| |
حوار مع الفنانة التشكيلية
الأمازيغية سعاد شكوتي (أسيتم)
حاورها: سعيد بلغربي
تقديم:
تقول الفنانة الأمازيغية سعاد شكوتي لو لم أكن أرسم لمارست الرسم أيضا. إصرار
وتعنت يتدفق من ذات مبدعة تأصلت في أحضان تربة أمازيغية تعلمت من عبيقها أن الفن
رسالة نبيلة، وأن الأمل (أسيتم) علامات يعلق عليها المبدع آخر وصاياه، بين أناملها
تصلي الألوان بخشوع صلوات العشق لأمازيغيتها، وعلى لسانها حسرة ومرارة وهي تتحدث عن
مآل الفن والفنان الأمازيغي أمام لعنة الغياب...
سعاد شكوتي (أسيتم) مبدعة أمازيغية الأصل، مغربية الجنسية، من مواليد أواسط فبراير
1976 بمدينة الحسيمة قلب جبال الريف. من أبوين أمازيغيين، الأم من قبيلة آيت بقيوة،
بدوار "ثارا ن يوسف Tara n Yusef» بإقليم الحسيمة، الأب من قبيلة آيت توزين، بإقليم
الناظور، منطقة ثاغزوث ن تاسا Taghzut n Tasa، استهواها الفن التشكيلي منذ نعومة
أظافرها، لها اهتمامات أخرى، أبرزها ذات علاقة بالثقافة والمجالات الاجتماعية
المختلفة بالإضافة إلى هوايتي المطالعة والكتابة، إلا أن الألوان لعبت أدوارا
توجيهية في حياتها، ولقد اعتمدت الموهبة والإحساس والعصامية في تعاطيها لهذا
الميدان النبيل.
حاولنا أن نمزق عنها حلمها وهدوءها، فكان لنا معها هذا الحوار الشيق:
سؤال: بداية، سؤال تقليدي يطرح نفسه دائما بإلحاح، كيف بدأت وانتعشت قصة مشوارك
الفني مع الريشة والألوان؟
جواب: نفس الإلحاح الذي يطرح به سؤالك، نفسه يأخذني في رحلة استذكار بين السنوات
الأولى التي تؤسس لسيرتي الذاتية، لأؤكد من جديد أنني لم ألج عالم الفن من أبواب
المؤسسات التعليمية، لا العمومية منها ولا الخاصة، إلا أن مقاعد الدراسة ومقرراتها
كشفت لي عن الكوارث التي تتخبط فيها منظومتنا التعليمية، والتي نسجت وفق مميزات غير
مميزات شعبي، وبنيات لا تمت بصلة للمحيط والوطن الذي أنتمي إليه، هذا التناقض بدا
لي جليا وواضحا في أولى قنوات التواصل، فالنص المدرسي يؤكد ويعيد بأن لغة الضاد هي
لغة الحضارة والسمو الروحي، وتأشيرتك لدخول جنان الأرض والسماء. كما أنه يحدثنا عن
أجداد ولدوا وترعرعوا في بقاع وأوساط، جعلني عدم تطابقها مع واقعي ومحيطي، أجزم
أنها ضرب من الخيال وأن لا وجود لهؤلاء القوم إلا على الأوراق والأذهان المحبة
للأوهام. وكما الآلاف من الأجيال، كنت أنا أيضا عنصرا ينتمي إلى جيل تشبع بمقررات
مغيبة تماما للمحتوى الأمازيغي. فأصبحنا قوالب برمجت وجهاتها نحو مختبرات/مؤسسات،
تعبأ وتملأ بمعالم وثقافات تستورد من الشرق الأوسط، وأحيانا من بقاع أخرى، نحج
إليها وفق برنامج أعد مسبقا يكاد يحترم من قبل صانعيه.
هذه التناقضات نتجت عنها عاهات وأمراض نفسية وسلوكية تختلف من طفل لآخر، لكنها
تلتقي في الأعراض والنتائج، من اضطرابات نفسية تضطرك لأن تكون بين ذويك كيانا، شخصا
ولسانا يختلف عن الذي كنته ذاك المساء، أو ستكونه هذا الصباح في المدرسة أو الكتاب.
وقد تطرقت في فصل من أوراقي الطفولية، إلى بعض المشاهد من هذه الفترة، وكيف أن هذه
الوضعية المكرسة لتعليم وتربية مضروبين، ينمان عن خلل ما في الفلسفة التعليمية التي
تتبناها أجهزة بلدنا العزيز، على جميع الأصعدة. فبين عدم التلاؤم بين المعارف التي
نتلقاها في المدارس الغير المناسبة لوجودنا كناشئة أمازيغية مغربية، وبين المثاقفة
الممارستية التي نفطر عنها في بيوتنا وأوساطنا العائلية، التي ما تفتأ عن إجبارنا
على الانخراط الكلي واللامشروط في العملية التعليمية في تناقض تام، مكرسين لذلك كل
سلطانهم الأبوي. قلت بين هذا وذاك، تصل فورة الضغوطات أقصاها، وتحين اللحظة لتختار
أنسب القنوات لتفجر عبرها غضبها، وثورتها وعطاءها المكبوت.
وبما أن الصوت والحركة الجسدية، من بين الأشكال التعبيرية الأكثر متابعة، والتي
تصادر دون سابق إنذار، وخصوصا إذا تعلق الأمر بإعلان الرفض والتمرد عن واقع غامض
متناقض وخانق، عن وعي أو دونه، وبعد طول تأمل وتمحيص، أدركت بحدس طفولي، أن أصابع
اليدين موجهة بنور العين والعقل، يمكن لها أن تصنع عوالم شتى وأشياء جميلة، وأخرى
تفرض نفسها، تشد انتباه الآخر، وتجعله يهتم لها ويأخذ منها، من هنا ستتيقظ لدي حاسة
اللمس ورشاقة حركة الأصابع، وستتقوى علاقتهما بالمادة والصورة، حيث تبدأ عملية
الإفراز والتسرب لمادة مكونة من عناصر مهضومة وأخرى غير ذلك، فانكببت على الخربشة
ثم التخطيط على تراب الأرض، والجدران والطاولات والأوراق إذا توفرت، وذلك في هدوء
وتخف كشف عن نفسه بالتدريج، فمن تقليد صور الرسوم المتحركة المذاعة آنذاك وصور
الكتب المدرسية، إلى التركيز على العيون وخصوصا المؤنثة منها، وبعدها تخصصت في
الوجوه النسائية لفترة طويلة.
