|
الأشكال الاحتفالية التراثية بالريف بين: وظائف ومتطلبات الأمس، وإكراهات الحاضر وتحولاته بقلم: اليماني قسوح (أستاذ باحث) تقديم :في البداية، أحيي كل الحاضرات والحاضرين في هذا اللقاء/ الملتقى، الذي تنظمه جمعية : ذاكرة الريف، تحت اسم: الذاكرة والتاريخ بالريف. وأشكر أعضاء الجمعية على حسن اختيارهم لموضوع الملتقى، وعلى إتاحتهم لنا الفرصة للمشاركة بمداخلة اخترنا على أن تتطرق لجانب من جوانب الذاكرة الثقافية للريف،وقد جاءت صياغة عنوانها كالتالي: «الأشكال الاحتفالية التراثية بالريف بين: وظائف ومتطلبات الأمس، وإكراهات الحاضر وتحولاته». يؤطر المداخلة سؤال مركزي يروم تسليط بعض الضوء على التحولات التي تمس بعضا من المظاهر والأشكال الثقافية، التي كانت تعكس إلى وقت قريب جوانب من هويتنا، وتؤدي وظائف وأدوارا عدة. يتعلق الأمر بالأشكال الاحتفالية التراثية التي أضحت في ظل إكراهات الحاضر وتحولاته، تعرف في أغلبها تراجعا وانزواء نحو هامش الهامش، إن لم أقل أن بعضا منها ذاب، وانتهى، وأصبح في خبر كان. ترتبط بهذا السؤال المركزي مجموعة من الأسئلة من قبيل: -ما المقصود بالأشكال الاحتفالية التراثية؟ ولماذا التركيز على الريف؟ -ما تجليات هذه الأشكال؟ وما وظائفها في الأمس؟ -ما إكراهات الحاضر وتحولاته؟ وكيف انعكست على هذه الأشكال؟ لرفع أي لبس قد يعتري المتلقي أثناء قراءته لعنوان المداخلة، أرى من الضروري، وفي إطار منهجي، الوقوف عند العناصر المفاهيمية التي تؤطر عنوان المداخلة، والتي ستسمح مقاربتي لها بالإجابة عن بعض من الأسئلة المطروحة أعلاه. وقبل ذلك، أقدم : أولا: الإطار الثقافي العام لمنطقة الريف. تعتبر منطقة الريف،جهة مغربية لها من الخصوصيات الثقافية، والتاريخية، والجغرافية، والاقتصادية، والبشرية، ما يؤهلها ويرشحها لتصبح قطبا فاعلا،تحكم وتسير شؤونها الذاتية في إطار مغرب ديموقراطي متعدد وفيدرالي. هذه المنطقة رغم وعورة تضاريسها، أثارت اهتمام وأطماع العديد من الشعوب والدول، بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي. قامت حكومات وجيوش هذه الدول والشعوب بمحاولات – خلال محطات تاريخية تمتد من التاريخ القديم إلى التاريخ الحديث والمعاصر – للسيطرة على المنطقة، والنفاذ عبرها إلى داخل البلاد الأم. هذه المحاولات استندت في أغلبها الأعم على القوة، وعلى السلم في بعض الفترات. ومما لا شك فيه، أن المراجعة التاريخية للماضي البعيد والقريب لهذه المنطقة،تكشف لنا عن حدوث تفاعل حضاري بين العناصر الوافدة والعناصر المستقرة. هذا التفاعل والتداخل الحضاري ترك بصماته الواضحة على الحياة الاجتماعية والثقافية لساكنة الريف،مثلما أن المنطقة انصهرت فيها فسيفساء بشرية ولغوية وثقافية بما حملته من عناصر السلب والإيجاب، يمكن للباحث وللدارس الميداني تلمسها في أنماط السلوك، ووسائل العيش، وفي كل مظاهر التراث الشعبي للمنطقة. في هذا الصدد، أود الوقوف عند الأشكال الاحتفالية التراثية، التي تعكس جانبا من هذا التداخل والتفاعل الحضاري. فما المقصود بالأشكال الاحتفالية التراتية؟ وما مظاهرها بمنطقة الريف؟ ثانيا : مفهوم الأشكال الاحتفالية التراثية. يراد بالأشكال الاحتفالية التراثية: مجموعة من المظاهر الثقافية والاجتماعية التي تتجسد كأفعال جماعية تتم فيها المشاركة الوجدانية. وهي أيضا،ككل الإنجازات التي تضم شكلا من أشكال التجمعات التي تتميز بالحرارة العاطفية ودفء التواصل، والتي لا تخضع لإشراف المؤسسات الرسمية داخل أجهزة الحكم، ولا يتحكم في توجيهها وتسييرها أفراد أو جماعات لهم وجود رسمي.فما هو تراثي شعبي ينطلق من عمق المجتمع بكل جدية وعفوية، ويخلق مناسباته ومادته بعيدا عن أي ترشيد أو توجيه أيديولوجي أو سياسي أو فكري أو دعم مؤسساتي. وبهذا المعنى، يمكن التمييز بين احتفالات شعبية تراثية خلقها الشعب بنفسه ولنفسه - وهو ما يشكل موضوع هذه المداخلة - واحتفالات رسمية خلقتها الأجهزة الرسمية لأغراض خاصة تخدم سياستها وتوجهاتها، كمهرجان (موسم الورود) أو (ملكة جمال حب الملوك ) أو (موسم التفاح )..(1) إن ما يجمع بين هذه الأشكال والمظاهر الثقافية والتراثية والاجتماعية، هو عنصر الاحتفال. الذي حظي باهتمام عدد من الدراسات النفسية، والأنتروبولوجية، والسوسيولوجية، والتاريخية، والأدبية، التي تكاد تجمع على أن الاحتفال حدث أو إعادة تركيب للحدث الأولي، ولغة وفعل جماعيان يقومان على المشاركة الوجدانية والفعلية، وهو تمثل ينتمي إلى النظام الرمزي، ولا ينبغي النظر إليه في حد ذاته، بل باعتباره تجليا لما يحدث في المشهد الآخر، أي في عالم المخيال الجمعي. ومن ثم فالانتهاك جوهر الاحتفال الذي يقوم على تمفصل ضروري بين الرغبة والمحظور عند الفرد، الرغبة في انتهاك المحظور دينيا ودنيويا،ومن بين كل النشاطات الجمعية يربط الاحتفال بين هذين النشاطين ربطا قويا، فالاحتفال آلية هدم وانقلاب وإلغاء –وإن كانت محدودة في الزمن – يحملها المجتمع في أحشائه،وغايتها القصوى هي التدمير،أي الموت، موت الرمزي. يعتبر ‘فرويد’ الاحتفال إفراطا مباحا بل ومنظما، وانتهاكا بهيجا للمحظور (2). وهو فعل مستقل وعفوي ينفلت من كل توجيه سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، وأن ما يفجره الاحتفال هو ذلك التطلع القوي إلى الهدم الذي تجهد الحكمة المحافظة نفسها لتتحكم في صيرورته، وتحد من دفقه. ولا يكون الاحتفال مباحا، بل وممكنا، إلا بقدر ما يحفظ الشرط الضروري للوجود والحياة الاعتياديين، ولذلك كان الاحتفال دائما مصالحة حميمية مشحونة بالقلق وبضرورات متعارضة (3). إن الاحتفال يخرق النظام ويزعزعه ثم يستعيده ويسترجعه. يلاحظ «R.Caillois» أن الاحتفالات البدائية كانت تتميز كلها بالفوضى العارمة التي يتبعها الهدوء، وبالاستهلاك الباذخ للمنتوجات الزراعية، وبالإفراط في الأكل والشرب وممارسة الجنس (4). وغالبا ما تتداخل الاحتفالات بالطقوس والأساطير. لقد ارتبط الاحتفال دائما – يقول أحد الباحثين – بالطقوس والشعائر الدينية، ومنه خرجت أشكال الفرجة المتعددة (5). وتتوازى الأسطورة بالطقوس والاحتفالات، وتقصد كلها إلى استعادة أزمنة البدء الأولي (6). تعتبر الأشكال الاحتفالية موروثا ثقافيا وفنيا شعبيا ذا دلالة اجتماعية وحضارية عميقة، و»ريبيرتوارا» مسرحيا تقليديا يرتبط بالوعي الجماعي للفئات الشعبية(7). وتعبر عن المشاعر والأحاسيس المتفاعلة في الذاكرة الجماعية في أوانها، ومن ثم فهي تكتسب خصوصيات المجتمع نفسه في ثباته واستقراره، وفي تحولاته وتبدلاته، فتترجم