| |
افتتاحية:
فشل "السياسة البربرية" الجديدة
بقلم: محمد بودهان
لقد سبق أن أشرنا، في مقالات سابقة حول المعهد الملكي للثقافة
الأمازيغية، إلى أن إنشاء هذه المؤسسة يدخل في إطار "السياسة البربرية الجديدة"،
دون أن نحدد ونشرح مضمون ومدلول مفهووم هذه "السياسة البربرية الجديدة".
وبما أن الأمر يتعلق بـ"سياسة بربرية جديدة"، فهذا يعني أن هناك "سياسة بربرية
قديمة"، يتوقف على فهمها فهمُ "السياسة البربرية الجديدة". فما هي "السياسة
البربرية" الأولى أو القديمة؟
السياسة البربرية القديمة: أُطلق مفهوم "السياسة البربرية"، أثناء الحماية الفرنسية
بالمغرب، على كل الإجراءات والقرارات الإدارية والقضائية والتشريعية واللغوية
والتعليمية التي اتخذتها سلطات الحماية الفرنسية، والتي تخص أساسا، كموضوع رئيسي
لها، القبائل الأمازيغية بالمناطق الخاضعة للنفوذ الفرنسي. وكأمثلة على هذه
الإجراءات والقرارات المشكلة لمفهوم "السياسة البربرية"، نذكر: تدريس الأمازيغية في
بعض المدارس بالأطلس المتوسط، إنشاء ثانوية "أزرو" ذات التوجه "الأمازيغي"، إصدار
ظهير 30 ماي 1930 المتعلق بتنظيم المحاكم العرفية ـ والذي سمته الحركة الوطنية "الظهير
البربري" ـ، تعيين مراقبين مدنيين بالمناطق الأمازيغية، الإجراءات العسكرية
والأمنية والتفاوضية التي كانت تعتمدها سياسة "التهدئة"، بما فيها استمالة أعيان
القبائل الأمازيغية بتعيينهم قوادا على قبائلهم، دون أن ننسى إصدار ترسانة من
القوانين، الموقعة من طرف السلطان، لنزع الأراضي من مالكيها الأمازيغيين ومنع
القبائل الأمازيغية من التصرف الجماعي فيها، ومحاصرة القبائل وعزل بعضها عن بعض، مع
ما نتج عن كل ذلك من تدمير للبنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للتنظيمات
القبلية.
إذا كانت هذه هي مكونات "السياسة البربرية" لعهد الحماية، فإن فهم المدلول الحقيقي
لهذه السياسة لن يكتمل، مع ذلك، إلا بفهم ومعرفة الأهداف والغايات التي كانت ترمي
إليها فرنسا من خلال اتباعها سياسة خاصة بـ"البربر"، ومختلفة عن التي كانت تطبقها
في الحواضر "العربية". فما هي أهداف وغايات "السياسة البربرية" الفرنسية؟
أهداف وغايات "السياسة البربرية" الفرنسية:رغم كثرة الإجراءات والقرارات المكونة "للسياسة
البربرية"، إلا أن "الحركة الوطنية" لخصت أهدافها ومراميها فيما سمته "الظهير
البربري"، والذي كان يهدف، حسب أكاذيبها الثابتة، إلى محاربة اللغة العربية،
والسكان العرب، والدين الإسلامي ـ وهل هناك فرق بين هذه العناصر الثلاثة عند "الحركة
الوطنية"؟ ـ، وذلك بتنصير الأمازيغيين واستعدائهم ضد العرب وإذكاء التفرقة العنصرية
بينهما. هذه هي أهداف "السياسة البربرية" حسب الأكاذيب التي روّجتها هذه الحركة،
والتي لا يزال تلامذتنا يتعلمونها في المدارس ويُسألون فيها في الامتحانات ومباريات
الشغل والتوظيف.
