| |
اللهجات
الأمازيغية تجمعها اللغة الأمازيغية
بقلم: أكوري محمد
اللهجات الأمازيغية وعلاقاتها باللغة
الأمازيغية باتت من بين القضايا الكبرى، بل المفتعلة في الواقع السوسيوثقافي
واللغوي المغربي المعاش في غضون السنوات أللأخيرة، لاسيما على مستوى الرؤى
والمواقف،التي ما هي في نظري إلا جملة من التحريضات على لغة الأمازيغ المغلوبين على
أمرهم، أو على المستوى المتعلق بالأبحاث والدراسات العلمية والأكاديمية القليلة جدا
بالمقارنة مع التراث اللغوي الدارجي المغربي الذي لها علاقة مباشرة بالمسألة
الأمازيغية بشكل عام، وفي علاقة هذه اللغة بلهجاتها بشكل خاص بنوع من التحليل، الذي
نتوخى منه الاستناد على المنطق اللغوي اللساني، بغية الوصول إلى اعتبار الدفاع عن
اللهجات المختلفة للأمازيغية مطلبا أساسيا بامتياز، وأدع المنطق يتكلم ليقول إنه
ليس من طبائع الإنسان أن يتمادى في ترك مجموعة من اللهجات والألسن تنقرض،بل من
المفروض الحفاظ على هذا الزخم والموروث اللغوي، لما يحمله من ثقافة وتقاليد وأدب...
عن طريق تطوير لهجات كتب لها البقاء حتى الآن وذلك من خلال مجموعة من الآليات
المعروفة جدا ضمن أدبيات الدراسة اللسانية، وإحياء اللغة الأمازيغية يعد بدون شك
مكسبا حقيقيا لكل المغاربة بدون استثناء.
إن الكثير من عامة الناس لا خواصهم، يسيرون في منحى التصور التقليدي الخاطئ،
الذي يميز بين ما يسمى باللهجة و ما يسمى باللغة، فيعتقدون جازمين في ذلك على أن
اللهجات في جميع اللغات ـ ليس فقط الأمازيغية ـ ما هي إلا أشكالا لغوية للغة الأم،
التي طرأت عليها بعض التغيرات بسبب مجموعة من العوامل، منها على سبيل المثال
الدينية والاقتصادية والسياسية والأدبية... وهذا بشكل مباشر تصور خاطئ، وما يصحح
هذا الأخير هو عكس المراد، فاللهجات أغلبها أقدم من اللغة الفصحى، لأن هذه الأخيرة
هي التي انبثقت من اللهجات، فأعطت لنا شكلا لغويا مشتركا، ويبقى الفرق فقط في
اعتبار اللهجة هي عبارة عن لغة يتكلمها عامة الناس في منطقة جغرافية محدودة،
استنادا على قواعد لغوية غير مكتوبة، بل شفوية ومضمرة في الملكات الذهنية
للمتكلمين، لأنه لو لم تكن هناك قواعد في اللهجات، وإن لم تكن مكتوبة، لاستحال
حقيقة التواصل بين أفراد العشيرة اللغوية. فمثلا حين يرسل لك المتكلم رسالة صوتية،
فإنك بشكل غير تلقائي تستقبل تلك الرسالة وتحللها داخل ملكتك اللغوية وتفهمها فهما
سريعا، لأنك فقط تعرف الوظيفة الترميزية عن طريق التأليف بين مجموعة من الأصوات
الموجودة مسبقا في الملكة اللغوية.
إذن فاللهجات الأمازيغية ليست شيئا آخر غير اللغة الأمازيغية، ونسميها فقط باللهجات
قصد الإشارة إلى أن المتحدث عنه إنما هو شكل أدائي ضمن أداء اللغة، وللإشارة أيضا
إلى أن المتحدث عنه إنما هو شكل أدائي مختلف عن أشكال أدائية أخري للغة الأمازيغية
نفسها في مناطق جغرافية مختلفة، إذ نجد اللهجة الريفية في الشمال والأمازيغية في
الوسط وتشلحيت ـ السوسية ـ في الجنوب، ويرجع مرد هذا الاختلاف اللغوي إلى اختلاف
الظروف العامة، خصوصا الطبيعية منها في الدرجة الأولى، ثم الثقافية والاجتماعية
والدينية واللغوية... في الدرجة الثانية. وهذه الظروف العامة يؤدى فيها كل شكل لغوي
على حدة، إضافة إلى تطور اللغة في مناطق واتجاهات وبدرجات مختلفة كذلك. فاللهجات
الأمازيغية إذن إنما هو مصطلح للتمييز المنهجي عند الحديث عن اللغة الأمازيغية بصفة
عامة، وأشكال أدائها الخاصة، ولا يجوز أن نتحدث بالبت والمطلق عن لغتين مختلفتين
بتسمية إحداهما لغة والثانية لهجة. ومن يشد أمره على هذا الطريق فإنه في حقيقة
الأمر يستند بطريقة غير واعية إلى معايير خارج اللغة وخارج الدرس اللساني.
