي رأينا مثلها عند بوشتى البغدادي التي فتك بأعيان إبقيون وهم ساجدون لله داخل المسجد. إن هذا التناوب والتحالف، على ضرب الريف، بين الطبيعة والمخزن، يذكّرنا بالأبطال الأسطوريين في التراجيديا الإغرقية القديمة. لقد كان البطل مطاردا من طرف آلهة الأرض (حكامها وملوكها) وآلهة السماء. فعندما تتعب آلهة السماء من ملاحقة البطل تواصل آلهة الأرض هذه الملاحقة. وعندما ترفع هذه الأخيرة يدها عن البطل لبعض الوقت منشغلة عنه بأمور طارئة، تكون آلهة السماء له بالمرصاد لتكمل ما بدأته الأولى وتزيد من عذاباته ومعاناته ومآسيه. وهذا هو حال الحسيمة التي ما أن كفّ عنها المخزن أذاه المباشر منذ 1984 حتى بادرت الأقدار إلى تذكير السكان أن هناك "مخزنا" آخر سيذيقهم بزلازله وفيضاناته ما هو أقسى وأفتك وأشرس من ظلم المخزن واعتداءاته. هذا هو تاريخ الحسيمة، تاريخ البطل التراجيدي في الأدب الإغريقي القديم. لكن لا ننسى أن آلهة الأرض والسماء كانت تتحالف ضد البطل لأنه كان يحاول اختطاف نار العقل والحرية التي تحرر الإنسان من طغيان تلك الآلهة. أو ليس نضال وجهاد الريفيين، منذ 1497 إلى اليوم، هو نضال وجهاد من أجل الحرية والكرامة؟ لماذا لا يكون زلزال الحسيمة بداية لرفع الحصار عن المنطقة وفك العزلة عنها والشروع في تنميتها تنمية حقيقية مع توفر إرادة سياسية صادقة لذلك؟ ليس هذا حلما، لأنه سبق أن تحقق مع زلزال أكادير. فهذه المدينة الأمازيغية، مثل الحسيمة الأمازيغية كذلك، كانت مهمشة ومنسية مثل الحسيمة تماما. لكن الزلزال القاتل التي ضربها في 1960 كان فرصة ذهبية تحولت معها المدينة إلى معلمة حضارية وسياحية يفتخر بها المغرب. لكن يمكن أن يُستغل الزلزال كمبرر آخر لتشديد الحصار على المنطقة والزيادة في الحضور المكثف للمخزن، مع ما يرافق كل ذلك من تعريب واستعراب وتضييق على الحريات، بدعوى "متابعة" آثار الزلزال. فقد بدأت، منذ الآن، ألسنة السوء تردد أن تظاهرة منكوبي الزلزال بالحسيمة ليوم 26 فبراير، لم يكن وراءها بطء وسوء توزيع المؤن على المتضررين، بل كانت تحركها أجهزة أجنبية واستخباراتية معادية للمغرب ووحدته الوطنية. هذا ما جاء في جريدة "الشريف" مصطفى العلوي (الأسبوع) ليوم 5 مارس 2004. وفي نفس الاتجاه كتبت "شريفة" أخرى هي السيدة نادية صلاح في يومية L'économiste ليوم 27 فبراير، كتبت تقول: «ليس بالضرورة أن تكون حاد السمع لتسمع بالمنطقة أصواتا تردد: "نحن مستعمرون من طرف عرب الرباط»، دون أن تدري أن هذا التلميح الذي أوردته على سبيل القدح في أبناء المنطقة هو عين الحقيقة، نعم إنه عين الحقيقة البسيطة والواضحة والمتميزة حسب تعريف ديكارت للحقيقة. أما شائعات المقاهي فقد خلطت الميتافيزيقيا بالفيزيقيا، والغيب بالشهادة: لماذا يضرب الله دائما بزلزاله "الشلوح" من دون العرب؟ ألم يضربهم في 1960 بأكادير، وها هو اليوم يضربهم بالحسيمة؟ طبيعة السؤال تجعلنا نتوقع طبيعة الجواب: الزلزال تعبير عن غضب الله على من يعصيه ولا يمتثل لأمره ولا يطيع خليفته ويتكلم غير لغة القرآن، وخصوصا "من رأسهم قاسح" كالريفيين. أما العرب فهم "شرفاء" ولغتهم "شريفة"، كما أنها لغة أهل الجنة. هذه الكتابات والتأويلات والقراءات والشائعات المصاحبة لزلزال الريف تتغذى بالأدبيات الأمازيغوفوبية والريفوبية، وفي نفس الوقت تغذيها وتزيدها رواجا وانتشارا ورسوخا. أما طريقة تعامل السلطات مع الفاجعة، فلا يمكن إلا أن يجعلنا متشائمين ومتشككين في وجود إرادة سياسية حقيقية للمصالحة مع الريف. فالإعلان عن الزلزال في التلفزتين لم يبدأ إلا مع أخبار الظهيرة، أي بعد عشر ساعات من وقوعه. في حين أن التلفزات الأجنبية نقلت صورا من عين المكان منذ صباح الثلاثاء الأسود. الارتباك والتأخر في عمليات الإنقاذ وتقديم المساعدات مؤشر آخر على أن الهاجس الأمني ـ الخاص بالريف ـ والبروتوكولي أهم لدى السلطة من المواطن الذي يئن تحت الأنقاض أو يرتجف من البرد في العراء ليلا. وكم كانت السلطات بليدة وغير مؤدبة عندما فسرت التأخر في توزيع المساعدات بالمناطق النائية بوعورة المسالك والتضاريس، مع أن هذه الأماكن والمناطق نفسها وصلت إليها السلطات بسهولة ويسر في 1958 عندما كان الأمر يتعلق، ليس بتوزيع المؤن على الريفيين، وإنما بتوزيع الموت عليهم، علما بأن وسائل النقل في تلك الفترة كانت بدائية جدا مقارنة مع ما توفره اليوم التكنولوجيا لمواجهة مثل هذه الأوضاع. كما أن عدم إعلان السلطات عن حداد وطني تضامنا مع المنكوبين وأهالي المتوفين يؤشر عن وجود مقاومة سيكولوجية لدى السلطات لإقامة تصالح حقيقي مع الريف. لكن التضامن الكبير والعارم، الصادق والتلقائي، الذي أبداه الشعب المغربي قاطبة من لكويرة إلى طنجة، كان خير عزاء للريفيين وأفضل دعم نفسي للمنكوبين. لقد تجاوز هذا التضامن المخزن وأربك حساباته الصغيرة والضيقة، وأظهر بجلاء أن غياب المخزن خير من حضوره الذي يشكل عائقا حقيقيا أمام الفعالية والإنجاز العملي والميداني، كما أثبت المخزن نفسه ذلك خلال الأيام الثلاثة التي تلت الزلزال، والتي حاولت خلالها السلطات أن تتحكم في كل شيء وتراقب كل شيء. فكانت النتيجة أن توقف كل شيء، وفشل كل شيء، وهو ما كان وراء التظاهرات الاحتجاجية للسكان والمنكوبين. ولم تنطلق عملية توزيع المساعدات على المنكوبين إلا بعد أن تنحى المخزن وفتح المجال للمجتمع المدني الذي أنقذ المنكوبين وأنقذ بذلك المخزن نفسه من زلزال سياسي آخر.
|
|