أما الأهداف الحقيقية "للسياسة البربرية"، كما ثبت ذلك، ليس من خلال أباطيل وأراجيف
"الحركة الوطنية"، بل من خلال النتائج العملية للتطبيق العملي لهذه "السياسة
البربرية" طيلة فترة الحماية، فهي تقوية الوجود السياسي العربي بالمغرب من خلال
توسيع هيمنة المخزن العروبي (لا يتعلق الأمر هنا بالانتماء العرقي، بل بالانتماء
الذهني والإيديولجي المشكل لنوع خاص من الثقافة السياسية) إلى كافة القبائل
الأمازيغية التي كانت، قبل الحماية، تعيش مستقلة وغير خاضعة للسلطة العربية
المركزية، التي كانت محدودة جدا ولا تتعدى في الغالب أسوار قصر السلطان. فلأول مرة
في تاريخ المغرب ستصبح القبائل الأمازيغية، بفضل "السياسة البربرية" لفرنسا، خاضعة
لسلطة مركزية عروبية واحدة، كما أن هذه السلطة ستهيمن، لأول مرة في تاريخها، بفضل
نفس "السياسة البربرية" لفرنسا، على مجموع القبائل الأمازيغية وتخضعها لنفوذها
وسلطانها. وهكذا ستكون أول دولة عروبية ـ دائما بمعنى الذهنية والثقافة السياسية
وليس الانتماء العرقي ـ ستحكم، بفضل "السياسة البربرية" لفرنسا، كل الأمازيغيين في
تاريخ المغرب هي دولة الاستقلال التي هي البنت الشرعية لفرنسا، بل هي دولة "ليوطي"
كما يسميها بعض المحللين من الحركة الأمازيغية. فكل مجهودات "السياسة البربرية"
كانت تصب في خدمة العروبة واللغة العربية وترسيخ وتعميم الهوية العربية وتقويتها من
خلال إخضاع القبائل الأمازيغية لسلطة عروبية وإنشاء دولة عروبية قوية تخلف فرنسا
بعد الاستقلال.
هذه هي الأهداف الحقيقية والعملية "للسياسة البربرية" "القديمة" لفرنسا، وليس خدمة
الأمازيغية والرفع من مكانة العنصر الأمازيغي وإضعاف العنصر العربي، كما ادعى أصحاب
"اللطيف". فـ"اهتمام" الفرنسيين باللغة الأمازيغية لم يتعدّ المستوى اللهجي والشفوي
والفلكلوري دون أي تفكير أو مشروع لتطويرها واستخدامها كلغة كتابية تستعمل في
الإدارة والوثائق الرسمية لتصبح لغة الحكم والسلطة السياسية، عكس ما تعاملت به مع
العربية التي عززت مكانتها وجعلت منها، قبل أن ينص على ذلك دستور الاستقلال، لغة
رسمية تصدر بها الظهائر والقوانين والجريدة الرسمية. في حين لم يسبق لفرنسا أن نشرت
أي ظهير أو مرسوم أو قانون أو عدد واحد من الجريدة الرسمية باللغة الأمازيغية.
لأنها لم تكن تفكر أبدا ـ مجرد التفكير ـ، من خلال "سياستها البربرية"، في ترسخ
الهوية الأمازيغية للمغرب وإقامة دولة أمازيغية، بل، على العكس من ذلك، استعملت هذه
"السياسة البربرية" لتعريب المغرب سياسيا وتعزيز مكانة اللغة العربية ودعم النفوذ
العربي وتوفير كل الظروف للقضاء نهائيا على اللغة والهوية الأمازيغيتين عند رحيلها
من المغرب بعد الاستقلال.فحتى عندما نفت محمدا الخامس ونصّبت مكانه "ملكا" آخر، لم
تختر لذلك شخصا أمازيغيا،بل "شريفا" عربيا آخر هو ابن عرفة، تأكيدا منها على حماية
واستمرار الحكم العروبي للمغرب، والإبقاء على السلطة السياسية في يد العرب ذوي
النسب العربي "الشريف"، والحفاظ، بالتالي، على الهوية العربية ـ بالمفهوم السياسي ـ
للمغرب، مهما تغير الحكام وتبدلت الأسر الحاكمة.
"السياسة البربرية الجديدة": جاءت دولة الاستقلال المخزنية كاستمرار لدولة "ليوطي"
التي وضع أسسها في بداية فترة الحماية. ولهذا فقد حافظت ـ دولة الاستقلال ـ على
النظام المخزني الذي قامت عليه سياسة الحماية الفرنسية، كما أبقت على كل القوانين
والمؤسسات السياسية الإدارية والقضائية والتعليمية التي وضعتها فرنسا. إلا فيما
يتعلق بالأمازيغية، فإن دولة الاستقلال لم تواصل "السياسة البربرية" التي كانت
تنهجها فرنسا، بل حاربتها علانية ووضعت حدا نهائيا لها. وهكذا ألغت ظهير 16 ماي
1930 وحذفت محاكم العرف الأمازيغي التي نظمها هذا الظهير، ومنعت تدريس الأمازيغية
في جميع المؤسسات التعليمية التي كانت تلقن بها أثناء الحماية الفرنسية، مع انطلاق
سياسة التعريب، المعادية لكل ما هو أمازيغي، بوتيرة جنونية وبإمكانات مادية وبشرية
هائلة.
