| |
الدفاع عن الأمازيغية بين
الحق والواجب
بقلم: ميمون أمسبريذ (بلجيكا)
درج مناضلو الحركة الثقافية الأمازيغية على تناول القضية
الأمازيغية من المنظور الحقوقي. وهم، إذ يفعلون، يسجلون حركتهم ضمن الفلسفة الكونية
لحقوق الإنسان والمواطن ـ هذه الفلسفة التي تغذي فكر وفعل الحركات المطلبية عبر
العالم، وتوجه نضالها من أجل الحرية والكرامة والانعتاق من سائر أصناف الحجر
والاحتقار والتعسف المادي والرمزي. لقد أبانت هذه الفلسفة عن طاقتها التعبوية في
غير موضع من العالم، مبلورة مشاعر الإقصاء والكبت الكامنة لدى المجموعات القومية
والاجتماعية المضطهدة في خطاب عقلاني، أنسانوي قوي، لم يعد في مقدور أحد تجاهله إلا
أن يحكم علي نفسه بالنكوص عن ركب الإنسانية المتحضرة.
على أني أتوخى، في الأسطر اللاحقة، أن أزحزح منظور المقاربة للقضية الأمازيغية،
لأتحول به من جهة الحق إلى جهة الواجب. وسأفعل بعد أن أذكر بموجبات الأمازيغية من
حيث هي حق.
الأمازيغية حق من حقوق الإنسان والمواطن
تعد اللغة واسطة التعبير والاتصال الأساس لدى البشر، ويقاس مدى نجاع وفعالية هذين
النشاطين الرئيسين بدرجة امتلاك وإتقان المتكلم اللغة المستعملة فيهما، ومن نافل
القول إن لغة الأم هي اللغة التي يتقنها المتكلم المتوسط بل والموهوب في اللغات
أيضا. فهي أول ما يستقر في عقل المتكلم؛ بل إن لغة الأم هي التي تبنين المدارات
اللغوية للدماغ وهو قيد التشكل والتكوين في أطواره الأولى، كما تفيد الدراسات.
وللغة، عدا البعد التعبيري- التواصلي المذكور، بعد نفس-اجتماعي جوهري. بيانه أن
الصورة التي للمتكلم عن نفسه تتأثر إيجابا وسلبا بالوضع الاعتباري للغته في سوق
القيم الغوية التي تحدد مكانة كل واحدة من اللغات التي تشكل الفضاء المتعدد لغويا.
هذا، دون الحديث عن العلاقة العاطفية الوطيدة بين الإنسان ولغته.
لقد حكمت السياسة اللغوية للدولة المغربية علي أجيال من المغاربة الناطقين
بالأمازيغية بالحجر والدونية اللغوية والثقافية، ومن ثمة بالتهميش الاقتصادي
والاجتماعي، وأخيرا بالإقصاء السياسي. لقد أوكل إلى المغاربة الناطقين بالأمازيغية
دور المجسدين في أفلام الإنتاج الكبير ـ حضور كمي غير متمايز، قد يهمهم أو يصرخ
جماعيا لكنه لا يتناول الكلمة ليصير ذاتا أبدا. إن دولة تحتقر مواطنيها الذين هم
قوامها لهي المفارقة بعينها. إن المغاربة الناطقين بالأمازيغية أميون إلى أن يثبتوا
براءتهم من الأمازيغية. ولن تكلمهم دولتهم حتى يعيدوا تسمية الأشياء بغير الأسماء
التي سموها بها منذ أبد الآبدين، هكذا تراها نبذر مال المغاربة، وهو قليل أصلا،
فيما تسميه محو الأمية. تحشر نساء ورجالا مسنين، معمرين، في حجرات بالمساجد،
بأيديهم لوحات سوداء إذا رفعوها قرأت فيها /أب/، /أم/، /باب/، /بقرة/... يعلمونهم
الأسماء. وكأن الأمازيغيات والأمازبغيين لم ينادوا من قبل أما ولا أبا ولم يسموا "بقرة"
ولا "بابا"¡ يفعلون ذلك بأموال المغاربة بدلا من أن ينفقوها على تشغيل وإسكان وعلاج
المغاربة المحتاجين إلى الشغل والسكن والعلاج، وهم قطعا الأغلبية. إن هدف الدولة
ليس هو التواصل مع السكان من أجل إشراكهم في التنمية، وإنما ترسيخ عقدة الدونية
اللغوية عندهم، تمهيدا لتعريب ألسنتهم وسلخهم عن هويتهم. أكتب هذا وأنا أستحضر
السياسة اللغوية للدولة التي أقيم بها ( بلجيكا). لن أتحدث عن ترسيمها لغات
المجموعات اللغوية التقليدية التي تكونها. فذلك أمر طبيعي في عرفهم إذ لا يتصور أن
تحرم فئة من المواطنين من استعمال لغتها الخاصة في المعاملات الرسمية. وإنما أريد
أن أشير إلى ترسيم ـ نعم ترسيم ـ الدولة البلجيكية لغة الإشارات أو لغة الصم البكم.
