|
|
من يمثل الخطاب الأمازيغي الآن بالمغرب؟ بقلم: محمد أيت بود اتسم الخطاب الأمازيغي منذ تشكله في بداية التسعينيات من القرن الماضي بنوع من الانسجام، بيد أنه لم يكن من الممكن الحديث عن خطاب أمازيغي قبل ميثاق أكادير سنة 1991. صحيح أنه كانت هناك جمعيات بمختلف مناطق المغرب تطالب برد الاعتبار للمكون الأمازيغي ضمن الثقافة الوطنية، بالإضافة إلى البحوث الأكاديمية والإنتاجات الأدبية، غير أن بروز الإرهاصات الأولية لخطاب ثقافي منسجم لم تظهر إلا مع توقيع ميثاق أكادير من طرف ست جمعيات أمازيغية. هذا الخطاب استند منذ تأسيسه على فرضيات العلم والنسبية والمواثيق الدولية، ليؤسس لحركة ثقافية بالمغرب تدعو ليس فقط إلى رد الاعتبار للمكون الأمازيغي، بل وأيضا لدمقرطة الدولة والمجتمع، وذلك في إطار مبادئ الفكر الإنساني، متسلحة بثقافة التسامح التي تجعل من قيم التعدد والاختلاف، الركيزة الأساسية لخطاب حديث، ربما أكثر حداثة من غيره من الخطابات التي سبقته، خاصة الخطابين القومي والإسلامي. غير أن مرور الخطاب الأمازيغي بمحطات ومنعطفات صعبة، وفشل تجربة التنسيق الوطني سنة1998، أدخل هذا الخطاب في مفارقات وتناقضات جوهرية سواء مع ذاته كخطاب له مقوماته النظرية وأدبياته ومرجعياته الفكرية، أو مع الآخر في إطار السجال الثقافي والسياسي الدائر بين مختلف الفاعلين والأقطاب السياسيين بالبلاد، مما أصبح يقوي الاعتقاد بسقوط هذا الخطاب فعلا في نوع من التشرذم، وعدم اتضاح الرؤية بالنسبة للمستقبل. فهل الوقت مناسب لدق ناقوس الخطر، وطرح التساؤلات التالية: من أصبح يمثل الخطاب الأمازيغي الآن في المغرب؟ ما موقع الحركة الأمازيغية من مجمل التناقضات التي صار يعرفها الخطاب الأمازيغي، هذا إذا أمكن الحديث بعد عن خطاب أمازيغي حتى لا نقول بفرضية الخطابات الأمازيغية؟ أعتقد أنه دون العودة إلى سرد السياق الكرونولوجي لتطور الخطاب الأمازيغي بالمغرب إلى مستوى الخطاب القوي الذي أصبح يزاحم الخطابات الأكثر عراقة، والأكثر تسلحا بالترسانة الإيديولوجية، خاصة الخطابين المذكورين آنفا، يمكن القول بسقوطه في إطار نوع من التعددية الداخلية التي قد تجهز على مناعة هذا الخطاب. فرب قائل يرد بأن التعددية الذاتية للخطاب الأمازيغي لا تدعو بالضرورة إلى الاعتقاد بوجود خطابات أمازيغية، بل إلى خطاب واحد له امتدادات وانشغالات متعددة، لن تضعف من قوته كخطاب أصبح يشكل البديل الأيديولوجي الآن بالمغرب، أمام ترهل الخطاب اليساري، وعدم قدرة الخطاب الإسلامي على التجاوب مع الواقع، وسقوط هذا الأخير في إطار نوع من السريالية النظرية، نتمنى بالفعل أن يكون هذا الرأي صائبا. تستدعي الإجابة على الأسئلة المطروحة آنفا إلقاء نظرة على مختلف أقطاب هذا الخطاب والمشكلين لنسيجه الفكري والنظري، ويستلزم ذلك تتبع كل قطب من هذه الأقطاب في سياقه الفكري والنظري، بالاعتماد على بعض الوقائع والأحداث، ثم على الوثائق الرسمية لكل قطب، وأخيرا على السياق العام الذي أفرز هذه الأقطاب داخل نسق الخطاب الأمازيغي. 1-الحركة الأمازيغية: تتشكل الحركة الأمازيغية من الأرخبيل الجمعوي الذي ابتدأ بتأسيس الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي سنة1968، وانتهى بتأسيس المئات من الجمعيات الأمازيغية، وكان من إنجازاته توقيع ميثاق أكادير، وتجربة التنسيق الوطني، تعتبر هذه الحركة حاملة الخطاب الأمازيغي الذي يعتمد على المقاربة العلمية لمواضيع السياسة اللغوية والثقافية بالمغرب، مستندا إلى المواثيق الدولية في شقه الحقوقي، والفكر الإنساني في شقه السياسي. يتجلى هذا الخطاب بوضوح في مختلف الوثائق الرسمية للجمعيات الأمازيغية، بالإضافة إلى المحاضرات والندوات، والإبداعات الأدبية، والدراسات الأكاديمية التي راكمتها الحركة الأمازيغية بمختلف تنوعاتها الجمعوية، هذا دون إغفال طبعا المواقف النضالية لهذه الحركة، خاصة داخل الجامعات والتي تعتبر امتدادا لنظيرتها. 2- المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية: أدت استجابة الدولة لبعض المطالب الأمازيغية إلى تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بعد الخطاب الملكي لأجدير سنة2001، جاء تتويجا للمجهودات التي تبذلها الدولة منذ خطاب الحسن الثاني سنة 1994، من أجل احتواء الخطاب الأمازيغي الذي أصبح يعرف امتدادات وتشعبات متعددة، خاصة الدعوة إلى تسييس العمل الثقافي الأمازيغي عقب إصدار بيان محمد شفيق، ولقاء بوزنيقة التاريخي سنة1999. وتأسيس هذه المؤسسة هو بالفعل مؤشر إيجابي على بلورة خطاب أمازيغي مؤسسي، غير أن عدم مد هذه المؤسسة بالميكانيزمات القانونية اللازمة، بالنظر إلى الظهير المؤسس والمنظم لها، جعل منها مجرد مؤسسة أكاديمية متخصصة في البحث العلمي الأكاديمي حول الثقافة الأمازيغية، ذات صبغة استشارية، من دون أن تكون قوة اقتراحيه فاعلة، أي أنها ليست قطبا فاعلا داخل الساحة السياسية والثقافية بمقدوره الدفع باتجاه فرض وجهة نظره حول العديد من الأشياء غير الإيجابية التي يعرفها الموقف الرسمي من الأمازيغية، مما يجعل هذه المؤسسة في النهاية عاجزة عن المساهمة في بلورة خطاب أمازيغي مؤسسي، يساند الخطاب الشعبي. 3- الحزب الديمقراطي الأمازيغي: بالاطلاع على وثائق هذا الحزب لا يبدو أنه يبتعد كثيرا عن الأدبيات المتعلقة بالخطاب الأمازيغي، بالإضافة محاولته صهر مجموعة من التصورات النظرية في إطار أيديولوجية سياسية، تروم إلى تأسيس لتعاقد سياسي مبني على التراث المغربي الأصيل، مطعما بالثرات الإنساني، للدفع ببلورة تصور لدولة حداثية، ديمقراطية، وعلمانية في إطار نظام فدرالي ينبني على منح الجهات الكبرى المكونة للتراب الوطني حكما ذاتيا. عير أن رغبة الدولة في قتل هذا الحزب، المناوئ للثقافة السياسية السائدة المبنية على النظرية الثيوقراطية، في المهد، وعدم قدرة أطر الحزب على بلورة خطاب سياسي متكافئ، في إطار نوع من البراكماتية التي تراعي خصوصية المراحل، زج بهذا الأخير في كثير من المواقف غير المرضية، وتم جره إلى معارك خاسرة، كان الخاســر الأكبر فيها هو الخطاب الأمازيغي نفسه. فهل يمكن اعتبار هذا الحزب حاملا لخطاب جديد يمكن أن يشكل القاعدة الصلبة للتصور الأمثل لخطاب أمازيغي ذي امتداد سياسي؟ وهل يمكن القول بأحقية هذا الحزب في تمثيل الخطاب الأمازيغي خاصة في المرحلة الراهنة التي تعرف انحسار الحركة الأمازيغية إلى مستوى تنظيم بعض الأنشطة الثقافية المحتشمة، وعدم قدرتها على بلورة خطاب سياسي يتساوق مع المرحلة، خاصة أمام حقيقة ضعف الأحزاب السياسية ورغبة المخزن في تهميشها، والقيام بدورها في تأطير المواطنين، وأخذ زمام العملية السياسية بالبلاد، وأخذا بعين الاعتبار كذلك كون هذا الحزب كان السباق إلى تبني إعلان المطالبة بالحكم الذاتي في كل من سوس الكبير والريف. 