|
حينما يستحيل الفكر إلى ردة بقلم: موسى أغربي (كلية الآداب-وجدة) ”خير الأرض مغاربها وأعوذ بالله من فتنة الغرب“، حديث نبوي (البيان / المعرب- الجزء الأول، الدار العربية للكتاب 1983) لا أوظف دلالة الردة في هذا السياق في معناها التاريخي/ الديني: النكوص والارتداد إلى الوراء بما يناقض كل القيم التي استقرت بفعل الإجماع الذي هيأته ظروف تاريخية. ولكني أقصد ما وراءها إلى اختبار جملة من المفاهيم التي دأب المثقفون العروبيون منهم على وجه الخصوص على توليدها مثل النهضة والإحياء الأنوار والصحوة والديموقراطية. هذه المفاهيم المستوردة من عالم الأنوار حقا والنهضة حقا إلى بيئة مصنوعة وفق رغبات المثقفين والسياسيين، هذه البيئة الثابتة مكانيا ورمانيا تلفظ كل نسمات البريق الحضاري الذي يمكن أن يتسلل من وراء الفجوات والثغرات في غفلة من البداوة المتأصلة التي تحن إلى كل رموز إبادة الغير ممن يجاورنا مكانا و"يختلف" عنا ثقافة وتقاليد ولغة... وهذا يدل على أن النهضة في جنوب المتوسط ليست إلا نبتة هشة لم يفلح دعاتها من أمثال طه حسين وسلامة موسى وعلي عبد الرزاق وفرح أنطوان وشلبي شميل وخليل سعادة وأديب إسحاق… في تثبيت جذورها وتحصينها من غلواء العوارض وحربائية المثقفين والسياسيين وتأرجحهم بين القيم المتناقضة. وعليه فإن الردة لا تعني في سياقنا الحضاري التحول عن الشيء أو الرجوع عنه وهو هنا قيم إرهاصات الحداثة من مثل الخروج من عصر البداوة إلى الصناعة ومن المرحلة القبلية إلى السياسة بالمعنى الإغريقي للكلمة، ومن الطائفية إلى الوطنية…إلخ، بل تعني استرداد الهمجية ورموزها المادية وذبح الإنسان من الوريد إلى الوريد وتهشيم رؤوس الأبرياء وهم يغطون في نومهم العميق بالسواطير والفؤوس والسيوف وتفجير الأماكن العمومية بمن فيها المسلمون واليهود والنصارى. ولقد حاولت البحث لدى البدائيين علني أجد من خلال أنتروبولوجية لغوية رموز القتل من خلال هذه الأدوات البدائية، فلم أعثر على غير أفعال القتل التي أتت الديانات السماوية، وفي مقدمتها الإسلام لتحريمها وتحريم قتل النفس الإنسانية. وإذا كانت هذه الأدوات قد اتخذت في هذا الزمن المنحط رموزا لإعلان مفهوم الجهاد العبثي في صفوف المسلم وغير المسلم، فإن هذا يدفعنا إلى القول بأن هذا المهزوم الحضاري قد استبدل العقل بالجنون والعنف بالحوار ومشروع التخطيط للمستقبل على أساس التقدم العلمي والتقني للنهوض بمستوى الإنسان الجنوبي إلى مصاف الدول الراقية، استبدل بغريزة الرعب الذي تبثه صور الدمار والتخريب. بين الإسلام والقتل الغادر: ورد في معجم مقاييس اللغة لأحمد بن فارس بن زكريا، وذلك في مادة ”فتك“ ما يلي: الفاء والتاء والكاف تدل على خلاف النسك والصلاح. من ذلك الفتك وهو الغدر. يقال: فتك به: اغتاله، وفي الحديث: "الإيمان قيد الفتك". وإذا كان كثير من اللغويين قد ميزوا بين الفتك والاغتيال، فإن الشيء الذي لا خلاف فيه هو اقتران هاتين الكلمتين بمفهوم الغدر الذي يحيلنا على معادلة فكرية قلما ننتبه إليها، وهي أن هذه الوظيفة لا يمارسها إلا الضعاف من البشر في حق من هم أقوى منهم حضارة وثقافة. وإذا كانت النتيجة مأساوية فإن الضعيف الذي لا يمتشق إلا الدبوس والخنجر والقنبلة يبقى ضعيفا والقوي قويا بفكره وثقافته وحضارته، ولذلك لا نستغرب إذا وجدنا أن إرث العرب اللغوي يحوي مفاهيم تناهض مفاهيم القتل غدرا وغيلة على الرغم من أنهم كانوا يقتتلون على حجر. "فالاغتيال إذا قتله من حيث لا يعلم، والفتك إذا قتله من حيث يراه وهو غار (غافل) غير مستعد. وتدخل الحالتان في مفهوم الغدر". ولما بعث النبي (ص) وقاومه أهله، بل اضطهدوه وأصحابه وكانوا قلة عددية في المرحلة المكية، لم يركبوا موجة الانتقام أو الاغتيال أو الغدر بالسيف والساطور، لا لأن الظرف السياسي لم يكن يسمح بذلك على نحو ما ذهب إلى ذلك الكاتب العراقي هادي العلوي في مقاله الآنف الذكر، بل إن الأمر في نظري يعود إلى سببين: -أولهما: أن الجاهلية التي يزعم المشعوذون أنهم يحاربون امتدادها عن طريق الغدر والقتل العمد وبصورة سادية لم تجر على العالم الإسلامي غير الويلات والنكبات، لم تكن تعدم وجود نسق قيمي لم يرفضه المسلمون الأوائل، ومن ذلك على سبيل المثال أن الفروسية الجاهلية كانت تقضي بأن لا يواجه الفارس خصما له إلا بعد تحذيره قائلا: "خذ حذرك إني