هذه كانت البداية، أما الاستمرارية، فقد عرفت طرقا ملتوية، متقطعة، ومتشعبة، بعضها
ذات مخارج، وأخرى بقيت بها الحمولة عالقة، محبوسة ومعتقلة إلى يومنا هذا.
س: لكل فنان طقوسه الخاصة وعالمه السري وهو في مرسمه يغازل ريشته ويداعب ألوانه، هل
بإمكانك أن تنقليننا إلى مميزات عالمك هذا؟
ج: بطرحك لهذا السؤال، تكون قد أثرت جانبا ذا أهمية عالية بالنسبة لي، لما لهذا
العنصر من أهمية كبرى في مسيرتي الفنية وكذا الشخصية، فيكفي أن نعلم بأن علاقة
الإنسان بالعالم المحيط به هي علاقة تبادلية، تتعدى الحواس الخمس من بصر ولمس وشم
وسمع وحتى المذاق، لتشمل البيولوجيا وما وراءها من عوالم خفية، حيث إن وعينا
بالبيئة المحيطة بنا يبدأ بتناغم شروط هذه العناصر، مع الظروف الثقافية والاجتماعية
التي تطبعنا.
فتمنحنا هذه الشروط قوة نفسية وعملية تمكننا من اكتشاف قدراتنا الذاتية، الفكرية
منها والإبداعية، ما يجعلنا أكثر استعدادا للفهم والتحليل وبالتالي العطاء.
"عالمي السري" على حد تعبيرك، هو بالنسبة لي كأرض الميعاد بالنسبة لشعب اليهود، فأن
يأتي يوم أمتلك فيه مرسما أو ورش عمل خاصا بي، وبالأحرى في مدينتي ومجهزا بالأدوات
الفنية اللازمة، هو بالنسبة لي ومنذ زمن، ولحد الآن، حلم أجمل من أن يتحقق!! لست
سلبية التفكير ولا أبالغ في هذا الاعتقاد، فمند البدء وأنا أحاول أن أرسو بأمتعتي
التقنية وحمولتي الإبداعية على بقعة ما... وبين أسوار تعطي الشرعية والحصانة
لاهتماماتي الفنية وميولاتي التشكيلية، فضاء أذيله بيافطة أكتب عليها باللون الأخضر:
مرسم أسيتم Axxam n Tazuri n Assitem، إلا أن الظروف لم تسمح لي بذلك، أولا لأن ذلك
يخرج على نطاق إمكانياتي المادية المتواضعة، وثانيا لأن حياتي الشخصية عرفت بعض
التنقلات الغير المنتظمة بين بيت أبوي وبيت جدي، بحكم أن هذين الأخيرين عهدا
بتربيتي مند الأشهر السبعة الأولى من حياتي لظروف معينة...، ومن حينها وأنا أتنقل
بين البيتين لفترات مختلفة وعشوائية، حتى أنني أتذكر أنه كنت أحيانا أستيقظ وأنا
لست متأكدة بأي البيتين بت الليلة الفارطة، والشيء الذي أحل به هذه المعضلة، والذي
أعتبره أحد العوامل التي جعلت الألوان تلعب دورا هاما في حياتي، هو لون صباغة
الحائط، الذي أميز به بأي البيتين أتواجد، بغض النظر عن بعض الفترات التي أمضيتها
في مدن أخرى بدافع الدراسة والعمل.
لذا فقد تقاسمت معي لوحاتي الترحال وعدم الاستقرار، مما يجعلها تبدو، أو على الأقل
في نظري، دائمة التأهب للسفر من جديد، غير مستقرة، تحلم بآخر لمسة أعمدها بها،
فتقريبا كل اللوحات التي رشحتها فيما مضى ولحد الآن للعرض، لم تكتمل بعد. ليس من
حيث فكرة الموضوع، ولكن من حيث الصياغة التي ستنال رضاي قبل عرضها على مرأى الآخر.
«عالمي السري» عرف وجوها عدة، وأوضاعا مختلفة... بعضها لا بأس بها والآخر رديء،
وأحيانا مأساوي...، وعندما أكاد أقترب من بعض ملامحه التي رسمتها له في مخيلتي،
تنتهي مدة صلاحية الإقامة، فأضطر لحزم الحقائب وتكديس الأغراض، فتتبخر الفكرة
وتتلاشى التطلعات.
لكن بالرغم من أنني أعجز عن وصف «عالمي السري» الذي تستفسر عنه، ليس لسبب إلا لأنني
أنا بنفسي لم أتعرف إليه بعد!!! إلا أن من خلال الفضاءات التي استطعت أن أرسم بها
بعض الوقت، أستطيع أن أعطيك فكرة على طقوسي الخاصة، والتي أكيد أن لها علاقة بصفة
وطبيعة تواجدي داخل كل مرسم مرحلي: الفوضى والاضطراب عامل مشترك بدون منازع،
الأغراض تتنوع بين ورق وقماش وإطارات وكتب... صباغة مختلفة التراكيب، أنابيب أو
غبار... إلخ، أدوات مختلفة بعضها منهجية تباع بالمكتبات وأخرى من تصميمي...، الكتب
متراصة في كل مكان، الثقافي منها أكثر من المتخصصة بالفن التشكيلي. أثاث المرسم
يفقد وظيفته وطبيعة استعماله، فتصبح الأرض طاولة، والطاولة مقعدا، وبعض الأجهزة
الكهربائية مناضد ورفوف...إلخ، وأول ما سيسترعي انتباهك هي الصور الفوتوغرافية
للوحات عالمية، وأخرى لوجوه من معارفي أو شخصية، خرائط، ملصقات ...إلخ، وعدة لوحات
غير مكتملة بعضها على الأرض والآخر معلق بطريقة عشوائية. الموسيقى وفناجين الشاي أو
القهوة من بوادر ومؤشرات الحضور الآني النابض.
