|
نظمت، كما هو معلوم، كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة محمد الأول بوجدة بتنسيق مع مجلة ”حفريات مغربية“ الملتقى الأول للأدب الأمازيغي تحت شعار ”إبداع وتواصل“، وذلك يومي 12 ـ 13 مارس 2004. وكان ضيف شرف الملتقى الأستاذ حسن أوريد مدير مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، الذي افتتح الملتقى بالمحاضرة التالية: الأدب الأمازيغي إبداع وتواصل بقلم: الأستاذ حسن أوريد (مركز طارق بن زياد، الرباط) سيداتي و سادتي Aït ma d- ist ma Azul fellawen أحسنت جامعتكم صنعًا أن وضعت ندوتها هذه تحت عنوان "إبداع وتواصل" لما للإبداع والتواصل من علاقة وطيدة جدلية، ذلك أن الإبداع لكي يزدهر متوقف على التواصل، مرتبط به، وفي ذات الوقت فإن التواصل مفضٍ إلى التلاقح ومن ثم إلى الإبداع.. ويبدو أن موضوعكم هذا غير مسبوق إذ في غمرة الاهتمام بالثقافة الأمازيغية والعناية بعناصرها، سواء كانت لغة أو فنا أو أي شكل من أشكال التعبير، تبرز بادرتكم سابقة مفيدة ومحطة فريدة.. كل هذا ما كان ليحدث لولا العمل الدؤوب الذي ما فتئت جامعتكم هذه تضطلع به، سواء أتعلق الأمر بالثقافة الأمازيغية أو الثقافة المغربية عامة.. وإسهامات كثير من جامعييكم وأساتذتكم أَجَلُّ من أن تحصى، وأثرها في إثارة الوعي بأهمية مكونات ثقافتنا الوطنية مشهود له على المستوى الوطني، بل والدولي، فضلاً عن جمعيات نشيطة، هنا وهناك بوجدة وبمحيطها. إننا مدينون أيها الأساتذة الأجلاء لجلالة الملك محمد السادس الذي أصاخ السمع لخلجات مجتمعه فأبى إلا أن يحق حَقّاً بالاعتراف بالثقافة الأمازيغية وبلغتها وبآدابها وبفنونها.. ليس ذاك فحسب، بل عهد إلى معهد يضم ثلة من خيرة الجامعيين والباحثين ومن لهم إسهامات في التعريف بالثقافة الأمازيغية، وأسند إليه مسؤولية الحفاظ على الثقافة الأمازيغية والارتقاء بها.. وأنتم تدركون أن الحفاظ وحده من غير بعث ولا تجديد يفضي إلى التحنيط، وإلى كيان متحجر جامد لا يطفح بالحياة.. إن النهر لَيكون وفيا للنبع حينما يصب في البحر كما يقول جوريس. وأود لو تسمحون أن أُعَرِّجَ على ما تفرضه علي اللحظة من واجب الاعتراف لما لهذه المدينة الشامخة من أيادً على الثقافة المغربية وعلى العمل الوطني.. فهي بوتقة لثقافتنا الوطنية، ومجال انصهرت فيه أجناس عدة، ولم تعف العناصر الوافدة على العناصر التليدة.. فتجانست من غير نشاز، بل وتلاقحت من غير نفور. فها هنا العمق الأمازيغي يعايش العنصر الأندلسي ويستوعبان كليهما المؤثر الصحراوي ويغازلان المد المتوسطي ويشرئبان جميعا إلى ثقافة كونية تقوم على احترام حقوق الإنسان وعلى التسامح وعلى النسبية.. سيداتي سادتي، إن الموضوع الذي انتُدبت للحديث عنه، ولو أنه لن يشفي غليل المختصين، يستوجب أن نُجري وَقفة لتقييم الأدب الأمازيغي وتمثلاته في العقود الأخيرة قبل أن نحدج آفاق المستقبل، بل لا بد من تقييم العناصر المؤثرة في تمثلات هذا الأدب وتعابيره والتساؤل إن كانت لا تزال قائمة أم يتوجب، والحالة هذه، أن نجري تكييفا جديدا