|
من أجل الخروج من الإيديولوجيا العربية بقلم: ميمون أمسبريذ كيف دخل المغرب في الإيديولوجيا العربية قبل بسط دواعي الخروج من الإيديولوجيا العربية في المغرب وسبل هذا الخروج، يجدر بنا أن نستعرض معا بعض أوجه حضور هذه الإيديولوجيا في حياتنا بمختلف مجالاتها. كرونولوجيا، تعرض مغرب الاستقلال لثلاث موجات متتابعة من الإيديولوجيا العربية: 1.السلفية التقليدية: وهي، كما يدل على ذلك اسمها، حركة فكرية تؤمن بأن التقدم لا يمكن أن يكون إلا إلى الخلف (السلف). هذا على الصعيد النظري؛ أما عمليا فهي تمارس الترقيع (le bricolage)، مؤمنة أن الحضارة الغربية قطع منفصل بعضها عن بعض كقطع الغيار، يمكن أن نقتني منها ما نشاء حسب الحاجة، خاصة منتجات التكنولوجيا ومواد الاستهلاك اليومي، دون أن نلتفت إلى العقل الذي أنتج تلك الحضارة، ولا إلى الأطر السوسيوثقافية التي جعلت اشتغال ذلك العقل ممكنا. هكذا يمكن للعربي-المسلم أن ينعم بثمار العقل الغربي الضال من وسائل اتصال ومواصلات وتطبيب ومواد استهلاك... (وهذا هو شق "المعاصرة" في أدبيات هذه الإيديولوجيا) دون أن يتنازل عن شيء من مرجعيته الثقافية العتيقة التي لا أعتقد أني أجافي الصواب إذا لخصتها في البداوة (وهذا هو شق "الأصالة" في تلك الأدبيات)؛ وبالأخص دون أن يواجه العقل العربي-المسلم عواصف الشك وأزمات اليقين ومعاناة القطائع الإيبستمولوجية والبسيكو-ثقافية، ولا أن يجتاز المناطق المضطربة للتاريخ. لقد تكفل بذلك العقل الغربي المنحرف بالنيابة عنه؛ وليس على العربي-المسلم إلا أن يلتقط ما يتساقط من ثمار الحضارة الغربية جراء عواصف التاريخ التي لا تنفك تهز شجرتها المعطاء منذ خمسة قرون. وبينما العربي-المسلم منهمك في التقاط وتخزين الثمار المتساقطة المتقادمة، يواصل العقل الغربي فتوحاته العلمية والمعرفية والتكنولوجية موسعا الهوة بين عقل سلفي مطمئن إلى يقيناته، قانع بالالتقاط، وعقل مقدام خلاق متوجه إلى المستقبل.هذه الإيديولوجيا السلفية تمت مأسستها على يد دولة الاستقلال من خلال التعليم والإعلام، وأصبحت تشكل إيديولوجية الدولة وثقافة قطاعات اجتماعية واسعة ممن يمسها التعليم والإعلام العموميان. وقد شكلت بعناصرها اللغوية والثقافية والعقلية الأرض الخصبة للموجتين الإيديولوجيتين اللاحقتين: السلفية القومية والسلفية الوهابية بشقيها التبشيري والإرهابي. 2.السلفية القومية قد يفاجأ القارئ من هذا المصطلح الذي نحتته بالربط غير المتوقع بين السلفية والقومية. لكن المفاجأة ستزول عندما ندرك أن السلفية كحالة ذهنية (état d'esprit) تشكل ثابتا بنيويا في كل تيارات الفكر العروبي، سواء المتعلمن منها أو المتداين. وتؤكد التطورات اللاحقة لهذه التيارات، والتي تجري تحت أبصارنا وأسماعنا (أشير إلى انصهار -la fusion- التيارين القومي والإسلاموي في تنظيم موحد هو "المؤتمر القومي-الإسلامي") صحة ما نذهب إليه. المشروع القومي العربي ينتظم حول مفهوم "البعث": بعث أمجاد السلف المجيد (مكان "السلف الصالح" في الخطاب السلفي – الديني laïcité » oblige ») . هذه الأمجاد تكفل ببنائها خطاب ميثو-تاريخي mythohistorique يقوم على التزوير والتزييف والانتحال والترامي