صورة كارثية توحي بالعبثية والجنون، إلا أن لهذه الأجواء نكهة خاصة، تجعلني أنفصل
نهائيا عن أي شيء آخر غير محتويات المكان والزمان لأرتب أفكاري من جديد وأختار
العناصر التي ستكون عماد الإبداع القادم .
سأظل متشبثة بحلمي بعالم سوي يحتضن المكان والظروف المناسبة لمخاض لوحة مميزة، كما
سأظل أحلم بالتفرغ التام للإبداع... وأرى على شفتيك طيف ابتسامة ساخرة تهمس: تصبحين
على مرسم!
س: يقال بأن الفن التشكيلي هو تعبير عن مجموعة من المواضيع والإرهاصات والانفعالات
الشخصية أو الجماعية حيث تؤثثه إطارات من رموز وأشكال... بالنسبة لك كفنانة تشكيلية
ما هي المواضيع الأساسية التي تشتغلين عليها؟
ج: الإنسان المبدع عموما، والفنان التشكيلي على وجه الخصوص، يتمتع بإحساس مرهف،
يمكنه من استنباط المعاني والأفكار من رحم الأشياء، وهذا يمدد من بصيرته ويوسع من
رؤيته، لتشمل الماضي والحاضر والمستقبل بأبعادهم الزمكانية، ومن البديهي أن ينطلق
الفنان بركب إبداعاته من أقرب المحطات وأعمقها، حيث الوعي بالذات يمر بمراحل عصيبة،
موغلة في التناقض، ابتداء من حالة الدهشة التي يصاحبها التيه والحيرة، ثم استيعاب
واستنطاق الواقع، وأخيرا محاولة ترميم وبناء الذات والهوية.
هذه المعادلة ذات العناصر المتسلسلة والمركبة، أسقطها على حياة الوجود الإنساني
والشخصي للمبدع، وأعتبرها ضرورية وأساسية لمصداقية أي عطاء بشري.
لذا، فالمواضيع المشتغل عليها هي نفسها مند البدء، الفرق والتغيير يبقى على مستوى
الشكل وتفاصيل الفكرة، هذا الفرق الذي يبرز حجم وعي الفنان بمرجعياته الثقافية
وتشبعه المعرفي والجمالي الذي ينمو وينضج عبر مراحل، وبصيرورة تحددها الانشغالات
والظروف الشخصية التي تطبع كل مبدع.
فأعمالي ليست بأجوبة جاهزة أو مباشرة، بقدر ما هي أسئلة مثيرة عن الوجود الإنساني،
والقيم التي من شأنها أن تحدد طبيعة الأوضاع التي يعيشها ككائن بشري. بدءا من
التصورات السطحية الساذجة إلى الخلاصات الأكثر عقلانية حول الذات والعالم، وكل ما
من شأنه أن يؤثر في الحياة العامة وتقديم أفكار حافزة لعموم الناس تساعدهم على
إعادة النظر في خياراتهم.
فأنا أكتشف بعد كل عمل أنني أمثل الأمازيغي إنسانا وكيانا في أعمالي، فمعظم أعمالي
تعالج وتناقش الأوضاع العامة لوسطي، متطلعة لمعانقة المواضيع المجتمعية والواقعية
على مستوى الكون والبشرية جمعاء، فالفن التشكيلي في نظري كباقي الفنون، عليه أن
يعالج كل القضايا الإنسانية، بدءا بالإنسان والمحيط وكل ما له علاقة أو يمكن أن
ينتج عن هذه العلاقة الجدلية. وتجربتي تعبير صريح عن رؤيتي للحياة وللعام.
س: من خلال هذا، هل تعتقدين أن الفنان الأمازيغي ساهم بشكل واضح في إبراز الملامح
الأساسية للقضية الأمازيغية، وكيف تفسرين ذلك؟
ج: لم يساهم الفنان الأمازيغي في إبراز الملامح الأساسية للقضية الأمازيغية فحسب!
بل اعتبرته دائما خير سفير حمل صوت وحقيقة شعبه للجهات الأربع ولأقاصي البلاد، وفي
هذا، تستوي الموسيقي والشاعر والكاتب والفنان التشكيلي وألوان أخرى من الفنون.
فبالإضافة إلى الموهبة والملكة الإبداعية، يلعب الوسط المنتمى إليه أو المتواجد به
بشكل مستمر، وطبيعة الأوضاع السائدة به، دورا رياديا في نوعية المسار الذي يسلكه
إبداع الفنان شكلا ومضمونا. بحيث إن الفنان الأمازيغي، ظل دائما قريبا من معطيات
واقعه، بثوابته ومتغيراته، بدءا بالفنون الشعبية والأشكال التراثية، وانتهاء إلى
أحدث وأغرب الأنماط الفنية التي تعرفها البشرية وعصر العولمة. فما الأشكال الفنية
إلا تفاصيل وإشارات لحقائق منبثقة ومستوحاة من حياة الشعوب والطقوس الفعلية لكل
مجموعة بشرية معينة. فلولا «ميلودة الحسيمية»و «ميمونت ن سروان»، أو»سلام الريفي»
وآخرين ممن سبقهم أو زامنوهم في التعاطي لنفس النمط من الغناء والأهازيج الشعبية،
لما تسنى لفنانينا من الجيل الجديد في الأغنية الريفية أن يعملوا على إحياء تراث
هذا المجال، باحثين دائما عن القالب والأوزان الموسيقية الأنسب لهذا العصر، ملتزمين
بالحفاظ على الحمولة الثقافية لهذا الموروث مع إضافة لمساتهم الخاصة. فلولا هؤلاء
وأمثالهم لما استطاعت «رالا بويا Ralla Buya « أن تخلد إلى عصرنا هذا، هذه الترنيمة
الخالدة التي نفتتح بها كل عرس غنائي، و التي تسكننا وتندفع من أفواهنا متزعمة كل
حس مطرب، كيفما كانت إيقاعاته، وأثناء مختلف الطقوس الممارستية للحياة اليومية
للإنسان الأمازيغي/الريفي... والتي قال في حقها الفنان الأمازيغي «حفيظ
تشينو»Tifridjas :
«Buya d ijen yisem rallas n temgharin
Toiz x Imazighen xelli ur tessinen
Ghenjen s yisem nem xelli ur das teoqiren
Qqaren as Ralla Buya m reoqer yefsusen
ولولا الراحلة المبدعة الخزفية، الأستاذة «ماموش بن عمر»، وكدا قريبتها «ميمونت بن
عمر»، المنحدرتين من دوار إدردوشن دائرة تماسينت/جماعة إيمرابطن، قبيلة آيت ورياغل
بإقليم الحسيمة، لما استطعنا أن نستمتع بجمالية فن الخزف الأمازيغي في إحدى أعظم
تمظهراته، والذي يعد من بين أبهى معالم الحضارة الأمازيغية العريقة.