وفق العناصر الجديدة المؤثرة وأفول عناصر قديمة أو ذويها مما يحد من مفعولها ومن تأثيرها. ومن المؤكد أن الأدب الأمازيغي، سواء أكان شعرًا أو قصصا أو أمثالا، كان يدخل ضمن دائرة الأدب الشعبي، وكان نسغَه ومحيطه المباشر وما يرتبط به من نمط عيش وأسلوب حياة وقضايا محلية. أما مداه فكان محليا وأداته شفوية لا تنتقل إلى المكتوب إلا فيما ندر، وإن فعلت فبفعل أجانب يودّون أن يقفوا على ذهنية الشعوب التي غلبوها والبلاد التي استعمروها.. كان عملهم ذا غاية، إلا أن هذا العمل وهذه الغاية هو مما حفظ جزءا من ذاكرتنا الجمعية وإلا كان نالها الفناء.. لقد كان المكتوب مقصورا على المقدس وعلى الثقافة العالمة، أما غيرهما فما كان ليسكن دفتي كتاب.. كان على الثقافة الأمازيغية إن أدبا أو أي شكل آخر من الفنون أن تكتفي بقدراتها الذاتية وقوتها الساكنة sa force d'inertie وكانت عوامل عدة تهيئها للموت البطيء، تتداخل في ذلك خيارات سياسية وثقافية فضلاً عن عوامل اجتماعية أخرى كالهجرة وشيوع التعليم وذيوع وسائل الإعلام التي لم تكن تحفل بالأمازيغية لغة وثقافة إلا لماما.. وكان حتما أن ينال الثقافة الأمازيغية الضمور وأن يسكنها الهجين وأن يتوارى منها الدر الثمين وأن تتحجر مادتها لأنها لا تمتح من الوسائل الحديثة.. بل إنها التصقت في أذهان البعض بالتهتك والخلاعة لأن الماضي الاستعماري وماضي القواد الكبار قد طبعها بميسمه، وخلع عليها الصورة التي انطبعت لدى الأذهان ممن لا يعرفون الأمازيغية أو ممن يضمرون لها الحسيفة ويخصونها بالموجدة.. ولذلك فإن إعادة الاعتبار لثقافة ليس هو فقط إعادة الاعتبار للغتها وإنما بالأساس لقيمها وذهنية أصحابها.. ولئن كانت عناصر من النخبة قد وجدت سبيلاً لها في أسلاك الدولة وفي تنظيمات حزبية أريد لها أن تمثل العالم القروي، فإن الثقافة لم تكن شغلها الشاغل، ولم تنعكس نجاحاتها الفردية على عوالمها.. بيد أن العوامل التي كانت تدفع بالأمازيغية إلى الانزواء كانت تتضمن عناصر بعثها، ذلك أن تعميم التعليم – ولو في حدود – مكَّن فتية من الناطقين بالأمازيغية من التعلم ومن الارتقاء في أسلاك التعليم ومن التمرس بالعمل المدني ومعانقة قيم العدل والمساواة كما كان يُجَلّيها الفكر الاشتراكي، آمنوا بقيم عالمية وانخرطوا فيها، بل إن منهم من عانق القومية العربية لأنه رأى فيها انتصارًا للتقدم على المحافظة وللتقدمية على الرجعية.. غير أن انكسارات القومية وأخطاء سدنتها، فضلاً عن ممارسات كانت تصدر من أشخاص من بني جلدتنا لا تمت إلى المواطنة فضلا عن الوطنية، وكانت إلى التمييز أقرب، دفعت كثيرا من الناطقين بالأمازيغية إلى قلب وجه الهرم.. ذلك أن المعادلة التي كان يقوم عليها نضالهم هي أن القيم السامية للعدالة والمساواة والحرية التي من المفترض أن تستوعب الهوية وتقر التنوع الثقافي وتبقي على شعلة الأمازيغية، ستتحول إلى أن الانطلاق من الهوية ومن التنوع الثقافي ومن الإبقاء على الأمازيغية حية تنبض بالحياة هو المفضي للعدالة وللمساواة وللحرية.. هو تحول مهم ينبغي أن