رغم أن هذه الحرب الرسمية على الأمازيغية، التي دشنتها دولة الاستقلال، تبدو في
الظاهر متعارضة مع "السياسة البربرية" لفرنسا، إلا أنها، في عمقها وحقيقتها، نتيجة
لتلك السياسة التي هيأت كل الظروف، كما سبق أن قلت، لاندلاع هذه الحرب ضد
الأمازيغية بعد الاستقلال، خصوصا أن هذه "السياسة البربرية" هي التي أرست ورسخت
الأسس السياسية للوجود العروبي وللهوية العربية بالمغرب، وأعطت الشرعية، أكثر من أي
وقت مضى، للحكم السياسي العروبي بالمغرب، الذي أخضعت لنفوذه وسلطته كل القبائل
الأمازيغية لأول مرة في تاريخ المغرب كما سبق أن ذكرت. فأمام هذه الظروف "العربية"
الممتازة التي هيأتها فرنسا للعنصر العروبي، فإنه من الطبيعي أن يصبح كل ما قد يشوش
على ما هو "عربي"، وعلى اللغة العربية والهوية العربية والثقافة العربية والتاريخ
العربي للمغرب، مثل الأمازيغية، عدوا لدودا يعلن عليه الجهاد باسم "الوطنية" وحماية
"الأمة" المهددة في وحدتها ومقدساتها العربية. فكانت حرب الاستقلال "المقدسة" على
الأمازيغية "المدنسة".
لكن مع ظهور الحركة الأمازيغية وتصاعد خطابها المطلبي مع بداية السبعينات، أصبحت
الأمازيغية، مع ما تطرحه من مراجعة لكل المسلمات حول الهوية واللغة والثقافة
والتاريخ، قضية جدية لا يمكن التخلص منها بمجرد القول إنها من صنع "الاستعمار
الجديد"، أو هي محاولة لإحياء "الظهير البربري"، بل لا بد من التعامل معها كواقع
جدي وجديد. وهكذا بدأت السلطات تفكر في "سياسة بربرية جديدة"، على غرار "السياسة
البربرية" القديمة التي كانت تنهجها سلطات الحماية، لاحتواء المد الأمازيغي والحفاظ
على الأسس السياسية للهوية العربية بالمغرب. وقد كان خطاب الحسن الثاني في 20 غشت
1994 أول إشارة ـ رغم ما كانت له من أهداف أخرى غير موضوع الأمازيغية ـ على حضور
هاجس وضع "سياسة بربرية جديدة" لدى الحكم.
إلا أن التدشين العملي والرسمي لهذه "السياسة البربرية الجديدة" كان هو إنشاء
المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية الذي أعلن عنه في خطاب أجدير يوم 17 أكتوبر 2001
وإصدار الظهير المنظم له، مع ما حمله من وعود كثيرة وآمال كبيرة استقبلها مناضلو
الحركة الأمازيغية بحماس كثير وارتياح كبير، معتقدين، وبصدق، أن المعهد يمثل قطيعة
مع الماضي الأمازيغوفوبي وبداية حقيقية لرد حقيقي للاعتبار للأمازيغية، لغة وهوية
وثقافة وتاريخا.
ورغم أن منجزات المعهد لم تكن منذ بدايتها تبشر بخير كثير، إلا أننا كنا، كـ"مؤمنين"
بهذه المؤسسة، نبرر ونعلل ما عرفته أعمالها من تعثرات ونواقص بـ"البدايات" التي
تعرف دائما مثل هذه التعثرات ولنواقص.
وإذا كانت السنتان والنصف اللتان مرتا على بداية أشغال المعهد غير كافية لتقيم
موضوعي وعام لحصيلة منجزاته، فإنها مع ذلك مدة كافية لمعرفة التوجه الذي يسير فيه.
