| |
الريف، المخزن وموضوع
المصالحة
بقلم: تاكفاريناس (أجدير، الحسيمة)
سنحاول أن نتناول هذا الموضوع من جانبين، جانب حقوقي قانوني
وجانب تاريخي سياسي.
يجب، قبل الحديث عن أي موضوع، تحديد المفاهيم. فالمصالحة كمفهوم يجب أن تحدد تحديدا
دقيقا: مصالحة من مع من؟ حول ماذا؟ وفي أي إطار؟ ووفق أية شروط ستتم هذه المصالحة؟.
إذا كان ما يطبّل له مؤخرا من شعارات "مصالحة إنصاف"، "إنصاف مصالحة"، هنا يجب أن
نميز بين أمرين، الأمر الأول هو أن "المصالحة" التي يتم الحديث عنها اليوم تتعلق
بضحايا الاعتقال التعسفي، سنوات الجمر والرصاص. أما الأمر الثاني فهو "المصالحة" مع
أحداث الريف الدموية. إن ملف المصالحة مع الريف يختلف عن الملف الأول لكونه تعرض
لمحاولة إبادة جماعية وهي جريمة ضد الإنسانية لما تميزت به تقتيل، تهميش، إقصاء،
تهجير. وما زال إلى حد الآن يؤدي ثمن انتفاضة سنة 59/1958، لذلك فإن هذه المصالحة
يجب أن تطرح في شكل مفاوضات بين الطرفين بغية الوصول إلى صيغة نهائية ترضي الطرفين،
فمسؤولية الدولة هي حماية مواطنيها، لذلك فإن مسؤوليتها تظل أخطر من مسؤولية
الأشخاص.
إن مسؤولية الدولة تستوجب تحديد الجهة التي ستدفع هذه التعويضات داخل أجهزتها
ودواليبها، فإذا كانت الدولة هي التي ستدفع التعويضات معناه أن الذي يدفع الضرائب
هو من يستحمل عبئها مرة أخرى، وهي جريمة جديدة ترتكب في حق هذا الشعب الأبي، مما
يستلزم إقامة هيئة حقوقية جديدة لإنصاف الريف.
قبل الحديث عن أية مصالحة، وكيفما كانت، يجب كشف الحقيقة الكاملة حول الأحداث
الدامية والانتهاكات الوحشية التي انتهكت فيها أدنى قيم الإنسانية بالريف ما بعد
1956. يقول محمد حسن الوزاني في تقرير بعثه من جنيف بتاريخ 2 فبراير 1959 إلى
الأمير محمد عبد الكريم الخطابي: "... لقد تألمت أشد الألم بما علمته من رسائلهم
حول الوحشية المرتكبة ضد الأحرار في الريف من طرف القوات المضادة تحت قيادة
الفرنسيين، ويجب أن تفضح تلك الوحشية بكل تفاصيلها وفظائعها في الداخل والخارج
لأنها مجهولة لحد الآن، الصحف الفرنسية الباريزية في الأسبوع الأخير كتبت بصريح
العبارة أن حكومة الرباط استخدمت رسميا قوات الاحتلال واستنجدت بالجيش الفرنسي، وأن
الطائرات التي دمرت ما دمرته في جهة الحسيمة، كانت بقيادة الفرنسيين وتحت يدي
القصاصات التي ذكرت مما يؤكد ما ورد في رسالتهم، وا أسفاه"(1)
لقد ووجهت هذه الانتفاضة بجيش مغربي قوامه عشرون ألف جندي بالكمال والتمام ضد
مدنيين عزل(2) يطالبون بحقوقهم العادلة والمشروعة المقدمة في لائحة (18 مطلبا) إلى
القصر، إضافة إلى النيران التي أشعلتها الطائرات الفرنسية في قرى ومداشر الريف شرقا
وغربا ووسطا. نجد المعاملة(3) الوحشية لهؤلاء الجنود حيث كانوا يغتصبون النساء
والفتيات ويبقرون بطون الحوامل ويقتلون الرضع بشكل همجي ووحشي، ويضعون قنابل موقوتة
في قب جلابيب المواطنين ويأمرونهم بالتسابق ثم على بعد مائة متر أو مائتين ينفجر مع
تلك القنبلة على مشاهد مروعة تحت ضحكات وقهقهات الجنود في جو من الحقد والانتقام
وبشكل همجي.