وهؤلاء ـ يقينا ـ لا يعدون بالملايين في بلاد مجموع ساكنتها عشرة ملايين نسمة. لكن
للمواطنة عندهم تعريفا آخر غير التعريف العرقي أو اللغوي المعمول به في بلادنا.
إن الناطق بالأمازيغية غالبا ما يستنكف عن إتيان الإدارات والمصالح العمومية ولو
كلفه ذلك أن يتخلى عن حاجاته ومنافعه. وإلا فإنه يتخذ الشفعاء ويتوسل بالوسطاء ممن
أنعم الله عليهم بشيء من لغة المخزن. يؤدي لهم الإتاوات لينوبوا عنه في قضاء مآربه
و يجنبوه أن يقف ذلك الموقف الحرج الذي يظهر فيه الأمازيغي، وهو الكيس الفطن في
الغالب، غبيا مترددا، ملجلج اللسان وهو الفصيح في لغته، عرضة لسخرية الموظفين. لا
يدري ماذا يقدم ولا ماذا يؤخر. ذلك موقفه في الإدارات، وفي المحاكم والمستشفيات.
والناطق بالأمازيغية، إلى ذلك، محروم من حقه في الإعلام؛ ومن حقه في استعمال
الوسائط السمعية ـ البصرية في عرض قضاياه وتبليغ مطالبه إلى الحاكمين والمسؤولين
على إدارة شؤونه، وهو الذي يمولها بضرائبه. لقد أفتى خريجو كليات الأدب العربي
الناصرية والبعثية بعروبة المغرب، فما على المغربي الناطق بالأمازيغية إلا أن يتخذ
له ترجمانا كالأجنبي يحل ببلد يجهل لغة أهله.
ثم إن الوسائط السمعيةـ البصرية، في عصرنا هذا، صارت المرآة التي تنعكس عليها صورة
المجتمعات، والمعرض الذي يعرض فيه إنتاجها الثقافي، لغويا وغير لغوي. هذا ما عليه
الأمر في المجتمعات العادية طبعا، أما في بلادنا فقد ارتأى حاكمونا أن الأمازيغيين
ليسوا أهلا للظهور في هذه الوسائط؛ فغيبوا منها إلا قليلا، ليحضر، على مدار الساعة،
من هم أفصح وأعلم وأجمل وفق معايير الفصاحة والعلم والجمال في الإيديولوجيا
العروبية المهيمنة. هذا حال المقيمين. وحال الظاعن المهاجر أدهى وأمر. فهؤلاء الذين
أخرجوا من ديارهم كرها ومزقوا كل ممزق، وأكثرهم أمازيغي اللسان، يحرمون من صور
بلادهم و أصواتها أن يلتمسوها في هذه الفضائيات المنعوتة زورا وبهتانا بالمغربية.
وتعرض عليهم بدلا منها صور مصر والشام أناء الليل وأطراف النهار. قالت امرأة من
المهاجرين سألتها جارتها إن كانت تشاهد القنوات المغربية ـ وفي نبرتها ما فيها من
الحسرة والحنين والامتعاض ـ وهل إذا شاهدتها رأيت فيها مكان كذا وكذا؟ وذكرت اسم
بلدتها الثاوية هناك في كنف فج من فجاج جبال الريف، وبح صوتها واغرورقت عيناها
وأمسكت عن الحديث. هذا وأن القناة الأولى تخص الجالية المغربية المقيمة بالخارج
ببرنامجين أسبوعيين، أحدهما بالعربية والآخر... بالعربية. وربما رجعت في مقال لاحق
إلى هذا الموضوع ببعض توسع.