فكل القرائن، بل والدلائل، تؤكد أنه يسير نحو وضع أسس "سياسة بربرية جديدة" تقوم
على إعطاء الانطباع، داخليا وخارجيا، على أن هناك إرادة حقيقية لنهوض حقيقي
بالأمازيغية وتنميتها ورد الاعتبار لها. لكن بتحليلنا لمنجزات المعهد وطريقة تعامل
الأطراف الحكومية الأخرى، المعنية بتطبيق قرارات المعهد، يتبين أن هناك غيابا تاما
لإرادة سياسية صادقة "تحب" الأمازيغية وتريد لها الخير والتقدم. فكيف نفسر أنه إلى
حد الآن ـ نعم أقول إلى حد الآن ـ لم يشرع بعدُ في تدريس الأمازيغية كلغة، ولا في
إدماجها في الفضاء الإعلامي الوطني، ولا يوجد أي مشروع، ولا حتى مجرد التفكير،
لإدماجها التدريجي في الإدارة والقضاء؟ بل نلاحظ أن هناك تراجعات، ليس فقط عما جاء
به الظهير المحدث والمنظم للمعهد لصالح الأمازيغية، بل عما التزمت به بعض الوزارات
لفائدة الأمازيغية، مثل وزارة التربية الوطنية. هذا يعني أنه لحد الآن ليس هناك أي
شيء للأمازيغية خارج بناية المعهد.
لكن بالمقابل، هناك مزيد من شرقنة ـ و شرنقة كذلك ـ المغرب وارتفاع لوتيرة التعريب
والاستعراب كما يبدو ذلك من خلال إنشاء أكاديمية للغة العربية، خلق ثلاث قنوات
تلفزية جديدة لخدمة العروبة والثقافة واللغة العربيتين، الاستمرار في تقديم الخدمات
للمشرق العربي من خلال تبني قضاياه والدفاع عنها واحتضان المؤتمرات والندوات حول
القضايا العربية، مثل ندوة الفكر العربي الذي انعقدت بمراكش، تقديم برامج تلفزية
جديدة خاصة بالأغاني العربية... وموازاة مع هذا الفتح "العربي" الجديد، الذي أعقب
إنشاء المعهد، هناك استمرار في مضايقة الجمعيات الأمازيغية بعدم تسليمها وصل
الإيداع القانوني لملفاتها لدى السلطات، وعدم الترخيص لها باستعمال القاعات
العمومية، استمرار المقررات المدرسية في تزوير حقائق التاريخ الخاصة بالأمازيغيين،
استمرار تأكيد الخطاب الرسمي على الانتماء العربي للمغرب، اعتبار الأمازيغيين
"أقلية" عرقية داخل وطنهم كما جاء في تقرير الحكومة المغربية أمام لجنة حقوق
الإنسان في دورتها 82 (2004) بجنيف، سكوت السلطات عن تهجمات أئمة المساجد على
الأمازيغية والحركة الأمازيغية... كل هذا، وغيره كثير، يدخل في إطار "سياسة بربرية
جديدة" تشكلها كل الإجراءات والقرارات التي اتخذتها السلطة حول موضوع الأمازيغية،
والتي تهدف إلى احتوائها وتوجيهها التوجيه "السليم" الذي يلغي طبيعتها السياسية
ويحيّد مضمونها الهوياتي، وإعطاء الانطباع أن هناك اهتماما أكاديميا وعلميا باللغة
والثقافة الأمازيغيتين، مع فسح المجال واسعا لمزيد من التعريب والشرقنة والترسيخ
السياسي لـ"عروبة" المغرب.إنه نوع جديد من "سياسة التهدئة" التي تطبقها السلطة إزاء
القضية الأمازيغية والحركة الأمازيغية المقاومة، لوقف مقاومتها واحتوائها، على غرار
"سياسة التهدئة" التي كانت تطبقها فرنسا على القبائل الأمازيغية المقاومة لنفس
الهدف، أي وقف مقاومتها واحتوائها.
وتتميز هذه "السياسة البربرية الجديدة" بهذه المفارقة الظاهرية: فبقدر ما تعطي
السلطة الانطباع، من خلال القرارات والإجراءات المتخذة في الظاهر لصالح الأمازيغية،
أنها تخدم هذه الأخيرة وتعتني بها، بقدر ما تعزز هذه السلطة الوجود السياسي ـ وأشدد
هنا على كلمة "السياسي" ـ للهوية العربية للمغرب وتقوي التبعية للمشرق، مع العمل،
في الحقيقة والعمق وليس في الظاهر، على القضاء على الوجود السياسي للهوية
الأمازيغية، مع أن الأمازيغية، نظرا لجوهرها السياسي، إذا لم توجد سياسيا فهي في
حكم العدم، حتى لو كان هناك اعتناء بها كثقافة ولغة داخل أسوار معبدها الإركامي.