ويبقى إبداع الفنان الراحل «الشيخ موحند»، أحد أعمدة الأغنية والرقصة الريفية التي
تختزل منظور وفلسفة شعب بالكامل. وكذا شأن العديد من الفنانين الأمازيغ على صعيد
بلدنا الحبيب المغرب، أو بلاد ثمازغا جميعا، وأذكر على سبيل المثل وليس الحصر،
الفنان: «إدير»، والراحل: « لونيس معتوب» والمطربة: « جورجورا»...إلخ .
الساحة الثقافية الفنية الأمازيغية ثرية الآن بمختلف تشعباتها في هذا المجال، على
مستوى المنتوج الإبداعي وأيضا نوعية الفنانين الملتزمين بقضيتهم وهويتهم، هؤلاء
الذين بلغوا درجة من النضج والوعي بصيرورة الحركة الفنية عالميا، فانتزعوا لأنفسهم
حق الاعتراف بهم كفنانين، وكتمثيلية في مستوى حضارة شعبهم.
وكل هذا جعل الفنان الأمازيغي في معركة دائمة من أجل إثبات الذات، وانتزاع الاعتراف
بشرعية الوجود، فهو يحمل على عاتقه مسؤولية عظيمة وجسيمة سخر لها كل ما أوتي من
مواهب وكل ما أكتسبه من تقنيات وحيل. ودائم البحث عن الوسائل الكفيلة لتحقيق ذلك،
فقبل أن تكون المصوغات الإبداعية نشر للوعي بالهوية الأمازيغية، ودعوة للعودة
للجذور الوطنية، فهي تأريخ لأمة بأكملها.
س: يلاحظ في بعض أعمالك الفنية طغيان الطبيعة المؤنثة من خلال تأنيث مواضيعها، هل
يعني هذا أن لوحاتك تحمل رسائل مشفرة تودين من خلالها التمرد بشكل فني على الطبيعة
الذكورية للمجتمع الأمازيغي؟
ج: لا ريب من أهمية الدور الذي تقلدته المرأة في حياة سائر مجتمعات البسيطة، سواء
على المستوى الوظيفي أو المعنوي، وحتى الجمالي، باعتبارها كائنا جديرا بتجسيد قيم
إنسانية وجمالية، تختزل في القدرة على العطاء والصبر والمحبة. لكن هذه المميزات
المشتركة لهذا الكيان البشري، لم يمنع من أن تختلف أوضاعه من مجتمع لآخر، ومن نسق
تفكير لآخر مغاير، فهي كانت دائما الزوجة والأم، الأخت والابنة.
تعتبر الحضارة الأمازيغية في بلاد المغرب، قبل دخول الإسلام وفي الأزمان الغابرة،
من بين أبرز الحضارات التي مجدت المرأة وخصتها بمكانة جوهرية في النسق الأسري، وكذا
في المؤسسات الاجتماعية الأخرى، لما أبدته من دأب وحنكة فطرية في جميع أمور الحياة،
فساهمت إلى جانب الرجل، في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وكذا الروحية
والسياسية. ولعل سيرة وأمجاد الملكة الأمازيغية "ديهيا"، أفضل دليل على الدور
الأساسي والحضاري التي خصصته هذه الأمة للمرأة. كما كانت هذه الأخيرة، عماد كل أسرة
باعتبارها مؤسسة اجتماعية تمثل نواة مجتمع أميسي، مجد المرأة ونسب إليها كل القيم
المشرفة.
إلا أن هذه المكانة العظيمة للمرأة ستنحط، ومعها كل المكتسبات القيمة، مع دخول
الإسلام للمغرب وما رافق ذلك من أطماع ونوايا إمبريالية شاملة، مست حتى الهوية
والجذور، لتتوارى المرأة في الكواليس وثكنات الحريم، وتنسب كل أدوارها الإيجابية
والمحتكرة من طرف الرجل إليه هو. فحتى بعض الاستثناءات التي عرفتها الساحة
السياسية، فإنها كانت لظروف خاصة، تختزلها الأستاذة "زهرة طموح" فيما يلي : " في
دراسة قمنا بها كمحاولة لمقارنة الظروف التي سمحت بصعود ثلاث نساء إلى السلطة في
تاريخ المغرب، وهن – إلى جانب للا خناثة—زينب النفزاوية والسيدة الحرة، تبين لنا أن
القاسم المشترك بين ظرفية بروزهن هو توافقها، مع فترة أزمة، لذلك يبدو أن الأزمات
تفتح المجال لبعض النساء ليخترقن جدار التغيب المفروض عليهن، إلا أنه من المؤكد أنه
بمجرد انتهاء الأزمة ويغلق باب ولوجهن للشأن العام من جديد، ليتم سجنهن في المجال
الخاص".
لم يتح للمرأة، الظهور على ساحة أحداث مغرب العصور الماضية والغير البعيدة، لطبيعة
مجتمعه الذكوري ونظرته الاحتقارية للمرأة، لكن هذا العنصر الجوهري ظل ينشط ويناضل
على جميع المستويات، ما مكنها من انتزاع العديد من الحقوق في شتى مجالات الحياة،
إلا أنها لم تستطع أن تنتشل ذاتها، وجنسها بشكل مرض من غياهب القهر والاستغلال،
مهنيا، سياسيا واجتماعيا. بل لا زالت تعرف أوضاعا مأساوية. لأن عدم تكافؤ الفرص بين
الجنسين، ومسخ المعالم المميزة للحضارة المغربية المغيبة للمضمون الأمازيغي، من بين
العوامل التي ساهمت بشكل قاطع في إعجاز قدرات هذه المرأة، على استيعاب واستساغة
الأوساط الاجتماعية ولا الثقافية، فما بالك بالسياسية والحضارية؟.