تلك بعض موجبات الدفاع عن الأمازيغية من حيث هو حق. فلننتقل الآن إلى ذكر موجبات
الدفاع عنها من حيث هو واجب.
الدفاع عن الأمازيغية واجب حضاري
هذا، ولو أن المطالبة بالحقوق سمة من سمات المواطنة، وشرط لحصول الكرامة للمواطن،
فان علينا من وجه آخر، نحن المغاربة، واجبا من عيار خاص، هو واجب إبقاء حضارتنا
والحيلولة دونها والاندثار الذي أريد لها.
إن الشعوب بحضاراتها. وما اندثار الشعوب إلا اندثار حضاراتها. إن المغاربة يوجدون
اليوم في مفترق طرق. والمسألة المطروحة علينا مسألة شكسبيرية بامتياز، أن نكون أو
لا نكون، بالمعنى الحضاري ـ لا البيولوجي ـ للكينونة، إنه الخيار الجذري الذي
تواجهه الكيانات الحضارية في المنعطفات التراجيدية من تاريخها. فماذا سنختار؟
هل نختار أن نضع نقطة النهاية لتجربة إنسانية فريدة تضرب بجذورها في غياهب الزمن
وتجسدت علامات وأشكالا وكلمات وحكايات وأشعارا وأساليب في أعمار الزمان والمكان...؟
أم نواصلها ونغنيها ونوفر لها أسباب البقاء والعطاء؟ هل نقصم سلسلة التناقل
والتوارث بعد أن اتصلت آلاف السنين، أم نمد فيها ونزيد حلقاتها حلقات؟ هل نفقد
ذاكرتنا أم نصونها ونحييها، لنحفظ بحفظها جزء من ذاكرة البشرية؟ هل نكتم الشهادة أم
نبلغها؟ هل نؤدي الأمانة أو نضيعها؟
إنها لعمري مسؤولية وأية مسؤولية، هذه الملقاة على كاهل هذا الجيل من الأمازيغيين.
هو لم يخترها لكن التاريخ انتدبه لتحملها. وأيا ما كان قراره فإنه سيكون مصيريا.
فإما بقاء حضارة و إما زوالها. وهكذا فإن جيلا واحدا قصير العمر، مهما عمر، يتحمل
وزر المسؤولية عن حضارة عمرت آلاف السنين.
إن أمر الأمازيغية أكبر بما لا يقاس من مجرد مطالب مشروعة بحقوق يمكن تلخيصها في حق
المواطنة. بل إن القضية الأمازيغية تتجاوز الأمازيغيين أنفسهم لتتسجل في إشكالية
أعم، تلزم البشرية برمتها، هو أية ايكولوجيا للحضارات تريد، أو لا تريد، الإنسانية
بناءها لحضاراتها؟ و إذ ذكرت الايكولوجيا، فلا ينبغي أن ينصرف ذهن القارئ، ولو طرفة
عين، إلى هذه المحمبات البشرية أو الحيوانية أو النباتية تقام لأجناس أو أنواع
يتهددها الانقراض. فإنما أعني بايكولوجيا الحضارات أن توفر لهذه ، ضمن مجالها
الحيوي، نفس شروط التنافس من أجل البقاء والعطاء والانتشار. وذلك ضمن تصور كوني
للديمقراطية يضمن لحملة هذه الحضارات فرصا متساوية لممارستها وتوارثها.
لكن لنرجع إلى أنفسنا ـ نحن المغاربة ـ لنسأل= هل يسوغ لنا أن نسلم بأن تمحو خمسون
سنة أو تكاد من الدعاية البعثية العروبية الفجة خمسة آلاف سنة أو تزيد من الحضارة
المتأصلة في الزمان والمكان والوجدان؟
إن عمر الدعوى العروبية في المغرب قصير. أقصر بكثير مما يعمل الانتهازيون من سماسرة
الدين على إقناع المغاربة به. ولا أعني بهؤلاء هذا الجيل من الوهابيين الذين زرعهم
محمد تقي الدين الهلالي وصحبه في أرضنا مستعينا بعائدات النفط خلال السبعينيات
الذهبية (كان هذا كل حظنا من جود الأشقاء¡). فهؤلاء كانت منطلقاتهم وغاياتهم مذهبية.