ولرصد توضيح يشفي الغليل في فهم أن اللغة أصلها لهجات، لا بأس من رصد لمحة تاريخية
لبعض الأسباب المباشرة التي تؤدي إلى جعل لهجة معينة لغة رسمية ومعتمدة ينظر إليها
علي أساس أنها فصحى، والمعيار المحتذى بفضل سلطة عليا تفرضها، وتكون هذه السلطة إما
عسكرية أو سياسية. ونمثل لهذا العامل بلهجة روما حيث برزت روما سياسيا وعسكريا مما
أدى إلى جعل لهجتها لغة سائدة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، كما نجد العامل
الديني أيضا حاضرا بفعل قوة الدين، إذ نجد مثلا في ألمانيا أن الثورة السائدة دينيا
كانت بلهجة ـ هنبر ـ لأن الإنجيل ترجم بها بعد أن كان مكتوبا باللاتينية، فأصبح
الناس يطلعون على هذه الترجمة، فانتشر الكتاب المقدس المترجم، وانتشرت معه لهجة ـ
هنبر ـ فأصبحت لغة رسمية ومعتمدة في ألمانيا،كما يمكن للعامل الأدبي أن يزكي ما
نؤكده: فمثلا في ايطاليا نجد لهجة ـ فلورنسا ـ هي لهجة خاصة بين لهجات ايطاليا،
فكتب بها أدباء و شعراء بارزون مثل (دانتي، وبوكانشيو) وبدأ بذلك الناس يكتبون
اللغة بلهجة فلورنسا واعتمدت بذلك كلغة فصحى رسمية معتمدة في ايطاليا، ونفس الشيء
نراه في بلاد اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث تعددت اللهجات، فظهرت لهجة
منطقة ـ أتيكا ـ التي ينتمي إليها كل من الفيلسوف أفلاطون وأرسطو، حيث ألفا في مجال
تخصصهما بلهجتهما، فأصبحت لهذه اللهجة مكانة راقية، وبرزت بفضل العلم والأدب
والفلسفة، وأصبحت بذلك لغة مشتركة، ونفس الشيء بالنسبة للغة الروسية، كما يمكن
للعامل الاجتماعي الطبقي أن يسير في منحى العوامل السابقة، ففي فرنسا نجد فيها
لهجات متعددة، واللغة الفرنسية المعتمدة الآن ما هي إلا لهجة باريس بعد القرن
السابع عشر، وهي التي أصبحت عند المجتمع الباريسي المثال الرفيع للأدب، نظرا لحضارة
باريس التي تتميز بالرقي، ومستوى طبقي رفيع.
هذا إذن هو واقع اللغات الأجنبية التي تحتل الآن المراتب الأولى عالميا، من حيث
اللغة أولا، ثم العلم والسياسة والاقتصاد... ولا ننسى بالطبع أن واقع هذه اللغات
ما هو إلا واقع لهجات من ذي قبل في مناطق جغرافية محدودة، وما أروم إليه مما سبق
ليس إلا برهنة لبعض أولئك الذين يؤمنون إيمانا جازما أن الأمازيغية لهجة وليست لغة،
استنادا على معايير أحادية لا تستدعي النقاش والتحليل اللغوي اللساني المحض، بل فقط
ترهات ودردشات كلامية وكتابية بعيدا عما يسمى بعلم اللسانيات، الذي يبقى المرجع
الوحيد لكل من يردد أن “الأمازيغية لهجة وليست لغة” ليرى العجب العجاب.
(أكوري محمد، طالب متخصص في اللسانيات akouri_med@yahoo.fr )
|