وأشير إلى أن المغرب شهد مند أواخر السبعينات دينامية نسائية، أطرت نفسها في
تنظيمات نسائية، استمدت مشروعيتها ومبادئها الأولية، كونيا: من الموجات النسائية
الغربية التي سبقتها إلى الثورة والتمرد على الأوضاع، ومحليا: من فضاءات ثقافية،
حقوقية ونقابية، كانت قد أدرجت المطالب النسائية ضمن برامجها النضالية، وإن كان
بشكل محتشم وغير كاف، وفي أحيان كثيرة بطابع مناسباتي. وبالرغم من أن هذه الإطارات
الجديدة تبنت قضية المرأة بخصوصية صارمة، وركزت أهم نضالاتها على خلخلة النص
القانوني المغربي، والعمل على جعله يطرح وضعية المرأة المغربية وخصوصا المرأة
الأمازيغية، على مستوى الدستور ومدونة الأسرة، وكذا القوانين الأخرى: قانون الشغل،
القانون التجاري، قانون العقود والالتزامات. إلا أن هذه القوانين ولحد يومنا هذا،
تعرف تضاربا بين بنودها، ينم عن عدم اعتمادها لرؤية واقعية لخصوصية الشعب المغربي،
رؤية شاملة واضحة المعالم والأهداف.
في ظل الأنساق الثقافية السائدة المميزة لمجتمعاتنا المغربية، سواء الذكورية
المكرسة لسلطة طبقية مضطهدة للمرأة، أو العروبية التي لا تؤمن بالثقافات المغايرة
لها، هذه الأنساق التي تعمل جاهدة على فرض خطاباتها، لتشكيل نموذج من المواطن
المستلب، والموجه وعيا وتصرفا. استطاعت بعض النخب المثقفة والفاعلة، نساء ورجالا،
أن تفرض نفسها على الساحة السياسية والثقافية بالمغرب، وتطرح إشكالية الهوية
والانتماء في إطارها الصحيح والواقعي، ببلاد ثمازغا، جغرافيا وثقافيا وحضاريا. إلا
أن في ظل هذه الظروف، لا زال الخطاب الإبداعي النسائي مهمشا ومغيبا، لطبيعة العقلية
الناتجة عن مجتمع حامل للسمات التي تطرقنا إليها، مما يربك التواصل بين المرأة
المغربية وخصوصا الأمازيغية المبدعة، وبين المتلقي، إن لم نقل أن هذا التواصل يكاد
يكون منعدما.
لذا توجب على كل امرأة، واعية بخطورة المفاهيم الدخيلة على ثقافتها الأمازيغية،
وكذا الضغوطات الاقتصادية وسمات التمييز بينها وبين أخيها الرجل على أساس الجنس،
وأهمها التناقضات الاجتماعية، أن تعمل على إبراز مكامن الخلل والتناقض، داعية
باستمرار إلى التنقيب والتشبث بالقيم والمعالم الأساسية التي تبرز أصالتها، كخطوة
أولى لاستعادة الهوية الأمازيغية، لتحرير مبادراتها الإبداعية من الجمود والركون،
والممارسات المتخلفة، سواء كانت من صميم تقاليدنا أو مستوردة.
وعندما أتحدث عن النضال من أجل الطرح النسائي وإنصافه، فلا أعني هنا بالضرورة خلق
صراع بين الجنسين، فلا يتعلق الأمر بتطاحن بين العنصرين، لأن تنمية الإنسان والمجال
لن تتحقق بإقصاء جنس لحساب الآخر، بل باتحادهما، والاتفاق على تصور يخدم وضعهما
ككائنين بشريين وكذوات إنسانية. مستحضرين أن لكل أمة خصائصها ومكوناتها، ومناهضين
لكل سياسات التذويب أو التمييع.
وللمرأة الأمازيغية المبدعة، مسؤولية استنطاق صمت فئات واسعة من أدنى موضع في الهرم
الاجتماعي، حيث أوسع مكوناته المؤنثة هي الأكثر عرضة للقهر والتهميش. كما أن لهذه
المرأة تجارب حياتية صادقة وعلى جميع المستويات، تخول لها الاستقلال برؤاها
وتطلعاتها الإنسانية المتشعبة. مسخرة لذلك كل القنوات الشرعية. على رأسها الفنون
التعبيرية.
س: كائن رائع يتجول فينا دائما، الحسيمة، أين تتجلى رمزية هذه المدينة الأمازيغية
في إبداعاتك التشكيلية؟
ج:
Arif d tammurt inu
Nec dayes ixerqegh
Ya a dedwegh ya ad arsegh
Nec ghar s id ghar dewregh
Car nni di nimegh
Dayes ighar nedregh
Di ghar irigh di rehna
Waxxa nec mmutegh
انطلاقا من مغزى كلمات أغنية فناننا الأمازيغي/الريفي “بوعرفة أياون”، سأحاول أن
أختصر دوافع وتجليات تلك البقعة الخزامية في أعمالي وفي كينونتي إجمالا، فكل إنسان
تربطه علاقة حميمية بموطنه ومسقط رأسه، فما بالك المبدع بانفعالاته التي تشده إلى
ملاحظة جمالية الأشياء والقيم، مهما كانت بساطتها، فالحميمية تبزغ من الأعماق، من
حيث مسرح الروح الذي يحتضن حالات وهواجس مختلفة، هذا حال كل مبدعي أوطان العالم،
وهذه حاجة كل إنسان ليستقل بذاته، لاسيما إذا كان وطنه يعرف نوعا من الاحتلال،
عسكريا، سياسيا كان أو ثقافيا. بمقدور هذه الأشكال الاستعمارية تقييد حرية الجسد
لكنه ليس باستطاعتها اغتيال الحرية الفكرية للإنسان، وإن كان هذا لا يعفيه من
الشعور بالاغتراب والضمور.