وكانوا في دعايتهم يستعملون أبناء المغاربة ولغتهم الأمازيغية في تقويض أسس الثقافة
المغربية. كما ولا أعني بهم هذا الجيل الثاني من الوهابيين أنفسهم الذين انتقلوا من
إلقاء الخطب إلى إلقاء القنابل على أهاليهم ومواطنيهم. ولكنما أعني بسماسرة الدين
هذه الفئة من البعثيين المغاربة الذين إذا خلا بعضهم إلى بعض كانوا لائيكيين أو
ملحدين أو لاأدريين أو يساريين أو غير ذلك؛ وإذا خرجوا إلى الناس في وسائل دعايتهم،
من إذاعة وتلفزيون وصحف، رأيتهم يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب، ويقرأون اللطيف من
أجل الدين يريد به دعاة الأمازيغية شرا¡ وكأن ليس هؤلاء الأمازيغيون أنفسهم هم
الذين استنبتوا هذا الدين بالمغرب استنباتا ووطنوه وبيأوه بأن أفرغوا أشكاله من
المضامين الثقافية المحلية للشعب الذي ظهر فيه وملأوها بمضامين ثقافتهم الأصيلة.
فعلوا ذلك بعد أن طردوا عمال بني أمية إلى المشرق رافضين بذلك ثقافة سياسية عمادها
الاستبداد والإفساد وعبادة الشخص والتراتبية العرقية.
إن مما يظهر العقلية الانتهازية للقوميين العرب وكونهم بدون فلسفة ولا نظرية سياسية
غير نظرية نقاء العرق، أنك تجدهم يحالفون كل نظام أو حركة تعمل لنفس الهدف التطهيري
بغض النظر عن مرجعيتهما العقائدية أو مشروعهما الاجتماعي. فعلوا ذلك مع نظام غير
المأسوف عليه صدام حسين لما وجدوه فعالا إلى درجة شيطانية في تنفيذ نظرية التطهير
العرقي على الأرض، بدء من انتهاج سياسة "الأنفال" ضد مواطنيه من الأكراد العراقيين
وانتهاء إلى اقتراف الإبادة الجماعية في حقهم باستعمال الأسلحة الكيماوية. ومن لا
يذكر تلك الوفود من المثقفين المغاربة، سني الثمانينيات والتسعينيات، تسّاقط في
قصعات حزب البعث العربي الاشتراكي كالذباب، أثناء مهرجانات المربد أو غيرها من
المحافل الدعائية التي تتقن الأنظمة الشمولية إخراجها؟. يحجون إليها طلبا للمنافع
المادية و للتزود بالإيديولوجيا الفاشية ليوطنوها في بلادنا.
وفعلوا ذلك بولائهم للناصرية ولجبهة التحرير الجزائرية حد الخيانة العظمى. ويفعلون
ذلك في الحاضر بتواطئهم الآثم مع النظام السوداني، الذي يعيث فسادا في دارفور، بعد
أن فعل مثل ذلك جنوبي السودان على مدى ربع قرن. يقصف مساكن الأهالي السود
بالطائرات، ويسلح عصابات الجانجاويد الهجن ويطلقها في الإقليم، تهلك الحرث والضرع،
وتشرد الأسر وتقتل الرجال وتجعل من الاغتصاب سلاح حرب، فيواقعون النساء والفتيات
جماعيا، أمام أعين آبائهن وأزواجهن وإخوانهن وأبنائهن، كما تروي شهادات الناجين.
وبلغ عدد القتلى من أهل دار فور المنكوبة ثلاثمائة ألفا من المدنيين العزل في ظرف
عام واحد ونصف. ناهيك عن الملايين من المهجّرين، شيوخا ونساء وأطفالا ومرضى. يخرجون
من ديارهم ويلقى بهم في القفار والمفازات، حفاة عراة عطشى، لا ملاذ لهم غير شجيرات
شوكية يلتمسون الظل عند جذوعها ولا ظل. فلو أن دولة السودان العروبية هي التي تحتل
فلسطين، مثلا، كانت أبادت شعبها أربع مرات على الأقل منذ تاريخ احتلالها. هل سمع
أحد أو قرأ أن امرأة فلسطينية واحدة هتك عرضها تحت الاحتلال؟ لقد أجمعت كل الهيئات
الإنسانية على أن دار فور تعيش أكبر كارثة إنسانية يعرفها العالم أول هذا القرن.
