| |
العلمانية في المغرب
المعاصر: رفض الدال أم رفض المدلول؟
بقلم: عبد السلام بومصر أفنتور ـ
مــــــــــاست
"لا أبالي إذا كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن
ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن
هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، أن لاتصل هذه الرسالة إلى من
قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة،
وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر...، ولا ألزم برأيي
صديقا يرتبط بي، أو حزبا أشارك في تأسيسه، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب
ما أكتب، وبخطر أن لا أكتب ما أكتب...." (شهيد العلمانية : د.فرج فودة)
يكتسي المقدس أهمية بالغة في الحياة الإنسانية على العموم. ولذلك كان لزاما على
الإنسان منذ الأزل أن يبتكر قنوات شديدة التنوع والاختلاف من أجل تصريف هذا المعطى
النفسي الحيوي، وأيضا تكييفه مع مختلف الظروف الحياتية الخاصة والعامة، وذلك في
إطار تشكيلة بشرية شديدة التعقيد. وكلما تعمقنا في سراديب التاريخ الإنساني إلا
وأصبح التقديس سمة الوجود والحياة. فالقداسة شرط الوجود ومبرره عند الإنسان القديم،
إنه لم يكن يتصور الحياة والوجود بدون مسحة قداسة. إنها نمط الحياة وأكثر من ذلك،
إنها شرط الوجود. ولذلك ترى الإنسان في المجتمع الأكثر بدائية يقدس كل شيء يحيط به،
الصيد مقدس، المطر مقدس، الأرض مقدسة، الأب والجد والأسلاف مقدسون، بل هم آلهة، وقس
على ذلك كل مظاهر العيش. فأمام الغموض الكبير الذي يلف الحياة والكون، كان هذا
التقديس منهجا فكريا لفك الرموز والطلاسم الطبيعية، وكان أيضا خطة إستراتيجية فعالة
من أجل خلق اللحمة الخاصة والضرورية لتكتل المجموعة البشرية الواحدة، إنه المسوغ
المثالي والمتعالي عن الزمان والمكان لشرعنة الوحدة وتحقيق المصالح الحياتية
المادية منها والنفسية. إن المقدس لدى الإنسان البدائي أساس الوجود وشرطه. وهذا
منطق طبيعي جدا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المعرفة الإنسانية الحقة ما زالت لم
تتخط بعد ظلمات اللامكان، ولم تحن بعد لحظة انبجاس الفجر العلمي والذكاء الإنساني
الخلاق. وهذا ما فسح المجال لهذا العنصر الذي سيستنفذ وظيفته التاريخية بمجرد بزوغ
التحليل العلمي للواقع.
وقد تفضي هذه المعطيات جميعها ـ في بادئ الأمر ـ إلى الظن بأن التقديس لا يعدو أن
يكون مجرد منهج استثنائي في النظر إلى الحياة، لكنه في واقع الأمر صيرورة تاريخية
عظمى تعكس بشدة العطش الإبستيمولوجي الذي يقض مضجع العقل البشري الشاك بطبعه، والشك
مفتاح العلوم وأساسها. فلم يتوان العقل ـ بسبب التراكم المعرفي ـ عن المضي قدما في
سبيل قطع الطريق التاريخية الصحيحة، فكان الفكر السحري الذي ظل لقرون عديدة أساسا
لتحليل الواقع، ثم الفكر الأسطوري وأخيرا الفكر الديني.