ستبقى ذاكرة إريفين تختزل جروح ووشم هذه الأحداث الدامية الأليمة إلى الأبد.
هنا نتساءل ما هو موقع كل من ضحايا الاغتيالات والاختطافات الذين لم يظهر لهم أثر؟
والنساء والفتيات المغتصبات؟ والبطون التي بقرت؟ والأطفال والرضع وكل الأرواح
البريئة التي أزهقت؟ والأملاك التي صودرت وأحرقت؟ ما موقع كل ها من ما يسمى اليوم ب:
"إنصاف ومصالحة" و"طي صفحة الماضي" إلى ما لا نهاية من الشعارات الرنانة.
الريف وأسطورة التنمية:
إن سؤال التنمية ليس بحديث الأمس ولا اليوم، بل هو سؤال مؤجل منذ عقود مضت، ففي
يونيو من سنة 1959 جاء خطاب محمد الخامس بأجدير، الحسيمة، وعد من خلاله الأهالي
بإغاثة المنطقة والدفع باقتصادها الذي كان قد قتلته السياسة الاستقلالية العمياء،
وقد ذكر الملك محمد الخامس في خطابه هذا أن الدولة المغربية قد خصصت أموالا لا
يستهان بها لاستثمارها في الشمال المغربي، لكن الملك مات بعد سنتين من إلقاء خطابه
ومات معه الوعد، وبقيت التنمية مؤجلة كأن المسألة مسألة وقت وفقط.
بعد ذلك عقد ولي العهد مع عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد يوم 18-09-59 جلسة
عمل مع السلطات المحلية والمدنية والعسكرية في الحسيمة، لكن لا شيء من ذلك بدا على
أرض الواقع، مرورا بوكالة بنهيمة لتنمية الأقاليم الشمالية، وصولا إلى خطاب الملك
محمد السادس 25/03/2004 الذي ألقاه بمناسبة "إعمار الحسيمة" بعد زلزال 24 فبراير
2004.
هذا ما يؤكد لنا أن أسطورة التنمية قديمة وليست جديدة أو حديث اليوم. يتضح لنا هذا
أكثر من خلال المخططات الاقتصادية التي لم تستفد منها المنطقة إطلاقا، فالمخطط
الخماسي (60-64) أعطى الأولوية للقطاع الفلاحي لكن لم يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات
المنطقة الشمالية. أيضا المخطط الثلاثي (65-67) الذي اهتم بقطاع التجارة تجاهل
منطقة الشمال بشكل نهائي، ونفس الشيء ينطبق على المخطط الخماسي (68-72) الذي اهتم
بالقطاع الفلاحي والاستثمار.
وما نتج عن هذه السياسة الممنهجة تجاه منطقة الشمال هو غياب البنيات التحتية
الأساسية من المشاريع الاقتصادية والمرافق الاجتماعية والثقافية وسوء أحوال الشبكة
الطرقية مما يزيد من عزلة المنطقة ووطأة التهميش القاتل الذي تعاني منه. ففي إحدى
الزيارات التي قام بها أحد الصحافيين إلى الحسيمة في زيارة مهنية خاصة، وصف الطريق
بين كاسيطا والحسيمةبـ: "بين كاسيطا والحسيمة طريق أشبه بصراط قد يوصلك إلى الحسيمة
أو إلى الجحيم، تلك المنعرجات الخطيرة التي تشرف من خلالها على الموت بأعين مفتوحة
تقودك إلى مدينة معلقة بين الجبال... مازالت هذه الجبال الحادة المنتصبة كسيوف في
اتجاه السماء تحمل رائحة بارود المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي ووشم السنوات
الجارحة"(4)
لكن لنطمئن صحفينا هذا الذي تحمل عبء السفر إلى الحسيمة أكثر من مرة لكي يلمس جراح
المنطقة بأصبعه ويبلغها للرأي العام، نقول له اطمئن فهذه الطريق الرابطة بين كاسيطا
والحسيمة بعد أن سقطت إحدى القناطر تم تغييرها بقنطرة عسكرية عجيبة منذ الفيضان
الذي ضرب المنطقة سنة 2003 إلى يومنا هذا، الشيء الذي زاد من جمالية الطريق.