الانفعالات الاجتماعية والتاريخية،والأبعاد الجمالية والتخييلية لثقافة الشعب في كل مرحلة... وتجعل من كل أشكالها وفنونها تجليات فنية وثقافية لما تضطرب وتمور به أعماق الحياة الداخلية للمجتمع، وعلامات دالة على أنماط العيش الجماعي و علاقاته الروحية والمادية (8). إن ارتباط وتداخل الاحتفال بالأسطورة والطقس، وبصراع الإنسان مع قوى الطبيعة، وبحرصه على التجمع باعتباره كائنا اجتماعيا، يؤشر ويدل على أن نشأة الأشكال الاحتفالية وولادتها موغلة في القدم. ورغم ذلك، لم تحظ بالعناية والاهتمام من قبل المؤرخين، خاصة في المجتمعات التي اعتادت على الشفوية وتهميش تراثها الثقافي والحضاري، وما له من صلة بالمجتمع في الكتابة التاريخية التي أولت الأهمية والعناية للتاريخ السياسي والعسكري والمذهبي والعائلي، مثلما هو الشأن بالنسبة لوضعية مجتمعاتنا المغاربية. وعليه، فإن أية محاولة يقوم بها الباحث والدارس في اتجاه التأصيل والتأريخ لمثل هذه القضايا والمواضيع تصطدم بندرة المادة المصدرية وشحها وتبعثرها بين مصادر قريبة إلى التاريخ. وهذا ما جعلني أصوغ عنوان المداخلة على مستوى الزمان بتحديد زمن الأمس كإحالة على ماض قريب إلينا. ورغم ذلك، يكاد يتفق العديد من الباحثين والدارسين من مختلف التخصصات التي تتقاطع في مقاربة الموضوع، على أن المغرب، ومنه منطقة الريف، قد عرف أشكالا احتفالية تراثية شعبية منذ عصور قديمة جدا، منها ما استمر إلى الأمس القريب والحاضر(9)،ومنها ما اندثر وزال. هذه الأشكال أطلق عليها الدارسون عددا من الأسماء والنعوت مثل : الظواهر المسرحية والتجمعات الاحتفالية (10)،وأشكال ما قبل المسرحية (11)، والمسرح التقليدي أو العتيق (12) والتقليد المسرحي(13)، والأشكال المسرحية الأولى (14)، والأشكال التعبيرية(15). ثالثا: مظاهر الأشكال الاحتفالية التراثية بالريف. بالأمس، إلى زمن قريب، كان الريف، قبل أن تتعرض شخصيته وثقافته وذاكرته ومؤسساته وبنياته وقيمه للتهميش والتفكك والتراجع والانزواء والإقصاء، يزخر بتراث شعبي متنوع. من ذلك : الأشكال الاحتفالية التي لا يتسع المقام هنا لإعطاء نظرة مفصلة وشاملة عن كل عناصرها ومكوناتها وأشواطها وشعائرها و أنواعها وأصنافها. بيد أن هناك عددا من المعايير المعتمدة في عملية التصنيف مثل: شكل انتظام العارضين و»الجمهور» وتموضعهم في المكان، شكل العرض وطريقته،حضور الجانب الديني والطقوسي، ارتباطها بأحداث وشخصيات ومؤسسات رمزية،أو بمناسبة دينية أو تاريخية أو اجتماعية، تصاحب مراحل وأطوار الاجتياز من: حمل، وولادة، وعقيقة، وفطام، وختان، وبلوغ، ونهاية دراسة علم، وزواج، ووفاة، وكل ما يتصل بذلك من حالات اجتماعية. مثلما تتجلى بعض هذه الأشكال الاحتفالية في: علاقة المواطن بالحياة، والموت، والأرض، والطقوس، والعادات، والتقاليد... ومن أسماء هذه الأشكال المعروفة بالريف : احتفالات: «ثوثرا أونزار» أو « تاغنجا»، «أتار أو ثوثرا ن رعواشار»، «ثامغرا» أو «أورار»، «السابع»، «ثعاشورث»، «رموروذ»، «لعمارا ن لفقرا»، «باشيخ» (سونا)، «شارح مادجاح»، عينوز أو»أقلوز»،» أمغار» أو «لحاكوز»،»رعانصاث»، «ألامث»، «اعيساوين»،مواسم بعض الأولياء «سيدي شعايب أونفتاح» أنموذجا... تتضمن هذه الأشكال الاحتفالية عناصر