4- الفدراليات الجهوية: أدى فشل تجربة التنسيق الوطني سنة1998 إلى تخلي الجمعيات الأمازيغية عن فكرة التنسيق الوطني، وانضوائها في إطار فدراليات جهوية، هذه الفدراليات الجهوية، تشتغل داخل فضاء جهوي محض، يجعل الصلة ببعضها البعض منعدمة تماما، مما يجعلها معرضة سواء للاختراقات الأيديولوجية للخطابات المعادية للأمازيغية، أو لبعض الخطابات التي لا تستلهم الإطار العلمي النسبي الذي تأسس عليه الخطاب الأمازيغي منذ البداية، علاوة على اكتفاء مجمل هذه الفدراليات بتنظيم بعض الأنشطة الثقافية، وعدم قدرتها على توحيد خطابها في إطار تصور نظري منسجم ذي انتظارات ومطالب ملحة وعاجلة وملموسة وواقعية، عدا مطلب دسترة اللغة الأمازيغية، هذا الأخير بدوره لم يطرح في إطار نظري متناسق ومتماسك، ولم يجد القوة اللازمة لإسماع صوته سواء للدولة، أو للمجتمع المدني، أو للهيئات الثقافية والمنظمات السياسية، لإيجاد نوع من الاقتناع لدى هذه الأطراف من الممكن أن يتحول إلى دعم حقيقي لهذا المطلب، الذي يظهر أن بعض الجهات لا تزال مستعدة للحيلولة دون الاستجابة له. تجدر الإشارة إلى أن الفدراليات الجهوية تشكل بالفعل جزءا من الحركة الأمازيغية التي أصبحت تستعصي على التحديد السياسي، أمام تعدد الأقطاب المتبنية للخطاب الأمازيغي وعدم انسجامها في بلورة تصور نظري، في المرحلة الراهنة، بمقدوره إنجاز خطاطة للمطالب الأمازيغية ذات الأولوية، وإيجاد الطريقة المثلى لإسماع صوتها للدولة، والفاعلين السياسيين، والهيئات الثقافية بالبلاد، تؤدي إلى خلخلة العديد من المواقف غير الموضوعية حول الخطاب الأمازيغي. 5- التنسيقيات الطلابية: أدت التطورات التي رافقت بلورة الخطاب الأمازيغي داخل الجامعة ورغبة الدولة في إقصاء الحركة الطلابية الأمازيغية من مجمل التفاعلات الطلابية داخل الجامعات، بالإضافة إلى عجز الحركة الأمازيغية عن لملمة أطرافها المترامية، ومواكبة مجمل التطورات والأحداث التي يعرفها الملف المطلبي الأمازيغي في علاقته بمحيطه السوسيو ثقافي، والسوسيواقتصادي، إلى بروز أجنحة راديكالية داخل الحركة الأمازيغية بالجامعة، هذه الأجنحة أصبحت تتبنى خط التصعيد في مواجهة قمع الدولة، وتنكرها لاعتدالية الخطاب الأمازيغي وواقعيته، محاولة المزج بين المطالب التقليدية للحركة الأمازيغية والمطالب الاجتماعية للجهات التي ينحدر منها الطلاب الذين ينتمون لتلك التنسيقيات، هذه التنسيقيات تستلهم النموذج القبائلي في ابتكار وسيلة جديدة للاحتجاج تجعل من العامل الاجتماعي قطب الرحى في خطابها الاحتجاجي الرافض لقمع الدولة وتواطئها سواء مع بعض الأجنحة المتياسرة أو مع التيارات الانفصالية الطلابية المنحدرة من الصحراء، فهل يمكن اعتبار هذه التنسيقيات بمثابة مؤشر قوي يدل على التحول النوعي للخطاب الأمازيغي بالمغرب باتجاه التصعيد، والتهييج الشعبي؟ الملاحظة الأساسية التي يجب التطرق إليها هي أن الدولة بالإضافة إلى تهميشها للجهات الشرقية والجنوبية، تعمل جاهدة على قمع كافة الاحتجاجات التي تصدر من تلك المناطق، والتي تتبناها هذه التنسيقيات. 6- الأشخاص الذاتيون: اللافت للانتباه أن الخطاب الأمازيغي، بالنظر إلى حداثة الطرح الذي يتبناه، وواقعيته، وموضوعيته، أصبح يجتذب إليه الكثير من الفعاليات الثقافية والسياسية، بل أصبح الحديث حول هذا الخطاب يتجاوز العتبات المخزنية، بيد أن هذا الأخير أصبح يتبنى بدوره لهذا الخطاب في إطار تصور يروم إلى الحد من فعاليته، وجاذبيته، التي صار يتمتع بها كبديل أيديولوجي، أصبح يجتذب كل الرافضين والمحتجين والمعارضين لسياسة الدولة في العديد من الميادين، خاصة الميدان الاجتماعي، وذلك بغية اختزال هذا الخطاب وتقزيمه، وإفقاده