| |
المسرح الأمازيغي بين
المحاكاة والتمسرح والبحث عن الذات
بقلم: عمر خلوقي (الناظور)
من المحاكاة إلى التمسرح
يرجع أرسطو نشأة الشعر إلى سببين طبيعيين في الإنسان:
أ- غريزة المحاكاة التي نشأ عنها.
ب- واللذة التي يجدها الناس في هذه المحاكاة.
وما أرجع إليه أرسطو نشأة الشعر يرجع إليه كل الفنون باعتبارها محاكيات بوسائل
مختلفة. ومن ذلك فن الدراما التي يراها محاكاة للأشخاص وهم يعملون، أي محاكاة حركية
مشخصة. فالتمثيل المسرحي متأصل على هذا الأساس، من غريزة المحاكاة ولذتها لدى
الإنسان. فهي غريزة مشتركة بين كل الناس، "لا يكفون عن الاستجابة لندائها و إغرائها
والصدور عنها في مختلف تعبيراتهم".
إن غريزة التمثيل تبحث عن إشباعها بوسائل وطرق مختلفة كثيرة، هي الصيغ والأساليب
التي يجدها الإنسان للتعبير والتواصل والتفاعل لاكتساب المعرفة. وهي أساليب متنوعة
يصعب حصرها، ومن أبرزها أشكال التعبير الفرجوية والمرويات الطقوسية والمظاهر
الاحتفالية المشخصة، التي تبتدعها الثقافات الشعبية في مختلف الأماكن والمراحل
والحقب والسياقات، وهي أشكال تتميز بتميز الشعوب وتختلف باختلافها وتتطور بتطورها
وسائل وشروط معيشها.
إن غريزة التمثيل/ المحاك تتمظهر في أفعال بشرية لا حصر لها، تظهر لدى الأطفال في
لعبهم الجدي والممتع في كل مراحل نموهم، من البأبأة إلى مرورا باللعب وحفر الآبار
في التراب وبناء البيوت الرملية على الرمال إلى مرحلة الأنشطة وإحياء اللعب. فهذا
الفعل الذي يذكي إحساسه ويجعله قادرا على الاندماج ومنميا لقدراته الخيالية يجب
تنميته وتطويره، وذلك بفعل إتاحة الفرص له ولميولاته الفنية التي تستوجب إعطاء
أهمية قصوى لما يسمى "مسرح الطفل"، هذا الذي يذكي الإحساس ويهذب النفس ويقويها حتى
تكتسب المناعة من الجنوح والتطرف، ويجعله صالحا للاندماج والانخراط بسرعة في
المجتمع.
أين نحن من هذا؟ في الريف خصوصا، هل نشجع أطفالنا على المسرح وممارسته خارج
المؤسسات الأكاديمية والمدارس؟ وإذا أردنا خلق جو جديد للطفل هل نستطيع ذلك؟ ربما
الجواب هو "لا" لأننا لا نقرأ، والقراءة وحدها تجعل الممارسة المسرحية تستوعب كل
معانيها ومستلزماتها مع إدراك كامل لكل مكوناتها. إننا شعب ـ بدون تعميم ـ فقير على
مستوى الكفاءات العلمية والفنية، ولذا يصعب علينا خلق جو أكثر دينامية وفضولية
وحرية.
فغريزة التمثيل تظهر لدى الكبار أيضا في سلوكات حياتية عديدة، فهي لا تفتأ تبحث عن
سبل تصريفها لبناء مجتمع قائم على المعرفة و العلم والسلم والاستمرارية لمضاهاة
المجتمعات الكونية الراقية، وأين نحن من هذا؟ فهذا لا يتأتى إلا بالقراءة. لأن
القراءة هي الجدل، هي الاكتشاف، هي الاستمرارية، هي الجديد، هي البحث عن المدهش
والمغاير، هي الماضي الممتد في الحاضر المنفتح والمستشرف للمستقبل.
فالناس جميعا يشتركون في غريزة التمثيل ويعبرون عنها وبها أو تعبر عن نفسها من خلال
فعلهم وأنشطتهم المتباينة والمتنوعة والبناءة، وذلك في صور وبوسائل وطرق متفاوتة من
حيث العملية والإبداعية. والمسرح صورة من تلك الصور إذ يستمر ويوظف غريزة التمثيل
ويرتقي بها لتؤثر إيجابيا على باقي الصور التواقة دائما إلى الأفضل.
فللمسرح صور كثيرة ومختلفة لا تختزل في الصيغة الأوربية المعروفة دون سواها. إذا
كان المسرح رهينا بالحياة ويعمل على ترجمتها وتجسيدها بإبداعية وجمالية على ضوء
خصوصيات محلية، فكل شعب من شعوب العالم له مسرحه أو شكله المسرحي. فالمسرح لم يولد
ولادة واحدة. فالمسرح العربي ليس هو المسرح الياباني، لأن المسرح هو ذات الأمة.
يقول عبد الكريم برشيد في إطار بحثه عن المسرح الاحتفالي الذي يشكل محطة تاريخية في
تاريخ تأصيل المسرح العربي: "إن البحث عن المسرح الاحتفالي يمر عبر القنوات التالية:
الحفر في الثقافة العربية".
فالمسرح هو هو ذات الأمة، هو أحد عناصرها الأساسية التي تتأسس عليه ويكسبها
المصداقية في إطار تنوع ثقافي يقوم على المثاقفة والمنافسة البناءة لصياغة نسق كلي
وشامل تتفاعل داخله الثقافات والأشكال الإبداعية.