نقف عنده لأن الذين ناضلوا من أجل الإبقاء على الأمازيغية لم يفصلوا نضالهم وجهدهم عن القيم التي ألمعتُ إليها.. ليست اللغة ولا الثقافة هدفا في حد ذاته.. هو ذا الفيصل الذي يميز هذا الرعيل عن تنظيمات قامت باسم العالم القروي، وعن قواعد اجتماعية تتكلم الأمازيغية وتنشد "ثماويت" وتترنم على إيقاع "أَحِيدُوسْ" وتتهادى على نغم "أَحْوَاشْ"، وتنشد "إزران" أو "الغنوج" إلا أنها لا تريد التغيير ولا تنشده لأنه قد يأتي على وضعها الاعتباري، بل كان وضعها الاعتباري أسمى وأعلى مما تتلفع به من دعاوى نبيلة. أقف هاهنا لأذكر بأمور بديهية لا مناص من تذكرها : - إن التحدث بالأمازيغية حتى من رضعها من اللبان لا تجعل من صاحبها صاحب تصور أو رؤية للأمازيغية، ذلك أن الحركة الأمازيغية ارتبطت بقيم وتصور مجتمعي، أما اللغة فلم تكتس الأهمية التي نعرف إلا لطابع الاستعجال بالنظر إلى خطر الزوال الذي كان يتهددها .. - إن ما صاحب الأمازيغية من اهتمام لدى الرأي العام ولدى القِوى الحية وعلى مستوى الدولة في التسعينات وبعدها هو نتاج لنضال هذا الرعيل ممن التقت فيه روافد الوفاء للغة الأجداد مع قيم العدل والمساواة والحرية والعقلانية.. هو رصيد لا يمكن التنكب عنه أو التطاول عليه. في منتصف السبعينات برزت البراعم الأولى للوعي الجديد بإحياء الثقافة الأمازيغية.. ليعذرني الكثيرون إن نسيت اسما أو عَلَما، لأني أكتب محاضرتي هذه عفو الخاطر بلا مراجع.. أتوقف عند شاعر فذ هو محمد مستاوي، فله علاقة قربى مع شعراء شوامخ من ثقافات أُخَر، مخضرمون بين القديم والجديد، بين اللغة التي منها نهلوا ولغة جديدة تفرض ذاتها لتستوعب أغراض جديدة.. هو شبيه ب … الذي انتقل من لغة francien إلى اللغة الفرنسية، ومن جنس les chansons de geste إلى جنس les ballades و Odes، ليعبد الطريق لـ Du Bellary و Ronsard ، هو شبيه بمحمود سامي البارودي الذي يمتح من لغة أبي تمام وإيقاع الخليل ليعانق قضايا عصره ويناصر مواطنيه ممن ينهضون ضد الضيم وممن جعلوا الثائر عُرابي قدوة ومثالا.. ديوان مستاوي "Iskraf" (1976 )محطة مهمة في الشعر الأمازيغي الحديث، يعقبه ديوان "Tatsa d- imettawen" (1979).. مأساته أنه مخضرم بين القديم والحديث، متأرجحٌ بين هذا وذلك، عرضة للانتقاد من هؤلاء وأولئك.. متح من نفس الروايس الحاج بلعيد والدمسيري ويسبغ عليه قضايا آنية وأخرى وجدانية فردية، ولا شك أن أكبر ثورة حملها شعره، فضلاً عن شاعريته هو استعاضته عن الشفوي بالمكتوب.. أصبح الشعر الأمازيغي يسكن دفتي كتاب. إنها ثورة لأنها شيء غير مسبوق، وإنها مجازفة لأن الشاعر يستعيض عن الشفوي وحميميته ودفء التواصل مع محيطه ببرودة المكتوب ولاشخصانيته. إنها الزجاجة ملقاة في الأقيانوس قد تجد من يلتقطها وقد تظل ضائعة تائهة.. ليس ذلك فحسب، فهو يزلزل معتقدات ويخلخل طابوات، إذ ينتقل بالأمازيغية من حظيرة الأدب الشعبي إلى مجال الثقافة العالمة، هذه اللغة التي قضت أحكام بأن "الشلحة ما هي كلام".. وهل ننسى أن الشاعر يقتطع من موارده تلك الهزيلة ليطبع