الحسيمة والريف، عموما هو الحاضنة الأم لوجداننا، ولذاكرتنا المكانية والزمنية
بتنامي مستمر، يعززه نزوعنا الدموي والترابي، على حد قول القائل، “الأماكن هي
مسامير الروح.. وأوتاد الذاكرة”. فرمزية مدينة الحسيمة تتجلى في شرعية الانتماء إلى
جذور وفضاء معين ومميز، يفرض علينا مسؤولية الالتزام بحدود جغرافية ومميزات ثقافية
لها الأولوية على كل المستويات، فشعور رائع وعظيم يشملنا، ونحن في حضرة هذه المدينة
بما تمثله لنا من وجوه شتى، أولها وأهمها، كونها تختزل معاني الأمومة التي سيظل
حنيننا إليها نابضا، وحاجتنا لإراحة رؤوسنا على صدرها، مهما كبرنا واشتدت جذوعنا.
س: غير بعيد عن الفن وضجيج ألونه الصاخبة، تعتبرين من مؤسسي "فرقة أراغي" للفن
التشكيلي التي شعارها الأساسي تسخير الفن من أجل القضية الأمازيغية، هل بإمكانك أن
تقربيننا أكثر من أهداف هذا الإطار الفني؟
ج: في شتاء سنة 2003، تلقيت دعوة من تنسيقة جمعية "تويا" للعمل النسائي بالحسيمة،
وجمعية قدماء ثانوية مولاي علي الشريف بالحسيمة، للمشاركة في معرض للوحات
التشكيلية، والأواني الخزفية الريفية ومنتوجات من مادة الدوم المصنوع بالمنطقة،
كانت مشاركتي هذه إلى جانب ثلاثة فنانين آخرين (شيلا الزموري، ريحانة الموساوي،
وكريم أمغار، بالإضافة إلى الأخ حسين أقلعي المهتم بالتراث)، حيث تعتبر هذه الفقرة
جزءا من البرنامج الذي سطر للاحتفاء باليوم العالمي للمرأة لتلك السنة.
هذا المعرض بمثابة حدث نوعي استقطب العديد من المهتمين، وخصوصا المواهب الشابة وبعض
الأساتذة المحترفين، وقد لاقى إقبالا ملحوظا، ونوقشت الأعمال المعروضة بحماس من
جميع الزائرين، بمختلف مستوياتهم وتوجهاتهم، كان هذا أول معرض يقام لفنانين عصاميين
اعتمدوا الموهبة وبعض الممارسة، و بالرغم من عدم اعتياد أوساطنا لمثل هذه
المبادرات، فهذا المعرض لم يحظ بتغطية إعلامية واسعة، غير ما قامت به الجمعيات
المنظمة من تصريحات إجرائية، لتغطية أنشطة برنامجها المسطر.
إلا أن ما خفي عن أذهانها حينها، هو المكسب الكبير والقيم، الذي سيفضي به هذا العرس
الثقافي، الذي أعتبره اللبنة الأولى التي أسست لتجربة نوعية، أفرزتها الصدفة
والحاجة، بحيث إنها خولت لالتقاء العديد من الوجوه والمواهب الجديدة في هذا المجال،
فتم التعرف والتعارف بين مجموعة من الشباب والشابات، كرروا التردد عل قاعة العرض
طوال مدة العرض، وبعد نقاشات عديدة بين هؤلاء الفنانين، وفعاليات أخرى بمختلف
المجالات، ظهرت فكرة إقامة المعارض الجماعية المنظمة، كما اقترحت إمكانيات تأسيس
جمعية للفنون التشكيلية للفنانين المواهب العصاميين، إلا أن أغلب المعنيين آنذاك،
وأنا من بينهم، فضلوا الاشتغال على شكل مجموعة، أطلق عليها أحد الصحافيين بمعية أحد
الفنانين، مجموعة «أراغي «Araghi، بمعنى «نـداء»، انسجاما مع الهدف الأسمى من وراء
هذا التجمع الذي أفصح عن تطلعاته من مشروعه المرتقب، إيصال النداء للمتلقي. وبعد
العديد من الاجتماعات والنقاشات، أصبحت الخلية الأولى للمجموعة تستقطب المزيد من
الفعاليات في هذا المجال، الذين راحوا ينضمون إلينا بالتدريج. وأصبحت هذه المجموعة
نشيطة جدًّا في الأوساط الفنية والمجتمع المدني، سواء داخل الوطن أو خارجه، وبمرور
الوقت، وبتراكم التجارب، شهدت مجموعة «Araghi» الأمازيغية تغيرات كثيرة، حيث اتخذت
مسارا يؤكد توحد الرؤى والتطلعات بين بعض الفنانين الذين اتسمت أعمالهم أو بعد
احتكاكهم ببعض عناصر المجموعة، بالدعوة لإثارة القضية ومناقشتها، مع الوعي الكامل
بالتغيرات الجارية على الساحة، وكذا التطرق للقضايا الإنسانية الأخرى، ولم تقتصر
أنشطة المجموعة على المعارض فقط، بل تنوعت بين ورشات فنية لفائدة الأطفال أو فئات
معينة، جداريات، لقاءات، وعروض وأبحاث ثقافية بالفن ومجالات أخرى.
س: تذيلين لوحاتك التشكيلية باسم "أسيتّـم" بالنسبة لك ما هي الدلالات الرمزية التي
يختزنها هذا الإمضاء الانفعالي؟
ج: هناك من يعتقد من المبدعين، ومن نقاد هذا الميدان، أن إمضاء الفنان على لوحته أو
عمله الفني، عنصر دخيل على هذين الأخيرين، لما يمكن أن يكون له من أثر سلبي أو
إيجابي على الوضع النهائي للعمل، بحيث إنه حسب ظنهم، بمقدوره أن يقلب أوزانه بكسر
إيقاعه العام أو ضبطه.
بالنسبة لي، أعتبر الإمضاء شيئا بديهيا لأي عمل فني، فمن جهة أولى، لأنه كما سبق لي
الذكر، اللوحة علاوة على كونها عملا فنيا، فهي توثيق وتأريخ، لفترة معينة أو مفتوحة
غير محددة الأمد، لوجه من وجوه حياة مجموعة بشرية، وتوقيع الفنان يقربنا ويساعدنا
على فهم تلك الفترة ويعطي لها شرعية الشهادة، ومن جهة ثانية، فهو إيحاء مباشر وصريح
لحضور مبدعها، وتأكيد على كونه جزءا من مضمونها وحركيتها، ولأن اللوحة في نظري،
تفقد عذريتها بمجرد تجسيدها على شكل أداة بمقاسات معينة، ثم تفقد هويتها وانتماءها
الأحادي، فور خروجها من بوابة المرسم.
