|
مصطفى العلوي أو حين تنعق غربان الشؤم بقلم: مبمون أمسبريذ
اطلعت هذه الأيام على ما كتبه صاحب "الأسبوع الصحفي"، السيد مصطفى العلوي، في عموده "الحقيقة الضائعة" لعدد الجمعة 26 يناير 2007. وإذا كنا نحن الأمازيغ قد ألفنا مثل ذلك الهذيان العنصري من أعداء الأمازيغية، فإننا هنا بصدد خطاب يتجاوز المهاترات الأمازيغفوبية المألوفة إلى طور أخطر بكثير هو طور التحريض على الحرب الأهلية والإعداد النفسي لها. إن مصطفى العلوي يتلهف على يوم تندلع فيه حرب إبادة تشنها "الأغلبية العربية" على "الأقلية الأمازيغية". ويعتمد العلوي في توزيع نسب السكان ـ في ما يتعلق بـ"الأغلبية" و"الأقلية" ـ على إحصائيات الحليمي التي خرجت من ذات الحواسيب التي تفرز نتائج الاستفتاءات والانتخابات ذائعة الصيت التي تنظم في بلادنا، والتي (الحواسيب) تخصصت على عهد الحليمي في تقليص نسب الفقر والأمية والبطالة والسكن غير اللائق... والأمازيغيين في بلادنا. إن مصطفى العلوي مقتنع بأن "المغرب سائر بخطى ثابتة نحو حرب أهلية أخطر من الحرب التي تجري في العراق حاليا بين الشيعة والسنة". ويبدو أن مشاهد الأشلاء المتناثرة جراء انفجار السيارات المفخخة والقنابل البشرية في الأسواق الشعبية والمدارس والجامعات والمستشفيات ومواقف العمال، والتي تقوم بها "المقاومة" البعثية-الزرقاوية في العراق، أقول: يبدو أن هذه المشاهد هي التي ألهبت خيال مصطفى العلوي وأوحت له بتلك "الحقيقة الضائعة"، حقيقة أن الأمازيغيين عنصر دخيل (فينيقيون!!!) يشوش على الوحدة الوطنية والقومية للبلاد، وأن الحل يكمن في حرب أهلية نتيجتها معروفة للمتنبئ بها سلفا بحكم واقع علاقة القوى الذي هو لصالح "الأغلبية العربية" (حسب إحصائياته). يبدأ مصطفى العلوي مقاله بالتشكيك في مغربية نشطاء الشبكة الأمازيغية للمواطنة، لأنهم لم يضمنوا اسم حركتهم صفة "المغربية". هكذا يصبح الاستغناء عن لفظ لتفادي الحشو، لأن مدلوله تحصيل حاصل، سببا في جعل الكاتب يرى في هؤلاء خونة محتملين. ومن له بعض الإلمام بالفكر البعثي لا تفاجئه هذه النزعة إلى التخوين تحت قلم مصطفى العلوي؛ فتهمة الخيانة ثابت من ثوابت ذلك الفكر والمحج الملكي إلى كل الإبادات والانتهاكات والفضاعات التي مورست خلال الخمسين سنة الماضية. ومن عجب – لكن كيف لنا أن نعجب بعد – أن هذا الوطني الغيور على مغربيته لا يطبق هذا المعيار اللفظي للوطنية على المنظمات والجمعيات والأحزاب غير الأمازيغية التي تضج بها أرجاء البلاد؛ فغياب صفة "مغربي"/"مغربية" من "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" ومن "حزب الاستقلال" و"الاتحاد الدستوري" و"الكونفدرالية اليمقراطية للشغل"... لا يثير لدى هذا القيّم على الوطنية المغربية أية شكوك؛ إذ أن العروبة المعلنة لهذه الهيئات تجعلها في حل من كل محاسبة فيما يتصل بالوطنية، ما دامت الوطنية تساوي العروبة والعروبة تساوي الوطنية في ذهن مصطفى العلوي وقبيلته. إن الأمازيغيين – هؤلاء "البربر" الذين تصفهم كتبهم المدرسية نفسها بأنهم سكان المغرب الأولون – هم وحدهم من عليهم أن يشهروا مغربيتهم ويبرروا أنفسهم أمام الأوصياء على الوطنية. إنه الكيل بمكيالين يلجأ إليه المحتالون على الأمازيغية، شأن المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ويواصل مصطفى العلوي لعبة استغفال الأمازيغيين عن طريق ما دأب عليه العروبيون من التشويش على العقول بالربط العضوي بين الدين والعرق، ناسيا أنه بإزاء جيل من الأمازيغيين لم تعد تنطلي عليه مثل تلك الحيل السخيفة. هكذا نجده يخبر قراءه بأن العربية لغة القرآن (يا له من سبق!!)