فرجوية ودرامية تتداخل فيها الحركات بالألفاظ ،والإيماء بالغناء، والحزن بالسرور،والمأساة بالفرح، والجد بالهزل، في عروض يصعب فيها وضع حدود قارة وفاصلة بين المبدع/المؤدي والمتلقي/المشاهد. وتقوم هذه الأشكال الاحتفالية على أسس وخصائص متعددة كالحوار والتمثيل والقناع والطقس والرمز. وتعتبر خزانا للتقاليد والأعراف والمعتقدات، يتداخل فيها الديني بالأسطوري، والقيمي بالعرفي، والواقعي بالسحري. مثلما تستبطن وثائق وشواهد على الاحتكاك الحضاري والمثاقفة التي حدثت بين مكونات المجتمع بالمنطقة، وباقي المجتمعات المنتمية لجغرافية البحر المتوسط وإفريقيا خلال التاريخ. رابعا : وظائف الأشكال الاحتفالية بالأمس. ارتبطت بهذه الأشكال الاحتفالية مجموعة من الوظائف، من أهمها: ـ تحقيق التواصل والاتصال والتفاعل الاجتماعي بين الجماعات والأفراد ذكورا وإناثا،صغارا وكبارا. ـ ممارسة التحكم في سلوك الآخرين عن طريق السخرية ونقد الخلل الاجتماعي، ونواحي الاعوجاج في السلوكات والأفكار، وتسليط الضوء عليها، سيما في مراحل التحول والتغير، والكشف عن أوجه تعارضها مع الثوابت الحضارية والقيمية والثقافية للمجتمع. ـ تعزيز التماسك الاجتماعي بين الأفراد والجماعات، وتذويب الذات الفردية والأنا في الذات الجماعية، وتوفير الشعور بالأمن لها. ـ إحداث تطهير جماعي للانفعالات السلبية المتراكمة بفعل أحداث الحياة السياسية والاقتصادية والبيئية والثقافية. ـ تخفيف التوتر والقلق والأعباء الفردية، وهي وسيلة للتطهير الجماعي من المخاوف التي تهدد الإنسان من خلال : كسر الرتابة الزمنية، التنكر وتغيير وضعية الذات. ـ وهي أيضا وسيلة تعبر بها الطبقات الشعبية عن احتجاجها ضد الطبقة الحاكمة وسلطتها وخطابها، دون أن يثير ذلك حنق الحاكمين أو غضبهم، بوصف الاحتفال الشعبي ظاهرة أو مظهرا ثقافيا واجتماعيا يسمح في إطاره بأفعال ممنوعة في الحياة اليومية (16). ـ التخفيف من وطأة القيود الاجتماعية. ـ المساعدة على نقد المؤسسات الاجتماعية وبعض الشخصيات السلطوية والأعيان، وانتقاد السلطة بأشكالها كافة (السياسية والدينية والأسرية...)، والكشف عن العيوب والانحرافات الاجتماعية السائدة. ـ الفرجة والترفيه والتسلية والترويح عن النفس للتخلص من متاعب الحياة اليومية والعملية، ولاستعادة القوى والجهود، وتجديد الطاقات الإنتاجية للمشاركين في الاحتفال كمتلقين أو عارضين. ـ تحيين وتجديد التحالفات والعلاقات البينية، وشرعنة المرور من مرحلة لأخرى في إطار مراحل الاجتياز. خامسا : الأشكال الاحتفالية وإكراهات الحاضر وتحولاته. يتضمن مفهوم التحول دلالات لا تخلو من غموض أحيانا، دلالات تتقارب بينها وتتداخل مع دلالات مفاهيم أخرى مثل : التطور، والنمو، والمرور، والانتقال، والتغيير(17). غير أن سياق التوظيف هو ما يوضح المعنى ويدققه أكثر، ويجلي الغموض: في هذه المداخلة المتواضعة، تم توظيف مفهوم «التحولات» للدلالة على مظاهر التفكك، والتفسخ، والانحلال، التي لحقت نظام القيم، والمقومات والبنيات الاجتماعية والثقافية التي كان يقوم عليها المجتمع بمنطقة الريف. هذه التحولات جاءت بفعل إكراهات مرتبطة بمشاريع السياسة الاستعمارية، وسياسة النظام المتبعة بعد 1956 م. استهدفت مشاريع السياسة الاستعمارية