كما أن، هناك فنانين اعتمدوا على شخصيات معينة من خلقهم، اتخذوها سفراء يحملون
أصواتهم ويميزون منهجهم ونهجهم عن الآخرين، والإمضاء ينتجه الإدراك "الغير الواعي"
للفنان، ويتزعم ثورة التحريض أو التنوير لغاية معينة. فعلى الإمضاء يعلق المبدع آخر
وصاياه، وهو يودع عمله الفني ويؤهله لمواجهة الآخر، وبالإمضاء يعلن المبدع حق
امتلاكه لبقعة من كون تلك اللوحة، اختارها منفى يحتضنه عندما يعجز الوطن عن ذلك، أو
تحار روحه تحت سماء وطن يخنق الإبداع ويخمد الأصوات.
الفن عموما هو حلم ظل يراود الإنسانية منذ وإلى الأبد، حلم يمنحنا محاكاة المطلق،
استنطاق الواقع وما وراءه، وتوقيع المبدع يحمل أكثر من معنى، أكثر من مجرد تعريف أو
تمييز، إنها تقترن بالرؤيا التي ينطلق منها المبدع ويسير تحت ظلها، في رحلة سيزيفية
بين الشك واليقين. لذا كان على المبدع أن يتسلح بأفضل الزاد وأعتاه: الأمل Assitem
ولا شيء غير الأمل، سيمنح لنا عزيمة المواصلة، والموازنة بين حياة الخلود وحياة
دنيا الأرض. بين القدسي والدنيوي، وبين النسبي والمطلق.
ونحن نمارس الأمل من حيث لا نشعر، في كل تفاصيل حياتنا اليومية، نستبصره في اللمسات
الشاعرية والنورانية الدافئة، التي نصنعها من حيث لا نعلم، فنستضيء قفار ذواتنا
بالأمل، ونتحمل الصعاب على أمل ما! وننتظر بزوغ الفجر بالأمل، وانقشاع الضباب
بالأمل. لذا فرسالتي مكتوبة ومفعمة بالأمل، بهواجسي أعبئها، بأناملي أوقعها. لعلي
أساهم ببصماتي في استنهاض الهمم، وزرع الأمل في ترميم ما يمكن استعادته، وبناء ما
يستوجب النهوض به. فأنا كمبدعة أمازيغية ألتزم بمبدأ: الأمل Assitemوأراه حتى في
الشتات والرماد.
س: تحرصين على المشاركة بمعارض فردية وجماعية في ملتقيات ثقافية أمازيغية، في نظرك
ما هي القيمة المضافة التي تضيفها مثل هذه المعارض للفنان الأمازيغي الذي أصبح
يعاني من إقصاء وتهميش مدقع؟
ج: اعتاد الفنان الأمازيغي بالعالم، ببلاد ثمزغا، وبالمغرب خاصة أن يفرض نفسه
وإبداعه في الأوساط الفنية، بخام موهبته وبدأبه على مواكبة جديد المنظومة الفنية،
محفزا بمنطلقاته التي تموقعه داخل المجتمع المغربي وكذا الساحة التشكيلية. لذا
فالتظاهرات الثقافية والفنية التي تحط الفنان مباشرة أمام المتلقي فهي جد مهمة
بالنسبة لي، فهي أولا إصرار على الحياة وإثبات للكينونة والوجود، بل وحوار دائم
مع/بين كل العناصر المؤثثة لهذا الشكل التواصلي (اللوحة، المتلقي، الفنان،
الفضاء...)، ولذا فإن المعارض تسمح للفنان أن ينخرط في مغامرة الاستمتاع، والتيه
بين أعماله التي يصبح لها مغزى آخر، غير الذي كانت عليه بين أسوار المرسم. فيكتشف
ما خفي عنه، من خلال دهشة العيون، وانشداد الأنظار، وكذا نبرات الارتياب أو الرضا
التي تتناثر بين لوحة وأخرى.
كذلك فإن المعارض هي قناة من قنوات التنفيس... شكل من أشكال نشر الثقافة إلى أوسع
فئة من شرائح المجتمع وعموم الناس، فهي طريقة لتوريطهم وإشراكهم في تحمل مسؤولية
المواضيع المثارة. ومن البديهي أن ينظم أي فنان محترف أو هاو معارض لأعماله قصد
البيع أو على الأقل للتعريف بها، إلا أن هذا لم يكن متاحًا بالنسبة لي إما لعدم
توفري على القدر الكافي من الوقت، أو للظروف الغير المشجعة للعرض وإحياء الأجواء
المناسبة لذلك، لذا فأعمالي زهيدة غالبا ما أهملها بين الزوايا، أو معلقة على أصوار
لا تناسبها.
لكن أرى أنه آن الأوان للتنفيس عن هذه الأعمال والأفكار، وتحويل ذلك إلى ممارسة
تنير عقولنا وقلوبنا، لتحررنا فعليا ونهائيا من عقدة التنكر للذات. نحن بحاجة
لمقاومة الثقافات الدخيلة الناسفة لثقافتنا أكثر من أي وقت مضى، فبالإضافة إلى
أوضاعنا الغير المستقرة والغير المنصفة كمواطنين وكشعب أصيل، فنحن في عصر العولمة
التي تكتسح كل المجالات.