وهنا يجدر التذكير أن مسألة الأمازيغية بالمغرب، وحتى في الجزائر، لا تنتج صراعا
عرقيا ولا ثقافيا ولا لغويا بين الطرف "العربي" والطرف الأمازيغي كما يحذّر بذلك
المهووسون بكل ما له علاقة بالعرق والسلالة والأصل، بل تنتج صراعا سياسيا بين
هويتين، بالمفهوم السياسي كذلك، وذلك لأنها، كما قلت، قضية سياسية في جوهرها قبل أن
تكون قضية عرق أو ثقافة أو لغة. ولهذا نجد "السياسة البربرية" الجديدة تركز على ما
هو ثقافوي ولغوي وتراثي لفصل القضية الأمازيغية عن طبيعتها السياسية الحقيقية. وإذا
كان هناك تراجع عن الوعود التي سبق أن التزمت بها وزارة التربية الوطنية فيما يخص
تدريس الأمازيغية، فذلك لأن هذا التدريس، حتى ولو كان يتعلق باللغة وليس بالسياسة،
فإنه يوقظ الوعي بالهوية بمفهومها السياسي، وليس العرقي، الشيء الذي يتقاطع مع
الجوهر السياسي للأمازيغية، ويؤدي إلى طرح تساؤلات حول طبيعة الحضور السياسي
المهيمن للهوية العربية بالمغرب. وهذا ما انتبه إليه المسؤولون، خصوصا أن حرف
"تيفيناغ" يسهل أكثر يقظة هذا الوعي الهوياتي الأمازيغي.
نلاحظ إذن أن الأهداف السياسية لكلتا "السياسيتين البربريتين"، الفرنسية القديمة
والمخزنية الجديدة، واحدة، وهي دعم الوجود السياسي ـ وأشدد مرة أخرى على "السياسي"
ـ للهوية العربية مع محاولة القضاء نهائيا على أي وجود سياسي للهوية الأمازيغية،
بعد اختزالها إلى ما هو لغة وثقافة وتراث، مع استبعاد الهوية والتاريخ اللذين
يحملان دائما مضمونا سياسيا.
فشل "السياسة البربرية" الجديدة:
يشكل انسحاب سبعة أعضاء من مجلس إدارة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، يوم 21
فبراير، بداية لنهاية "السياسة البربرية الجديدة" التي لم تعمّر سوى سنوات قليلة،
ويقدم برهانا ساطعا على فشل المقاربة الثقافوية والأكاديموية للقضية الأمازيغية،
مما يؤكد أن التعامل التقنوي والعلموي مع موضوع هو في أصله وطبيعته وجوهره سياسي
وهوياتي قبل أن يكون ثقافيا ولغويا، مضيعة للوقت لا غير. فهذه المقاربة ترمي إلى
احتواء الأمازيغية وإبطال مفعولها السياسي بـالنهوض بها كموضوع ينال حقه من البحث
والدراسة والاهتمام. وهنا خطأ هذه المقاربة/الخدعة، لأن رد الاعتبار الحقيقي، وليس
الخادع، للأمازيغية ليس هو النهوض بها كموضوع رغم أهمية هذا الجانب، بل ككينونة
حاضرة وذات فاعلة تشكل الأساس الذي يقوم عليه الوجود الهوياتي والسياسي للمغرب.
