|
إثنوغرافية رقصة أحيدوس: أحيدوس قبيلة آيت سدارت الجبلية نموذجا (الجزء الثاني) بقلم: دمامي الحسين (ورزازات) توزيع الأدوار في صف الرجال: إن إمكانيات القائمين لرقصة "أحيدوس" متفاوتة فيما يخص القدرة على النظم الشعري، لأن الإلقاء الشعري ليس مهيأ بشكل يسبق القيام إلى المرقص. فالمجموعة التي حل دور إلقائها الشعري تجد نفسها في سياق التنافس الشعري مدفوعة للتفوق على المجموعة التي انصرفت للمشاهدة. وهذا التفوق يتم بالرد عليها شعرا، أو بلغة أكثر خشونة بهجائها. لكن الهجاء هنا مغلف في لغة شعرية لها خصائصها فيما يخص الإيقاع الموسيقي والوزن الشعري والبلاغة اللغوية. إذ على فريق الذكور الذي حان دوره ـ حسب توزيع الأدوار الذي يديره Amghar n uhidus ـ أن يواصل السجال الشعري بالبحث عن الأبيات الشعرية الملائمة التي تمحو من ذاكرة الحاضرين ما سبق قوله لجذب انتباههم وربح نقدهم. وهاته الأبيات يجب أن تكون بليغة أكثر من أبيات المجموعة التي التحقت بصفوف الجمهور، مما يتطلب الارتجال. والارتجال في عين المكان يتطلب ناظما متمرسا أو بقاموس "أحيدوس": لْعريف Leorif، أي الناظم العارف. فزعيم صف الرجال هو "لعريف"، إذ هو الذي ينظم الرد والبقية من راقصي المجموعة تساعده أو تردد معه، لأن جميع الذكور ليسوا في نفس الدرجة في امتلاك القدرة على النظم، خصوصا أمام الجمهور الذي يضم زعماء فرق Id Leorif أخرى ينصتون لاقتناص الهفوات واستلهام الرد منها.
في مركز صف الذكور يوجد "لعريف"، يحيط به الذكور الكبار الذين لهم إمكانية خفظ الأبيات الشعرية في الحين. ثم بجانب الصف يوجد الذكور الجدد الذين يتعلمون الرقص والأداء الصوتي والعزف على البندير كآلة إيقاعية وحيدة في الرقصة. ويمكن رسم صف الذكور عل الشكل التالي: فالرقم 1 يشير إلى مكان "لعريف". فيما الرقم 2 إلى الذكور المتمرسين بالرقص والإلقاء. أما رقم 3 فيشير إلى مكان الشبان الجدد الذين يتعلمون. ويمكن تفسير هاته الوضعية بما يلي: يتواجد الذكور الجدد بالهامش لأن الحركة به سهلة تسمح لهم باللحاق بصف المتمرسين المتماسكين بسهولة. بينما المتمرسون (رقم 1 و2) يوجدون في الوسط متماسكين جسديا بشكل تلقائي لا يعرقل حركتهم أو يخل بانتظام الرقصة من حيث إيقاع الحركة. لكنه يلاحظ حاليا (منذ بداية التسعينات من القرن 20) بأن الصف أصبح يتعرض للاضطراب بكثرة نظرا لعدم إجادة الرقص والقيام إلى وسط الصف رغبة في الظهور دون امتلاك مفاتيح الرقصة أو أخلاقياتها بشكل مكتمل. ولهاته الاختلالات علاقة بنزعة فردانية هجينة وبأزمة القيم والمنظومة التقليدية. ومما زاد الطين بلة استغلال أصحاب الفنادق والمرشدين للسياح للأعراس الخاصة وإحضار السواح لمشاهدة الرقصة، ويتم دفعهم إلى مشاركة الراقصين دون إجادة الوقوف ولا ارتداء الزي. فنتيجة أنظار المشاهدين إلى سلوك السواح ومن لا يجيد الرقصة أكثر من كلمات الناظمين التي أصبحت ذات صبغة عاطفية فجة، وتخضع لأوزان بسيطة تلائم إيقاعا بسيطا سببه غياب النفَس الشعري الطويل عند الناظمين. كما يلاحظ أن الراقصين لا يقومون دفعة واحدة وبحماس للرقصة. إذ هناك من ينتظر بداية حركة الصف، وهناك من ينسحب في وسط الرقصة. وهو ما لم يكن في السابق إذ فريق راقصي القرية يكون معروفا ولا يتخلى أي منهم وإلا تعرض للطرد فيما بعد. من الظواهر التي يمكن تسجيلها، والتي