الفكر الديني:
التفكير الديني ظاهرة إنسانية عميقة جدا، تضرب بجذورها في أعمق أعماق التجربة
الإنسانية النفسية والمادية الملموسة. وتبين الأعداد الضخمة لمختلف الملل والنحل في
مختلف بقاع العالم، أهمية هذا المعطى الحيوي بالنسبة للكائن البشري، وكذا الدور
التاريخي الذي لعبته هذه الأديان في التأثير في مسار الإنسانية كلها. لقد خلقت هذه
الأديان بالفعل ركاما لا متناهيا من المفاهيم والتصورات والتأويلات، واستطاعت أن
تحتل مساحة شاسعة من التفكير الإنساني. إن التفكير بالمنطق الديني حلقة مهمة جدا من
حلقات الحياة والوجود. إنه بالفعل جزء لا يتجزأ من مكونات أو محددات النفسية
الإنسانية منذ الأزل. وتعتبر الأديان السماوية أحد أبرز سمات الفكر الديني وأشدها
تعقيدا وشمولية وتأثيرا في مسار الإنسانية منذ وجودها على صفحة الواقع. وأعتقد أن
السبب في ذلك يرجع إلى كونها حلقة متطورة جدا من حلقات مسلسل القداسة. إنها بذلك
زبدة التراكم ونتيجته الحتمية. والأكيد أن ظهور الديانات السماوية في الحياة
الإنسانية كان في مرحلة متقدمة جدا ومتطورة أيضا بالمقارنة مع فترة ظهور الديانات
الأخرى، الشيء الذي جعلها تنبني أساسا على محددات معرفية متميزة، كاعتمادها على
المنطق الفلسفي وكذا توسلها بالقراءة والكتابة كأبرز عناصر النضج الفكري الإنساني.
كل هذه العناصر مجتمعة مكنت الديانات السماوية من احتلال موقع شمولي في حياة
المؤمنين عموما، حيث إن هذه الديانات كانت بمثابة الدم الذي يحرك الجسد المؤمن
ويترجم جميع أفعاله وتصوراته، بل ظل المؤمنون حبيسي النظرة الضيقة والأنانية للنظام
الاعتقادي الذي يتميز في الغالب بالدعوة إلى قتل الآخر وتسفيه اعتقاده.
وكان الانفجار العلمي العظيم مفتاح تواصل إنساني لم يسبق له مثيل، مما ساهم بشكل
كبير في ظهور المساءلة التاريخية العظمى لمدى قدرة التفكير الديني على احتواء
وتنظيم المجتمع الحديث الذي عرف طفرة نوعية وتنوعا لم يكن في الحسبان. ولقد عرفت
الديانات السماوية تصادمات كارثية فيما بينها عصفت، ولا زالت تعصف، بالآلاف من
الأرواح الساذجة التي تناضل جاهدة، ومخطئة في آن واحد، من أجل نصرة معتقدها المفضل.
هكذا دق العقل البشري من جديد ناقوس الخطر، وأكد ضرورة أن تتم مرا جعة المفاهيم
والتصورات المتعلقة بالمقدس ودوره في الحياة والوجود، بل وموقعته ضمن الإطار
المناسب لجعله يتبوأ المكانة المناسبة في المجتمع الحديث الذي تعتبر الفسيفساء
الدينية أحد أبرز ملامحه.
العلمانية أرقى تصور حداثي للدين:
ولهذا السبب أجمع المتنورون في العالم أن المقدس أو الدين يجب أن يظل مسألة ذاتية
شخصية، لأنه عنصر بالغ الأهمية في الحفاظ على التوازن النفسي لدى المؤمنين
والمعتقدين بالدين عموما. ولم يكن سهلا أبدا القول بهذه الفكرة النيرة. إنها نتيجة
مخاض فكري عسير ذهب ضحيته الآلاف من البشر. فبعد أن أخذ الدين في احتواء جميع مظاهر
الحياة الإنسانية وتحليلها تحليلا طوباويا ضيقا، وبعد أن أخذت العلوم الإنسانية في
التطور، كان لا بد للإنسان أن يتحرر من حبل الأنانية الدينية الملفوفة حول رقبته،
خاصة بعد تعقد الحياة الإنسانية تعقدا شديدا، وكذا بروز قيم ومفاهيم جديدة وعلاقات
لا يمكن للتفكير الديني النرجسي أن يستوعبها إلا في إطار مفهوم العلمانية الحقيقي.
وكانت قيم الحداثة والديموقراطية والعقد الاجتماعي حلا جذريا للمأساة التاريخية
والندوب العميقة التي حفرتها الدوغمائية الدينية في جبين الجسد البشري. وبذلك تم
التـأكيد في عدد من بقاع العالم أن وظيفة الدين تتمثل أساسا في البعد الأخلاقي
والنفسي والشخصي بصفة عامة. وكان لا بد من نضج المفاهيم المتعلقة أساسا بالتنظيم
الاجتماعي لتولد العلمانية كأرقى تصور حداثي للدين. إنها بالفعل مفتاح العيش
وأسلوبه الحداثي في كنف المجتمع الحديث، أرقى مجتمع عرفه التاريخ.