فبدون التعامل مع الأمازيغية في عمقها الهوياتي والسياسي، أي ككينونة وكذات، يبقى
التعامل معها كموضوع دون أي تأثير على مستوى رد الاعتبار لها والمصالحة معها، بل إن
هذا النوع الثاني من التعامل قد يضفي الشرعية على إقصائها وتهميشها وإنكار حقها في
الوجود الهوياتي والسياسي الذي تمثله ككينونة وكذات، وليس كموضوع أو شيء. فحتى ما
ينجز على مستوى اعتبارها موضوعا يبقى غاية في ذاته ولذاته، وليس كوسيلة لشيء آخر
يحدده الجانب الهوياتي والسياسي للأمازيغية ككينونة وكذات. وهكذا فإن تدريس
الأمازيغية مثلا، على فرض أنه تدريس جدي وناجح، يطرح دائما السؤال التالي: لماذا
ندرس هذه اللغة لأبنائنا؟ ما هي وظيفتها كلغة؟ فبدون تحديد لهذه الوظيفة، تبقى
الغاية من تدريس الأمازيغية هي تدريسها من أجل تدريسها، وليس تدريسها كوسيلة لشيء
آخر. والذي يحدد وظيفة اللغة الأمازيغية هو الاعتراف بمكانتها الهوياتية والسياسية
ككينونة وذات تصبح معها هذه اللغة لغة سلطة وسياسة وإدارة. وهكذا يكون الاعتراف
بالأمازيغية، ككينونة حاضرة وكذات فاعلة، هو الذي سيعطي معنى وجدوى لرد الاعتبار
لها على مستوى التعاطي معها كموضوع.
تتلخص "السياسة البربرية الجديدة" إذن في الاهتمام بالأمازيغية كموضوع للبحث
والدراسة، مع العمل على تغييب وقتل مضمونها الهوياتي والسياسي ككينونة حاضرة وكذات
فاعلة. وهذه هي المهمة التي اضطلع بها المعهد كمؤسسة للبحث العلمي والأكاديمي حول
الأمازيغية، أي اتخاذ الأمازيغية موضوعا وشيئا سلبيا غير فاعل.
هذا التناقض بين الأمازيغية كشيء/موضوع وكينونة/ذات هو ما أدى إلى الفشل السريع
"للسياسة البربرية الجديدة" التي دشنتها مرحلة المعهد، وذلك بانسحاب الأعضاء السبعة
من هذه المؤسسة كإعلان عن بداية النهاية لهذه "السياسة البربرية الجديدة".
والمفارقة التي يكشف عنها حدث الانسحاب هو أن المعهد أنشئ أصلا لسد الطريق على
المطالب ذات الطابع السياسي، وخصوصا مطلب الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية. لكن
هذا المطلب الدستوري، كما عبر عنه بيان المنسحبين، خرج من صلب هذه المؤسسة نفسها
التي أسست لتحفيظ هذا المطلب وإقباره. هذه النتائج العكسية Effets pervers تبين أنه
لا يمكن احتواء القضية الأمازيغية وتجاوز طبيعتها السياسية والهوياتية بمجرد إحداث
مؤسسة تعتني بها كموضوع، رغم أهمية مثل هذه المؤسسة وحاجة الأمازيغية إليها. فكان
لابد، إذن، "للسياسة البربرية الجديدة" أن تعرف الإخفاق والفشل، وربما النهاية.
وهذا الفشل يبين، من جهة أخرى، أنه لا يمكن، بل يستحيل، التصالح مع الأمازيغية ورد
الاعتبار لها دون إحداث أي تغيير في الأساس السياسي ـ وليس العرقي ـ للهوية العربية
بالمغرب. فبقاء واستمرار المغرب بلدا عربيا، من الناحية السياسية، يتناقض ويتنافى
على طول الخط مع الأمازيغية. إنهما نقيضان لا يجتمعان. فالتصالح مع الأمازيغية لا
بد إذن أن يمر عبر إعادة النظر في الأساس السياسي لهوية المغرب، لأن إقصاء
الأمازيغية هو في الأصل والعمق سياسي، وما إقصائها لغويا وثقافيا إلا نتيجة لهذا
الإقصاء السياسي الأصلي.
من "السياسة البربرية" إلى "السياسة الأمازيغية":
المعركة القادمة ـ وقد انطلقت ـ للحركة الأمازيغية ستكون ضد هذه "السياسات
البربرية" من أجل الانتقال إلى "سياسة أمازيغية" ـ وليس بربرية ـ يتم الاعتراف فيها
بالهوية الأمازيغية، ليس في بعدها الثقافي والتراثي كما تفعل "السياسات البربرية"
السابقة والحالية، بل في بعدها الحقيقي، أي بعدها السياسي، مع ما يترتب عن ذلك من
نتائج، أولها الإعلان الدستوري أن المغرب مملكة أمازيغية في هويته وانتمائه ولغته،
مستقلة عن أية هوية شرقية أو غربية.
|