| |
افتتاحية:
الأمازيغية بين الوعي
الإيديولوجي الزائف واستعادة الذاكرة الجماعية الأمازيغية
بقلم: محمد بودهان
يتشكل الوعي الجماعي لشعب ما من مخزون تجاربه
التاريخية، وخصوصياته الهوياتية واللغوية التي تميزه عن الشعوب الأخرى، وطبيعة
علاقته بالمحيط الطبيعي والمادي الذي يعيش فيه. فالوعي السليم ـ الطبيعي ـ هو الذي
يعبر إذن عن هذه التجارب وهذه الخصوصيات وهذه العلاقة، حتى لو اتخذ أشكالا تبدو
أكثر تجريدا وبعدا عن الواقع لتجريبي والمحيط الطبيعي والاجتماعي، كما في الأساطير
والحكايات الشعبية والمعتقدات الدينية والقيم المشتركة. إنه إذن مرآة تعكس، بشكل
مجرد وغير مباشر، التجارب التاريخية المشتركة للشعب المعني، وتكشف عن خصوصياته
الهوياتية واللغوية، وتلخص مستوى صراعه مع الطبيعة لتطويعها والسيطرة عليها. إنه
عبارة عن ذاكرة جماعية تختزن تاريخ ذلك الشعب، بأحداثه وأبطاله، ورموزه وقيمه،
وأساطيره وتقاليده، وعاداته ومقدساته، وطموحاته وتضحياته، وآماله وآلامه... وتعبر
عن تفرده الهوياتي واللغوي الذي يجعل منه شعبا متميزا عن الشعوب الأخرى.
في هذه الحالة التي تعكس فيها الذاكرةُ الجماعيةُ للشعب تجاربَه الحقيقية وخصوصيته
الهوياتية واللغوية، يكون هناك إذن انسجام وارتباط وثيق بين حياة هذا الشعب وذاكرته
الجماعية التي تعطي له طابعا خاصا به يميزه. وغني عن البيان أن هذه الذاكرة
الجماعية تغتني باستمرار بمزيد من التجارب والأحداث والوقائع.
لكن قد يحدث أن لا يعكس وعيُ الشعب ذاكرتَه الجماعية الحقيقية، بل يشوهها ويمسخها
حين يستبدلها بذاكرة جماعية أخرى وتجارب تاريخية خارجية لشعوب أخرى أجنبية. وهنا
نكون، ليس أمام حالة وعي جماعي، طبيعي وسليم يترجم الذاكرة الجماعية، بل أمام وعي
إيديولوجي، أي وعي يقلب الحقيقة ـ حقيقة التاريخ وتجارب الماضي ـ ويشوهها ويفصلها
عن الواقع الطبيعي والتاريخي والاجتماعي لذلك الشعب الذي فُرض عليه ذلك الوعي
الإيديولوجي، الذي يمثل وعيا زائفا وكاذبا لأنه لا يعبر عن حقيقة وواقع ذلك الشعب.
هذه الحالة من الوعي الإيديولوجي، الزائف والكاذب، بدأت تنتشر عندنا بالمغرب ابتداء
من ثلاثينات القرن الماضي إلى أن أصبحت اليوم خاصية مغربية بعد أن استعملت دولةُ
الاستقلال الإمكانات والوسائل العمومية، من مدرسة وإعلام وإدارة، لغرس وفرض هذا
الوعي الإيديولوجي في عقول ووجدان المغاربة.
هذا الوعي الإيديولوجي له مفاهيمه ومصطلحاته وتعابيره التي يتأصل بها وينتشر.
من بين هذه المفاهيم الجديدة المرتبطة بهذا الوعي الإيديولوجي لفظ "الوطن"، وما
يتصل به من مفاهيم أخرى مثل: "الوطنية"، "الكفاح الوطني"، "الحركة الوطنية"، "رجل
وطني"...
إن مفهوم "الوطن" لا يعني، في إطار هذا الوعي الإيديولوجي، أرض الأجداد التي ننتمي
إليها، ونعيش فيها، ونأكل من خيراتها، والتي لذلك يجب علينا أن نحميها وندافع عنها،
بل لهذا المفهوم حمولة إضافية أخرى هي التي تعطيه مضمونه الإيديولوجي. "الوطن" هنا
يعني الأرض العربية ـ نعم العربية ـ التي يجب علينا حماية عروبتها والدفاع عنها.