العلمانية والواقع المغربي:
على الرغم من فظاعة الرقعة الشاسعة التي تحتلها إشكالية العلمانية على أرض الواقع
الفكري والسلوكي للإنسان اليوم، وعلى الرغم من الغموض المهول والجهل الفاضح الذي
يطبع رؤى العديد من المثقفين والمهتمين بالشأن العام عموما، إلا أنني في هذه الأسطر
الشحيحة سأحاول التطرق إلى الإشكال الحقيقي الذي يهدد مفهوم العلمانية في المغرب.
وأعتقد أن رصد الأبعاد السوسيوثقافية للرفض الآني والمتسرع للعلمانية يستوجب إيضاح
المنابع الأساسية للتفكير لدى المثقف المغربي. لأن هذا الرفض الآني المفرط في
السرعة يفضح بشكل كبير هشاشة البنية الفكرية والاستيعابية لهذا المثقف الذي يبدو
أنه غارق في الاستماع للأصوات العالية الجوفاء. وتسلبه المفاهيم السائدة للإشكالية
بسهولة فائقة.
وأعتقد أيضا أن هذا ما يدعو إلى طرح أسئلة من قبيل:
ـ لماذا يرفض المغاربة مفهوم العلمانية قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء معرفته
واستيعابه؟
ـ هل بإمكان المثقف المغربي أن يتحرر ولو منهجيا من مركب اليقين المتعالي على
الزمان والمكان؟
ـ وهل الذين يرفضون العلمانية في المغرب الآن يرفضونها رفضا واعيا، أم أنهم مجرد
أفواه يؤكل بها الثوم؟
وقبل أي حديث عن واقع وآفاق الفكر العلماني في المغرب المعاصر، لا بد من إرساء
تعريف شامل وجامع وحديث ومغربي لهذا المفهوم الذي نحن بصدد الوقوف على حيثياته.
والواقع أن النقاش الدائر حول العلمانية نقاش يستحضر دائما الفكرة القائلة بوجوب
وضع تعريف لائق وحقيقي لهذا المفهوم. ولا بد لي هنا أن أؤكد أن التعريف الذي سأسعى
إلى صياغته يستحضر خصوصية المجتمع المغربي وقابليته التاريخية والآنية لاستساغة هذا
المفهوم المتأصل طبعا داخل الهياكل الحية للمجتمع المغربي، وأيضا من أجل أن يكون
سلوكا مستقبليا لهم لكي يرتقوا بالمسألة الديمقراطية ويؤسسوا دولة الحق والقانون
والمؤسسات الحقيقية القادرة على إخراج المواطن المغربي من أزمة الجهل والفقر.
وكإجراء منهجي، وفي سبيل الإلمام الشمولي بماهية العلمانية سأستحضر بعض التحديدات
التي وضعها بعض رواد هذا المفهوم، والذين ينتمون إلى دول يعتقد معظم مواطنيها
بالديانة الإسلامية.
