|
|
افتتاحية: هل لنا الحق في أن نكذب على أنفسنا؟ بقلم: محمد بودهان
كان الأمازيغ دائما، ومنذ آلاف السنين، ضحية سهلة لأكاذيب الشعوب الأجنبية الأخرى التي تلجأ إلى تلك الأكاذيب لخداعهم والنصب عليهم من أجل غزو أرضهم واحتلال أوطانهم. فالفينيقيون كذبوا على الأمازيغيين عندما وعدوهم بالكثير من الهدايا النفيسة إذا سمحوا لهم بالإقامة بشواطئهم. ولما استقروا بشواطئ الأمازيغيين، بدل أن يحملوا إليهم الهدايا كما وعدوهم، بدأوا يحملون خيراتهم ومنتجات أرضهم الأمازيغية ويرسلونها إلى بلدانهم الأصلية. والرومان كذبوا على الأمازيغيين عندما قالوا لهم بأنهم جاؤوا لمساعدتهم على بناء الجسور فوق الأنهار الكثيرة التي تزخر بها بلادهم، حتى يسهّلوا عليهم عبورها بسلامة وأمان، ولتقديم العون "التقني" لهم لعصر الزيتون الممتاز الذي تعرف به بلادهم. ولما دخلوا أرض "تامازغا"، بدل أن يبنوا القناطر ويساعدوا الأمازيغيين على عصر الزيتون كما وعدوا بذلك، دمروا القناطر التي كان الأمازيغيون قد بنوها، واستولوا على زيتونهم وزيوتهم وهروبهما إلى عاصمتهم روما. والعرب كذبوا أيضا على الأمازيغيين عندما قالوا لهم: "ستدخلون الجنة شريطة أن يكون حكامكم عربا ولغتكم عربية". وبهذه الكذبة سمح الأمازيغيون للعرب، في بعض الفترات، بأن يحكموهم في بلادهم تامازغا، كما قبلوا تحوّلهم إلى "عرب" عن طريق التعريب طمعا في الجنة التي وعدهم بها هؤلاء العرب الكذابون. أما الفرنسيون فقد كذبوا كذلك على الأمازيغيين عندما قالوا لهم بأنهم جاؤوا لإخراجهم من التخلف الاقتصادي والإداري وإدخالهم إلى الحداثة والتقدم. لكن في الأخير لم يخرجوهم من أي تخلف، بل أخرجوهم من هويتهم الأمازيغية، ولم يدخلوهم إلى أية حداثة أو تقدم، بل أدخلوهم إلى العروبة التي أسسوا، ابتداء من 1912، دولة باسمها بالبلاد الأمازيغية. لماذا كذبت هذه الشعوب على الأمازيغ؟ كذبت عليهم من أجل مصالحها وقضاء أغراضها الاقتصادية والسياسية. وبالنظر إلى الغاية من هذا الكذب، فإنه يصبح مشروعا من الناحية السياسية ولو أنه مرفوض دينيا وأخلاقيا. فعلى هذا المستوى السياسي، يحق إذن لكل شعب الكذب على أي شعب آخر خدمة لمصالحه وأهدافه الاقتصادية والسياسية والثقافية. لكن، على العكس من ذلك، هل يحق لأي شعب أن يكذب على نفسه بنفسه؟ فما دام أن ضحية الكذب لا يستفيد ـ عكس من يكذب على الآخرين ـ شيئا من هذا الكذب، بدليل أنه ضحية له، فلا يمكن تصور شعب يكذب على نفسه لتأمين مصالحه وحمايتها كما رأينا في مثال الشعب الذي يكذب على شعب آخر. رغم أن هذه الحالة ـ حالة الشعب الذي يكذب على نفسه ـ تبدو مستحيلة وغير ممكنة الحصول، إلا أنها مع ذلك نجدها ممكنة وموجودة بالمغرب، متمثلة في كذب أمازيغيين على الشعب الأمازيغي الذي ينتمون إليه. وهذه الحالة يجسدها أمازيغيو "ليركام" (المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية) الذين لا يكلّون، منذ إنشاء هذه المؤسسة، من ترديد أن وجود هذه الأخيرة دليل على وجود "إرادة سياسة" (وهذه هي الكذبة الكبرى) لرد الاعتبار للأمازيغية والمصالحة مع