يقع هذا تحت سمع وبصر الأنظمة العربية ومثقفيها وصحفييها. فهل سمعنا منهم أو قرأنا
لهم استنكارا أو استهجانا؟ بل لقد هبت الجامعة العربية في دورة طارئة لنجدة الأشقاء
في النظام السوداني ـ من باب أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ـ لما ارتفعت أصوات من
العالم الحر تندد، على استحياء، بالممارسات الهمجية للنظام العنصري في هذا البلد.
وجلجل صوت المغربي محمد بنعيسى يقرأ بيان التضامن مع الحكومة السودانية الشقيقة.
أما الصحافة القومية فلم تر في الاستنكار المحتشم من لدن بعض الضمائر الحية في
العالم إلا حلقة أخرى في سلسلة المؤامرات التي لا أول لها ولا آخر تستهدف الأمة
العربية في وحدتها ومصيرها المشترك. لكن الأمر لم يقف عند استنكار الاستنكار. وإذا كانت
التجمعات الإقليمية والهيئات الدولية التي تحترم نفسها تعاقب العضو من أعضائها يخرق
ميثاق حقوق الإنسان أو يتنكب عن الديمقراطية؛ فتعلق عضويته أو تطرده طردا؛ فإن
مؤتمر القمة العربية الأخير بالجزائر كافأ النظام النازي في السودان بأن أوكل إليه
أمر استضافة المؤتمر القادم. ومن سبيل الشيء بالشيء يذكر، فإن نفس القمة أوصت
بإنشاء برلمان عربي مقره الدائم ـ كيف لا؟ ـ سوريا. (وليذهب اللبنانيون إلى الجحيم)
سمعت حسن الترابي زعيم الجبهة الإسلامية السودانية على قناة الجزيرة، يرد على علي
حرب إذ يجادله في حصيلة حكمه قبل أن يطرده الجنرال عمر البشير ويستفرد بالحكم، أن
على رأس منجزات عهده تعريب غربي السودان.
وإذا كنت عرجت على محن هذين الشعبين الشهيدين على يد دعاة القومية العربية على
اختلاف تلاوينهم، فذلك لأبين بالوقائع العينية أين يمكن أن يصل التعصب العرقي
وإرادة الهيمنة بحملة هذه الإيديولوجيا الفاشية. إن صراع الأمازيغية هو مع هذه
الإيديولوجيا على وجه التحديد.
لقد أوتيت في ظل دولة الاستقلال من أسباب العمل والانتشار والتغلغل ما مكنها من أن
تصير نوعا من الطبيعة الثانية لكثير من المغاربة. فهي شبكة قراءة العالم عندهم.
وبما أنهم يفكرون بها، فإنهم لا يستطيعون تفكيرها. بها يفكرون الوطنية والمواطنة
والعلاقة بالآخر. وهي التي تحكم تصورهم للزمن التاريخي وللمجال الجغرافي (تناولت
هذا في مقال لي بأحد أعداد هذه الجريدة، عنوانه" المغرب والمعنى"، فليرجع إليه).
إنك قد لا تجد بالمغرب من المثقفين العروبيين من يقول لك إنه بعثي؛ ومع ذلك فإنهم
يصدرون عن هذه الإيديولوجيا ويتكلمون بخطابها ويستعيرون بلاغتها. يكفي للتحقق من
زعمنا، الاستماع إلى نشرة واحدة من نشرات أخبار القنوات المغربية، بإذاعييها
ومدعوّيها... إنك لا تجد "إعلاما" عربيا ـ حتى السوري منه ـ يضاهي أو يقترب من
إعلامنا في استعمال مادة / ع .ر.ب/ ومشتقاتها. فكل ما يمتد إليه لسان إعلاميينا
يصير عربيا بالمفعول السحري لبلاغة التكرار.
ومن ثمة فإن دور الحركة الثقافية الأمازيغية هو مساعدة هذه الفئة من المغاربة على
القيام بتحليلهم النفسي توطئة للشفاء من هذه العلة الخبيثة. وبتعبير آخر، إن رسالة
هذه الحركة هي أن تمد العقل المغربي بالأدوات الفكرية والثقافية التي ستمكنه من
إجراء عملية إزالة البعثنة. قال محمد سبيلا ـ وهو ليس من عتاة المناضلين
الأمازيغيين كما لا يخفى ـ قال = لقد أعاق الفكر القومي تبلور فكر فلسفي حق
ببلادنا.