العلمانية لغة واصطلاح، فـ» أصل العلمانية واحد في اللغة العربية كما في اللغة
الأجنبية. ففي اللغة العربية لفظ علمانية مشتق من )علم ( أي العالم... وعندما نشأت
الكنائس في مدينة أنطاكية من بلاد الشام، نشأت معها طبقة جديدة أطلق عليها لفظ كهنة
وظيفتهم ممارسة الطقوس الكنسية وتقديم القداس ونشر التعليم الديني، أما الطبقة التي
ينتمي إليها الكهنة فيطلق عليها لفظ »كهنوتو«. وبعد الفتح الإسلامي تغلبت العربية
على الآرامية فعربت كهنوتو بصيغة »كهنوت«، والنسبة إليها كهنوتي. أما المؤمنون فكان
يطلق على أي منهم لفظ عامو أي عامي أو شعبي، ومن يقترب من الكنيسة يطلق عليه لفظ
علمو أي عامي أو زمني أو دهري أو ابن الدنيا، كما في النسبة إليه لفظ علمويو ومعناه
في الآرامية دنيوي أو علماني أي خاص بالزمان أو بالجيل أو بالعالم. وفي اللغة
الأجنبية مشتق من اللفظ اللاتيني saeculum أي العالم... وأصبح لفظ علماني في معنى
ضيق، إذ أطلق على الكاهن الديني الذي يتحمل مسؤولية إدارة ايبارشية، فيقال في هذه
الحالة إن الكاهن قد تعلمن secularized. ثم اتسع اللفظ عندما استقل الإمبراطور عن
بابا روما وتجسد الانفصال بين ما هو روحاني وما هو علماني في مؤسسات فانتقلت بعض
المسؤوليات عن السلطة الكنسية في السلطة السياسية وسمي هذا الانتقال ب العلمانية«(1).
هذا عن التحديد اللغوي، أما الأساس العلمي للعلمانية فكان ظهوره تاريخيا عندما
احتكرت الكنيسة المعرفة العلمية باسم الكتاب المقدس الذي يتضمن جميع الحقائق
العلمية الآنية والمستقبلية »وكانت ا لسلطة الدينية ملتزمة بنسق بطليموسي، ذلك الذي
يزعم أن الأرض مركز الكون، وأنها ثابتة لا تتحرك، وكان هذا الزعم مردودا إلى أر سطو
الذي تصور النظام الكوني على أساس أن الأرض هي أثقل العناصر الأربعة وموطنها القاع«
(2). وهذا الأساس العلمي للسيطرة الكنسية على الواقع مفاده أن الكنيسة تعتقد أنها
تمتلك الحقيقة المطلقة، وبذلك وجب على الجميع الامتثال لأوامرها ونواهيها مادامت
تصدر عن مرجعية دينية تفسر مصدر كل العلوم. لكن النقد العلمي لنظرية كوبرنيك كان
كفيلا بتفجير الأسس الدينية المتعالية، ومن ثم نشوء الفكر العلماني العلمي الذي
يقتضي أن العقل الديني لا يمكن إلا أن يكون منفصلا عن العقل البشري النسبي،فــــ»
فعدم امتلاك الحقيقة المطلقة تعني أن تفكير الإنسان محكوم بالنسبي وليس بالمطلق.
وبالتالي ليس في إمكان السلطة الدينية توهم امتلاك الحقيقة المطلقة«(3). وللإشارة
فإن أشهر تعريف للعلمانية على الإطلاق هو القائل بأنها الفصل بين الدين والدولة.
لقد وصل هذا التعريف حدا لا يطاق من الابتذال والاستهلاك، ويكفي أن تسأل أحد
المغاربة عن العلمانية حتى يمطرك بهذا التحديد. ويكفي كذلك أن تطلب توضيحا له حتى
يواجهك بأنه إبعاد الله ودينه الحنيف عن السياسة. وحسبك أن تطلب مثالا حتى يمثل لك
بالمثال الوحيد الذي يحفظه: تطبيق الحدود، ولو طبقت لكنا أفضل الأمم على الإطلاق،
فانظر كيف كان حال الأمة الإسلامية عندما ائتمرت بأمر الله وطبقت هذه الحدود.. في
أعلى عليين؟، وانظر ما صاروا إليه بعد تخليهم عنها والعياذ بالله... وكذلك تسمع من
الفظاعات والمغالطات العلمية والتاريخية والدينية بالجملة. وهذا مردود بطبيعة الحال
إلى وحدة الأصل الذي يزود المثقف المغربي الأبله. إنها الثقافة السائدة المبتذلة.