فللشعب الأمازيغي مسرحه كما للشعب العربي مسرحه. والبحث يف المسرح الأمازيغي الناطق
بالأمازيغية يمر عبر محطات وإشكالات كبيرة هي:
ـ كيف نشأ المسرح الأمازيغي؟
ـ هل نشأ من رحم الثقافات والمسارح التي توالت على البلدان المغاربة؟
ـ هل نشأ معزولا عن عملية التأثير والتأثر في الثقافات ومسارح الشعوب الأخرى؟
ـ هل يشكل حلقة متواصلة في تاريخ المسرح المغاربي؟
ـ ما دور الجيل الأخير في المساهمة بتطويره وجعله قائما بذاته؟
ـ هل واصلوا طريق المسرح..؟ أم جانبوا الصواب وأخطأوا الطريق بفعل تجاهل أحدها حتى
وجدوا أنفسهم بعيدين عن المسرح فراحوا يتمسرحون، تتفجر إشكالية مفاهيمية أخرى:
المسرح الأمازيغي أم التمسرح الأمازيغي؟
إنها أسئلة كثيرة وقضايا عديدة يصعب الإحاطة بها في مثل هذا البحث القصير. لكن
سنحاول فقط في هذا العدد والعدد القادم أن نتناول أهم هذه الأسئلة.
عن نشأة المسرح الأمازيغي
ذهب كل الباحثين والمشتغلين بالمسرح المغربي إلى القول بأن نشأته كانت أمازيغية.
ولعل ذلك ما أعطى للمسرح المغربي ميزة خاصة يتميز بها عن المسرح العربي وعن مسرح
باقي الشعوب.
فالمسرح الأمازيغي نشأ على شكل فرجات وألعاب فولكلورية واحتفالات وطقوس ومرويات
مشخصة شعبية تمارس في المدن والقرى والبوادي، منها اليومي والمناسباتي والموسمي.
ففي كتاب من "تاريخ القصة والمسرح في الأدب المغربي" لحسن السايح، حينما يتحدث عن
المدن المغربية القديمة في عهد الرومان، "يشير إلى وجود حلبات باعتبارها فضاءات
احتضنت عروضا ونماذج من الفولكلور الأمازيغي وأشكالا فرجوية أخرى". يقول حسن
المنبيعي في كتابه "المسرح مرة أخرى": "تجسدت أبعاده في رواية الملاحم والسير وفي
فرجات البرابرة كإمذيازن... وغيرها من الألعاب والظواهر الاحتفالية والروحانية (عيساوة،
أحمادشة، هداوة). ومن كتاب هذه الفترة أبوليوس الذي ألف مسرحيات خالدة، منها (الحمار
الذهبي). ولهذا نقول إن المسرح الأمازيغي ضارب في القدم، فهو لم يبدأ مع حملة
نابوليون كما في مصر، أو وفد إلينا مع المستعمر الأميركي أو الإنجليزي، أو متزامنا
مع مسرحية "البخيل" لمارون النقاش.. وقد اكتشفت لأبوليوس عدة مؤلفات باللغة
اللاتينية كما يقول "حسن السايح" في كتابه (الحضارة المغربية عبر التاريخ). "نستطيع
أن نحصل على مجموعة كبيرة من أسماء الأدباء الذين اشتهروا في العصور الوسطى في هذه
المنطقة أو تلك" كما يقولر الحسين القمري.
كانت هناك أشكال كثيرة في ثقافتنا الأمازيغية: مسرح امعاشار... هذه المتون تضاهي في
عمقها وعناصرها مرجعيات الغرب، والتي ظلت تتفاعل معها في إطار محور تثاقفي كوني.
المسرح الأمازيغي والآخر.
"لا يمكن أن ينشأ المسرح الأمازيغي بحماس، بل لابد أن يتفاعل مع باقي الأجناس
الوطنية" (الحسين القمري). ويضيف نفس الكاتب قائلا إن تنمية المسرح لا تقتصر على
جانبها الفطري بل إن هذه التنمية لابد لها أن ترتبط بالنهوض المسرحي في مجموع الوطن
المغربي بإشاعة الوعي بالدور الهام للثقافة بصفة عامة لدى المجتمع.
والتعامل مع الآخر أصبح أمرا ضروريا لكن بيقظة وحذر شديدين ومراعاة خصوصيات الثقافة
المحلية والوطنية، لأن علاقة المغاربة بالمسرح الأوربي قديمة تعود إلى ما قبل
الإسلام، إلى زمن استيلاء الرومان على المغرب، إذ أنشأوا مسارح في المدن المغربية
كما يذكر البكري في كتابه (الممالك والمسالك). ومن المحدثين الذين يؤيدون هذا الرأي
"حسن السائح" الذي قال: "إنما الأذن البربري تأثر بالأدب القصصي والمسرحي الروماني".
فالمسرح الغربي هو أيضا استفاد كثيرا من أشكال الفرجة الأسيوية والإفريقية في تطوير
المسرح الغربي، كما لاحظ المسكيني الصغير. فالمثاقفة المسرحية تعتبر مبدْ أساسيا في
كل ممارسة مسرحية، وذلك عند معظم المدارس المسرحية.
(يتبع يف العدد القادم: المسرح الأمازيغي والجيل الآخر، المسرح الأمازيغي والبحث
عن الذات، لجيل الأمازيغي الأخير بين المسرح والتمسرح).
|