على نفقته ديوانه وقد يُقدم نفسه على توزيعه.. لم يكن الإبداع منفصلاً عن النضال، ولسوف نرى أن الإبداع سيصبح لبوسا للنضال لدى آخرين. يناضلون من أجل أن تظل الأمازيغية حية ويقتحمون عالم الشعر، أحيانا عن غير شاعرية.. فالشعر، أو الإبداع هو استمرار النضال بوسائل أخرى. قد ندرج في هذه الخانة الفتى المنعتق من حمى الماركسية حسن إذ بلقاسم في ديوانه " Tislit n- unzar" أو الحركي ذا النفس الطويل ابراهيم أخياط في ديوانه "Tabrat" أو قصائد منبثة هنا وهناك لمن يلتمسون من الشعر التعبير عن رؤاهم المجتمعية كقصيدة Nek Amazighلمحمد شفيق.. في فترات البعث هذه يظل الغناء أقوى تأثيرا وأبعد مدى وأعلق بالوجدان وألصق بالقواعد الشعبية.. لذلك كانت ثورة "أوسمان" ومن بعدها "إزنزارن" أبعد مدى من كل التعابير الأدبية الأخرى.. بدأت محتشمة في حظيرة حفلات خاصة متدثرة بأسماء متسترة لتفصح عن ذاتها كسنا البرق أو قعقعة الرعد في سماء زرقاء صافية، ولينهال غيثها لا على أشخاص خاصين بل على جمهور يتجاوب معها في تارودانت والناضور، بل في الرباط وفي باريس وبروكسيل ومن خلال الشريط.. كانت تحذو خطى تجربة فريدة في الغناء الشعبي هي تجربة "ناس الغيوان" وتجربة مهندس أمازيغي من القبائل Idir ترك الهندسة ليعانق الغناء وليدخل ساحة الفن من خلال رائعته "Avava inu va".. وها هي رغم الضمور تعود ولما تلثم ذاكرته: Hayyad n uchkadAyt ma, d isetmaAyt ma, d isetma Hayyagh n uchka –dNbaddel igharasen Nebbi imudal Nezger isaffen Nawid amarg I ku yan. مزجت فرقة "أوسمان" بين الإيقاع الحديث والإيقاع القديم وأدخلت أدوات جديدة إلى جانب الأدوات القديمة وغنّت شعرا جديدا يطفح بالقيم الإنسانية وبالمحبة وبالتعلق بالهوية.. ولسوف نرى كيف سمقت فرقٌ غنائية تنهل من تجربة شعرية ثرة بمنطقة الريف وبالمهجر في سياق التسعينات وفي عقدنا هذا.. دخلت الثقافة الأمازيغية في مستهل الثمانينات مرحلة السُّبات، ذلك أن الهامش الذي كانت تتحرك بداخله ضاق أو ضُيِّق بسبب التقاء عناصر ثلاثة: اتجاه سياسي يزعم الدفاع عن العروبة ويناصب لذلك الأمازيغية العداء وظف الوشاية من خلال عناصر تزعم الدِّفاع عن الثقافة الأندلسية، وجهاز أمني تكفل بالزجر والقهر.. لئن ذكرت هذا وذكَّرتُ به فلا لأنكي الجراح، ولكن لأشرح تطور الحركة الأمازيغية وتفسير ردود فعلها.. ما كان يُلمس في الخطاب الأمازيغي من حدة، ومن غلو بعض العناصر كان رد فعل.. كان لسان حال كثير من المثقفين الناطقين بالأمازيغية "الخير بالخير والبادئ أكرم والشر بالشر والبادئ أظلم".. ولست ممن يرون هذا الرأي، لأن المطالب الآن، والمجال رحبٌ للإبداع وللإقناع، هو أن نتجاوز الفعل ورد الفعل لفائدة مقاربة هادئة تستخلص العبر ممن مضى وتوظف عناصر هويتنا كاملة من غير بتر ولا تقصير.. والمؤمل هو أن لا ينظر إلى الأمازيغية ضرة للعربية، ولا للعربية عدوة الأمازيغية.. والمؤمل كذلك أن ننظر إلى التراث الأندلسي نظرة موضوعية لا كميراث لقبيل .. بمقتضى القاعدة الفقهية "هلك هالك". كلا