وما يثبت هذا الطرح أنني كنت أسأل العديد من الذين يهتمون بالشأن العام عموما عن
ماهية العلمانية، فكان من أغرب الأمور أن إجاباتهم كانت واحدة موحدة. إنها التي
ذكرت. وكنت أسأل كل واحد منهم على حدة أن يدلني على المرجع الذي اعتمد عليه
للاعتقاد اليقيني بتلك الفكرة. والأغرب من كل ذلك أنني لم أحصل على جواب مقنع.وكانت
الأغلبية الساحقة منهم تجيب أن جمهور الفقهاء متفقون في هذا الأمر، وأنه أمر محسوم
فيه و... وأنا متأكد أشد ما يكون التأكد أنهم ليسوا معنيين لا بما يقوله الفقهاء
ولا بما يقوله الكفار. إنهم من رضاع ضرع السائد الذي يختلط بدخان المبخرات
والحافلات المهترئة الذي يغص به الغلاف الجوي الذي يتقاسمه المغاربة بالتساوي، إلا
الأموات منهم بطبيعة الحال. إنها بالفعل إشكالية عويصة جدا. ومن المؤسف أن يصاب
الجسد الثقافي المغربي بهذا الداء. ولتنوير الرأي العام أسوق هنا بعض التحديدات
الحداثية للعلمانية. إنها بالفعل كما قال مراد وهبة »التفكير في النسبي بما هو
نسبي، وليس بما هو مطلق«(4).
ويعني هذا الكلام أن العلمانية ترفض أن يفكر الإنسان في محيطه النسبي بما هو مطلق،
أي بما لا يقبل النسبية، وهو التفكير الديني. فكيف نتصور أننا في القرن الواحد
والعشرين، نقتل مواطنا لأنه »مرتد«؟ أو نقطع يد سارق لأنه سرق؟ أو.. إن هذه
العقوبات التي سنها التفكير المطلق كانت عقوبات مرحلية، آنية، زائلة حتميا بزوال
الظروف التي كانت مسرحا لها. فظروف المؤمنين بالدين الجديد آنذاك في شبه الجزيرة
العربية غير ظروف المؤمنين به في هذا القرن. والدولة الحديثة المعقدة في شكلها
الحالي، ليست أبدا ذلك التجمع البشري البسيط الذي كان. فتصوروا معي لو قام أحد
المؤمنين بالارتداد في ظروف تلك النواة الأولى، لا شك أنكم متفقون معي أن ذلك مؤثر
لا محالة على الدعوة كلها. ولذلك وجب قتله شرعا لإرهاب الآخرين والحفاظ على التماسك
والوحدة الضرورية من أجل نشر الدعوة. أما الآن وفي ظروف الدولة الحديثة، والمؤمنون
يعدون بالملايين، فلن يضير الإسلام في شيء أن لا يقتنع به إنسان، ولن يزيده شيئا أن
يقتنع به آخر. والزنزانة المظلمة في الدولة الحديثة هي مصير السارق والسارقة
والزاني والزانية، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية. فهم داخلها مذنبون،
مخطئون مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين. ويجب في هذا السياق أن ألفت النظر والفكر إلى
أن مصطلح »الارتداد« عن الدين مصطلح عتيق وجب تعويضه ـ في إطار الدولة الحديثة ـ
بمصطلح »الاقتناع أو عدمه بالمنظومة الدينية«، لأن الدين مسألة شخصية خاصة بالمواطن
الحقيقي الذي يملك الحق الكامل والحرية التامة في اختيار المنظومة الدينية التي
تحقق راحته النفسية بدون نرجسية أو تعصب، كما يمكنه كذلك أن لا يختار أي دين دون
تعصب أيضا. وكلهم في جميع الأحوال مواطنون أسوياء، لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من
الواجبات ما عليهم. ومن كل هذا يتضح بجلاء أن العلمانية ليست أبدا ضد الدين بكل
أشكاله وتلاوينه. إنها »ليست ضد الدين والتدين والممارسات الطقوسية للأفراد
والجماعات«(5)، »وليست هي الكفر والهرطقة .إنها التفكير الذي يعتبر الدين شيئا
شخصيا ومرتبطا بحياة الإنسان«(6) ، إنها بالعكس من ذلك، تحترمه وترعاه كحق من حقوق
المواطنة. إنها فن الحفاظ على الدين وصونه من قذارة السياسة ودهاليزها الملتوية.