على أملاك الغير؛ ف"التاريخ الإسلامي" في هذا الخطاب هو نوع من المسرح الفردي (one man show)، الفاعل الوحيد فيه هو العربي: الدول والإمبراطوريات والعلوم والفلسفة والفنون والآداب والعمارة... كل ذلك وغيره من الإنجازات التي تحفل بها جرود (inventaires) التاريخ الأسطوري هو من فعل العرب ولا يد لغيرهم من الشعوب فيه. هذا الانتحال الشامل (usurpation massive) لإنجازات تاريخية لشعوب متعددة لها أرصدتها الحضارية الخاصة التي تراكمت عبر آلاف السنين، ولها سياقاتها الجيوإستراتيجية الإقليمية ورهاناتها المحلية... (هذا الانتحال) الممأسس عبر التعليم والإعلام أفضى إلى إنتاج شخصية إشكالية، هي ما يسمى في الأدبيات القومية "الإنسان العربي". هذا "الإنسان" يعيش معاناة نفسية حقيقية بين واقعه الذي يقزمه، باعتباره من سكان العالم الثالث، بتخلفه التاريخي ومعضلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين ماضيه الأسطوري الذي يعملقه بوصفه الصانع الوحيد لحضارة زاهرة لم تكن تغرب عنها الشمس. نجد أنفسنا بإزاء شخصية شبيهة بشخصية الأرستقراطي المفلس (l'aristocrate déchu)، مع فارق أن الماضي المجيد لهذا الأخير حقيقي وليس مختلقا كما هو الماضي المجيد لـ"إنساننا العربي": كلاهما ساخط على الحاضر الذي يزدريه، ناقم على الزمن الذي أذهب حظوته، حاقد على الناجحين، كاره لنفسه العاجزة عن الفعل هنا-والآن... ملاذهما الوحيد من "الزمن الرديء"، هو الماضي الحافل بالعز والأمجاد، والذي تزيد من تجميله مخيلة منكوبة في حاضرها. "الإنسان العربي"، كما صاغته الأدبيات القومية، إنسان تعس، شقي، يعتبر أن نجاحات الآخرين سرقت منه هو، وأنه، على نحو ما، أحق بها. لقد طور هذا "الإنسان" بسيكولوجبا معقدة يختلط فيها جنون العظمة والشعور بالاضطهاد وكراهية الآخر وتقمص دور الضحية. هذه السيكولوجيا التي تشرط رؤيته للعالم، محرفة إياه ومشوهة له، تمنع هذا الكائن الإيديولوجي من التدخل ايجابيا في العالم والانخراط في دينامكية الحداثة. لقد لفق له الخطاب الميثو-تاريخي ذاكرة جمعية مثقلة بالأمجاد، فهو ينوء بحملها؛ يجرجرها مراوحا مكانه، ناظرا إلى الوراء متفقدا حمولته الثمينة، بينما يحث غيره الخطى متقدما وبصره متشوف إلى الآفاق البكر. تحتاج هذه الذاكرة المتورمة إلى حمية جذرية تخلصها (هذا ما أرجوه للإنسان العربي بدون مزدوجات، أي العربي العادي) من الزيادة المفرطة في الوزن؛ هذه الزيادة التي تعوق حركة حاملها وتتسبب له في سائر أنواع الأمراض القاتلة: بدءا من انسداد شرايين الحياة إلى ارتفاع الضغط المحدث للانفجار، كما نشهد هذه السنين. لقد فكرت في الحمية أسلوبا لعلاج الذاكرة المتورمة ل"الإنسان العربي"؛ لكني لما استعرضت بيني وبين نفسي كمية الوزن الذي عليها أن تفقده لكي تعود إلى حجمها الطبيعي وجدت أنه لا مناص من الجراحة. فهذه وحدها التي من شأنها، بالنظر إلى حجم الأجزاء التي يتوجب بترها، أن تفي بالغرض. إلى المبضع إذن؛ ولنبدأ بالدول المحسوبة زورا على التاريخ العربي. ولنعمل المبضع فيما يحضر منها إلى الذاكرة جزافا ودون أية نية في الاستنفاذ: الدول والإمارات والإمبراطوريات الأمازيغية في شمال أفريقيا من برغواطيين