س: من الأكيد ومن المؤسف له أن الفنان الشكيلي الأمازيغي يعاني في وحدة وفي مرارة
تحت سقف وطن ينسى أن يصفق لطيوره المغردة، أنت كفنانة أمازيغية ما هي الصعوبات
والمشاكل التي تصادفك في مشوارك الفني؟
ج: باعتبار نوع العلاقة التي تجمعني بالفن التشكيلي، والتي تحدثت عنها بإسهاب في
مواضع أخرى، لا أظن أنني أمتلك المعايير التي تخول لي وظيفة النقد التقني ولا الفني
الدقيق لوضعية الفن التشكيلي ببلادنا، وبمنطقتي خاصة، إنما كمعنية مباشرة بالأمر،
ممارسة واهتماما، أستطيع أن أدلو بدلوي في هذا الموضوع. وغير بعيد عن المحراب الذي
يجمعنا في هذه الآونة، يبدو لي أن وزارة الإعلام وكذا الثقافة جد مقصرة في إيفاء
هذا المجال حقه من الاهتمام، وهنا أشير إلى أن الحركة التشكيلية ببلدنا، وخصوصا
الأمازيغية الملتزمة منها، لا تحظى بالتغطية الإعلامية اللازمة، بل تتعرض لتحقير
وتدليس خطير، وإن لزم الأخذ منها فتدمج كعناصر تأثيثية، ورتوش تكميلية، عبارة عن
لقاءات سريعة ومحتشمة عبر التلفزة، أو على صفحة ما لبعض المجلات والجرائد الغير
المتخصصة غالبا، والتي تجيد عملية البتر ولغة التعالي. ويبدو هذا جليا من خلال
الفجوة التي تتنامى بين المواطن المغربي ومبدعي هذا الوطن، حيث تنعدم في ذاكرته
أسماء النخبة المثقفة لوطنه وإن وجدت، تختلط لديه بين فنانين وكتاب وشعراء وممثلين
وسياسيين بل وحتى الرياضيين..، ولتقريب المهتم واللامهتم لوضعية الفنان الأمازيغي
وإعطائه صورة مبسطة على أبرز التحديات التي تواجهه، على مستوى الوطن، وعلى الكيفية
التي تتعاطى بها معه المؤسسات الرسمية والجهات المعنية بالشأن الثقافي، وكذا
السلطات، وليومنا هذا، في عصر الديموقراطية ودولة الحق والقانون وحقوق الإنسان،
نستحضر الاعتقال التعسفي الذي تعرض له فناننا الأمازيغي/الريفي خالد إزري مؤخرا
وبتاريخ 02/08/2007، من طرف السلطات المخزنية مجسدة بهذه النازلة كل إصرارها على
السير على نفس نهج سنوات القهر والرصاص. وهذا في زمن مغرب العهد الجديد، مغرب
المصالحة والإنصاف.
وبالنسبة لي شخصيا فيمكن أن أختزل هذه الصعوبات في كشكول متداخل بين مستويين،
المستوى النفسي الذاتي الإنساني المحض، والمستوى الفكري المعرفي. فكلا المستويين
يلتقيان على أرضية الصراع بين المبدع والواقع... بكل عناصره ومعطياته المتناقضة،
التي ساهمت في إرباك مسيرتي الفنية التي ما هي إلا جزءا لا يتجزأ من حياتي الشخصية
اليومية.
ما يبين أن التحدي الذي يواجهه الفنان الأمازيغي صعب ومزدوج، فهو من ناحية له هويته
التي تميزه وسط وإلى جانب باقي العناصر المكونة للمجتمع المغربي على مستوى الثقافة
واللغة، كما أن التراكمات المأساوية التي وشمته روحا وجسدا، خير خلفية لأعماله
ومنطلقاته بالإضافة إلى المعضلات الاجتماعية والفكرية المعاصرة للمجتمع.
س: في كلمة أخيرة، لو لم تكن سعاد شكوتي فنانة تشكيلية، حينئذ أي اتجاه تعبيري كنت
تختارين؟
ج: سأنطلق من مبدأ إلزامية التحلي بالصدق والالتزام، ثم التسلح بالأمل أثناء
الإقبال على ممارسة جميع تشعبات الفعل الإنساني، ومن أن الأعمال الإبداعية هي
تفاصيل لحقائق صامتة، ترفض الركون إلى الصمت والانزواء القاتل، لأخلص إلى أن
التجربة والصدق في الأداء فضلا عن الإرادة تعبير عن الذات، ووسيلة للكشف عن
الفعاليات الاجتماعية، بعد تجنيد كل المؤهلات والخصائص الذاتية، لقراءة متميزة
ومختلفة للواقع ولمغزى الوجود الإنساني.
لكل نوع من الفنون صانعوه وشخصياته المناسبة، كما لكل ميدان أبطاله وزعمائه،
وبالرغم من هذا، فأنا أومن بأن المبدع إنسان ذكي وصاحب موقف، جدير برسم كل تصوراته،
الفردية والجماعية، أولها الممثلة للهوية الثقافية والاجتماعية. وأن يكشفها لأمم
أخرى، وكسب ودهم وتعاطفهم، بمجرد اهتمامهم واستيعابهم لها. لذا لو لم أكن أرسم،
لمارست الرسم أيضا، ليس هذا إصرارا على هذا النوع من الأشكال الإبداعية، لكن
بممارستي للفن التشكيلي أكون قد احترفت كل ألوان الفنون التعبيرية، فحين أرسم أكون
أكتب، أغني، أرقص، وأقوم حتى بتشخيص أدوار مسرحية معينة، فاللوحة في نظري تصوير
لمشاهد مركبة، تارة متناغمة وتارة أخرى متنافرة فيما بينها، تجمع بين الروحاني
والدرامي والكوميدي...إلخ. معالجة بلغة الألوان والخطوط.
كما أرى أنه بإمكان أي فن من الفنون الأخرى أن يجسد دور اللوحة، وخصوصا أب الفنون
"المسرح"، فكلها تنطلق وتلتقي على ساحة الإبداع الإنساني، والإبداع مقوم من مقومات
الحياة، وللون والكلمة، وكذا الصوت والحركة المقدرة على تجسيد الحياة بكل ديناميتها
وعنفوانها.
فالإبداع حاجة، ومنفى تلجأ إليه الذات بحثا عن نفسها، وهروبا بأحلامها ورغباتها من
واقع يحترف السلب والمساومة، ووأد الآمال في مهدها.
فعلى المبدع الأمازيغي، أن يظل حاملا مشعل الفضيلة والأمل، ملتزما بنقل واقعه كما
هو، من موقعه أينما كان، خارج وداخل بلاد ثمزغا، فمن الوعي والإرادة تولد الحرية،
صارخة في وجه الصمت المعجون بالعجز وبالمعاناة، لتبدد الخوف وتكسر قالب المواطن
المستلب، وتحرك ملكة المبدعين الذين يحترقون لينيروا درب الآخرين، في وطن تصادر فيه
حتى الأحلام. فمزيدا من الاحتراق، ومزيدا من الإبداع!!!
(تقديم
وحوار: سعيد بلغربي Amazigh31@hotmail.com)
|