قاتلك"، وعلى هذه القاعدة الأخلاقية بنى الرسول (ص) موقفه الرافض لقتل المشركين الذين آذوه سرا (أو غيلة أو غدرا) فقال عليه السلام: "الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن"، فنزلت الآية القرآنية الكريمة لتؤكد هذا الرفض [إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور]. وفي السياق ذاته يمكن أيضا إدراك مغزى رفض مسلم بن عقيل اغتيال "عبيد الله بن زياد" على الرغم من التنكيل الذي لاقاه أهل البيت من لدن ساسة الدولة الأموية. -ثانيهما: أن الإسلام كان ذا مشروع حضاري لا يمكن أن يتحقق على يد عصابة إجرامية تشرع القتل وفق رغباتها المحبطة. ثم إن الرسول عليه السلام بدأ بتؤدة ينذر عشيرته (لنلاحظ هذا التعبير الدال على انتفاء صفة الشرك أو الكفر !!) الأقربين وبالحسنى. ولما تمكن الإسلام من القلوب وفتحت مكة لم يقتص من أعداء الأمس ولم يعدم أبا سفيان أو عبيد الله بن سلول أو غيرهما. نعم إن الأحداث من بعد الرسول اتخذت منحى احترابيا فحارب الصحابي الصحابي والمسلم المسلم، ولكن لم يصل الأمر حد تكفير الأمة الإسلامية، وتجنيد عصابة عمياء لا ترى غير دم الأبرياء مسفوكا ولا تتقن غير حرفة التدمير: تدمير الإنسان وتدمير مصادر قوته وقوته من مصانع ومعامل ومدارس ومؤسسات إعلامية، وقتل المثقفين والكتاب والصحافيين وكل ما يمت بصلة إلى رموز الانتقال من عصر البداوة إلى عصر الحداثة أو لنقل بداية تلمس طريقها. لا أعتقد أن هذه العقلية التدميرية قادرة على قراءة الوقائع من حولها حتى تلك القريبة من أرنبة أنفها لتستخلص العبرة أو النتيجة – وتطرح السؤال المخجل: ماذا قدم رمز الخلفية التدميرية لأمته الإسلامية بعد طرد السوفيات "الملحدين" من أفغانستان، الذي شاركته فيه جحافل العرب الأفغان ومصادر التموين البترودولار، أو بعد 11 سبتمبر، وبعد كل هذه المذابح التي ترتكب في حق الإنسانية؟ إن كل ما أعرفه ويعرفه كثير من البسطاء غيري أن هذا العصر الذي نحيا فيه تهيمن عليه قوة عظمى تنتج نصف ما ينتجه العالم برمته في مجال التكنولوجيا، وأضع نقطة الوقوف هنا ولا أسترسل في ذكر الأرقام التي تبين الفارق بين عالم يتطور بسرعة البرق، وبين دول تحبو مثل السلحفاة لندرك ما أدركه الغرب منذ أزيد من خمسة قرون، هذا الفارق المهول لا يمكن تخطيه بالتمائم التي تصدر من "طورا بورا" وأنفاق الجبال لتحول المسار التاريخي في اتجاه معكوس عنوانه وهدفه هو خوض صراع في مساحة ضيقة لا تلتف إلا حول إعتاق هؤلاء الذين يتقنون حساب الخسارة لا حساب الربح، ونفي الوجود لا إثبات الوجود، والتخريب لا البناء. وإذا كان يوم 16 مايو أليما بكل المقاييس وأيقظ كثيرا من الأقلام الأكاديمية لتناول ظاهرة غريبة لم تألفها، فإن ما يجب أن نواجه به أنفسنا كمثقفين ـ أو إن شئت أيها القارئ الكريم ـ كمواطنين عاديين هو كالآتي: هل نبسنا ببنت شفة ونحن نرى طالبا يخرج من قاعة الدرس ويحاكم من لدن أنصاف أميين ومشعوذين ويعدم بكل بساطة؟ ومن بعد ذلك تبين أن الظاهرة تكبر وتكبر فتحتل الساحات الجامعية التي أصبحت فضاء تجاريا محتلا تباع فيه الأشرطة المحرضة على العنف وكتب لا علاقة لها لا بالبحث ولا بالحوار. بل أن أي أستاذ جامعي كان يتوقع، وهو يجر خطاه إلى مدرج المحاضرات ليلقي محاضرته، أن هذا المدرج قد احتل من لدن جماعة لا يدري أهم طلبة أم من فئة الباعة المتجولين بدعوى أن محاضرا قادما من خارج الجامعة ليهذي في أمور الأمة وأحوال الأمة وكيف كانت الأمة وكيف أصبحت الأمة!! بل إن الأمر وصل إلى حد إيقاف الأستاذ أثناء الحصة وإخراجه من لدن "طلبة متخصصين في تنظيم المهرجانات الفلكلورية على حساب البحث والتحصيل. فلم أصادف يوما ما أستاذا محتجا، وتساءلت: لماذا هذا الصمت: أهو الجبن وما ينجر عنه من الممالأة والنفاق، أم أنه تعبير عن موقف التسامح واعتبار الفضاء الجامعي فضاء للحوار؟ ولكن كيف يتعايش الحوار وحضور فئة متغولة لا تعرف لا الملكة النقدية ولا هم يحزنون، إنها بالعكس أوتيت ملكة الاستظهار التي صارت بضاعة رائجة بين فئات من الخريجين الجامعيين منذ أن تعربت الفلسفة واضطر الخطيب إلى تسليم مفاتيح معهد العلوم الاجتماعية ! دروس من الماضي البعيد والماضي القريب: لا أكتم سرا إذا قلت إن كثيرا من الجماعات التي تنسب نفسها إلى السلف الصالح أوسع من ذاكرتي، إذ لا أستطيع أن أحفظ عن ظهر قلب أكثر من ثلاثة، وكذلك الشأن بالنسبة لهذه الكلمة الذكورية أبو… الأميري، وما الجدوى من حفظها. ومن رحمة اللغة العربية أنها كفتنا مؤونة تسمية كل فرد ينتمي إلى قطيع على سبيل التخصيص، وذلك بأن أطلقت اسما عاما على النوع فيستغرق كل ما ينضوي تحت هذا الأخير مثل النمل والذباب والجراد. وهذا ما سهل على العلماء عملية تصنيف المخلوقات وتحليلها، سواء أكانت تنتمي إلى صنف البهائم والزواحف أو إلى الجنس الآدمي. ثم إن هذه الجماعات إذا كانت تصدر عن كائن مجرد وهو السلف الصالح بالمفرد والجمع في سلوكها، فما الداعي إلى تكثير ما هو تفريد وتضخيم الأسامي لمسمى واحد. فلربما يسعفنا تحليل فرويد في فهم هذه الظاهرة، فالأب الذي يستأثر بالأم ويخصي من هو من لحمه ودمه واحد في كل زمان ومكان. نعم قد يكون هذا الأب قتيلا بصورة مصغرة كما صاغها دوستوفسكي في رائعته "الإخوة كارامازوف"، أو بصورة عيانية كما هو الشأن بالنسبة للشخصية التي صاغها سوفوكليس الإغريقي. ولكن هذا الابن لا يختلف عن أبيه في الغاية والمشروع: القتل من أجل الاستئثار بالنساء ومتاع الدنيا وترك الفتات لمن هم تحت إمرته، لذلك فإن الأب + الأمير ليس لغوا لغويا. حينما تكون العلاقة على هذه الصورة من المرتبية المريضة يتحول أمير جماعة إلى آمر ويصبح المؤتمرون بأمره تحت درجة المريد بالمعنى الصوفي ليتقمصوا دور كائنات غريزية تتحرك بدافع عدواني لا تميز بين الأمر الديني الحق وأمر الدراويش والأميين وأنصافهم. وقد لا نستغرب ردود الفعل هذه من الطرفين معا: الآمر والمأمور فكلاهما في الجهل فرسان، يكفرون نصا روائيا، عفوا إنسانا يكتب الرواية دون أن تكون لهم القدرة على فراءتها وفهمها، يحدث هذا في زمن العولمة"، وأرطال من شبابنا ضائعون بين عالمين: عالم الفضائيات الشرقية خاصة التي تزرع ثقافة السوق الاستهلاكية التي تعتمد البهرجة والإثارة التي تغذي ملكة المشاهدة السلبية التي تقتل كل ملكة نقدية، وذلك في غياب ثقافة "مدرسية" تقرب المعيش إلى وعي التلميذ بدل هذه الثقافة التي يقذفها من دائرة اهتمامه بمجرد خروجه من المدرسة ليهرع إلى هذا الصندوق العجيب، وعالم الخزعبلات والسفاسف التي لا يعلم أسرارها إلا هؤلاء المعجبون على نحو سادي بدفع مأموريه إلى المحرقة. ومع ذلك فإنهم يزعمون أنهم يصدرون في تصوراتهم عن السلف الصالح، وهذه التلفيقية الفكرية هي التي تجعل هؤلاء القوم يكتفون بالألفاظ العامة ويتحاشون التفاصيل. فحينما يتحدثون عن السلف الصالح طورا وعن العصر الذهبي الذي مضى وتجب استعادته طورا آخر، يغرقون حتى أعناقهم في تبسيط الأمور إلى حد التفاهة الخانقة، والتمثيلية المزيفة والانتقائية التي تجعل الذات النرجيسية تقتنع ولا تقنع، وتواجه الواقع الصلب بالمنى التي تسقط دون نيل المطالب. إني لا أفهم كثرة الجماعات وهؤلاء الأمراء مع أن المرجعية واحدة؟ إني أعرف من خلال قراءتي المتواضعة أن هذا السلف نشأ في شرط تاريخي كان يؤثر فيه بقدر ما يتأثر به ولم ينشأ في عالم المثل الأفلاطونية النائية عن صخب الواقع وضجيج المصالح والرغبات الدنيوية، بمعنى أنه كان بشرا يخطئ ويصيب، فيه قبس من الروح الدينية ولكنه كان يعض بنواجذه على متاع الدنيا، قد يدافع عن فكرة ولكنه لا يجد غضاضة في الانقلاب عنها. والأمثلة التاريخية تطفح بكثير من الدلالات في هذا السياق، أي أننا لفهم هذا السلف يجب أن ننظر إليه في شرطه التاريخي الذي كان يعج بكثير من الحروب نتيجة تضارب المصالح المادية في المقام الأول. ولكي نفهمه لابد من الاعتماد على ملكة القراءة النقدية وعدم الاكتفاء فقط بخطب المنابر التي تخاطب الجانب اللاشعوري بغية إذكاء الحماس الذي لا يشحذ غير الحناجر والخناجر. فإذا حضر الحماس غاب العقل، وإذا غاب العقل سادت العقلية العدوانية التي لا نجد صورة حقيقية لها ومعبرة إلا في سفر "الرؤيا". إن الإيحاء بفكرة تقديس السلف على نحو مطلق هو الوجه الخلفي لفكرة امتلاك الحقيقة التي تدعيها الذات النرجسية المغلقة، مما يجعلها (أي هذه الذات) تبيح لنفسها حقا مزعوما في تقويم الأحداث التاريخية والبشر والحجر وفي الإفتاء بما يجوز ولا يجوز، مع العلم أن النص الديني "حمال أوجه" وكل يفسره في الاتجاه الذي يلائم أهواءه وأطماعه، أي أن اتخاذ موقف من النص الديني أو تقويم السلف لا يصدر عن ملائكة الرحمن بل عن بشر كانوا يمشون في