خلخلة البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية الريفية لتجفيف مصادر المقاومة، ومرجعياتها الثقافية والتنظيمية. بينما دفعت سياسة النظام بعد 1956 إلى المبالغة في عملية بناء السلطة المركزية، والدفاع عن وحدة القوانين، ووحدة وسائل الضبط، ووسائل الأمن، ووحدة مصادر التقرير ومركزيتها، وإلى تبني توجهات و»خيارات» فكرية وثقافية وتعليمية وايديولوجية تستند على مرجعية لا شعبية ولا وطنية غريبة عن ثقافة وتراث المجتمع الريفي الذي تعرض للحصار والاتهامات بالعمالة للاستعمار،أو بالتخلف وإشعال الفتنة ( الأوباش..)، ونهج هذا النظام خيارات اقتصادية قائمة على تشجيع الهجرة التي أدت إلى زعزعة العلاقة التي كانت بين المواطن الريفي وأرضه وقيمه ومرجعياته الثقافية، واعتمد خيار السياحة وشجعها وما زال عبر فلكلرة ما تبقى من مظاهر التراث. توجهات و»خيارات» هذه السياسات ترتب عنها : ـ أن الأسرة كخلية وبنية اجتماعية سارت بدون انقطاع نحو نموذج الأسرة – النواة. ـ التآزر الاجتماعي قد تلاشى لفائدة الارتقاء الفردي، وظهور النزعة الأنانية واتساعها ـ تراجع التعاون الجماعي وانحلاله، وكذلك الشأن بالنسبة للطابع الجماعي للأملاك ووسائل الإنتاج الذي انمحى لفائدة الملكية الخاصة ‘(18). ـ تهجين ومسخ واستلاب وفلكلرة ما تبقى من التراث الاحتفالي الشعبي واحتواؤه، وفي هذا الصدد، تدخل الاحتفالات الرسمية ذات الطابع الشعبي التي تخلقها الأجهزة الرسمية لأغراض تخدم سياستها وتوجهاتها عبر تسليع الفرجة المرتبطة بالاحتفالات والتراث الشعبي، وتسخيرها للاستهلاك الدعائي ولأغراض سياحية، وانتصاب فضاءات سياحية مصطنعة بغية إنتاج «الديناميات» الثقافية القديمة، والإكثار من هذه الفضاءات إلى حد الابتذال مثلما يحدث خلال الصيف بحيث يصبح لكل مدينة أو قرية أو جماعة مهرجانها واحتفالها، وهذه المظاهر تعمل على إعدام الوظيفة الحقيقية للاحتفالات والفرجة الشعبية المرتبطة بها لدى المواطن الذي أصبح وعيه متحكما فيه وموجها ومراقبا من قبل مؤسسات تربوية ودينية وإعلامية تكن موقفا عدائيا، وتجسد سلوكا إقصائيا تجاه الذاكرة الحية والعميقة للمجتمع الريفي. على سبيل الختم : إن ما تتعرض له الاحتفالات الشعبية التراثية بمنطقة الريف من انخساف وتراجع بفعل إكراهات مرتبطة بالتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي يقف وراءها نظام متحكم في كل المؤسسات والوسائل ورث آليات التدبير والمراقبة والضبط والتوجيه عن النظام الاستعماري، يعد خسارة وجريمة في حق الذاكرة والهوية سواء على الصعيد المحلي، أم على الصعيد الوطني، أم على الصعيد العالمي الإنساني. ويبدو أن أية محاولة لإعادة الاعتبار للتراث الاحتفالي الشعبي، لن تكون ذات فعالية ومردودية إلا في إطار مشروع مجتمعي يعيد الاعتبار للذاكرة والتراث الحي والحيوي للريف وسكانه في سياق التحول نحو ديموقراطية حقيقية وواقعية تنطلق من الواقع لتحرره وتحريره من كل هيمنة أو توجيه أو وصاية أو مراقبة، التي إن استمرت مرجعياتها وخيارتها، فإن ذاكرتنا ستصاب بالأفول والشلل اللذين لن تفيد معهما أية معالجة، فإما «أن نكون أو لا نكون»، الكينونة خيارنا الذي يظل مفتوحا على اقتراحات مشاريع لكم أيها الحضور الكرام أن تشاركونا في صياغة جوانب منها، والتفاعل معها، فلكم الكلمة . الهوامش:
1ـ فؤاد أزروال: التلقي في الفرجة الشعبية، دراسة في الأنماط والأسس. أطروحة لنيل الدكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة محمد الأول، وجدة، 2004-2005، ص: 40 (غير منشورة). 2 ـ freud, S : Totem et tabou. Paris , Payot, S.d,P :161. - نقلا عن : عبد الواحد ابن ياسر : حدود أشكال الفرجة التقليدية - مقاربة أنتروبولوجية -، ضمن كتاب : الفرجة بين المسرح والأنتروبولوجيا. (كتاب مشترك)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، سلسلة أعال الندوات، رقم :8،ط:1،مطبعة ألطوبريس، طنجة، نوفمبر 2002، ص:41. 3 ـ G. Bataille : Théoirie de la religion ; Paris ,Gallimard, Idees,1973,PP :73-. 3- - نقلا عن عبد الواحد ابن ياسر: مرجع سابق. ص:42. 4 ـ -R. Callois : L’homme et le sacré ; Gallimard,1950. - أورده : سعيد الناجي : «تأصيل الفرجة وطرائق الاحتفال في الثقافة العربية الاسلامية». ضمن كتاب: الفرجة بين المسرح والأنتروبولوجيا. مرجع سابق،ص: 75. 5ـ سعيد الناجي : م س، ص: 74. 6ـ نفسه، ص: 75. 7ـ عبد الواحد ابن ياسر : م س. ص: 62. 8ـ فؤاد أزروال : مس.ص: 44. 9ـ في هذا الصد د يقول عثمان الكعاك: « التمثيل قديم عند البربر، جاؤوا به من الهند، وأسس له يوبا الثاني معهدا لتدريسه بشرشال، وألف فيه التصانيف، والتمثيل البربري اما ديني على الطريقة الهندية واليونانية القديمة، فهو أناشيد ورقص وحركات وتصاوير تمثيلية لاسترضاء الآلهة أو ابعاد غضبهم، أو خزعبلات مضحكة للسخرية من بعض الشخصيات البارزة، وإظهار عيوب الناس المنتقدة...». - -عثوان الكعاك : البربر. ط:2، النجاح الجديدة، الدار البيضاء،2003، ص:117. 10 ـ محمد الكغاط : المسرح وفضاءاته. ط:1،دارالبوكيلي للنشر والتوزيع،القنيطرة،المغرب،1996،ص:25.11 – محمد عزيزة : الاسلام والمسرح. ترجمة : د. رفيق الصبان، ط:2، عيون المقالات،البيضاء، المغرب،1988، ص: 52-72. 12 –فاطمة شبشوب: «دور المرأة في المسرح العتيق «.مجلة مكناسة (مجلة كلية الآداب والعلوم الانسانية بمكناس )، عدد: 3، 1989،ص:104. 13- حسن المنيعي : أبحاث في المسرح المغربي. ط:1،صوت مكناس،مكناس،1972، صص: 13-30. 14 – نوال بنبراهيم : الأشكال المسرحية الأولى : فرجة اللبوءات و الأسود نموذجا». مجلة المناهل ،عدد: 56، السنة 22، شتنبر 1997، صص: 323 -337. 15 – مصطفى رمضاني : الحركة المسرحية بوجدة من التأسيس إلى الحداثة. منشورات كلية الآداب وجدة، رقم : 15، سلسلة بحوث ودراسات : 3، ط: 1، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1996، صص: 17-24. 16 – فؤاد أزروال : م سابق، صص: 127-128. 17 –عز الدين الخطابي : سوسيلوجية التقليد والحداثة بالمجتمع المغربي – دراسة تحليلية لدينامية العلاقلت الاجتماعية. ط: 1، منشورات عالم التربية، النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1421-2001، ص: 16. 18 – أحمد بوكوس :» الثقافة الشعبية والثقافة الوطنية «. ضمن كتاب : الثقافة الشعبية بين المحلي والوطني (كتاب جماعي )، أعمال الدورة الثالثة لجمعية الجامعة الصيفية بأكادير،من 1 إلى 6 غشت 1988، مطابع عكاض، الرباط،1990، ص: 23.
|
|