أيضا نجد عدم استثمار القطاع السياحي بالمنطقة رغم توفر المنطقة على مؤهلات طبيعية،
بشرية، تاريخية، ثقافية مهمة. بل العكس من ذلك تم إغلاق المحطة السياحية كيمادو،
معمل تعليب السمك، الذي كان الأسبان قد شيدوه وكان يشغل مآت النساء، ولا زال
العاملون معتصمين أمامها إلى يومنا هذا، ومؤخرا تم إغلاق نادي البحر الأبيض المتوسط
"Club Med « لأسباب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، لقد أصبح الريف يشكل عقدة
سيكولوجية لأصحاب النفوس المريضة والعقول المتحجرة.
كما هو الشأن بالنسبة لقدم سؤال التنمية، نفس الشيء يقال عن موضوع الهجرة والتهجير،
فبعد محاولة إبادة منطقة الريف الفاشلة 59/1958 انتقلت الآلة المخزنية إلى سياسة
أخرى ألا وهي سياسة التهجير.
من ظاهرة الهجرة إلى سياسة التهجير:
إن ظاهرة الهجرة في الريف ليست وليدة اليوم بل تعود إلى القرن 19 حيث وصل عدد
المهاجرين إلى الجزائر سنة 1937 إلى حوالي 35 ألف مهاجر (5)، لكن الغريب في الأمر
أن هذه الظاهرة تحولت إلى سياسة ممنهجة، فقد بدأت سياسة التهجير في الشمال سنة 1960
بهدف القضاء على الممانعة السياسية والحركة الاحتجاجية ضد السياسة المخزنية بصفة
عامة وسوء التدبير بصفة خاصة. فلم تكن هجرة عشوائية بل كان هناك تهجير جماعي ممنهج
لسكان الشمال، هناك من يفسر هذه السياسة الهوجاء على أنها انتقام من أهل الشمال
الذين»عصوا» ملكهم في خريف 1958.
حاء في خطاب الحسن الثاني ليوم 22 يناير 1984، أي أياما بعد انتفاضة الريف الثانية
سنة 1984: «... وسكان الشمال يعرفون ولي العهد ومن الأحسن أن لا يعرفوا السحن
الثاني، في هذا الباب عليهم أن يعرفوا الحسن الثاني الذين ألفوه أما أنا فأعرف أنهم
لا يعرفونني بكيفية عامة»،إضافة إلى الأوصاف القبيحة والدنيئة التي وصف بها أهل
الشمال.
وهذا اعتراف بالمسؤولية عن أحداث 59/58. وقد نتج عن هذا «الانتقام» مزيد من الإقصاء
والتهميش والتفقير والحكرة. وتجلى ذلك أكثر خلال المعاملة المخزنية مع زلزال
الحسيمة 24 فبراير 2004، فبدء بمسرحيات الإغاثة ومرورا بقمع المسيرات والتظاهرات
ونهب المساعدات والإعانات وصولا إلى البرنامج الحكومي الأعرج للسيد جطو، حيث أنه
لحدود الساعة لازالت العائلات والأسر مشردة تعاني وتقاسي ويلات الجوع والبرد في
العراء، فمنطقة «تماسينت» لازالت لحدود الساعة صامدة مناضلة رافضة لما جاء في هذا
البرنامج الحكومي الأعرج، إضافة إلى المتابعات القضائية المشبوهة والاستفزازات
البوليسية في حق مناضلين وناشطين داخل المجتمع المدني.