الأسواق ويدبون على الأرض مصداقا لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)، والدب في الأرض يعني الارتباط بنوازع الحياة الدنيا وتحقق نسبية الأخلاق البشرية المعقدة التي تتنازعها قيم متناقضة، متزامنة؛ وهذا ما يفسر لنا لماذا كان عهد السلف عهدا تاريخيا لم يخل من الاقتتال والاحتراب بين أطراف كل يدعي لنفسه الحق الإلهي في الخلافة ولم يكن يعجزه أبدا اختلاق الدليل، فكانت محاولة اختزال الرؤى في رؤية واحدة واستئثار فريق دون فريق بالهيمنة الأرضية عن طريق الاقتتال هي التي دشنت بداية العهد السلفي المقدس. لذلك حينما أنظر الآن إلى هذه الجمعيات "السلفية" المبعثرة على خريطة الوطن، فإني أدرك حالا استمرارية الجينات الموروثة عن الأطراف التي كانت مسؤولة عن سفك دماء البشر ظلما وطغيانا. فهل يعلم دعاة الحقيقة المطلقة ماذا حدث في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي (ص) مباشرة؟ الجواب معروف في أمهات المصادر التاريخية المتداولة ولكننا نسكت عنه أو نؤوله تأويلا لا ينسجم وتطورات الأحداث التي ستأتي لاحقا وتباعا. إن هذا الحدث التاريخي لا يفاجئنا إذا كنا نحمل ذرة من العقلانية، فهو لا يفاجئ إلا هؤلاء الذين يتصورون أن العهد الذي أعقب وفاة الرسول (ص) صفحة بيضاء خالية من شوائب الدنيا ونوازع النفسية البشرية نكتب فيها ما نشاء ونقرأها كيفما اتفق وأوهامنا المعاصرة. وإذن ما دلالة حادث اجتماع السقيفة؟ لقد حدث الاجتماع والنبي لم يدفن بعد على أساس قبلي، إذ اجتمع الأنصار من دون استشارة إخوانهم المهاجرين أو دعوتهم للحضور للتداول في مسألة الخلافة، علما بأن مسألة الخلافة تهم المسلمين كافة لا قبيلة دون أخرى أو فريقا دون آخر. لقد أخذ كل فريق يشرع لنفسه فقط ويزعم حق الخلافة من دون الآخر الذي يجب أن يقصى ويقهر، وذلك من غير "أن تذكر آيات من القرآن الكريم أو حديث شريف". وبدا أن الخلاف يعود لا إلى "الخلاف حول الإسلام والإيمان والشريعة" بل إلى "الوضع القبلي والمنافسة القبلية والتفاخر بالأصل". لقد بويع أبو بكر وحسم الخلاف بالعنف إذ هوجم سيد الأنصار سعد بن عبادة حتى ظن أنه قتل فقال قائلهم: قتلتم سعدا. ولكن بأي ثمن حسم الخلاف وهل وضع حدا للاقتتال بين المسلمين الذي استمر حتى ملوك الطوائف و "سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس". وفي زماننا هذا – وأنعم به من زمان!!- صارت كل جماعة جماعات وإمارات معزولة عن الواقع، مدعية مرجعيتها التي يجب أن تكون حكرا عليها فقط، وهذا الموقف المغلق يبيح لها حق الإفتاء بالتكفير والتفجير، وهو لا يقارن حتى بموقف بعض الفقهاء في زمن الاستبداد السياسي. من ذلك على سبيل المثال أن الخليفة العباسي لم يكن ليجرؤ على قتل شخص يتهم بالمروق من الدين (وهذه تهمة غالبا ما تكون سياسية قبل أن تكون دينية تلصق بالمعارض أو المخالف للرأي) قبل أن يستند إلى فتوى صادرة عن عالم فقيه لا فتوى الدجالين وبائعي المسك والبخور الهندية. وهذا هو السبيل إلى سد المنافذ عن الغوغاء وأنصاف المتفقهين في الدين والطامعين في السلطة بدون مشروع سياسي. بل أنه حتى الفرق السياسية التي ظهرت في القرن التاسع وأثارت البلبلة في صفوف المسلمين واتهمت بنشر البدع والإلحاد مثل الحركة القرمطية لم تعلن الحرب على مخالفيها من المؤمنين ولم تكن تترصدهم لتشق على قلوبهم، بل أنها سنت مبدأ التساوي بين الناس، ومن أجل ذلك "لم تمنع أحدا من الصلاة" على الرغم من أن أهل البلاد في مدينة الأحساء لم يكونوا يصلون ولا يصومون وكانت دعوتها – التي يصفها بعض الكتاب المشارقة بأول جمهورية شعبية في تاريخ الإسلام ويلصقون بها أيضا صفة "الشيوعية"، ناهيك عن "الاشتراكية" – قائمة على أساس فلسفي أساسه التوحيد بين الأديان والمساواة بين البشر. تكفير الغرب وغياب المشروع الحضاري: لا أكتشف جديدا إذا قلت إن الموقف من الآخر "لخارجي"لا ينفصل بتاتا عن الوقف من الأنا "لداخلي". عبارة أخرى أقول إن نفي الآخر الذي يتم حتى الآن بطرق بدائية لا تزحزح الأشياء عن مواقفها قيد أنملة، هو نفي وتدمير للذات عن جهالة واستكبار لا يدعو إلا إلى السحرية الضحك المبكي. وقد توحي كلمة "لتكفير" التي يخبط سهمها خبط عشواء أفقيا وعموديا مادامت "شاعة" الفتاوى تسع خلق الله أجمعين من هندوس وبوذيين ووثنيين وأصحاب الديانات السماوية من مسلمين ومسيح ويهود.