وزيريين وحماديين ومرابطين وموحدين وحفصيين وبني عبد الواد ومرينيين ووطاسيين؛ الإمبراطوريات والدول والسلطنات الفارسية والتركية السلجوقية والمغولية والمملوكية والتركية العثمانية وغيرها من أسر آسيا الوسطي التي أسست دولا مستقلة. ماذا سيبقى من الأربعة عشر قرنا المحسوبة على التاريخ العربي إذا نقصنا منها هذه القرون والأحقاب التي سادت فيها دول نشأت من صلب شعوبها؟! بضع مئات من السنين مشتة على أسر شتى غالبا ما لم يكن فيها للخليفة العربي سوى وظيفة بروتوكولولية (شأن بعض خلفاء العباسيين الذين كان الفرس والأتراك هم الحكام الفعليون زمن خلافتهم). لا شك أن ذاكرة "الإنسان العربي" قد تخففت الآن من قسط لا بأس به من الوزن بعد أن بترنا هذه الأجزاء التي ليست منها. لكن لنواصل إعمال المبضع؛ ولنتحول إلى مجال العلوم والفلسفة والآداب والفنون، وهو المصدر الأكبر لما أصاب أنا "الإنسان العربي" من تورم وانتفاخ على يد كتاب الميثو-تاريخ. لقد ألحق هؤلاء بالعرب كل ما أنتج ضمن السياقات الإسلامية مكتوبا بالعربية (وأحيانا حتى غير المكتوب بها). لكن الوقائع عنيدة؛ وكل قارئ يتصفح دائرة المعارف الإسلامية (Encyclopédie de l'islam) أو أي معجم تاريخي للإسلام يستطيع أن يقف على فظاظة أساليب الغش التاريخي التي يقوم عليها الميثو-تاريخ العربي. إن قائمة أسماء الأعلام التي ترد هنا من علماء وفلاسفة وكتاب ولغويين، الخ. تعج بالأسماء المنتمية إلى ثقافات عريقة، خاصة في فترة التكوين والعصر الكلاسيكي، ولا تمثل فيها الأسماء الناشئة في الثقافة العربية سوى استثناءات معدودة. والأمر مفهوم ما دام أن الثقافة العربية كانت حتى القرن التاسع ثقافة شفوية "لا تكتب ولا تحسب". لكن الذي ليس مفهوما هو أن يدعي كتاب الميثو-تاريخ العربي أن العربية هي التي سمحت لهؤلاء بأن ينجزوا ما أنجزوه في مجال الكتابة الأدبية والفلسفية والعلمية! إن القارئ الذي له أدنى ألفة بنصوص عبد الحميد الكاتب وابن المقفع (في النثر السياسي والأدبي) أو ابن سينا (في النثر الفلسفي والطبي والصوفي) أ و غير هؤلاء من رواد "الأدب" المكتوب بالعربية (كما نتحدث اليوم عن أدب مكتوب بالفرنسية أو الإنجليزية أو الأسبانية أو البرتغالية على يد كتاب ليسوا لا إنجليزا ولا فرنسيين ولا أسبانا ولا برتغاليين، دون أن يخطر ببال أحد أن يعدهم كذلك)، أقول: إن القارئ الذي له بعض الألفة بنصوص هؤلاء لا يعسر عليه أن يدرك الجهود المضنية التي بذلوها للانتقال باللغة الشفوية للعسكر والولاة والخلفاء العرب، التي فرضها هؤلاء لغة رسمية، إلى لغة للكتابة؛ أي لغة قادرة قليلا أو كثيرا على استقبال الإرث المكتوب للحضارات العريقة التي ينتمي إليها هؤلاء الكتاب والمفكرون. لقد عانوا كثيرا لكي يطوعوا بنية الجملة العربية الشفوية البسيطة ويغنوها لكي تستوعب حركات الفكر التحليلي المنطقي البرهاني الذي لم تعرفه من قبل؛ كما أنهم جددوا معجم اللغة العربية الذي لم يكن يتجاوز الحقل الدلالي للبيئة البدوية، وأغنوه بتسميات ومصطلحات تغطي عوالم دلالية وآفاق نظرية ومفاهيمية لا عهد للعربية بها. وقد خلفت عملية التوليد القيصرية التي باشرها الكتاب والمفكرون الحاملون للإرث