فالتراث الأندلسي نتاج لتلاقح أمازيغي عربي أو إسباني.. وهو أكثر من رسم عفا بل روح يتأسى بها وهو ملك لهذه المكونات الثلاثة.. والمفترض أن الأمازيغية شأن ثقافي وينبغي أن تظل كذلك في دائرة الحوار بل والسجال لا أن تختزل في المقاربات الأمنية ذات القراءات المبتسرة والمعوجة التي توظف أشباح التهويل والتخويف.. هاته المقاربة التي يأتي أصحابها لا من دهاليز الأقبية وحدها بل من فضاء الجامعة الرحب ومن بعض قاعات التحرير.. دخلت الأمازيغية مرحلة السبات حينما أصدر علي صدقي أزايكو مقالا ينادي فيه بمقاربة ديمقراطية لثقافتنا الوطنية، أي أن صدقي أزايكو كان يدعو إلى ما نسميه اليوم بالتنوع الثقافي، هذا الذي تتجند له اليوم دول ومنظمات دولية، يُسرُّ في ثنايا مقاله دعوة محتشمة إلى إعادة قراءة تاريخ أرضنا، تاريخ شمال إفريقيا.. أودع أزايكو السجن لهذه الجرأة و"الجسارة" التي تهم بتسآل منظومة ثقافية وسياسية لا يأتيها الباطل ولا ينالها السؤال.. والمثقفون الأقحاح يخرقون سجف الغيب ويزعزعون المتواضع في هدوء وبلا صخب، بل هم يحرقون أنفسهم لأنهم يطرحون ما فيه نور للناس.. أزايكو من طينة هؤلاء.. انثنت الأمازيغية إلى حضن الفردانية.. أضحت مغازلة حميمية لا تبلغ الساحة العامة.. يقرض الشاعر شعره ويترنم به وحيدا أو يشرك به بعضا من خلانه الأصفياء.. بل قد يتستر حتى عن اسمه.. وهل لنا أن نحصي تلك المغازلات الفردية الحميمية؟ ليس لنا ذلك ولا نستطيع، أكتفي بذكر قصيدة لمحمد شفيق Ider wayyur لم تكن تحمل توقيع صاحبها أو لم تحمله إلا بعد سنين، وقصيدة باللغة العربية لمحدثكم هذا ضاعت ولم يبق منها إلا رسم قليل علق بذهني أتلوها لأول مرة إن كان يجوز أن ندرج في مرحلة بعث هذا الأدب الذي يحمل روحا أمازيغية ويتسربل بلغة أخرى: مات جدي منذ سنين كادحا وسط الكادحين ذاب كما تذوب الشموع في غمرة عمره الطويل قيل سيعود حتى الصبى يعود في دنيا الخلود ولكنه ماعاد قتلوه، وأدوه واحسرتاه. ورثيت جدي يوم أن مات بلغة الأعراب قال أنسيت لغة الأجداد؟ قلت لغة بن زياد وئدت منذ آماد وا أسفاه. إلى أن أقول: جدي لم يكن همجيا ولا بربريا كان حرا يهوى الحرية ابعثوه من الركام تبعثوا الحرية.. برز في هذه الأثناء نوع جديد من الفنون الأدبية هو المسرح.. اقتحم هذا المجالَ شاب انعتق من العمل الجمعوي وعايش تجربة أوسمان وانثنى على المسرح لا ليتسلى بل ليطرح قضية الهوية في مسرحيته "Ussan Smmidnin".. هو الصافي مومن علي، هذا البعد الهوياتي غلب على المسرحية حتى ليكاد يحيلها إلى مقالة سجالية أو محاولة Essai . إنها قصة قبيل يعزف عن شمسه ليلتمس شموسا أخرى باهتة لا تبعث النور ولا الدفء، ولذلك يعيش هؤلاء في الصقيع وفي الظلام.. بيد أن ذلك لا يثني قلة تلتمس السبيل إلى شمسها رغم الصعاب ورغم المثبطات، لكي تسري فيها الحياة ثانية وتدب فيها الحيوية.. غاضت الشمس كما في مسرحية الصافي مومن، وغاب القمر كما في قصيدة محمد شفيق، وهي عمق العتمة "Aguns n tillas" كما في ديوان المحجوبي أحرضان باللغة الفرنسية.. تيمة الظلام