وذلك إن لم ينقلب السحر على الساحر فيصبح المكفر مكفرا (بفتح الفاء مع تشديدها) أثناء تصفية الحسابات وتوظيف عملية المؤامرة ولارتداد – أقول قد توحي هذه الكلمة (أي التكفير) بأن الهدف المرصود قد تم تحيينه وتعيينه ألا وهو الغرب الذي اتخذ ملجأ ومأوى للهاربين من الأنظمة الشرقية الاستبدادية لإصدار الأحكام التي لا تشجع على غير القتل والتدمير، دون محاسبة الذات لحظة واحدة أو الاعتراف بمنجزات الغرب الحديثة التي تع كل بقاع المعمور بنسب متفاوتة، لماذا؟ لأن القوم بكل بساطة غرباء عن ذواتهم وعن العالم من حولهم. فالغرب ليس غريبا، والغريب هو من لا يسهم في الإنجاز الحضاري ويخرج من التاريخ طوعا أو قسرا. ومن الطبيعي جدا بالنسبة للمنبوذ تاريخيا أن يحاول عبثا أن يأخذ الأشياء من أذنابها ويتصور صورة للذات سوية في مرآة مشروخة، وهكذا فإن الذات النرجسية تتعامى عن هذه المظاهرات التي عمت سائر البلدان الغربية لتمتد إلى أقصى الشرق البوذي منددة بكل أشكال الهيمنة. ولكن الفكر المغلق والمنغلق لا يرى ولا يسمع ولا يفهم، أو لا يرى أو يسمع أو يفهم إلا صوته وما يريده هو: إنه حوار أعمى يجري ضمن جدران الذات الحضارية بصورة مفردة وانتقائية تهيل التراب على صفات مضيئة من الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر (وهنا أنبه إلى أنني أغفلت عن قصد موقف الإسلام السمح من الحضارات الأخرى التي جعلها جزء من كيانه إذ قامت حضارته على ترجمة علوم وفنون فلسفة هذه الحضارات الإغريقية والرومانية (راجع مجلة التسامح – شتاء 2003 ، ص: 34) لأنه موضوع يستحق أكثر من وقفة لا يسمح بها المقام الآن على يد هذين السيدين العظيمين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني اللذين مارسا الحوار فعلا ومن منطلق إسلامي دون تكفير ولا تفجير مع الغرب في ظروف اتسمت بهجمة الاستعمار الغربي وبسط نفوذه على كل دول العالم الجنوبي. أو تدرون ما كتبه السيد جمال الدين الأفغاني سنة 1844؟ لقد كتب عن التعصب (وهو يعني به العصبية والانحياز والتحزب) كظاهرة محمودة "للدين والأمة" شريطة عدم الغلو فيها. نعم إن الأفغاني ينفي التعصب عن الإسلام ويلصقه بالغرب، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة كونه يحاور خارج الحد الفكري المغلق (الكفر-الإيمان) وتلك محمدة قد لا تتجلى لأعمى البصر والبصيرة لأنه بكل وضوح يقف ضد فكرة التعصب ابتداء سواء في حال نفي التعصب عن الإسلام أو إلصاقه بالغرب وإن كان من اللازم الإشارة إلى أن السيد جمال الدين الأفغاني كان يصدر في موقفه هذا عن الخلط بين التجربة التاريخية (محاكم التفتيش في إسبانيا أثناء حروب الاسترداد والحروب الموسومة بالصليبية) والدين المسيحي . كما أن الشيخ الإمام محمد عبده الذي بحثت عن تفسيره في خزانة الكلية التي أنتمي إليها فلم أجده وكان ذلك منتصف الثمانينات!!! – لم يتكبر ولم يتجبر أو يكفر أو يوعد بالنكال والثبور وهو يناقش علما من أعلام المسيحيين في الشام وهو فرح أنطوان، وذلك في بداية القرن الماضي، فهو لم ينطلق في نقاشه من منطلق الكفر والإيمان ولكنه كان يعرض مسألة أساسية وهي "كيفية تحقيق التسامح". ولو بعث هذان العلمان وشاهدا مظاهرات في القاهرة تندد بكاتب روائي وتدعو إلى إهدار دمه وذلك حتى قبل قراءة عنوان الرواية !! وسمع بفتاوي تحريم ترجمة الخبز الحافي إلى الأمازيغية ومصادرة كان وأخواتها وموسم الهجرة إلى الشمال وأولاد حارتنا واتهام الحركة الأمازيغية وجمعياتها بالتآمر و…و… لنسيا حتما تعصب الغرب التاريخي. ولشرعا في قراءة "فولتير" الذي كتب عن التسامح هذه السطور المضيئة: "وما هو التسامح، إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعا من تاج الضعف، كلنا هشون وميالون للخطأ، لذا دعونا نسامح بعضنا ونتسامح مع جنون بعضنا بشكل متبادل، وذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة، المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة". فهل يمكن أن نصدق خرافة الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب التي أوقعتنا في خرافات وهذيان الذات النرجسية التي تؤمم الإيمان لنفسها فقط وتوزع الكفر والقنابل والتدمير لمن يخالفها الرأي؟ ليس من مكر التاريخ أن يكون زعيم القاعدة "عربيا" لا أفغانيا أو إندونيسيا أو ماليزيا أو باكستانيا أو إيرانيا أو تركيا أو حتى نيجيريا، بل إن بعض التحاليل السياسية تذهب إلى أن صدمة 11 سبتمبر هي نتيجة الأزمات التي يتخبط فيها العرب (انظر مقالة الكاتب العراقي القيمة "كنعان مكية": "لنكف عن المضاربة بضحايانا" ضمن ملف "العرب: عالم في أزمة" في مجلة Courrier International رقم 620 سبتمبر 2002). ولذلك ليس من الصدفة في شيء أن يتلقف المتطرفون الدينيون هزيمة 67 فكرة ضد الأمركة Antiamercanisme من المثقفين العروبيين لائكيين كانوا أو دعاة وطنية. فماذا كانت الحصيلة بالنسبة للطرفين معا وطيلة عجز جيل كامل من الستينات حتى الثمانينات على تحقيق الحريات الديموقراطية؟ إنها بكل بساطة وفي صيغة موجزة كما يلي: فراغ حضاري مدلهم تولدت عنه فكرة "المؤامرة" وتقديم رؤية للتاريخ وظفتها الأنظمة الانقلابية والعسكرية للترويج للفكرة القائلة بأن كل الكوارث التي يعاني منها العالم العربي تسند إما للشيطان الأكبر الولايات المتحدة أو للشيطان الأصغر إسرائيل (كنعان مكية في المقالة السابقة ص: 38-39). وأمام هذا كله فإن المرء ليحار في استمرار هذه المهزلة المقرفة التي تتجلى في تصدير العرب أزماتهم المزمنة إلى دول العالم الإسلامي الذي أصيبت كثير من دوله بالكوارث نتيجة تدخل العرب والغرب معا في شؤونها الداخلية (وخير مثال على ذلك هذا البلد الإسلامي المنكوب أفغانستان). إنني لم أرد من خلال هذا التحليل ـ كما قد يتوهم العروبيون ـ الانتقاص من إثنية معنية، بل أروم كشف هذا النمط من الخطاب التعميمي الذي يتستر وراء شعارات دينية لتوسيع دائرة العنف وخلط الأوراق بطريقة سحرية لم تعد تنطلي إلا على المغفلين من شبابنا العارين من كل ملكة نقدية فينساقون بطريقة عصابية تمتزج فيها السادية والمازوشية كما يختلط الإثني بالديني بطريقة ماكرة لتوليد مشاهد مرعبة لا نجدها في عالم كافكا أو أفلام هتشكوك . المثقفون: هل يفعلون ما يقولون؟ من البديهي جدا أن يكون المثقفون في طليعة المنخرطين في توجيه الأحداث والوعي بصميم دلالاتها التاريخية. غير أن هذا الحكم قد يبدو لنا عاريا من الحقيقة إذا حصرناه في الصيغة التعميمية. ذلك بأنه ليس صحيحا أن كل المثقفين يستأهلون شرف الانتماء أو جواز المرور إلى الارتباط بقضايا الإنسان العادلة بصرف النظر عن لونه وعرقه وثقافته. فمن الناحية التاريخية انبثق المثقف العضوي من رحم الطبقة التي كان لها دور ريادي في تغيير مجرى التاريخ، ومن ذلك على سبيل المثال الطبقة البرجوازية. ولعل هذه الهالة التي نضفيها على المثقف، والمجسدة في هذه الصيغة التعميمية: النخبة – الطليعة تستمد حقيقتها من التاريخ نفسه، إذ بعد أن ظهرت البورجوازية كانت في حاجة إلى ركيزتين من أجل استمرارها كطبقة ذات مشروع حضاري مضاد للطبقة الفيودالية، وهما: الممارسة والإيديولوجيا، أي مجال الإنتاج الاقتصادي وتوسيع دائرة تبادل السلع بشكل حر، خاصة بعد أن تحول الرأسمال التجاري إلى الرأسمال الصناعي، وخلق قيم جديدة تنسجم ومتغيرات الواقع، وهذه القيم قامت على أساس فلسفي وهو "التصور الكوني للعالم"، ذلك على يد فريق من "الفلاسفة" المثقفين الذين حلوا محل رجال الإكليروس وأطلقوا على أنفسهم "محبو الحكمة" والحكمة Sagesse كما يقول سارتر هي العقل. وبصرف النظر عما إذا كان هذا التصور الجديد للعالم تزكية للطبقة البرجوازية، فإن ما يهمنا هو أن هؤلاء المثقفين وظفوا "المنهج التحليلي" الذي استفاد من علوم وتقنيات العصر، لمواجهة أساطير الطبقة الأرستقراطية. بعد هذا الاستطراد أعود إلى موقف بعض المثقفين عندنا بعد 16 مايو الأليم. وحينما أقول البعض فإني أتجنب التعميم وذلك من خلال اختبار هذا الموقف في ضوء مواقف أخرى وطنية وغيرها بحثا عن الانسجام والتماسك في الرؤى حتى لا يختلط علينا الحابل بالنابل والصادق بالممثل وصاحب المبدأ بالنفعي والانتهازي. من خلال ما قرأت من مقالات تحليلية في كثير من الصحف الوطنية، تبين لي هذا الإجماع على إدانة العنف في أي صورة ركب ونفذ، وهذا شيء يثلج الصدر ومن البديهيات أو من أضعف الإيمان، إذ أن كل القوى الحية في هذه البلاد أدانت العمل الإجرامي الذي يهدف إلى زعزعة استقرارنا والقضاء على أملنا في استكمال شروط الالتحاق بالركب الحضاري. والإدانة لا يجب أن نقف بها فقط عند 16 مايو أو 11 سبتمبر، لأنها موقف، وخاصة حينما يتعلق الأمر بموقف