| |
ماذا قدم
المسؤولون المغاربة من أجل سبتة ومليلية؟
بقلم: بوغانم خالد (فنيدق, تيطاوين)
اعتقد أن الحديث عن قضية الاحتلال لأطراف مهمة
من أراضينا, ومن بينها مليلية وسبتة, يجب أن لا يكون مرتبطا بخطاب مناسباتي ضيق
موجه للاستهلاك ومثخن بإيدولوجيا لا تخدم في أساسها سوى مصالح أصحابها.. فأسلوب
التنديد والتنديد بشدة وتجييش مشاعر الشعب بخطابات ملحمية أثبت الواقع عدم صدقيتها
وعدم جدواها, سوف لن تنتج إلا مزيدا من النفور وعدم الثقة في الخطاب السياسي
والخطاب الرسمي بالأساس. ولا أدل على هذا الفشل من مهزلة الانتخابات الأخيرة.
إن أية محاولة لمعالجة الملف, في نظري, يجب أن تمر أولا عبر الإقرار بالأخطاء
التاريخية التي ارتكبت قبيل مفاوضات "الاستقلال" وبعدها، والتي صنعت هذا الوضع
وتدعم استمراره. ثم بعد ذلك التقدم أمام الشعب المغربي باعتذار رسمي على ما اقترفوه
في حقه والإعلان عن إجراءات استعجالية على مختلف الأصعدة من أجل مصالحة حقيقية مع
الشعب المغربي المتضرر من سوء تدبيرهم هذا. وليس المهم هنا أن يصدر الاعتذار عن
الأشخاص الذين تسند إليهم هذه الأخطاء ذاتهم مادام أن أغلب هؤلاء قد قضوا نحبهم,
فلا بأس أن يقوم مقامهم الذين ورثوا عنهم أفكارهم وثروات المغرب التي أبقاها
المستعمر تحت إمرتهم. لكن ما هي هذه الأخطاء التاريخية؟ سؤال سيجد جوابه في هذه
اللمحة التاريخية المقتضبة للكيفية التي حصل عليها المغرب على "الاستقلال".
1.نبذة موجزة عن تاريخ "استقلال" المغرب:
كان لاشتعال وقود المقاومة المسلحة في أوائل أكتوبر 1955 (وذلك بالهجوم على ثلاثة
مخافر فرنسية على الحدود المغربية الجزائرية) أثر كبير على المستعمر الفرنسي. هذه
العمليات شكلت ضربة قوية له تنضاف إلى ثقل ثورة الجزائر المشتعلة منذ عام، والتي
تتضاعف شرارتها يوما بعد يوم. كانت باريس تخشى أن تشتعل جبهة جديدة بالمغرب شبيهة
بتلك التي كان الريفيون قد أوقدوها، والتي كانت تكاليفها العسكرية باهظة. استحضارا
لهذه المعطيات فضلت حكومة إدغار فور, بموافقة الشركات الرأسمالية الكبرى- التي كانت
تعرف بذكائها أن الاستقلال ليس بالضرورة جلاءها عن البلد- أن تتخلى عن المغرب من
أجل التمسك جيدا بالجزائر.
أعاد الفرنسيون محمدا الخامس ثم بعدها كانت مفاوضات إكس ليبان المشؤومة. لقد تفاوض
ممثلو ما كان يسمى بالحركة الوطنية من دون أن يأخذوا برأي المقاومة وعلى رأسهم
الزعيم التاريخي مولاي موحند الذي وصف الاستقلال الأعرج الذي منح له ب"الاحتقلال".
"احتقلال" لأنه تنازل عن أجزاء شاسعة من الوطن وعلى رأسها الصحراء وسبتة ومليلية.