الهوية الأمازيغية. وهكذا يؤكد السيد أحمد بوكوس، عميد "ليركام"، أن كل ما تحقق لفائدة الأمازيغية هو نتيجة «للإرادة السياسية للدولة التي أعلن عنها (الإرادة) خطاب أجدير 2001» (أسبوعية "جون أفريك"، لتاريخ 30 ـ 11 ـ 2009). وهو ما سارعت إلى تعميم نشره، "وكالة المغرب العربي" (مجرد هذه التسمية تنفي وجود أية إرادة سياسية حقيقية للمصالحة مع الهوية الأمازيغية) التي جاء فيها: «أكد أحمد بوكوس عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أن قرار إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية وكذا في وسائل الإعلام العمومية بالمغرب هو "نتيجة للإرادة السياسية للدولة التي تضمنها الخطاب الملكي بأجدير سنة 2001». وفي ذكرى تأسيس "ليركام" في 17 أكتوبر من كل سنة، يستعرض مسؤولو "ليركام" جردا "للمنجزات" التي تحققت للأمازيغية في ظل هذه "الإرادة السياسية" التي بفضلها تم «نشر أزيد من مائتي كتاب» (أسبوعية "جون أفريك" المشار إليها أعلاه). لكن لم يمض سوى أقل من شهر ونصف على هذه التصريحات السارة، المتبجحة بـ"الإرادة السياسية" للدولة للنهوض بالأمازيغية، حتى جاءت أخبار، غير سارة، من مؤسسة "ليركام" نفسها تفيد أن المجلس الأعلى للتعليم يفكر بجدية في إعادة النظر في مبدأ تعميم وإجبارية تدريس الأمازيغية، وتعويض حرفها الأمازيغي بالحرف العربي (الآرامي)، وهو ما يعني "التراجع عن إدراج الأمازيغية في التعليم العمومي". لقد كان هذا الخبر بمثابة صعقة حقيقية بالنسبة لمسؤولي "ليركام" المنتمين منهم إلى الحركة الأمازيغية، طبعا، وليس ممثلي مؤسسات الدولة. ولهذا نفهم لماذا كانوا هم أول من علم بالخبر الصادم وأول من عمل على نشره في أوساط الحركة الأمازيغية وجمعياتها ونشطائها. لماذا يشكل هذا الخبر صدمة لأصحاب "ليركام"؟ لأنه يكذّب كل ما يدبجونه من إنشاءات حول وجود "الإرادة السياسية" للنهوض بالأمازيغية. بل هو دليل قاطع على غياب هذه الإرادة السياسية، التي هي الشرط الواقف لتنمية جدية وحقيقية للأمازيغية. ومع غياب هذه الإرادة السياسية، كما يؤكد ذلك مشروع المجلس الأعلى للتعليم حول الأمازيغية، تغيب طبعا كل نتائجها المتمثلة في النهوض بالأمازيغية بشكل صادق ولائق. وهذا يعني أن كل ما كان يتبجح ويتشدق به "الإركاميون" حول "المصالحة" و"النهوض" و"الإرادة السياسية" فيما يتصل بالأمازيغية، غير صحيح إطلاقا، بل هو مجرد كذب على الذات وعلى الآخرين. لقد كانوا، إذن، يكذبون على أنسفهم أولا وعلى الأمازيغيين ثانيا. ولهذا كان الخبر صادما لهم حد الصعقة، لأنه كشف عن أكاذيبهم وبهتانهم. وعلى إثر تسرب هذا الخبر من المجلس الأعلى للتعليم، سارع أهل "ليركام" إلى إطلاق "نداء" موجه إلى الحركة الأمازيغية يدعوها إلى "التعبئة" لرفض مخطط المجلس الأعلى للتعليم، ومواجهة "المؤامرة الكبرى" التي تستهدف الأمازيغية. يا له من اكتشاف!: فمتى كانت الأمازيغية في منأى عن أية مؤامرة؟ أليس الكذب على النفس وعلى الأمازيغيين بالقول إن "الإرادة السياسية للدولة" متوفرة للنهوض بالأمازيغية هو في حد ذاته "مؤامرة كبرى" على الأمازيغية؟ فالمشروع الأمازيغوفوبي للمجلس الأعلى للتعليم، المتمثل في إعادة النظر في قرار تدريس الأمازيغية، لا يشكل "مؤامرة" جديدة على الأمازيغية، ذلك أن هذا التدريس للأمازيغية، بمعناه الصحيح وشروطه الحقيقية، لم يسبق أن كان موجودا وقائما، بعد أن تحول منذ انطلاقته مع الدخول المدرسي 2003 ـ 2004، إلى عبث واستخفاف لغياب "الإرادة السياسية للدولة" التي (الإرادة) كان أهل "ليركام" يدعون دائما أنها موجودة ومتوفرة إلى أن كذّبت ادعاءاتهم الأخبار التي تسربت من المجلس الأعلى للتعليم. فهل كان لا بد من انتظار صفعة/صعقة المجلس الأعلى للتعليم ليدرك "الإركاميون" أن هناك مخططا للتراجع عن تدريس الأمازيغية؟ ألم تصدر وزارة التربية الوطنية، في 24 يونيو 2003، برنامجا سمته "إدماج تدريس الأمازيغية في المسارات الدراسية"، حددت فيه الدخول المدرسي 2009 ـ 2010 كتاريخ لتعميم تدريس الأمازيغية الإجباري في كل المؤسسات الابتدائية والثانوية الإعدادية والتأهيلية؟ وهل طبقت الوزارة فقط 5% مما التزمت به في برنامجها "الأمازيغي"؟ أليس عدم تطبيق حتى 5% مما قررته الوزارة نفسها بخصوص أجندة تدريس الأمازيغية هو في حد ذاته "تراجع عن إدراج الأمازيغية في التعليم العمومي" و"مؤامرة كبرى" تستهدف الأمازيغية؟ إن ما حصل لتدريس الأمازيغية هو بالضبط ما حصل لبترول "تالسينت" (انظر مقالنا: "تدريس الأمازيغية أو بترول "تالسّينت" للمرة الثانية" على الرابط: http://tawiza7.ifrance.com/Tawiza126/boudhan1.htm) الذي اختفى نهائيا أشهرا قليلة بعد الإعلان عن اكتشافه في صيف 2000، بعد أن تبين أنه كان مجرد وهم ونصب كانت ضحيته الدولة. تدريس الأمازيغية، هو كذلك يمثل نصبا حقيقيا، لكن ليس على الدولة كما في بترول «تالسينت»، بل نصبا من طرف الدولة، هذه المرة، على الأمازيغية والأمازيغيين. فلماذا لم يتحرك أصحاب «ليركام»، كما فعلوا اليوم، وقبل هذا التاريخ ويدقوا ناقوس الخطر ويدعوا إلى التعبئة لمواجهة «المؤامرة الكبرى»، والاحتجاج على التلاعب الذي عرفه تدريس الأمازيغية، وعلى والتراجعات التي رافقته منذ الإعلان عن انطلاقته الأولى؟ فما يخطط له المجلس الأعلى للتعليم فيما يخص الأمازيغية، ليس إذن شيئا غريبا ولا مفاجئا ولا حتى جديدا. بل هو نتيجة طبيعية لسلسلة من التراجعات و"المؤامرات" عرفها مشروع تدريس الأمازيغية منذ انطلاقته الأولى كما كتبت. وما الذي جعل هذا المجلس يفكر في الإقدام على هذه الخطوة الأخيرة التي رأى فيها "الإركاميون" "مؤامرة كبرى" ضد الأمازيغية؟ أليس موقف هؤلاء "الإركاميين" أنفسهم، الذين لم يحركوا ساكنا أمام كل الاستخفاف الذي كانت تواجه بها قراراتهم ومشاريعهم من طرف المسؤولين الحكوميين، المفترض فيهم، بالنظر إلى اختصاصاتهم الحكومية وبناء على مضمون الظهير الملكي لـ 17 أكتوبر 2001 تنفيذ هذه القرارات، هو ما شجّع المجلس الأعلى على التفكير في هذه "المؤامرة الكبرى"؟ فتطبيقا لفصول الظهير الملكي لـ 17 أكتوبر 2001، فإن مشاريع "ليركام"، بمجرد ما يصادق عليها الملك، تصبح قرارات نافذة على الحكومة تطبيقها. فلماذا لم يسبق لـ"الإركاميين" أن أصدروا مجرد بيان يحتجون فيه على عدم تنفيذ قراراتهم التي أمضاها الملك، مستندين في ذلك إلى الظهير الملكي؟ ليتذكر أصحاب "ليركام" أسباب انسحاب سبعة أعضاء من مجلس إدارة هذه المؤسسة بتاريخ 21 ـ 02 ـ 2005. وهي أسباب يعرفونها جيدا لأن مجموعة منهم كانت قد أعطت "موافقتها" على الانسحاب مع المنسحبين السبعة، لكن أعضاء هذه المجموعة أخلفوا وعدهم ونكثوا عهدهم عندما حلت ساعة الحسم. يعرفون إذن أن أسباب الانسحاب هي هذا الاستخفاف الذي كان يبديه المسؤولون الحكوميون إزاء قرارات مجلس إدارة "ليركام"، التي صادق عليها الملك، والتي توجه إليهم قصد تنفيذها، خصوصا ما يتعلق بإدماج الأمازيغية في التعليم والإعلام. ولماذا كان هؤلاء المسؤولون يستخفون بقرارات مجلس الإدارة ولا يولونها أي اهتمام، ويربأون حتى أن يجيبوا عن مراسلات المعهد التي تطلب منهم استفسارات أو توضيحات؟ لأنه لم تكن هناك "إرادة سياسية" حقيقية للنهوض بالأمازيغية. وهكذا انسحب الأعضاء السبعة بعد اقتناعهم بغياب هذه "الإرادة السياسية" ـ بيت القصيد ـ لتنمية الأمازيغية والمصالحة معها. هذا الغياب الذي يترجمه استخفاف المسؤولين الحكوميين بالمشاريع التي كان يقدمها لهم "ليركام". لقد انسحب الأعضاء السبعة لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم ومع غيرهم من الأمازيغيين، ورفضوا الكذب على أنفسهم وعلى غيرهم من الأمازيغيين، كما يفعل مسؤولو "ليركام" الحاليون عندما يقولون بأن هناك "إرادة سياسية" لتدريس الأمازيغية، وأنه بفضل هذه الإرادة "بلغ عدد التلاميذ الذين يدرسون الأمازيغية نصف مليون تلميذ". الأخبار التي تسربت من المجلس الأعلى للتعليم تؤكد، إذن، صواب وصدق موقف المنسحبين السبعة، وخطأ وكذب الذين رفضوا الانسحاب، مبررين رفضهم له، آنذاك، بأن في الأمر تسرعا وعجلة، في حين كان ينبغي إعطاء الوقت الكافي للمسؤولين السياسيين قبل الحكم النهائي على موقفهم من الأمازيغية، ومدى حضور أو غياب "الإرادة السياسية" لديهم لإنجاح أو إفشال تدريس الأمازيغية. طيب. لنفرض جدلا أن المنسحبين كانوا مخطئين ومتسرعين. أما الرافضون للانسحاب فقد كانوا متعقلين ورزينين وحمكاء وغير متسرعين ولا متهورين. لقد أخذوا إذن كل وقتهم ـ كما نقول بالدارجة ـ ليقتنعوا عمليا، وباعترافهم المتأخر، أن هناك فعلا مخططا للتراجع عن تدريس الأمازيغية فيه تجاوز حتى للقرارات الملكية. فليٌرُونا، إذن، "حنة" أيديهم إن كانوا صادقين، وليكفّوا عن الكذب على أنفسهم وعلى غيرهم. كانت هناك منذ البداية تماطلات وتراجعات عما أعلن عنه ظهير أجدير، وهو ما يؤكد "غياب الإرادة السياسية" التي تحتاج إليها الأمازيغية. لكن "الإركاميين" لم يبدوا أي انزعاج من ذلك، بل استمروا في الكذب على أنفسهم بالقول إن تدريس الأمازيغية يعرف تقدما بفضل "الإرادة السياسية للدولة". فما الذي دفعهم هذه المرة إلى الجهر بالحقيقة ودق ناقوس الخطر؟ لا يبدو أن الدافع هو حبهم للأمازيغية وغيرتهم عليها، وإلا لتحركوا واحتجوا منذ أن بدأ المسؤولون الحكوميون يحتقرون مقررات "ليركام" التي أمضاها الملك، ولا تعبأون بمضامين الظهير الملكي المؤسس للمعهد الملكي للأمازيغية. اليوم يدقون ناقوس الخطر وينذرون بـ"المؤامرة الكبرى"، لكن ليس خوفا على الأمازيغية، بل خوفا على أنفسهم هم، على كراسيهم ومناصبهم وامتيازاتهم التي يضمنها لهم المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وما العلاقة بين هذه الامتيازات والكراسي والمناصب، ومشروع المجلس الأعلى للتعليم الذي يرمي إلى تراجع الدولة عن تدريس الأمازيغية؟ العلاقة هي أن ما ينوي هذا المجلس القيام به، من إعادة النظر في تعميم وإجبارية تدريس الأمازيغية وفرض الخط الآرامي بدل الخط الأمازيغي، يعني أن التراجع لا يمس تدريس الأمازيغية فحسب، بل هو تراجع حتى عن "السياسة البربرية الجديدة" برمتها، والتي أنشئ معهد "ليركام" لتدبيرها والإشراف عليها. والاستغناء عن هذه السياسة يعني الاستغناء عن خدمات المعهد، مما يعني بالتالي فقدان "الإركاميين" لكراسيهم ومناصبهم وامتيازاتهم التي كانت توفرها لهم "السياسة البربرية الجديدة". ذلك أن علة وجود "ليركام" هي "إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية". أما الآن، وبناء على ما يخطط له المجلس الأعلى للتعليم، فالأمر لا يتعلق بـ"إدماج"، بل بإخراج الأمازيغية من هذه المنظومة، حتى قبل أن يكتمل "إدماجها" فيها فعلا وحقيقة. فـ"المؤامرة الكبرى" إذن ليست تلك التي تهدد الأمازيغية التي كانت دائما ضحية مثل هذه المؤامرة، بل تلك التي تهدد "الإركاميين" في حالة ما إذا تخلت الدولة عن "سياستها البربرية الجديدة" التي أصبحت مورد رزقهم ووظائفهم. فالخاسر الأكبر، في حالة ما إذا نُفذت "المؤامرة الكبرى"، ليس هي الأمازيغية، التي كانت خاسرة منذ البداية، بل هم أصحاب "ليركام". ومن جهة أخرى، نلاحظ أن "الإركاميين"، ولأول مرة، يتحركون، بكل حماس ونضالية، لتوعية الحركة الأمازيغية بالمؤامرة التي تحاك ضد الأمازيغية، ودعوة هذه الحركة إلى التعبئة لمواجهة مخطط المجلس الأعلى للتعليم. فلماذا لم يتحركوا بنفس الحماس عندما هاجم "الجانجويد" المغربي طلبة الحركة الأمازيغية بالجامعات، ويعلنوا عن تضامنهم مع الحركة الأمازيغية الجامعية؟ لماذا لم يتحركوا عندما اعتقل وحوكم مجموعة من طلبة الحركة الأمازيغية؟ لماذا لم يطالبوا بحذف المادة 115 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين، المتعلقة بموضوع "الاستئناس"، وهي المادة التي يريد المجلس الأعلى تطبيقها والاستناد إليها لتمرير مخططه الأمازيغوفوبي؟ لماذا لزموا الصمت المريب أمام آلة التعريب، العرقي والسياسي والهوياتي، الذي ارتفعت وتيرته بشكل جنوني منذ إنشاء المؤسسة التي يعملون بها؟ لماذا لا يطالبون باستعمال اللغة الأمازيغية في دروس محو الأمية، تطبيقا لبرنامج محو الأمية الذي سبق أن أعدوه وصادق عليه مجلس الإدارة؟ لماذا؟... لماذا؟... ولماذا؟... طبعا هم يردون بأن هذه الأمور مسائل سياسية لا تدخل في "اختصاصاتهم" التي هي "البحث العلمي". طيب. ولماذا يعبئون اليوم الحركة الأمازيغية ضد ما يخطط له المجلس الأعلى للتعليم من قرارات تمس الأمازيغية، والتي هي قرارات سياسية في عمقها وشكلها تهم سياسة الدولة اللغوية والتعليمية؟ أليس هذا التعامل ـ السياسي وغير العلمي ـ المفاجئ مع قضايا هي سياسية في جوهرها، وليست علمية، يجد تفسيره في تخوف "الإركاميين" من نهاية "السياسة البربرية الجديدة" التي تعني نهايتهم، كما سبق أن أوضحنا؟ لكن السؤال الهام، هو: ماذا سيكون موقف "الإركاميين" في حالة ما إذا لم تتعبأ الحركة الأمازيغية لإفشال مخطط المجلس الأعلى للتعليم ونجح هذا الأخير في تمرير هذا المخطط؟ هل سيستمرون في الكذب على أنفسهم، كما يفعلون دائما عندما يتحدثون عن "الإرادة السياسية" للدولة تجاه الأمازيغية، محملين المسؤولية، كما يفعلون دائما كذلك، للحركة الأمازيغية التي سيقولون عنها بأنها كانت متقاعسة ولم تفعل شيئا لتفادي الأسوأ الذي حصل؟ ثم إذا كان هناك تقاعس حقا لدى هذه الحركة، فأمر منتظر ومفهوم بعد كل المجهود الكبير الذي بذله "ليركام" "لأركمة" (جعلها إركامية) جزء هام من هذه الحركة وتحويلها إلى تابعة له وملحقة به من خلال علاقة "الشراكة"، التي هي في الحقيقة "شرَك" ـ وليست شراكة ـ ينصب لهذه الحركة التي وقع بالفعل جزء كبير منها ـ كما قلت ـ في "شرَك" "ليركام". إن "ليركام"، بالنظر إلى اختصاصاته وعلاقاته بالسلطة وبالحركة الأمازيغية، لا يمكن إلا أن ينمي الأمازيغية وينهض بها، أو يساهم في قتلها وإماتتها. وليس هناك وسط بين هذين الطرفين. وبما أنه لم ينجح في تنمية الأمازيغية ولا النهوض بها، بدليل ما يحضّر له المجلس الأعلى للتعليم، فلا يبقى إذن إلا البديل الثاني، المتمثل في أن "ليركام" ساهم في إضعاف الأمازيغية وذلك بإفراغها من مضمونها السياسي. إذا كان أعضاء مجلس إدارة معهد "ليركام" قد رفضوا الانسحاب مكرمين ومعززين في 2005، فربما سيأتي يوم، في حالة ما إذا نفذت الدولة ما يخطط له المجلس الأعلى للتعليم بخصوص الأمازيغية، سيُسحبون ـ وليس ينسحبون ـ من "ليركام" وبلا كرامة ولا عزة، بعد سحب "السياسة البربرية الجديدة" التي كانت علة وجود "ليركام". وشتان بين "الانسحاب"، الذي هو فعل إرادي اختاره صاحبه عن قصد وبينة، وبين "السحب" الذي هو فعل مفروض لا يتمتع فيه الشخص "المسحوب" بأية حرية ولا اختيار. وهنا تحضرني القولة المنسوبة إلى المسيح، وتنطبق تماما على مسؤولي "ليركام"، والتي يقول فيها: «ما أتعس المرء الذي ربح الدنيا وخسر نفسه». في الحقيقة، حتى إذا نفذ المجلس الأعلى للتعليم مخططه الأمازيغوفوبي الخطير، الذي سيكون بمثابة ضربة موجعة للأمازيغية، فإن ذلك سيكون مفيدا لهذه الأخيرة، لأنه: ـ سيعرّي، بالنسبة للدولة، عن إرادتها السياسية الحقيقية المعادية للأمازيغية بشكل لا لبس فيه، ودون تستر وراء أية "سياسة بربرية جديدة". ـ سيعرّي عن المسؤولية الحقيقية لـ"الإركاميين" فيما آلت إليه الأمازيغية. ـ سيساهم في استعادة القضية الأمازيغية لمضمونها السياسي الذي كان "ليركام" قد أفرغها منه واستبدله بمضمون ثقافوي وتراثي. ومهما يقال عن أسباب "الصحوة" التي ظهرت فجأة عند "الأركاميين" الذين دعوا