،وكأن هناك من يجهل ذلك. وهو بذلك يريد أن يوحي بأن الإسلام والعروبة شيء واحد؛ وأن من كان مسلما عليه أن يتخلى عن لغته ويصبح عربفونيا بل وعربيا. وهذه رسالة جديدة – رسالة العروبة – ينشرها مصطفى العلوي وقبيلته بين المغاربة. وهو إذ يفعل، يغفل قصدا حقيقة يعرفها كل الأطفال، وهي أن اللغة والعرق ليسا مرادفين للدين، بل ولا توجد بين الثلاثة أية علاقة غير العلاقة التاريخية، وهي لا تعني شيئا من المنظور الثيولولوجي. إن المسيح مثلا فلسطيني من الناصرة بلغ رسالته الشفوية بالآرامية، ثم تبنتها عبر ألفي سنة من تاريخ العالم لغات شعوب من جميع القارات دون أن تغير هذه الشعوب لا جلدها ولا لغتها لتصير فلسطينية تتكلم الآرامية (ولا الإغريقية ولا اللاتينية، لغتا آباء الكنيسة فيما بعد). ويعلم مصطفى العلوي علم اليقين أن ما لا يقل عن عشرين من المائة من العرب لا يدينون بدين الإسلام؛ وبالمقابل تمثل الشعوب غير العربية وغير الناطقة بالعربية الأغلبية المطلقة من المسلمين؛ إذ لا يتجاوز عدد العرب الستين مليونا مما يقدر بالمليار ونصف من المسلمين. وهو ما يبطل كليا دعوى العلاقة العضوية أو المنطقية بين العربية والعروبة والإسلام. ولن أضيع وقت القارئ باستدلالات نصية من المتن الإسلامي نفسه على بطلان تلك الدعوى، فهي معلومة لدى الخاص والعام. إن وراء الأكمة ما وراءها؛ وليس الدفاع عن الإسلام إلا تعلة للدفاع عن العروبة وضرب الأمازيغية. وبعبارة أخرى إن الإسلام مجرد وسيلة، والغاية هي العروبة. يدل على ذلك تمسكهم المنهجي بقوميتهم العربية في ترديدهم العبارة الاستشراقية "العالم العربي والإسلامي" (le monde arabo-musulman) التي نحتها الاستشراق للتمييز في مجال اشتغاله بين الفضاء الحضاري الناطق بالعربية والفضاءات الحضارية المسلمة الناطقة بلغات أخرى. هكذا يصبح مصطلح إجرائي استحدث لتغطية وقائع موضوعية مفهوما إيديولوجيا يزكي تميز عالم عربي ذي هوية واضحة عن عالم إسلامي سديمي، شعوبه لا هوية لها ولا تاريخ، ولا ثقافة ولا لغة ولا حضارة. إنهم فيما يزعمون الدفاع عن الإسلام تجدهم يتمسكون بقوميتهم حتى الهوس. إنهم لن يقبلوا أبدا أن تذوب العروبة في الإسلام ولا "العالم العربي" في الإسلامي. هكذا يطالبون غيرهم بما لا يرضونه لأنفسهم. إنه مرة أخرى الكيل بمكيالين. إن دينهم هو العروبة ولا شيء سواها. ولو كان دينهم الإسلام لقبلوا التنازل عما قبله من تاريخهم وثقافتهم. أليس الإسلام يجب ما قبله؟!. لكنهم لن يفعلوا أبدا. وهم في تمسكهم بقوميتهم لا يكتفون بالتمسك بتاريخهم الفعلي لما قبل الإسلام (ربما كانوا مستعدين للتنازل عن سورة من سور القرآن، لكن ليس عن قصيدة لامرئ القيس أو طرفة بن العبد أو لبيد أو عنترة أو الشنفرى أو تأبط شرا أو غير هؤلاء ممن يحمل تلامذتنا الأمازيغيون على حفظ أشعارهم واستظهارها)، بل تجدهم يبذلون الجهود العملاقة في بناء تاريخ افتراضي مغرق في القدم يصلهم بفجر الحضارة. فنجد الراحل محمد نجيب البهبيتي، دفين الرباط، في مؤلف ضخم من مجلدين، تحت عنوان "ملحمة جلجامش: المعلقة العربية الأولى أو عند جذور التاريخ" يعمد إلى تخريجات أكروباطية ليثبت أن العرب – قبل الإسلام بآلاف السنين – يرجع إليهم الفضل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، أو من الطبيعة إلى الثقافة. وكذلك قل عن أعمال ناصر الدين الأسد ومن حذا حذوهما بعلم أقل ومكر أكبر.