ومما سبقت الإشارة إليه، فإنك لابد أن تلاحظ معي وترى أنني عبرت بمصطلح الخصوصية
كثيرا، وهذا لا يعني أبدا أن الدين في نظر العلمانية مسألة شخصية ومستقلة بشكل جذري
عن الاعتقاد العام للمجتمع. الاعتقاد حرارة نفسية جماعية، إن لم تظهر في السلوك
الفردي ظهرت في السلوك الجماعي. إنه انصهار أخلاقي قبل كل شيء. وليس أبدا إلزام
الآخر بالانصهار في المنظومة العقدية الخاصة بالأنا.
لكن المعضلة الحقيقية تكمن أساسا في تضخم مركب اليقين الوثوقي للأنا المعتقدة
بالمعتقد الواحد الموحد. هذا الاستعلاء المرضي لا يعدو أن يكون إلا حالة نفسية شاذة
مصدرها الأساسي، الإيمان الأعمى والخائف في نفس الوقت، والممزوج بسطوة الذات
الغارقة في الفردانية وتوهم الأزلية الفكرية والمعرفة التي لا يمكن أن تضاهى،
مبرهنة بذلك لأناها أولا، وللآخر المخطئ ثانيا، أنها المالكة للحقيقة المطلقة،
وأنها قادرة على مواجهة كل من تسول له نفسه العبث بهذه الهبة الخارقة أكثر من العبث
بمضمون هذه الهبة نفسها. إنه منطق موت الآخر. إنه منطق إقبار الآخر وشرعنة لاجدواه.
إن التمسك الصلب مطلقا بالمعرفة الدينية وعدم قبول واستساغة الآخر المخطئ دائما ـ
إلا في حالة الانصهار الكلي في المنظومة العقدية للأنا ـ كفيل بجعل مجتمعات بأكملها
منغلقة على نفسها لينتهي بها المطاف إلى الانفجار النفسي، النتيجة الحتمية لمنطق
تضخم الأنا ولا غير.
إن طبيعة الاعتقاد الديني السليم تملي بأن هذا الإرث الهائل من النقاء الروحي
والأخلاقي لا يمكن إلا أن يكون خادما مطيعا للإنسان. هذا الأخير الذي يجب أن ينظر
إلى اختلاف الملل والنحل من منظور أوسع، إنه بالفعل تمايز الطبيعة البشرية، إنها
الأنا، كل أنا، في مواجهة الآخر، كل آخر.
العلمانية في المغرب: رفض الدال وجهل المدلول.
إن الرفض العاجل للعلمانية في المغرب ـ لدى الإنسان العادي ـ لا يمكن أبدا أن يكون
مردودا إلى الاقتناع المبدئي بوجوب تحكيم الشريعة بدل تحكيم العقل، وإن كان ذلك ما
يبدو لأول وهلة، إلا أن التمعن في الإشكالية يطرح فرضية أخرى تبدو أكثر فاعلية: وهي
أن هذا الرفض يصدر أساسا من لاشعور عميق تقليدي سلفي خلقه مجتمع مهووس بعشق الدين
حتى النخاع، هذا العشق الممزوج دائما بالخوف والحذر. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كان
ذلك نتيجة حتمية للتراكم النفسي الهائل الذي صنعه رواد الإسلام السياسي، وذلك
بالاستعانة، بل وتوظيف قاعدة نفسية دسمة، معتمدين في ذلك على وسائل خطابية مؤثرة.
كل ذلك ساهم في خلق شرخ مفهومي محير بين دال العلمانية ومدلولها ) بين صورتها
الصوتية و صورتها الذهنية(. وما يثبت ذلك أن المجتمع المغربي يمارس العلمانية بصورة
يومية، لكنه بالمقابل يرفضها بمجرد سماعها. ويمكن تفسير هذا الشرخ انطلاقا من
التسليم بأن المغاربة يجهلون طبيعة الخطاب الذي تنتجه حركات الإسلام السياسي
فيسقطون في شرك الخلط بينه وبين الخطاب الديني الحقيقي. وهذا ما يفسر دوامة الخوف
من الصورة الصوتية للعلمانية وممارسة مدلولها(6). إلا أن تيمة الخوف هذه ليست
مقتصرة على المثقف العادي، بل إنها حاضرة بقوة في خطاب الإسلام السياسي في المغرب.