الإغريقي-الروماني والهندي والفارسي بمرجعياتهم الحضارية ومخيالاتهم الثقافية، (خلفت) خدوشا في البنية الأسلوبية للغة العربية ذات الصبغة الشفوية الغنائية. ولم يعزب عن بال النقاد العرب آنذاك هذا العنف الذي مارسه الدخلاء على لغتهم، فأدانوه بأن ألحقوا تجلياته بالعيوب الأسلوبية كالركاكة والتقعير والتعقيد والإعضال وما شابه هذا من الأحكام القدحية التي تشي في الواقع بحدود العقل العربي آنذاك باعتباره عقلا "بلاغيا" غنائيا(lyrique) ، غير مؤهل لتلقي كتابة "حديثة" حمالة لمضامين فكرية وحساسيات ثقافية وذاكرات جمعية لا عهد له بها (تنظر محنة يونس بن متى مع العربية ليجعلها تقبل "القوميذيا" comédie و"التراغوذيا" tragédie و"الريطوريقا" rhétorique وغيرها من مصطلحات الشعرية الأرسطية؛ ولم يفلح في ذلك رغم كل الإرادة الحسنة والجهد. أما "الأخطاء" التركيبية التي ترجع إلى انتقام اللغة الأم عن طريق الكشف الماكر عن بنيتها من خلال لغة الكتابة، والتي تسمى solécisme، فهي معروفة في كتابات ابن سينا وابن المقفع وغيرهما ممن جاءوا إلى العربية وهم يحملون لغات قوية وأرصدة ثقافية وفكرية متينة). هذا، وإنما سقت هذا لأبين أن ليس العرب والعربية هما اللذان أعطيا الشعوب كما يزعم كتبة الميثو-تاريخ، بل الشعوب أعطت العرب والعربية. وإن كنت أطلت الاستطراد فلكي أوحي بضخامة حجم ما ينبغي أن يخصم من الذاكرة المصطنعة لـ"لإنسان العربي" حتى ترجع إلى حجمها الحقيقي، فيعرف هذا الإنسان قدره ويقف عنده، ويتخلص من ذلك الكوكتيل الانفجاري الذي يشكل تركيبته النفسية (الميغالومانيا-البارانويا-الميلانخوليا- النوستالجيا)، عسى أن يكف عن إزعاج الآخرين بشكاويه التي لا تنقطع، وبكائه على "رماد أمجاد" ليست له (عنوان مسرحية لعبد الحق الزروالي عرضتها القناة الأولى أخيرا)، وعن احتقارهم لأنهم لا يسمون إلى مقامه (شأنه مع الأمازيغيين)، أو الحقد عليهم لأنهم حازوا قصب السبق في مضمار التنافس العالمي (شأنه مع الغرب). 3.السلفية الوهابية أما هذه فالمغرب عندها بدعة وأهله مشركون، ولا سبيل لهم إلى النجاة في العاجلة والآجلة إلا أن يأخذوا بدين المملكة العربية السعودية. وقد بدأت رياح هذه الديانة الصحراوية الجافة تهب على المغرب أواخر العقد السابع من القرن الماضي بمباركة من أصحاب الحال آنذاك، أخذا بقاعدة "عدو عدوي صديقي". وقد وجدت الطريق ممهدا نفسيا وعقليا بفضل التعليم السلفي-القومي السائد منذ الاستقلال؛ فتلقفها المتعلمون وأنصاف المتعلمين على أنه الدين الحق؛ ثم نشروها بين ذوبهم وأوساطهم من الأميين وأشباه الأميين، إلى أن صارت تشكل المعيار الديني ـ الأخلاقي ـ الثقافي في هذه الأوساط؛ حتى لقد شهدت الجماعات مآسي حقيقية بلغت حد التفريق بين الابن ووالديه، والفرد وأسرته أو جماعته بدعوى أن هؤلاء مشركون ينبغي التبرؤ منهم... ثم انتبه بعض سماسرة السياسة إلى وجود هذه القاعدة الاجتماعية الجديدة فأرادوا الاستثمار فيها عن طريق تصريفها إلى قاعدة انتخابية (حزب العدالة والتنمية، مثلا) أو إلى احتياطي اجتماعي قابل للتعبئة حسب أجندا سياسية-قيامية (politico-apocalyptique) غير واضحة المعالم (جماعة العدل والإحسان). لكن