لقد تأخر جيراننا الجزائريون في انتزاع حريتهم, لكن ست سنوات إضافية من المقاومة
كانت كافية ربما لتجنبهم العيش تحت راية "الاحتقلال" لقرون عدة أو الدهر كله, من
يدري؟؟
لقد كان شعار المفاوضين آنذاك: "بالتفاوض سنسترجع كل ربوع الوطن. لكن هذا سيتم
بالتدريج". طبعا لم يكن موقف المقاومة يتماشى مع الليونة التي أبدتها "الحركة
الوطنية" في التعامل مع هذه القضية الحساسة. فلا أثناء فترة المفاوضات ولا بعدها,
لم يغر الكثير منهم ترك السلاح. حزب الاستقلال لم يكن قادرا على احتواء المقاومة
لأن المجلس الأعلى لهذه المقاومة المكون من خمسين عضوا لا يضم إلا عضوا واحدا من
اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال. كان الحل المقترح من قبل الذين يزعجهم استمرار
المقاومة, تجنيدهم في القوات المسلحة الملكية أو توظيفهم أو تصفيتهم جسديا. وكانت
تقدم للمنضمين امتيازات اقتصادية. وبفضل هذه الامتيازات قامت الأحزاب, وعلى رأسها
حزب الاستقلال, بالتعتيم على النواة التي قاتلت بالفعل أيام الاستعمار عبر المتاجرة
ببطاقات الانتماء للمقاومة التي بلغ عددها 60 ألف بطاقة.
كما كانت توجه نداءات مطبوعة ومختومة بختام الهيأة العليا للمقاومة وجيش التحرير
إلى القبائل التي عرفت بمقاومتها الشديدة للاستعمار تدعوهم من خلالها إلى تسليم
الأسلحة المرخص وغير المرخص بها في أقرب الآجال, بدعوى أن هناك من يتقمص شخصية جيش
التحرير لقطع الطريق واللصوصية والمس بأمن الدولة.
كل الوسائل كانت مباحة من أجل القضاء على آخر بندقية تقف في وجه الخطة التي صاغوها
بمعية المستعمر. الخطة التي تخدم بالدرجة الأولى مصلحتهم هم ومصلحة من ولوهم تسيير
أمور المغرب. لأنه لو كانت نيتهم المصلحة الوطنية واستكمال مسيرة استرجاع كل
الأراضي المستعمرة, كما يوهموننا, لكانوا:
- لم يجردوا المقاومة وجيش التحرير من أسلحتهم.
- تحفظوا, لما انضم المغرب إلى الأمم المتحدة, على المبدأ القائل بأن الحدود
الاستعمارية التي تركها الاستعمار يجب أن تظل كما هي, مما يعطيها شرعية قانونية,
وهو ما ألحق أضرارا بالحدود الترابية للمغرب.
- لمّا أنشئت اللجنة الرابعة للأمم المتحدة المكلفة بتصفية الاستعمار, بادروا إلى
تسجيل الأقاليم التي كانت تحت الهيمنة الإسبانية, في الجنوب أو في الشمال, على أساس
أنها جزء من أراضيه المحتلة التي يطالب باسترجاعها؛ حيث لم يفعلوا ذلك إلا سنة
1975, أي بعد فوات الأوان.
- أعلنوا رفضهم لما تضمنه الدستور الإسباني لسنة 1978 الذي نص على أن مدينتي سبتة
ومليلية إسبانيتان. وهو ما جعلهما فيما بعد بمثابة الحدود الجنوبية للاتحاد
الأوروبي بعد توقيع معاهدة شنغن في 1992.
أين مصير تلك الخطابات الرنانة التي كان زعماء حزب الاستقلال يصدحون بها بمناسبة أو
بغير مناسبة، والتي تذهب إلى حد اعتبار الأراضي الموريتانية جزءا غير قابل للتجزيء
من المغرب؟؟ أم أن مهمات جديدة ذات أولوية, كقَنبلة (بفتح القاف) الريف والنيل من
رجال صنعوا مجد الوطن, هي التي جعلتهم يحيدون عن تحويل أقوالهم إلى أفعال ملموسة؟
للأسف, كل شيء انتهى وطوي الملف إلى حدود 1975, السنة التي استرجع فيها المغرب بعض
الأجزاء من الصحراء, عن طريق مسيرة تم إشراك مواطنين من مختلف أرجاء المملكة في
تنظيمها. وما تزال هذه المسيرة التي تعرف بالمسيرة الخضراء منطقة مظلمة في التاريخ
المغربي نتيجة التعتيم الرسمي على الكيفية التي تم بها الانسحاب الإسباني. إنني لا
أصدق أن تخرج إسبانيا من منطقة بلا حرب ولا سلاح ومن دون غنيمة ولا صفقة سياسية. إن
عصر المعجزات قد انتهى وإلا لماذا لا يجرب المسؤولون المغاربة إحياء هذه السُنة "الحسنية"
مع ما تبقى من الصحراء ومع سبتة ومليلية "بلا ما يصدعونا الراس ب لهدور الخاويين".