فهل يمكن تفسير هذا الخوف من العلمانية بأنه تصويب لوضعية نفسية دفينة أساسها
الحقيقي الخوف من فقدان الحظوة الاجتماعية في كنف الطبقات الشعبية، مادامت الحركات
الإسلامية تراهن بقوة على العزف على وتر العاطفة لدى هذه الطبقات، وما دام مشروعها
أساسا ينبني على استمرارية مبدأ التعاطف الديني أكثر من الاقتناع بضرورة الوجود؟ »ولا
ضير من تهمة الارتداد التاريخي، مادام المجتمع يؤمن بفعالية هذه المرجعية وقدرتها
على الفعل الحضاري«(7).
إن حركات الإسلام السياسي مجرد تنظيمات طوباوية تؤسس مشروعها الحضاري على استلهام
نماذج تاريخية بائدة. وتعتمد أساسا من أجل تحقيقه على الاستعداد النفسي للمريدين
أكثر من اعتمادها على المقارعة السياسية الحقيقية والمنطق الجدلي. ولمواجهة الحداثة
الحقيقية التي أفرزتها ظروف المجتمع الإنساني الحديث، والتي تعتبر العلمانية أبرز
سماتها، وأمام الفشل الذريع في مواجهة الآخر الأقوى.. كان لا بد لهذه الحركات أن
تنتعل بعض أوجه الصيرورة العلمية الجامحة، مكيفة بذلك إرثا روحيا ضخما مع مجموعة من
المفاهيم الحداثية التي ترفضها من جانب وتتبناها من جانب آخر. إنها مقاومة الموت
الأيديولوجي التي تسقطها في كثير من المواقف في التناقض الفاضح، أو استنفاذ الجهود
من أجل إثبات الذات أمام قوة الفكر العلماني الحقيقي الذي لا ينكر أبدا قداسة الدين
وإنما ينكر توظيف هذه القداسة في تحريك السياسي »إن الاعتراف بهذه الحركة كواقع
ثقافي معناه: الإيمان بالمجتمع والإيمان بحرية الفكر، وقدرة وفعالية المجتمع على
التغيير... إن الرغبة في منع الحركة الإسلامية من تأسيس خطابها من داخل المرجعية
الإسلامية معناه: الخوف من قدرة المرجعية الإسلامية على تحريك الشرائح الإسلامية في
اتجاه تغيير الأدوار وخريطة الفعل السياسي«(8).
هذه إدن مقاربة أولية للرفض الآني لماهية العلمانية وكذلك الجهل الفاضح لمدلولها
الذي لا يمكن لعاقل متبصر أن ينكره أو ينكر قدرته الفائقة على تنظيم الدولة
الحديثة. هذا المعطى الأساسي الذي يقودنا مباشرة إلى طرح سؤال منهجي يرقى بمستوى
المقاربة قيد النظر إلى مستوى أكثر شمولية. ما هو الهدف الأسمى أو النهائي الذي
تصبو إليه الحركات الإسلاماوية من رفضها القاطع لمفهوم العلمانية؟
يبدو هذا السؤال فضفاضا جدا بالنظر إلى المسار السياسي الذي قطعته هذه المجموعات
النفسية العاطفية، لكن استلهام المبادئ والأسس الفكرية التي تواجه بهما العلمانية
العلمية يفضي بالضرورة إلى وضع اليد على الحلم السياسي الميتافيزيقي الذي يحرك هذه
الدمية السياسية. إنه حلم التربع على كرسي الإمامة الأريح الذي تفوح منه رائحة
الجنة، إنه قميص الإمامة الذي يقمصه الله للإمام ولن ينزعه عنه غرض دنيوي زائل.
وبالتالي فإن الطريق إلى تنفيذ هذا الحلم هو السعي الحثيث إلى تطبيق الشريعة
الإسلامية وإقامة ما يمكن أن يسمى بـ »الدولة الدينية« وإزالة الدولة الحديثة
الضالة التي لا تأتمر بأمر الله.