إن هاجس عراقة الحضارة العربية لدى القوميين العرب هو وحده - لا الوازع الديني – الذي يفسر الحملة الشعواء التي قادها هؤلاء على طه حسين عندما سولت له نفسه أن يشك في صحة الشعر الجاهلي، معتبرا إياه من نظم رواة مسلمين تحت الطلب. لقد جن جنونهم أن رأوا تاريخ ثقافتهم يتقلص تحت قلم صاحب الشك المنهجي بحيث لا يتجاوز القرن السابع للميلاد؛ فحاكمه معاصروه حيا، ولعنه خلفهم ميتا (تنظر الشتائم الساقطة التي كيلت له في "تاريخ الشعر العربي" للبهبيتي وفي مؤلف عن تاريخ الكتابة العربية لناصر الدين الأسد، ندّ عني عنوانه الآن). ذلك شأنهم في الاستعمال الانتهازي للإسلام في خدمة العروبة اليوم، كما كان شأنهم مع الاشتراكية حين قرنوها بالعروبة بالأمس. إنهم يسبحون مع التيار الإيديولوجي للساعة، واضعين نصب أعينهم دائما هدفا واحدا هو العروبة. لذلك لا يجد القوميون العرب كبير عنت في الانضمام إلى الإسلامويين في "مؤتمر قومي- إسلامي" تصاغ توصياته على ضوء فتاوى القرضاوي، بعد أن كانوا بالأمس "اشتراكيين علمانيين"، ما دامت قوميتهم العربية محفوظة؛ فما الأديان والإيديولوجيات إلا وسائل إلى غاية واحدة. ولا بأس بعد من ممارسة الدعارة الإيديولوجية؛ فالغاية تبرر الوسيلة.أعود بعد هذا الاستطراد إلى مصطفى العلوي الذي ما ابتعدت عنه إلا لأقترب منه، وذلك بوضع تدخله في النسق الإيديولوجي الذي ينتمي إليه. يشتد الحنين بالرجل إلى زمن كان فيه "هؤلاء الأمازيغيون الجدد قابعين في جحورهم خوفا"، ويرجع الانفتاح المحتشم للمخزن على بعض مطالب المجتمع المغربي إلى "ضعف النظام وانشغال الأحزاب السياسية وانعدام الحس الوطني". هكذا يسقط القناع عن الوجه الحقيقي لمصطفى العلوي باعتباره رجل ماض. ففيما يتطلع المغاربة إلى دفن الماضي والتوجه إلى المستقبل عبر بناء دولة القانون ومجتمع حقوق الإنسان والمواطن، يتحسر هو على زمن كان فيه المغاربة "قابعين قي جحورهم خوفا". ها هنا يكشف صاحب "الأسبوع الصحفي" عن مرجعيته السياسية وتصوره لنظام الحكم. وإذا قال مناضلو الحركة الأمازيغية – سعيا منهم إلى إشراك كل المغاربة في تبني الأمازيغية لأنها ملك لهم جميعا – إذا قالوا:"إن الأمازيغية لغة جميع المغاربة، وجميع المغاربة بدون استثناء"، توجس مصطفى العلوي خيفة أن يحمله الأمازيغيون على الأمازيغية حملا أو يضطهدوه أو ينفوه من الأرض. يقول: "هي حرب أهلية انطلقت نوايا أصحابها منذ اليوم الأول، عبر تصريحات أقطابها النشطين التي لا تترك مجالا للشك في أن هؤلاء الناس يريدون طرد العرب والمسلمين من المغرب أو إخضاعهم لمصير الأقليات على طريقة ميلوسوفيتش في البوسنة والهرسك". ورغم أني أدرك أن الرجل يتصنع الخوف في قلب واضح للأدوار لحاجة في نفسه، فاني سأطمئنه قائلا: إن الأمازيغيين ليست لهم سوابق في حروب الإبادة والتهجير كالتي للقوميين العرب في كردستان العراق أو في إقليم دارفور، أو في إسقاط الجنسية عمن لا ينتسب إلى عرقهم، كما فعل حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا مع الأكراد السوريين. لكن ليس الخوف هو ما يحمل مصطفى العلوي على هذا الهذيان الرهابي، وإنما هو إعادة إنتاج الخطاب الفيكتملوجي الذي يتوخى منه تأليب الدولة على النشطاء الأمازيغيين حتى يعودوا إلى جحورهم على حد قوله. ومرة يشرد بال مصطفى العلوي فيعترف بمشروعية المطالب الأمازيغية، وإن كان في سياق يطفح كيدا؛ يقول: "وكان مفروضا في هذه النخبة المثقفة التي تحمل راية الأمازيغية أن لا تعطي لمطالبها المشروعة في حق الاعتراف بلغتها طابع الانفصال والرفض المطلق للعروبة والإسلام"(!). ثم يعود بضعة أسطر بعد هذا الاعتراف البلاغي الصرف، ليعلن موقفه الحقيقي من الأمازيغية. يقول: "وإذا كانت سياسة التعليم قد فشلت بطريقة كارثية نتيجة حيرة البرامج الوزارية بين الفرنسية والتعريب، فكيف تورط التلميذ المغربي بأن تفرض عليه لغة ميتة وحروفا ترجع إلى العصر الحجري؟". فهل بعد هذا تبقى مطالب الأمازيغيين مشروعة؟
إن مصطفى العلوي وقبيلته لا يريدون أمازيغيين واعين بهويتهم الحضارية، مطالبين بحق هذه الهوية في أن تحيا وتنتج من خلال التعليم والإعلام والثقافة وسائر القطاعات والمرافق العامة؛ بل يريدون "أنديجين" برابرة يرطنون برطانات شتى يستعملها العروبيون توابل يرشون بها عروبة المغرب، ويستدلون بها على تسامحهم. إن ظاهر مقال مصطفى العلوي هو الإشفاق على المغاربة من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، يعد لها الأمازيغيون ليصطلي بأوارها العرب والمسلمون، وباطنه التحريض على الأمازيغية لتعود إلى جحورها، لكي لا تظهر إلى الوجود إلا في هيئة أطفال حفاة عراة ينهش الصقيع أجسامهم الغضة، وشيوخ شاحبين ترتعد فرائسهم في أنفكو وتونفيت، أو عشائر فجيجية ضاقت بها الأرض بما رحبت بفعل سياسة التهميش والعقاب الجماعي، فتهاجر جماعيا إلى الجزائر بين حين وحين، بعد أن استيأست من الوطن، أو أسر ريفية أماط الزلزال عنها حجاب التعتيم في جبال الريف فإذا هي مقطوعة لا تصل ولا توصل. إن مصطفى العلوي وقبيلته مشروطون بثقافتهم السياسية؛ هذه الثقافة التي تجعلهم لا يتصورون تدبيرا آخر للاختلاف غير استئصال الآخر. ولو أن مرجعيتهم السياسية كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن، لارتسم لهم أفق آخر أبعد ما يكون عن مشاهد الحرب الأهلية بدمائها ودموعها؛ أفق مجتمع منفتح ينعم فيه الجميع بالكرامة والحرية، وتنتفي فيه أسباب الحقد والشنآن الباطنة والظاهرة، إلا ما يكون من تنافس سياسي شريف بين أحزاب ديمقراطية تحمل برامج سياسية مختلفة في تدبير الشأن العام. ولو أن مصطفى العلوي يشفق حقا على بلاده من عواقب حرب أهلية كتلك التي تنبأ بها، لما سعى إلى الإعداد لها بلغة التخوين والاحتقار وتأليب المغاربة بعضهم على بعض؛ ولاستعمل لغة الحكمة والاتزان والتوازن، وذلك أضعف الإيمان؛ وإلا لساهم في نزع فتيل الشنآن باقتراحات سياسية رزينة يستنير بها أصحاب القرار. قالت سحر خليفة، الكاتبة اللبنانية، في بعض رواياتها عن الحرب الأهلية في لبنان، زمن السبعينبات ما معناه : إن كلماتنا هي التي تحولت إلى قنابل تفتك باللبنانيين. إنهم قد لا يرتدون البذلة العسكرية الكاكية وقد لا تتدلى من أحزمتهم المسدسات، وربما ارتدوا الكوستيم-كرافات، لكنهم يظلون بعثيين حتى النخاع. (مبمون أمسبريذ، بلجيكا)
|
|