لكن خلافا للحقائق التاريخية لم يتورع السيد عباس الفاسي, في تصريحه أمام مجلس
النواب حول زيارة خوان كارلوس لسبتة ومليلية, بمغالطة أعضاء البرلمان ومعه الشعب
المغربي قائلا بأن "المغرب طرح بمجرد حصوله على الاستقلال مسالة إنهاء احتلال
إسبانيا لأراضيه في الشمال والجنوب" مستشهدا بخطاب لمحمد الخامس في فبراير 1958الذي
قال فيه: "إننا سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لاسترجاع صحرائنا وكل ما هو ثابت
لمملكتنا عبر التاريخ". فمسألة طرح إنهاء الاحتلال يفهم منها ضمنيا رفع الدعوى لدى
الأمم المتحدة وإدراج أسماء الأقاليم والمناطق المراد استردادها, حتى يكتسي الفعل
طابعا قانونيا. وهو ما لم يتم بعيد "استقلال" المغرب خلافا لما صرح بذلك الفاسي.
فالفرق شاسع بين أن أرفع شكواي, إلى أصدقائي ومعارفي أو إلى الله, من شخص أو مسؤول
ظلمني, وبين أن أرفع الشكوى إلى القضاء، والتي تكون ذات طابع رسمي. إن "سيادة"
الوزير لم يفصح بشكل جيد عن فحوى كلامه. وهو ما يؤكد ما ذهبت إليه أعلاه أن الحديث
المناسباتي الذي يصدر عن "مسؤولينا الموقرين" بين أزمة وأخرى حول المدينتين لا
يتعدى أن يكون موجها للاستهلاك الداخلي وقياس درجة ولاء الشعب لها, بل وأيضا تحويل
أنظاره عن مشاكل ثقافية, اقتصادية, سياسية, اجتماعية... لا يريدون حلها أو أنهم
عاجزون عن ذلك, تماما كما يحدث عند كل دعوة إلى تظاهرة ملايينية تضامنا مع الشعب
الفلسطيني أو العراقي. وللإشارة فإن السيد الوزير في تصريحه هذا لم تفته الإشارة
إلى احتلال فلسطين, بل قدمها حتى على سبتة ومليلية والجزر المتوسطية (جزر
متوسطية؟؟؟ وكأنها ليست ذات قيمة لذكر تسمياتها. إنه دليل قاطع على اللامبالاة).
يقول الوزير بالحرف: "ومن المؤسف حقا أن تواصل السلطات الإسبانية تعنتها وأن يظل
مشكل تصفية الاستعمار قائما في بؤر قليلة من قبيل فلسطين المحتلة وسبتة ومليلية
والجزر المتوسطية". فرغم أنه تحدث عن تصفية الاستعمار, أبى إلا أن يضيف لفلسطين وصف
"المحتلة" وهو ما غض عنه الطرف أثناء ذكر سبتة ومليلية والجزر المتوسطية.
بالفعل في سنة 1957 كانت هناك نية لحل قضيتي سبتة ومليلية عن طريق الحوار. لكن الذي
بادر إلى فتح المفاوضات ليس المسؤولين المغاربة وإنما الإسبان أنفسهم, إذ أعرب
مونيوث غراندي نائب الجنرال فرانكو سنة 1957 عن استعداد إسبانيا الدخول في مفاوضات
مع المغرب غير أن وزارة الخارجية رفضت ذلك بحجة أن المغرب لديه ما يكفيه من
المشاكل.
يقول محمد بن عزوز حكيم المؤرخ المغربي والرجل الثاني في السفارة المغربية في مدريد
بعيد الاستقلال: "جاء الجنرال غراندي إلى فندق بلاثا في مدريد, حيث كنت أقيم رفقة
السفير عبد الخالق الطريس, وأبلغنا رغبته في أن نتناول وجبة غذاء معا. وخلال ذلك
طلب مني أن أبلغ السفير بأن إسبانيا يمكنها التفاوض مع المغرب حول الموضوع (أي
موضوع سبتة ومليلية)". وأضاف بن عزوز حكيم: "قمنا فورا بإبلاغ المغرب بالرغبة
الإسبانية, وأرسلنا تلكسا إلى وزارة الخارجية المغربية, غير أننا توصلنا بعد نصف
ساعة بجواب يقول إن المغرب لا يحتاج إلى مزيد من المشاكل."(المساء العدد: 359).