الشرعية الأيديولوجية التي صار يكتسبها يوما بعد يوم. فالمقاربة المخزنية لا تألو جهدا من أجل إبقاء الخطاب الأمازيغي، كخطاب يدعو إلى إعادة تأسيس لهوية مغربية عقلانية وحداثية، تكون الأمازيغية فيها بمثابة القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها بينما تكون باقي الروافد مجرد تفريعات لهذه الهوية الأساسية، أقول من أجل إبقائه خارج المعادلة السياسية، وحصره في خانة الثقافوي الذي يروم إلى تحنيط اللغة والثقافة الأمازيغيتين وجعلهما مجرد مومياوات على رفوف متاحف الأيديولوجية العربية الإسلامية. ولإتمام هذه المهمة فإن المخزن يعمل على دمج العديد من الفعاليات والشخصيات الأمازيغية ضمن دائرته، غير أن الخطورة تتجلى في جعل من الخطاب الأمازيغي حصان طروادة لبعض الأشخاص الطموحين والمرتزقين والمتسلقين، من أجل نيل الرتب الاجتماعية المرموقة والحصول على الامتيازات، ضاربين بعرض الحائط نضالات الشرفاء والنزهاء الذين استرخصوا أرواحهم، ورهنوا راحة نفسهم وطمأنينة أسرهم في ذمة هذه القضية النبيلة. فهل يمثل هؤلاء الأمازيغية والخطاب الأمازيغي؟ الخطة البديلة: أعتقد أنه بدون إيجاد وسيلة للحوار بين كل هذه الأقطاب المكونة للخطاب الأمازيغي، قصد التوصل إلى أرضية مشتركة تجعل من خدمة الهوية الأمازيغية الهم الأساسي لكل التحركات الذاتية والموضوعية، فلن يكون بمقدور أي من هذه الأقطاب التقدم بالخطاب الأمازيغي نحو أفاق الانسجام والتناسق، وبالتالي خدمة الأمازيغية، بل يجب على كل هذه الأقطاب التفكير منذ اللحظة في إيجاد وسيلة للتنسيق الوطني لتوحيد الرؤى والتصورات، والآراء والأفكار، وصهرها في إطار تصور نظري جديد يراعي طبيعة المرحلة، دون أن يقطع مع الفلسفة العامة للخطاب الأمازيغي التي ترتكز على مرتكزات العقلانية والنسبية والعلمية، هذا الإطار النظري المتوخى سيدفع باتجاه توحيد المطالب الأمازيغية، ودراستها الدراسة العلمية والموضوعية، ومدها بالميكانيزمات الفكرية والفلسفية الضرورية، حتى تستطيع أن تقنع مختلف الأطراف والفاعلين والفرقاء السياسيين بجديتها ومعقوليتها وموضوعيتها، مع ضرورة ترتيب هذه المطالب بشكل يجعل منها مطالب حيوية وليست مجرد مطالب عبثية. فمطلب دسترة اللغة الأمازيغية مثلا، هو مطلب جوهري وحيوي، لكن يجب أن يطرح بالشكل اللائق الذي سوف يؤدي بالمخاطب الذي هو الدولة والمؤسسات الدستورية بالدرجة الأولى، إلى العمل على الاستجابة له. من الطبيعي أن الحقوق لا تمنح لأصحابها في أطباق ذهبية، فالشعوب تسعى لنيل حريتها تحت رحمة الجحود وعدم الإنصات، لهذا يلزم في البداية التفكير في الوسائل العملية التي سوف تجعل من الآخر يقتنع في النهاية ويراجع أوراقه، ويقر بضرورة الاستجابة العاجلة لهذه المطالب، فعدا الوسائل الفكرية من ندوات ومحاضرات ودراسات ولقاءات صحفية، ومناظرات سياسية، يلزم التفكير في الإستراتيجية الموضوعية التي ستمنح لهذه المطالب القوة اللازمة لتوضع موضع التنفيذ. فتوحيد النسق الفكري للخطاب الأمازيغي، وتأسيس مؤسسة إذا اقتضى الأمر للاطلاع بمهمة صياغة مختلف المواقف التي تراعي طبيعة كل مرحلة على حدة أمر بات واردا وذلك حتى لا يصبح الخطاب الأمازيغي فريسة للتصورات والأفكار غير الإيجابية والمتسرعة والظرفية، كما أن ذلك سوف يقطع الطريق على كل الوصوليين والانتهازيين الراغبين في تحويل هذا الخطاب عن غاياته وأهدافه وجعله ينشغل بأمور هامشية وثانوية، سوف لن تعمل إلا على إضعاف صوته، والحد من فعاليته.
|
|