ومرة أخرى فإن الأمر لا يتعلق بمجرد صراع سياسي عادي تتواجه فيه قوتان سياسيتان من
أجل الظفر بالسلطة؛ وإنما بنضال حضارة من أجل البقاء ضدا على مشروع يجعل من إبادتها
التدريجية غاية وأفقا. إن الواقعة الحضارية الأمازيغية تواجه عدوا من طينة خاصة.
يتعلق الأمر بعقلية عتيقة لم ينفذ إليها شيء من قيم العصر. عقلية منغلقة على
مطلقاتها؛ يدفعها الرعب إلى العدوانية؛ ترى في وجود الآخر خطرا على وجودها، لا فرصة
للتعارف والتبادل والتساكن. يتجلى ذلك في حساسيتها المرضية إزاء كل ما هو مختلف.
فلا يهدأ لها بال إلى أن تصفيه أو تختزله إلى أقل تعبيراته. ذلك شأنها مع الشعوب
الأصلية كما رأينا؛ وذلك شأنها مع الأقليات أيا كانت.
إن الحركة الأمازيغية حركة حضارية ـ ولا يتعلق الأمر هنا بأية رغبة في المزايدة في
بلاغة المبالغة التي غذينا منها حتى بشمنا. إن حركة تناضل من أجل بقاء حضارة، لهي
حركة حضارية من باب التبعية. ولنعلم ـ نحن الأمازيغ ـ أننا بصدد واحدة من هذه
اللحظات المفصلية، التي تعرفها الكرونولوجيات الكبرى للحضارات. والتي يندغم فيها
الأسطوري والتاريخي في طفرة تتولد عنها حضارة أو تتجدد. فلا نستصغر ما نحن فيه. ولا
يساورنا الشك في أنفسنا، غير هذا الشك الصحي الذي ينبغي أن يلازم كل فعل إنساني ذي
شأن، ليجنبه الشطط والغلو وإغراءات المطلقية. لننخرط في هذا الورش الحضاري بالحماس
الملحمي لأزمنة التكوين. ولنطلق الطلاق البائن روح التعاسة الفكرية التي غرست فينا.
ولنسترجع النفس الملحمي المحايث للأعمال الكبرى. فإن التاريخ لم ينته؛ وإن
الإنسانية الحية لما تزل توالي الفتوحات في كل مجال= في العلوم والتكنولوجيا، وفي
الآداب والفلسفة والفنون؛ في اتجاه معرفة أفضل للكون والحياة والإنسان وحكامة تكرّم
المواطنين وتجعلهم غاية في أنفسهم لا مجرد وسائل أو أدوات مسخرة لأبنية إيديولوجية
متعالية.
قد يقال إن هذا الكلام قد مضى أوانه الآن؛ وأن الأمازيغية تحظى الآن بحقها من
العناية وزيادة؛ وأن الأمازيغيين صاروا الآن مواطنين، لا مجرد مقيمين. لوددت لو أن
الأمر كذلك. لكن هيهات. إن التعامل الرسمي وشبه-الرسمي مع القضية الأمازيغية لا
يزال يكتنفه الغموض (من جهة المتلقي طبعا¡)، ويتسم بالمناسباتية والحربائية. وليس
له من غاية، على ما يبدو، غير تمييع القضية والتشويش على أصحابها وتضليل عامة
الأمازيغيين. فيجري الحديث على ألسنة النخبة الفرنكوفونية، عن مغرب متعدد الثقافات،
شأنه شأن الموانئ والمطارات، لا فرق، أي فضاء، في آخر التحليل، بدون ثقافة، اللهم
إلا هذه الشذرات من ثقافات لا تحصى يحملها رواد المكان من العابرين وأبناء السبيل.
وتسمع هؤلاء الذين فرضت عليهم الواقعة الأمازيغية، وقلوبهم لدى الحناجر، يخترعون
للمغرب هويات وحضارات وثقافات شتى؛ فعربية وبربرية ـ اللفظ لهم ـ وأندلسية وحسانية
وأفريقية (يبدو أن الهوية الأفريقية ستنتعش بدم جديد يضخه فيها هؤلاء البؤساء
الأفارقة الذين يعبرون المغرب إلى الأندلس هذه السنين¡). لا يخفى على أحد أن هذه
المضاربة في بورصة الهويات إنما يراد بها إنتاج تضخم هويتي تضيع معه قيمة الأسهم
الهوياتية غير المحمية لصالح سهم الهوية-الملجأ= هويتهم طبعا.