2.الحديث عن ملف سبتة ومليلية رهين بمصالحة حقيقية مع الشمال المغربي:
لا زلت أتذكر كيف استطاع الإسبانيون أن يصلوا إلي دوار "أغبار" (قبيلة إيبقوين),
الذي دمر بالكامل بالزلزال الذي ضرب إقليم الحسيمة في 2004, لإغاثة المنكوبين قبل
أن تصل فرق الإنقاذ المغربية التي استعصي عليها تحديد الموقع في الأول لأن الدوار
معزول ولا يرتبط بأية شبكة طرقية وبالتالي فهو, خلافا للأسبان الذين احتفظوا بأدق
التفاصيل الجغرافية حول المناطق التي كانت تحت سيطرتهم, يخرج عن نطاق اهتمامهم. وهو
المشكل ذاته الذي واجهته الدبلوماسية المغربية إبان أزمة "تازروت ن تورا" إذ وجدت
نفسها مضطرة للبحث عن بديل للتسمية الإسبانية حتى لا يتضمن احتجاجها وتنديدها
الشديد طوبونوميا إسبانية, فحورت تسمية "لاإيسلا" التي تعني في اللغة الاسبانية
"الجزيرة" إلي "ليلى". قبل أن ينتبه أحد المؤرخين إلى أن الأمر يتعلق بجزيرة
"تورا".
منذ الاستقلال الشكلي الممنوح للمغرب, ولى المسؤولون ظهرهم للمناطق التي وصفت من
قبل ليوطي بالمغرب غير النافع, إذ ظل محور فاس-الرباط- البيضاء محط كل الاهتمام,
بينما ترك سكان المناطق الأخرى يتدبرون أمرهم بأيديهم. لم يترك أمامهم في الواقع
سوى ثلاثة خيارات. إما الهجرة السرية. وإما زراعة المخدرات أو الاتجار فيها. وإما
الاستفادة من الولوج إلى مدينتي سبتة ومليلية للعمل هناك أو لتهريب المواد التي
تدخل عبر البوابتين. ويقدر الذين يدخلون المدينتين يوميا لهذا الغرض بعشرات الآلاف.
ناهيك عن الذين يستفيدون من المواد المهربة عن طريق الاتجار فيها داخل محلات مرخص
لها تستخلص منها الدولة الضرائب, أو نقلها إلى مدن مغربية أخرى.
فكيف إذن تريد الدولة أن تسترجع المدينتين بدون أن تفكر في ملايين من الأفواه الذين
لا يخفون فضل المدينتين في حصولهم على قوتهم اليومي؟؟
ليس أمام المغرب اليوم أي سلاح آخر يواجه به مشكلتي سبتة ومليلية من غير إغلاق
الحدود وفرض التأشيرة على الإسبان من أجل الضغط عليهم اقتصاديا. لكن الوصول إلى هذه
الخطوة يستدعي من الدولة إعادة حساباتها تجاه منطقة الريف بجعلها منطقة ذات أولوية
إنمائية بالدرجة الأولى, وتستفيد من كل الامتيازات من أجل تمكينها من استقطاب
الاستثمارات الداخلية والخارجية التي حرمت منها طيلة الفترة التي تلت "الاستقلال"
نتيجة انعدام التجهيزات العمومية الضرورية من طرق, طرق سيارة, سكك حديدية, مطارات,
مدارس, معاهد, جامعات, مستشفيات... كما أن الدولة مطالبة أكثر من أي وقت مضى, لبلوغ
هذا الهدف على المستوى المتوسط أو البعيد, بالاستجابة لطموحات وتطلعات ساكنة الريف,
والمتجلية في إعطائها صلاحية تسيير شؤونها المحلية بنفسها, والاعتراف الدستوري
الصريح بلغتها وثقافتها بوجه عام.
|