الدولة الدينية والدولة العلمانية:
الدولة الدينية إذن هي البراق السريع الذي تسعى الحركات الاسلاماوية إلى امتطائه من
أجل تحقيق الحلم الأعظم، هذا التنظيم البدائي جدا يريد سكب النموذج التاريخي البائد
في القوالب الحديثة للتحقق المجتمعي، ضاربا بذلك عرض الحائط المفاهيم الحديثة لكل
من الدولة والمجتمع والمواطن والمواطنة والحياة نفسها. إن هذه الحركات لا تعدو أن
تكون اتجاها نفسيا يعكس الحنين إلى الماضي الذهبي أمام الفشل الذاتي على صفحة
الواقع الأليمة، ولذلك فإن التحقق السياسي للحركات الاسلاماوية ليس إلا طريقا
محفوفة بالطوباوية من أجل استرداد الريادة التاريخية »العقدة«، »فلا مانع منطقيا من
أن تؤسس الحركة الإسلامية خطابها السياسي من مرجعية لها قداستها بحكم استمداد
عناصرها من الهدي الإلهي، وأيضا لها حضورها التاريخي، بحكم أنها كانت إلى عهد قريب
تشكل مركز استقطاب الفكر الإنساني«(9). هكذا تكون عقدة الانهزام الحضاري، وكذا فجر
الحاضر، على أهبة الاستعداد من أجل خدمة المشروع الأصولي الذي لا يتوانى في المضي
نحو تحقيق ما يسمى ب» الدولة الإسلامية«، هذا المصطلح الذي لا يعدو أن يكون مجرد
مبنى لغوي مهترئ لمجرد معنى إيديولوجي غاية في الطوباوية، فجمع شتات تراثي من أجل
ابتكار مشروع مجتمعي لا يمكن أن يسمى دولة بالمعنى الحديث، يقول العروي »أظهرت لنا
الدراسة أن ما نسميه خطأ بالدولة الإسلامية هو تساكن السلطنة كواقع والخلافة )أو
الإمامة الشرعية(كطوبى. يعني التساكن أن العنصرين يتحاذيان، كل واحد مستقل عن
الآخر، مخالف له، وفي نفس الوقت يمثل شرط وجوده. التساكن بهذه الصفة يتنافى مع
أدلوجة دولة تجسد شرعية السلطة وتكريس إجماع المواطنين«(10). وبهذا المعنى تظهر
الفروق واضحة بين الدولة الدينية والدولة العلمانية، فـــ »الأولى هي دولة القرون
الوسطى حيث كان كل شيء دينا، والثانية دولة العصور الحديثة القائمة على الفصل المرن
بين الشأنين الديني والدنيوي«(11)، ويعني هذا الكلام أن بناء الدولة على أساس ديني
لن يكون إلا ضربا من ضروب الرجعية التاريخية والحضارية: »إن الدعوة للتطبيق الفوري
للشريعة الإسلامية بصورة فورية ودون إبطاء، إنما تمثل مدخلا مباشرا للدولة الدينية،
التي لابد وأن يحكمها من يعتقدون أنهم يصدرون في حكمهم وأحكامهم عن الحق الإلهي،
وهنا يبدو التساؤل المنطقي بديهيا، وهو تساؤل عن كنه هؤلاء الحكام... إنهم لا بد
وأن يكونوا من رجال الدين، إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة«(12).
الإحالات:
1 ـ مقال »مراد وهبة« الأحداث المغربية، عدد 15 أبريل 2005-10-13
2 ـ نفسه
3 ـ نفسه
4 ـ نفسه
5 ـ مقال: حميد لشهب،الأحداث المغربية، عدد 21 أبريل 2005
6 ـ مقال : شريف حتاتة، الأحداث المغربية، عدد 22 أبريل 2005
7 ـ »حوار مع العلمانيين بالمغرب« بلال التليدي ص 7
8 ـ نفسه ص7
9 ـ نفسه ص7
10 ـ »مفهوم الدولة « عبد الله العروي، الطبعة السادسة.ص 156
11 ـ العفيف الأخضر، الأحداث المغربية، عدد 25 أبريل 2005
12 ـ »قبل السقوط « د.فرج فودة.ص 45
|