إنك تسمع خطبهم وتقرأ افتتاحياتهم ومقالاتهم ، فيعجبك قولهم، ويسرك أن يكون مواطنوك
على ذلك القدر من الحكمة والبصيرة في النظر إلى تاريخ بلادهم وحضارته وهويته. ثم
تولي وجهك شطر المجالات التي يفترض أن ينعكس على مرآتها شيء من ذلك، فتجد أن لا
الأمازيغية حاضرة في القانون الأسمى للبلاد فيحميها؛ ولا هي مسموح بتداولها من قبل
الناطقين بها في الإدارات والمصالح العمومية؛ ولا هي تعطى حصتها التي هي أهل لها
إحصائيا في الوسائط السمعية-البصرية؛ ولا هي تدمج بتصميم وإرادة حقيقيين في جميع
أسلاك التعليم؛ ولا هي متاح لكتابتها لتسم الفضاءات العمومية حتى تنغرس في المخيل
الجمعي لعموم المواطنين،،، فأين يا ترى يتجلى الاعتراف بأمازيغية المغرب؟ هل في هذه
النشرة "الأمازيغية" التي اختير موعد بثها بحيث لا يشاهدها من المواطنين إلا من
تعطل لمرض أو عجز أو بطالة؛ والتي يقال لنا فيها بالأمازيغية إن بلادنا عربية وأننا
ننتمي إلى مغرب عربي وأن المغرب هو أول دولة عربية تفعل كذا أو تترك كذا... وإذا
احتفلت الجامعة العربية بالذكرى الستين لتأسيسها، أخرجت الحكومة المغربية طابعا
بريديا يستعير الخريطة القذافية الخضراء لوطن عربي "يمتد من الخليج الزاخر إلى
المحيط الهادر"، بعد أن استيأس صاحبها ورأى أن يجرب حظه مع أفريقيا، عسى أن ينال من
الزعامة على الأفارقة ما منعه إياه الأشقاء. هكذا يحكم على المغاربة، ليس بأن
يلبسوا لباس غيرهم فحسب، بل أن يلبسوا المستهلك منه الذي عافه أصحابه. وكعادتها في
تبني الأيديولوجيات والمذاهب بعد أن تبلى ويتخلى عنها أهلها، نجد النخبة المغربية
تتبنى الشعارات العروبية بعد أن اندحرت في مهدها وأخذت مجتمعات البلدان العربية
والمعربة في المشرق تطور وعيا وطنيا يأخذ في الحسبان خصوصياتها التاريخية والثقافية
والحضارية. وليس الدرس اللبناني منا ببعيد¡
إن ملاحظة الأسلوب الذي تباشر به الأمازيغية في وسائط البث يجعل المرء ينتهي إلى أن
المراد -رسميا- أمازيغية زخرفية، ديكورية؛ تسخر لأغراض سياحية صرف، كميزة يمتاز بها
"البلد العربي" المغرب على بلدان عربية أخرى في مضمار التنافس الشديد بين الدول
السياحية على جلب السائحين. إن المغرب الرسمي وشبه الرسمي يريد أن تكون الأمازيغية
قيمة مضافة فحسب. ومن ثمة فهو لا يقبل أية مراجعة لحد الهوية على ضوء ما يروّج له
بأنه إعادة اعتبار للأمازيغية. هكذا يحتفى بالأمازيغية كما يحتفى بـ"الجالية
اليهودية" بالمغرب بعد أن اختزلت إلى الحد الأدنى الذي لا "ضرر" منه. وجملة القول
أنهم يريدون أمازيغية عربية، لا "يخسرون" معها شيئا مما يعدونه مكسبا نهائيا لهم.
إن علينا أن نرفض منطق تطييب الخاطر هذا ولا نقبل به بأي وجه من الوجوه.
إن الأمر لا يتعلق كما أسلفت بحقوق صغيرة أو كبيرة ينالها الأمازيغيون، وإنما بواجب
مقدس نحن مطوقون به إزاء واحدة من الحضارات الإنسانية هي حضارتنا.
(ميمون أمسبريذ m_amsbrid@yahoo.fr )
|