تبرز التغيرات التي لحقت الرقصة نجد غياب الرجال الكبار. ففي رقصة "أحيدوس" التقليدية بقبيلة آيت سدارت الجبلية لم يكن الأب يخجل ـ ولو في سن متقدمة من حياته ـ من القيام لمراقصة إناث القرية وفيهن زوجته أو ابنته أو أخته أو أية قريبة له، مثلما يقوم للرقص الأب بجانب أبنائه وحتى حفدته. غير أنه الآن يسجل غياب الرجال الكبار، إما لفقدان الرقصة لجاذبيتها التقليدية شكلا ومضمونا، حيث لا يتمكن المرددون المساعدون لـ"لعريف" من ترديد أبياته الشعرية، مما يفشل الرقصة. وقد تعجز الإناث بدورهن عن الترديد لعدم تمكنهن من فهم الكلمات أو لوجود عنصر يثير ضحكهن كشكر أحد الراقصين إلى درجة لا يتحكم فيها في حركات جسده. وإما لتغلغل الخطاب الأصولي حيث وصل الأمر إلى درجة قيام عدة أعراس بشكل بارد حيث تشبه وليمة عادية يتفرق الناس بعد ملء بطونهم. مثلما أن الأمن لم يعد متوفرا حيث يرشق الناس بالحجر. إن حضور الكبار، أي أرباب الأسر المكونين لجماعة القرية والقرى المجاورة، يزيد الرقصة قوة ويجعلها فضاء آخر للمنافسة الاجتماعية في جانبها الشعري. ولإنجاح العرض لم يكن منع إناث الأسرة من القيام إلى الرقصة قائما: إذ تقوم الزوجة، وقد تكون حاملا أو تحمل مولودا صغيرا (Tadverant باللغة المحلية) دون أن يضع ذلك عرض الرجل موضع شك، مما يعكس علاقة الثقة السائدة حينها. كما أن حضور أرباب الأسر يظهر أن الرقصة كانت مراقبة حيث يحترم الكل أعرافها ويسعى إلى إنجاحها. فكم من راقص يترك عمله أو يكلّف به طرفا آخر ليحضر الرقصة؛ وكم من راقص يقطع المسافات الطوال في ظروف غير ملائمة لغياب الطرق المعبدة للحضور إلى العرس. ومن يتعب لن يرغب في فشل الرقصة وإلا كان مجهوده عبارة عن خسارة لا تعوض. وتعويض المجهود هنا هو المشاركة في الرقص أو الإنشاد، خصوصا أنها فرصة للبحث عن زوجة مرتقبة أو لصلة الرحم أو اللقاء بالأصدقاء الذين تحول المهام اليومية في الحقول دون اللقاء بهم، فيكون العرس فرصة لتجديد اللقاء وتأكيد الحضور جسديا ومعنويا. وتظهر لنا قوة عشق حضور "أحيدوس" في الحكايات التي تروى عن عشاق "أحيدوس" الذين وصل بهم العشق إلى درجة سماع الأبيات الشعرية Izelan من مسافات بعيدة! فإحدى الروايات تفيد أن احد الأفراد من "دادس" الأوسط كان يضع دفّه (بنديره) على الأرض ثم يرخي أذنه على الغشاء الجلدي Abettvan للدف فيقول لأصدقائه إن حفلة "أحيدوس" توجد في القرية الفلانية فيتجهون معه إليها ويجدون ما قاله صادقا! كما أن أحد المهاجرين الذين ذهبوا إلى المجهر في الستينات مع حملة "موغا" عاد بعد سنة مفضلا رقصة "أحيدوس" على العمل في المناجم وتحت الأرض. وأحد عشاق "أحيدوس" كان بإحدى قرى آيت سدارت الجبلية، وكان عرس بإحدى قرى "إيمكون" Imgun فقال لأصدقائه إن فلانا هو الذي قام للرقصة وأخبرهم بشعره. وهاته الحكايات ـ والثانية واقعية ـ تظهر لنا وزن "أحيدوس" وموقعه في الثقافة الدادسية عموما وثقافة قبيلة آيت سدارت الجبلية على الخصوص، فهو حرُم Agwdal ومكان للإصابة باللعنة (Gar-Abrid/Amuttel). من المستويات التي يمكن مقاربة الرقصة من خلالها هو اعتبارها علامة على نظامين ثقافيين أو مرجعيتين ثقافيتين مختلفتين: مرجعية تقليدية بقسمها ونظامها، ومرجعية مغايرة ـ حتى لا نحكم عليها بالحديثة أو الهجينة ـ لها بدورها قيمها ونظرتها لرقصة وهدفها من حضورها. ويعتبر حضور أرباب الأسر في الرقصة التقليدية وغيابهم في الرقصة المضطربة أو التحريفية مؤشرا على تضاد المرجعيتين. كيف ذلك؟ يحضر الكبار في المجتمع التقليدي لأن السلطة المادية والمعنوية بيدهم. وهم الفاعلون في إنجاز بداية "أحيدوس"، فيما حضور الإناث والأطفال والشباب فهو حضور سلبي إذا انطلقنا ممن يحتكر النظم، خصوصا أن عامل السن يساعد الكبار على الإنشاد بشكل جيد والارتجال. كما أن الرقصة لا تنفصل عن بقية أدوات التنشئة الاجتماعية في الأسرة والحقل. فـ"أحيدوس" فرصة للتذكير بالثقافة المحلية وحمايتها والحيلولة دون بروز منافسة منه للشبان تجعلهم يسرقون جزءا من ثروة الكبار وأحد أوجه جاههم ألا وهو احتكار الكلمة والحكمة كعلامات من علامات الزعامة، إذ لا تنفصل الرجولة عن الكلمة المحملة بثقل أخلاقي يجعل قرين أو ند الرجل هو كلمته كعهد والتزام في وسط لا توجد فيه ضمانة مؤسساتية بيروقراطية. إن الرقصة أداة للمراقبة ووسيلة للعقاب الشفوي، لكن بأسلوب تربوي لا ينفصل فيه الفن عن الجد، كما أنها فرصة لإحياء التنافس الأسري على الجاه Tixxetret بشكل احتفالي طقوسي: فمن له الكلمة في الجماعة يجب أن يظهرها أمام العموم، ليس فقط في مجالس الكبار المحدودة الحضور، ولكن أمام الجميع. والغياب بدون عذر قد يعتبر كنتيجة لنوع العلاقة السائدة بين صاحب العرس والمتغيب، أي التوتر أو القطيعة. يعتبر "أحيدوس"، كاحتفال له طقوسه، مرآة لثقافة ومنظومة قيم الجماعة. أو ظاهرة اجتماعية كلية ـ بمعنى مارسيل موس ـ من خلاله ـ أي أحيدوس ـ يمكن قراءة الواقع القبلي، وخصوصا العقلية التقليدية والتوترات التي تعرفها القبيلة والمهام التي تأمل إنجازها. إن صورة "أحيدوس" كظاهرة كلية لا تكتمل إلا بمعرفة موقع الإناث فيها. وقبل ذلك لنفسر غياب الكبار ـ خصوصا الرجال ـ عن الرقصة لانتماء الحاضرين فيها إلى أنظمة قيمية متباينة منها القروية والمدنية، اليسارية والأصولية والانتهازية، الغربية والإسلامية، وحتى العبثية التي لا تدري أين تضع قدمها ولا تحدد اختيارها. بالإضافة إلى معطى خلخلة الصورة التقليدية لأحيدوس، يمكن فهم غياب الكبار على ضوء صراع الأجيال أو دورة الأجيال. إذ يؤدي تقدم السن بكبير الأسرة الذي أصبح جدا إلى أن يترك محله لابنه القادر على التنقل وحضور التجمعات وبذل طاقة جسدية يمتلكها جسمه، مثلما يسمح تقدم سن الأب للابن الأكبر بالقيام بالعمال نيابة عنه ويتحول الأب إلى مرشد يؤخذ برأيه لكي لا يشعر بأي تهميش حيث يرغم الابن الأكبر جميع أعضاء الأسرة على عدم مناقشة آراء الجد والجدة والانصياع لهما. علما أن ذاكرة ميراث الأسرة يمثلها الأب/الجد، مما يجعل الأسرة في حاجة لمعلوماته، كما أن علاقة الجد بأحفاده في الأسرة التقليدية تتقوى إذ يصبح ملجأهم من غضب أبنائهم. إن عامل السن يساهم في تراجع الأب المسن عن حضور رقصة "أحيدوس" كأن الرقصة محددة بسقف عمري من يتجاوزه لا يحضر ولا يشارك. فالكبر في السن علامة على اقتراب الأجل Amawed، مما يتطلب التحضير للانتقال للعالم الآخر بالتخلي عن الشبهات، ومنها ـ عند البعض ـ رقصة "أحيدوس" التي لم يحسم الجدل الفقهي المحلي في كونه حلالا أو حراما (للمقارنة انظر مقال إرنست كلنز عن زاوية إحنصالن في كتاب "الأنتروبولوجيا والتاريخ، حالة المغرب العربي"، دار طوبقال) (يتبع) |
|