هذه الإيديولوجيا، بما تحمل من نزوع إلى الفعل، لم تكن لتبقى حبيسة "دروس الوعظ والإرشاد"، وكان لابد أن تنتقل من التنظير إلى التطبيق ومن الخطاب إلى الفعل. وبما أن المجتمع المغربي مجتمع كافر، أي لا يدين بدين الوهابية، فقد وجب جهاده وإهدار دمه؛ فكانت الحركات الإسلامية المغربية المسلحة ذات الولاء الوهابي، ثم كانت مبايعة ابن لادن السعودي أميرا للمؤمنين في المغرب الإسلامي... الحصيلة أشرت إلى بعض النتائج الكارثية للإيدولوجيا العربية، بأمواجها المتتالية، على مجتمعنا لدى استعراضي لكل واحدة منها. وفيما يلي وصف للحالة التي أوصلنا إليها الاشتغال المتضافر لمكونات هذه الإيديولوجيا. - سياسيا: بينما ينتمي المغرب إلى حوض البحر الأبيض المتوسط الذي اعتنقت شعوب ضفته الشمالية الديمقراطية تباعا خلال العقد السابع من القرن الماضي (البرتغال، أسبانيا، اليونان، بعد إيطاليا)، منضمة بذلك إلى موكب العالم المتحضر، الذي تسود فيه دولة القانون الكافلة للحقوق والحريات الفردية والجماعية للإنسان والمواطن، اختار المغرب، باسم خصوصية الانتماء إلى "عالم عربي-إسلامي" غرائبي (exotique)، أن يتبنى ثقافة سياسية هجينة حولاء؛ جاعلا قصارى طموحه أن يقول عن نفسه أو يقال عنه: إنه القطر العربي الأكثر ديموقراطية أو حداثة أو غير هذه من التعابير المسكوكة التي أرهق بها الإعلام الرسمي أسماعنا؛ وكان مسألة الديمقراطية في "العالم العربي" مسألة تفاوت في الدرجة بين دوله؛ في حين أنها في الواقع مسألة انعدام الديمقراطية فيها بالمرة. وبطبيعة الحال، فإن من يتسابق مع مقعدين لا بد أن يكون أسرع منهم! - اجتماعيا: لقد أفضى إسقاط أنظمة معايير وقيم مستعارة، تشكلت ضمن سياقات خاصة، على مجتمعنا، بدل رعاية وتنمية القيم الأصيلة التي أنتجها/ينتجها هذا المجتمع في تفاعل مع محيطه البيئي والبشري والتاريخي والجغرافي على مدى الدهور، (أفضى ذلك) إلى شيوع أنماط تفكير وسلوك تنم عن سكيزوفرينيا شبه جماعية؛ تعيش فيها الذات الاجتماعية تمزقا بين نموذج معياري مؤمثل، مفروض من الخارج وبين نمط حياة أصيل، متفاعل، متجدد، مبني على حس نقدي عملي، يدرك الإكراهات ويحتويها، بدل أن يتعالى عليها وهميا. لقد تم تخريب معظم المؤسسات الأمازيغية التي يتجسد فيها النمط الأمازيغي للإعمار والتعايش (le vivre ensemble). منها مثلا مؤسسة "أكدال" العريقة في تدبير البيئة (الاستغلال المعقلن للموارد الغابوية)؛ ومنها مؤسسة "ثاويزا" التي هي بحق القمة ضمن الإبداعات الجماعية الأمازيغية في مجال التكافل الاجتماعي الخالي من كل غائية مفارقة؛ ومن القيم الأمازيغية التي ما أحوجنا إليها في زمن الوعي الإيكولولوجي هذا والتي عصفت بها عقلية نومادية (nomade) التقاطية: قدسية الأرض. فالأرض ليست امتدادا طبيعيا غفلا، بل هي شريك متطلب، تنظم التعامل معه أخلاقيات (une éthique) خاصة، مستبطنة في الضمير الفردي والجماعي... بدل هذه الأخلاق الحية، العملية، التلقائية، التي يكتسبها الأمازيغي ويباشرها خلال الفعل اليومي، فرضت على المغاربة "قيم" و"أخلاق" خطابية، لفظية، بلاغية، لا مجال لها غير المنابر وأقسام الدرس والمكتويات المكرورة. هكذا صار الخطاب بديلا عن