والعتمة ستطبع الإبداع الأمازيغي في هذه المرحلة التي غلب عليها الهاجس الهوياتي، ولذلك فإن الانبعاث سوف يقترن ب Tifawt""، النور.. قلت إن فترات الأحياء يقترن غالبا باختلاط الغث بالسمين، وبتغليب القضية على الفن، وبتواري الجمالية لفائدة النضال والسِّجال.. إلا أن الجمالية لا تتحجب مطلقا.. ومثال ذلك ديوان "Timitar" لعلي صدقي أزايكو الذي صدر سنة (1988).. فهو الشاعر المجدد بلا مراء.. وهو من يمتح من القديم نسغه وروحه ويسكبه في قوالب جديدة من لغة حديثة وقضايا غير مسبوقة.. إنه الشاعر اجتاز ضفة لأخرى، وهو لذلك يتميز عن مستاوي الذي ظل متأرجحا بين القديم والحديث.. مستاوي يمكن أن يستغني عن المكتوب لأنه ينظم شعره وكأنه ينشد وهو لذلك يعول على الطاقة الانفعالية والتأثرية، وهو لا يستلزم جمهورا على قدر من المعرفة والحس الجمالي.. أما أزايكو فلا مندوحة له عن المكتوب، وهو يستلزم جمهورا عارفا ذا ذائقة جمالية لا ليتفاعل مع نظمه بل ليلتمس شعره ويقرأه بأناة ويعيد قراءته.. يظل الهاجس الهوياتي حاضرا لكن شاعرية أزايكو أرحب من أن تنحصر فيه.. معاناته أوسع لأنها تعانق البعد الإنساني.. شعره ينتقل إلى العالمي بلا عنت لأن الإنساني أغلب عليه، ولسوف تغني مجموعة أوسمان بعضًا من أشعاره.. وهو في ذلك يلتقي مع أحمد الزياني الذي بوأ الشعر الامازيغي مكانة العالمية لأن الذاتية لم تمح الجمالية أو تغلب عليها.. شاعرية الرجلين أوسع من أن يضمها ديوان يتيم.. بعد Timitar"" يُعيد أزايكو الكرة من خلال ديوانه Izmoulen" " (1995) .. وبعد ديوان "Taliwliwt-i - mulay" تنسل شاعرية الزياني عن ديوان آخر.. Ighembab irezzun kh wudem nnsen g" wudem n waman" ولئن كان شعر كل من صدقي والزياني وجدانيا بالأساس، فإن شعر جهادي الحسين في ديوانه Timatarin"" واحد من الفحول يتميز بجزالته وقوته، إذ اللغة جزء من بناه الشعري. نحن في التسعينات ولسوف تتحرر الطاقات الإبداعية إن شعرا وإن مسرحا.. بل لسوف يقتحم الإبداع الأمازيغي مجالا غير مسبوق هو الرواية، ولسوف يعبر عن ذاته لا من خلال الأمازيغية وحدها بل من خلال لغات أخرى.. من خلال الفرنسية أساسا، من حيث الإبداع والعربية من حيث السجال.. لسوف تتفتق قريحة محمد أبحري عن طاقات هائلة لتصوير عالم البادية وحيوات الناس البسطاء وعالم الأمازيغية في قصصه الصغيرة بدقة، مزاوجا هذا التصوير بما يطرح الخطاب الأمازيغي من قضايا جديدة.. يجد القارئ عنده متعة الحكي، ودقة التصوير وراهنية الإشكالات المطروحة.. يقرأ لا من زاوية وحدها بل من زاويا عدة.. ولسوف يلقي موحى راحلته بعد المرض والمعاناة والخصاص مخلفا رواية يتيمة انتزعها منه أصدقاء قبل الرحيل.. "أن نكون أو لن نكون" هو عنوان الرواية.. كي تكون عليك أن تذكر هذا العالم الذي منه انعتقت بيقشا.. بيقشا التي تجسده في تمزقه وفي معاناته، وحين يسف وحين يسمو كذلك.. لأن ظروف الحياة الكالحة لم تمنع هذا العالم من أن يظل وفيا للقيم السامية، من تعلقٍ بالأرض وحب للآخر وتماه مع قضايا المعوزين.. هاهي ذي