مصالحة من مع من؟
إن طي أية صفحة من صفحات تاريخنا الوطني تستلزم قراءتها قراءة موضوعية عملية وبكل
أمانة تاريخية وضرورة أخلاقية، فهي حق من حقوق الشعب المغربي في كتابة تاريخية وحفظ
ذاكرته، فالتاريخ هو حق للأجيال الحالية والقادمة، لذلك فإنه قبل الحديث عن أية
مصالحة مع سكان منطقة الريف يجب أولا وقبل كل شيء اعتذار الدولة المغربية اعتذارا
رسميا لسكان المنطقة على الأحداث الدامية التي ارتكبتها في حق هذه الساكنة مع
التزامها بعدم تكراراها مرة أخرى.
أما موضوع المصالحة وطي صفحة الماضي فيجب أن يتم وفق شروط معينة وفي إطار مصالحة
عامة للدولة المغربية مع ذاتها وتاريخها والاعتراف بأخطائها من أجل الماضي، وإيجاد
الحلول المناسبة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتخبط فيها المنطقة.
إذ يجب على الدولة المغربية فك العزلة عن المنطقة وإنجاز تنمية اقتصادية شاملة من
جميع النواحي، وإطلاق سراح التاريخ الوطني من إعادة الاعتبار للحرب التحريرية التي
قادها المجاهد البطل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وقبله الشريف محمد أمزيان
وأيضا جيش التحرير، وكشف الحقيقة الكاملة عن مصير المختطفين وعلى رأسهم المناضل
البطل»حدو أوقشيش» وعن المجازر التي ارتكبت في حق الوطنيين الحقيقيين والمجاهدين من
اعتقالات واغتيالات وعلى رأسها اغتيال الزعيم الشهيد «عباس لمساعدي» الذي اغتالته
أيادي الغدر والظلم، أذناب الاستعمار وعباد المناصب من خونة «اكس ليبان» حيث كانوا
يحشرون المجاهدين في مقابر جماعية وهم أحياء (أنظر رسالة الأمير الخطابي إلى عبد
الله ابراهيم حول هذا الموضوع).
بعدما كان منزل الأمير عبد الكريم الخطابي في فترة العشرينات وقبلها قبلة للعالم
يزوره الزعماء والصحافيون الدوليون وكان بمثابة مدرسة للوطنية الحقيقية، لا الوطنية
الكلامية، أصبح بعد سنة 1956 مركزا لتعذيب المجاهدين والوطنيين من طرف زعماء الحزب
الفاشي الغاشم، فياله من مكر للتاريخ. أيضا يجب إعادة الاعتبار للقضية الأمازيغية
في كل تجلياتها، وإعادة رفات الشهيد «مولاي محند»، وذلك وفق شروط تليق بمقامه ووزن
تاريخه الوطني والعالمي إلى مسقط رأسه بأجدير مع تشييد مجمع ثقافي حضاري يفك العزلة
الثقافية والتاريخية على المنطقة.
وأخيرا لا يمكننا الحديث عن أية مصالحة خارج هذا الإطار العام للمصالحة، وإننا نرفض
رفضا تاما التعويض المادي للأسر المتضررة من جراء تلك الأحداث الشنيعة لأن هذه
السياسة شملت أبناء المنطقة منذ 1956 إلى يومنا هذا، وكل محاولة خارج هذا الإطار
تبقى من قبيل ذر الرماد في الأعين، ونقول إن ضوء الشمس لا يحجب بالغربال.
(من أجدير الحزين، تاكفاريناس، في 11-03-05)
هوامش:
(1)-د.زكي مبارك: محمد الخامس وابن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب:
تقرير محمد الوزاني الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال من جنيف بتاريخ 2 فبراير
1959 إلى الأمير الخطابي حول الأوضاع السياسية بالمغرب ص 42
(2)- خريف الغضب بالريف المنسي «جريدة الصحيفة العدد 47 .4/10 يناير 2002
(3)-الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال، مصطفى أعرب ص:107-108
(4)-شهادة لأحد الصحافيين أثناء وسيارته المهنية لمدينة الحسيمة، جريدة الصحيفة
16-22 يوايوز 1999.
(5)-الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال، مصطفى أعراب ص:177
|