الواقع واللغة عوضا عن الحياة... - ثقافيا: لقد كان من آثار التعريب الإيديولوجي من خلال التعليم أن نشأت أجيال من المتمدرسين في التعليم العمومي أحاديي لغة التكوين، مقطوعين عن مرجعيتهم السوسيو ـ ثقافية المغربية التي تعد الأمازيغية وعاءها، ومفصولة عن اللغات الحية الحاملة للمعارف الإنسانية الثورية لهذا العصر. إنها أجيال أهلت لغويا وعقليا لتلقي شيء واحد: هو الدعاية (propagande) القومية والإسلاموية (وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو،.. كما قال زهير بن أبي سلمى قديما). أجيال حيل بينها وبين الانخراط في التيارات العميقة للفكر والمعرفة الإنسانيين (علوم الإنسان والمجتمع، الفلسفة، الموسيقى الكلاسيكسة، الأدب والمسرح العالميان...)، وسجن داخل أسوار لغة عربية لم تعد تحمل، وقد هجرتها الشعوب التي كانت تغذيها خلال العصر الكلاسيكي بحمولاتها الحضارية لتعود إلى لغاتها الأصلية، (لم تعد تحمل) سوى بيانات الشيوخ والأمراء عن "فتوحاتهم" و غزواتهم، ووعيدهم وإنذاراتهم؛ أو سجالات ومهاترات القوميين وأشعارهم الشعاراتية الموتورة... هكذا نجدنا بإزاء أجيال من الشباب (وأحيانا الكهول) متشنجين، منغلقي الأفق الفكري، واطئي سقف المعنى... وهذه الأجيال هي التي يعهد إليها بالتنشيط الثقافي و"الإعلامي" بالعربية للعموم عبر الوسائط السمعية البصرية والصحف. والنتيجة: جرائد هي مزيج استنساخي لا لون له ولا طعم من الهذيان الشوفيني لعبد الباري عطوان (صاحب "القدس العربي") والشعبوية التي تطفل الشعب، مستدرة عواطفه وجيوبه، بدل أن تخاطبه كراشد؛ ولا بأس من جرعة من "المصريات" على طريقة مجلة "الموعد" القاهرية المتخصصة في عرض فضائح المطربين والممثلين وأخبارهم، على سبيل الترويح على نفس القارئ بعد أن أثيرت أعصابه بكل النكبات العربية!!... كل ذلك في لغة وأساليب ملبننة (من لبنان)، ممصرة (من مصر)، لكن دون ذلاقة لسان المصريين والشاميين التي على الأقل تغطي على خواء ملفوظاتهم (الأمر مفهوم: هؤلاء "عرب" وأصحابنا معربون). ذلك شأن الجرائد، المستقل منها والمرتبط، أما الوسائط الأخرى فليست أحسن حالا؛ وقد تحدثت عنها في مقالات سابقة؛ ولا حاجة لمزيد. الحاصل أن الإيديولوجيا العربية المعاصرة المفروضة على المغاربة جعلت من مجتمعنا، على الصعيد الثقافي، مجتمعا استهلاكيا، كف عن إنتاج أي أشكال رمزية تتكفل بصياغة تجربته الخاصة في الزمان والمكان، كما فعل دائما، مما حماه من الانقراض الرمزي، (كف عن ذلك) ليتحول إلى مستهلك للملابس الثقافية الجاهزة التي فصلت وخيطت في ورشات معتمة وبأيدي تجهل كل شيء عن مقاساتنا؛ نرتديها فنبدو فيها أغبياء مثيرين للسخرية. الخروج من الإيديولوجيا العربية/الدخول في الثقافة الأمازيغية إن الخروج من الإيديولوجيا العربية المعاصرة، بتلاوينها المعروضة أعلاه، هو بالنسبة للمغاربة، خروج من ثقافة التخلف والتعاسة والحقد والموت. هذا الخروج لا يمكن أن يكون إلا بالدخول في ثقافة البلاد الأمازيغية: ثقافة الأرض والحياة والإنسية المنفتحة على العالم. أما الطريق إليها فقد سطرته الحركة الثقافية الأمازيغية، في انتفاضة مباركة على حفار القبور. (ميمون أمسبريذ، بلجيكا)
|
|