بيقشا زهرة تونع وتورق من تربة الشر، وها هو ذا H'ssi Umazin.. الذي أضحى زغلول يعيش حياة يأس وتعس.. "أن يكون المرء ذاته، تلك هي الحياة" كما يقول هولدرلين، وهو الشعار الذي رفعته جريدة Tamagit التي كان يشرف عليها مبارك بولكيد.. اقتحم الإبداع الأمازيغي مجالا غير مسبوق هو مجال الرواية بالأمازيغية.. ولئن كان الشعر أعلق بالوجدان، ولئن كان الغناء أبعد تأثيرا، فإن النثر يؤشر على انتقال أدب ما إلى مرحلة النضج وإلى ضبط اللغة والسعي نحو تقعيدها، يمكن أن نذكر هنا محاولة "Asekkif n yinzaden " لعلي إيكن وimula n tmektit" " لأفولاي، ورواية "Tislit n –uzru" لسميرة المراقي. بعد الرواد الذين ألمعت إليهم سيعرف الإبداع الأمازيغي زخما في كافة الأغراض، في الشعر حيث سيقتحم شعراء جدد عالم الإبداع والتجديد، أمثال محمد حداشي، وأحمد الزياني، ومحمد أكوناص وفاضمة الورياشي وعمر الطاوس أو ديوان Isfrade" "لمحمد أودادس باللغة الفرنسية أو ""Atlasiennes de paix et d'amour ليوسف آيت لمقدم.. سيعرف المسرح نشاطا ملموسا وتنشط فرق مثل فرقة أبوليوس وتيفاوين وإزوران.. أما الغناء فلسوف يظل موزعا بين القديم والحديث.. لكن مدارس جديدة ستقتحم الساحة، بلعيد العكاف الذي يحمل تجربة أوسمان يعود إلى الساحة مجددا ومنقبا لأشكال القديم وملحقا إياها مع أنواع أخرى ومع ثقافات أخرى.. بيد أن التجربة الفذة في الغناء الجديد هي التي ستبرز من الريف والتي اطلع الجمهور المغربي على نماذج منها من خلال برنامج "نجوم من الريف" الذي أعده مركز طارق بن زياد بتعاون مع القناة الثانية.. سيطلع الجمهور المغربي على تجربة فريدة في الإبداع من حيث الإيقاع ومن حيث الأدوات ومن حيث الكلمات هي تلك التي تجليها فرق بنعمان، يوبا وفردوس تازري ونجيم أمازيغ وفرقة تواتون.. لم يكن غناء من أجل الغناء……..كلا .. هو غناء يتحدث عن الأم وعن الحب، وعن الأرض وعن السلام وعن الإخاء ويحدث من غير عنت كل من له ذائقة فنية حيثما يكون. ******* ليس هذا العرض جردا لكل أشكال الإبداع الأمازيغي الحديث.. إنما هو معاينة تسعى أن تجيب على السؤال العريض الذي طرحته ندوتكم ألا وهو التواصل.. كل هذا يدفعنا إلى أن نطرح سؤالا حول ماهية الإبداع بالأمازيغية. هل هو إبداع أمازيغي يكتبه ناطقون بالأمازيغية لناطقين بالأمازيغية؟ أم هو إبداع مغربي يتوق إلى العالمية يحدث المغاربة قاطبة ويشرئب إلى أن يخاطب جمهورا أوسع من بلادنا وغير بلادنا؟ هل يمكن الآن أن نتغاضى عن نوعية الإبداع لمجرد أنه يكتب بالأمازيغية أم أن الزخم الذي تحقق والتراكم الذي حدث يفرض عدم التساهل في نوعية الإبداع؟ ولست أشك أنكم تشاطرونني الرأي أن الإبداع بالأمازيغية هو إبداع مغربي يحدث المغاربة أولا.. لذلك لا مندوحة لهذا الإبداع من وسائط، أو إن تشاؤون لا بد من ماركتينغ لجعل هذا الإبداع معروفا ميسرا وفي متناول الجميع.. لابد من وسائط فردية تلك التي يقوم بها ناقدون للأدب أو للفن أو من خلال الترجمة، ولابد من وسائط مؤسسية من خلال وسائل الإعلام السمعية والمرئية
|
|