إلى تعبئة الحركة الأمازيغية لمواجهة "المؤامرة الكبرى"، فإننا نتمنى أن تكون هذه "الصحوة" بداية وعي سياسي أمازيغي صادق وحقيقي لديهم، يعبر عن انتقال حقيقي وصادق كذلك من تعاطيهم مع الأمازيغية كموضوع سلبي ومنفعل، إلى تعاطٍ جديد معها كذات فاعلة وصانعة للأحداث والتاريخ. ونأمل كذلك أن تكون "الصدمة" التي أحدثها مشروع المجلس الأعلى للتعليم عند أصحاب "ليركام"، "صدمة" بالمعنى الطبي، أي تكون كتلك الصدمات الكهربائية العلاجية التي يستعيد بها بعض المصابين بأمراض عقلية توازنهم النفسي، والتي تساعد كذلك من أغمي عليهم من المصابين بأمراض القلب على "إنعاشهم" وعودة الوعي إليهم. وهنا أستحضر كذلك فكرة هامة للدكتور حسن بنعقية، الذي يقول دائما بأن تاريخ الأمازيغيين يثبت أن مرورهم بمرحلة "الخيانة" ضروري للصحوة والوعي السليم لديهم. ويبدو أنه من الصعب أن نجد أمثلة مضادة تكذب هذه الفكرة، بل كل الأمثلة المعروفة تؤكدها، بدءا من "شيشونق" الذي كان جنديا في خدمة الجيش المصري الذي كان يحارب شعبه الأمازيغي، قبل أن يثور على أسياده الفراعنة ويعلن الحرب عليهم ويهزمهم، وصولا إلى مولاي محند، عبد الكريم الخطابي، الذي كان في البداية مواليا للمستعمر الإسباني ومتعاونا معه، قبل أن ينتفض ضده ويعلن الحرب عليه ويهزمه شر هزيمة في معركة "أنوال" الشهيرة. فهل انتهت مرحلة "الولاء" و"التعاون" عند "الإركاميين" لتعقبها مرحلة الصحوة الأمازيغية الحقيقية؟ ذلك ما نأمله ونريده، لكن مع تجسيده في الأفعال والمواقف. أما من جهة الحركة الأمازيغية، فإن مطالبها، بشكلها الحالي، المتفرق، التجزيئي والقطاعي، لا يمكن إلا أن يشجع المسؤولين العروبيين على "الاستجابة" لهذه المطالب بالطريقة التي تخدم العروبة السياسية والعرقية والهوياتية بالمغرب، وتسمح لهم بأن يسحبوا باليد اليسرى ما يمنحونه للأمازيغية باليد اليمنى، دون أن يلقوا صعوبة في إيجاد ألف مسوّغ ومسوّغ لتبرير وتمرير قراراتهم الجائرة في حق الأمازيغية والأمازيغيين. ولا يمكن الخروج من هذه اللعبة التي تخسر فيها الأمازيغية ويربح فيها النظام العروبي، إلا بتبني المطلب الأصلي الاستراتيجي الكلي والشامل، المتمثل في المطالبة باستعادة الهوية الأمازيغية للدولة بالمغرب، لأن مشكل الأمازيغية بالمغرب ليس مشكلا مع "عرب" ولا مشكل لغة أو ثقافة، وإنما هو مشكل مع الدولة التي أصبحت "عربية" منذ 1912، تاريخ بداية الإقصاء السياسي للأمازيغية، الذي هو أصل كل الإقصاءات الأخرى المتفرعة عنه. فتمزيغ هوية الدولة بالمغرب، يؤدي، ليس إلى إدماج الأمازيغية في النظام التعليمي، بل إلى إدماج النظام التعليمي في الأمازيغية التي تشكل الإطار الهوياتي المرجعي. وهذا حل جذري وكلي وشامل لقضية تدريس وتعليم الأمازيغية، عكس المطلب الجزئي والفرعي المتمثل في "إدماج الأمازيغية في المنظومة التربوية"، والذي هو حل خاص باللغات الأجنبية. فمتى تعي الحركة الأمازيغية هذه الحقيقة وتغير من أولوياتها وإستراتيجيتها بالتركيز على مطلب الهوية الأمازيغية للدولة، كشرط لتحقيق جميع المطالب الفرعية الأخرى؟
|
|