الطليعة-النخبة، والموقف له ما قبله وما بعده، بمعنى أن يكون منسجما فيما بينه وبين نفسه لأنه لا يرضى أحد للطليعي أن يدين موقف التطرف وقتل النفس البشرية بغير حق، وفي الوقت نفسه يتبنى نمطا خطابيا أصوليا سواء كان قوميا عروبيا أم ماركسيا أم متأسلما شعبويا، فهذه الأنماط كلها متساوية في طبيعتها الفكرية الوثوقية المطمئنة إلى "يقينياتها "المحصنة ضد كل أنواع النقد والشك. وإلا فهل يصح عقلا إدانة التطرف والعنف، والسكوت عن الموقف اليقيني الوثوقي المتزمت، فذلك من هذا وليس بينهما برزخ، لذلك فإني لا أفهم موقف مثقف يدين العنف ولكنه يمارسه رمزيا عن طريق الكتابة، كما لا أفهم أيضا هذا الصمت المشبوه تجاه مجازر نظام ديكتاتوري في الشرق تجاه شعبه عربا وعجما مسلمين ومسيحيين، ولكنه يكتب في إحدى الجرائد الوطنية وبعنوان غليظ عن سرعة سقوط النظام الشمولي!!! فهلا علم بشمولية هذا النظام الدموي قبل سقوطه؟ فأين هي مصداقية أمثال هؤلاء المثقفين وأين هم من محبي الحكمة الذين وضعوا أساس التصور الكوني للعالم. إن حال الذي يكتب عن التطرف والعنف ويدعو إلى إبادة لغة شعب كحاله حين يكتب عن العقل ولا يفكر به كما قال في حقه أحد المفكرين. إننا في حاجة إلى إعادة النظر في اقتناعاتنا الفكرية في ضوء متغيرات الواقع، وفي حاجة أيضا إلى انسجام النتائج والمقدمات والممارسة والتنظير إذا كنا فعلا نريد أن نجعل من أنفسنا جزء من مجتمعنا لا كائنات هلامية منغلقة على ذاتها وتريد مع ذلك أن تصل إلى نتيجتين مختلفتين مع أننا نتبع طريقة واحدة في تفكيرنا ومناهج تحليلنا. الأصولية والحركة الأمازيغية: حينما تطالب الحركة الأمازيغية بالتعدد اللغوي وإدماج الأمازيغية لغة وحضارة في نظامنا التعليمي، فإنها لم تكن تخرق حقائق الواقع والتاريخ أو تتوهم وحدة لغوية مفروضة تحت يافطات إشهارية متعددة تؤول جميعها إلى منطلق فكري موغل في أحاديته، والذي خلقه خطاب نمطي مشبع بروح الاستبداد. إن موقف هذه الحركة لم يواجه بنوع من الحوار الجاد مع أنه يمثل بداية تأسيس خطاب ديموقراطي يبت الصلة بالخطاب الأحادي الذي صدرته إلينا الأنظمة الفاشية في الشرق، وهي التي لم تنجز أي مشروع حضاري طيلة خمسين سنة. والأدهى من ذلك أن ترتبط نخبنا المثقفة بخطاب هذه الأنظمة وتلتمس الأعذار لها فتحول هزيمتها إلى نصر واستبدادها إلى ضرورة تقتضيها صيرورة الصراع مع العدو الخارجي الذي اتخذ مشجبا لتبرئة الذات المتورمة بأوهامها حول الوحدة والمصير المشترك. إن يوم 16 مايو لابد أن يمثل مفترق الطرق بالنسبة للنخبة المثقفة على وجه الخصوص. فإما أن تمعن في استهلاك خطابها الممجوج أو تنزل إلى أرض الواقع الذي هو "أقوى بكثير من كل الأفكار" على حد تعبير د. محمد مقلد في كتابه الآنف الذكر(ص: 37). وحتى لا تتحول منطقة شمال إفريقيا إلى مختبر التجارب للمخططات الفاشلة في الشرق، فإننا نحن المغاربة في حاجة إلى رؤيا تاريخية نقدية لوصل ما انفصل من تاريخنا الذي طالما حذرت الحركة الأمازيغية من الانسلاخ عنه أو تفصيله على نحو تلقائي وفق رؤيا ضيقة الأفق. وقد نصدق كثيرا من الأقلام التي ذهبت إلى أن تفجيرات الدار البيضاء تتخطى واقعها الإجرامي المكشوف إلى دلالة رمزية وهي ضرب التعايش ـ الذي هو من سمات المغرب العريقة ـ بين الأديان على أرض واحدة. لكن هل من شأن هذه المسلمة أن تفضي إلى إعادة النظر في كثير من المسلمات التي طمست البصائر وأعمت الكثير عن إدراك كثير من الحقائق التاريخية الناطقة بصور التسامح والتعايش التي يتميز بها المغاربة؟ هل من شأن هذا الاقتناع أن يؤدي بموظفي معاهد تنسيق التعريب والخوارج الجدد المكفرين للأمة إلى العدول عن تقزيم التاريخ المغربي واختزاله في بداية واحدة – إن صح أن للتاريخ بداية- هي حقيقة القرن الأول الهجري؟ متناسين أن ساكنة شمال إفريقيا، وذلك منذ أقدم العصور، كانوا يحيون في التواصل الثقافي بين ثقافات حوض الأبيض المتوسط، وذلك قبل قدوم جحافل العساكر الأموية التي حولت هذه البحيرة التي كان يخيم عليها السلم إلى عالمين منفصلين وإلى حضارتين ودينين. بل إنه في هذه الفترة التاريخية نفسها نجد كثيرا من الدلالات التاريخية على تسامح المغاربة الذي كان جزء من ثقافتهم الموروثة نتيجة التعايش مع حضارات أخرى يوم كانت كل أنشطتهم السياسية والاقتصادية (بل وحتى الثقافية) تتجه صوب إيطاليا وإسبانيا وبيزنطة. ولكن هذه السيرورة الحضارية توقفت في القرن السابع الميلادي حينما فقد حوض البحر الأبيض المتوسط (رحم العالم القديم) دوره الاقتصادي والسياسي بقدوم الغزاة الأمويين (.B.Lugan p 49). وكما ابتلي أمازيغ المغرب بولاة طغاة زمن هشام بن عبد الملك على وجه الخصوص، كل همهم هو النهب والسبي وسفك الدماء، لم يعلنوا ثورتهم (بل ثوراتهم) إلا بعد أن استنفذوا كل إمكانية الحوار، إذ تجشم زعماء أمازيغ عناء السفر إلى قصر الخليفة هشام لرفع تظلمهم من ولاته، ولما لم يأذن لهم بالدخول عليه قرروا كتابة هذه الرسالة (التي أتمنى أن تكون من النصوص التي تقدم إلى فلذات أكبادنا ليكتشفوا حقائق تاريخهم المستور!!!) وتوجيهها إلى هشام "أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده، فإذا أصاب نفلهم دوننا، وقال هم أحق به، فقلنا، هو أخلص لجهادنا. وإذا حاصرنا مدينة قال: تقدموا، وأخر جنده. فقلنا تقدموا، فإنه ازدياد في الجهاد، ومثلكم كفى إخوانه، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم، ثم أنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرونها عن السخال، ويطلبون الفراء الأبيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد، فقلنا: ما أيسر هذا لأمير المؤمنين، فاحتملنا ذلك وخليناهم وذلك. ثم أنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا، فقلنا لم نجد هذا في كتاب ولا سنة، نحن مسلمون… الخ". ومن المعروف أن المؤرخ الطبري مهد لهذه الرسالة بالعبارة التالية : "فمازال أهل المغرب من أسمح أهل البلدان…" وإذا ما قرأنا هذه الرسالة الخالدة في هذا الزمن الرديء فإننا نستخلص ما يلي 1 ـ إن العلاقة بين الشرق والغرب هي علاقة مرتبية Hiérarchique ينزع فيها الطرف الأول إلى الهيمنة المادية والإيديولوجية. فمن بقر بطون النعاج والسلخ إلى تصدير هذه الظواهر الشاذة إلى بلادنا والتي تتمثل في عقلية الانقلابات البعثية والناصرية وفي عقلية الدراويش والأحزمة الناسفة. 2 ـ إن هذه العلاقة طغت وعلى حساب علاقة المغرب وعموم شمال إفريقيا بجيرانه في الشمال الغربي. فإذا كانت الأولى لم تولد غير العقم الفكري والتبعية المطلقة، فإن الثانية تمخضت عن ولادة عظماء في المجال الديني والسياسي والعسكري والثقافي أسهموا في بناء حضارة البحر الأبيض المتوسط الذي كان ينعم بالسلم حتى في أوج الإمبراطورية الرومانية. 3 ـ إن هذه الرسالة التي وقعها البطل الأمازيغي ميسرة المطغري (أو المدغري؟) (الذي يوصف في كتابات المؤرخين العرب بالحقير والخفير والفقير والسقاء) وأتباعه، لخير شاهد على أسلوب حضاري قوامه الحوار واستفتاء من هو أهل لذلك ألا هو رمز إمارة المؤمنين بصرف النظر عن ولاته الطغاة الذين كانوا في متناول اليد والسيف. ومع ذلك فإن هؤلاء "البربر" تجشموا عناء السفر الطويل ليطرقوا باب الخلافة شاكين لا مهاجمين حتى استنفذوا كل ما لديهم من طاقات الصبر والتحمل. وعلاوة على هذا كله فإن هذه الرسالة عبرت عن بداية ظهور مشروعين حضاريين متضادين: ـ مشروع سلمي كان يعتمد تبادل المنافع عن طريق الهجرة في الاتجاهين. ـ مشروع عسكري أعرابي يبقر النعاج بحثا عن جلد أبيض ولا يتورع عن استحلال دماء المسلمين واغتصاب بناتهم. فليختر الدعاة الأصوليون سواء أكانوا من الذين يؤممون الدين من أجل القومية أو من الذين يؤممون القومية من أجل الدين، بين هذا المشروع أو ذاك ! 4 ـ إن ظاهرة التسامح التي وسم بها الطبري أهل المغرب ستظل مجردة لا تجد إلى عقولنا أبنائنا سبيلا ما لم نفتح صفحات تاريخنا الأمازيغي الذي يهال عليه التراب من أجل تاريخ يطفح بكثير من المغالطات والشعوذة والأساطير، إذ بهذه الوسيلة وحدها يمكن أن نجنب ذاتيتنا الحضارية أورام العقلية الاستبدادية التي تريد عن وهم تفصيل العالم وفق أفقها المسدود المعمد بالدم والعنف بدل ثقافة التسامح والحوار، والتكفير بدل التفكير. وأما بعد، فهل يستطيع بعض مثقفينا الذين بحت أصواتهم من كثرة ترديد مصطلحات الحداثة وما بعد الحداثة والطليعة والنخبة المميزة! أن تنسلخ عن أوهامها وتنخرط بجد في خطاب حداثي فعلا يصل ما انفصل من حضارة لم تعرف غير التساكن والتعايش بين ديانات وثقافات مختلفة في هذه البحيرة المتوسطية قبل أن تنفصل إلى حضارتين مختلفتين على نحو ما ذكر آنفا. )موسى أغربي، كلية الآداب-وجدة)
|
|