فالأرض هنا لا تهم إلا بقدر ما هي أرض عربية. وبالتالي فـ"الوطنية" ليست مجرد حب
لأرض الأجداد التي ننتمي إليها مع الاستعداد للذود عنها والتضحية من أجلها، بل "الوطنية"
هي أولا حب العروبة والاستعداد للذود عنها والتضحية في سبيلها. وكذلك "الكفاح
الوطني" يصبح هو المقاومة من أجل تحرير الأرض العربية، وليس أية أرض. ولهذا فإن "الحركة
الوطنية"، صاحبة هذه المفاهيم المشكلة للوعي الإيديولوجي بالمغرب، كانت تعني الحركة
العربية من أجل تحرير الأرض العربية والدفاع عن عروبة المغرب. فعنصر العروبة، في
مفهوم "الوطن" والمفاهيم الأخرى المشتقة منه، هو مصدر الوعي الإيديولوجي الزائف،
لأنه غير مطابق لواقع المغرب، وهو ما يشكل جوهر ما هو إيديولوجي، الذي يعرّف بأنه
الفكر الغير المطابق للواقع. وإذا كان هذا العنصر الإيديولوجي قد زوّر الحقيقة
وقلبها بجعل "الوطن" ببلاد "تامازغا" عربيا وبهوية عربية، فإنه مع الأيام سيتضخم
ويتسع ليبتلع هذا الوطنَ الذي سيختفي ارتباطه بشمال إفريقيا ليحيل في الأذهان على
فلسطين والعراق كوطن حقيقي مقابل المغرب الذي هو مجرد ظل باهت للوطن الحقيقي الذي
يستمد منه الوجود وصفة الوطنية. إنه قمة الوعي الإيديولوجي الذي يجعل الموجود
مفقودا، والمنعدم موجودا، والقريب بعيدا وغريبا، والبعيد قريبا ومألوفا.
أمام هذا التضخم للوعي الإيديولوجي بالمغرب، تصبح "الوطنية" هي مناصرة فلسطين
والعراق وكل القضايا العربية، مع الاستعداد للتضحية من أجلها، هذه "التضحية" التي
رأينا نماذج منها في التفجيرات الانتحارية لـ16 ماي 2003، و 11 مارس و10 أبريل 2007
بالدار البيضاء، و13 غشت 2007 بمكناس، فضلا عن "غزوات" المغاربة بالخارج كما في
تفجير قطار مدريد وقتل المخرج الهولندي فان كوغ.
لقد أدى هذا الوعي الإيديولوجي إلى تعهير قيمنا الإنسانية النبيلة، وذلك عندما
فصلها عن واقعها التاريخي والجغرافي والبشري والاجتماعي. وهكذا أصبح "التضامن"
مثلا، الذي كان خاصية أمازيغية بامتياز، يعني التضامن فقط مع العراق وفلسطين،
وأبناء العراق وفلسطين، وجمع الأموال والتبرعات لمساندتهم ومساعدتهم. هذا في الوقت
الذي يموت فيها أطفالنا بالمغرب، كما وقع بمنطقة أنفكو في الشتاء الماضي، دون أن
يلتفت إليهم المتضامنون مع أطفال فلسطين المحظوظين.
إلا أن أخطر ما أنتجته وأدت إليه القيم "الجديدة" التي يحملها هذا الوعي
الإيديولوجي، هو الفساد المستشري كالوباء القاتل بالمغرب، والذي أضحى فلسفة متبعة
في تسيير شؤون البلاد إلى درجة يمكن القول معها إن "الوطنية" أصبحت تعني نهب المال
العام، ونخر الوطن بالفساد والارتشاء، و"الكفاح الوطني" يعني الكفاح في الوطن
باختلاس خيراته وثرواته، و"خدمة الوطن" تعني سلب أراضي الدولة والاستيلاء على الملك
العام. هذه هي "وطنية" الوعي الإيديولوجي: و"طنية" تلتهم الوطن وتنهش لحمه وتمتص
عظمه، كما تفعل الضباع التي تلتهم فريستها وهي لا تزال حية تصرخ وتستغيث . إنها
بالفعل "وطنية الضباع" التي تتربص بالوطن للإجهاز على ثرواته وماله العام، تماما
كما تفعل الضباع حين تتربص بالأبقار الوحشية الجريحة أو الهرمة، التي لا تستطيع
الدفاع عن نفسها، لتنقض عليها وتفترسها بسرعة خاطفة. هذا ما يجعلني أتقزز عند سماع
عبارات:"وطن"، و"طنية"، "الحركة الوطنية"، "الكفاح الوطني"، "رجل وطني"، ذات
المضامين الإيديولوجية، لأنها تذكرني بما يختفي وراءها من فساد مستشرٍ، وارتشاء
متفاحش، وأنانية بدائية، ونهب مستمر للمال العام، واستغلال للنفوذ، واحتقار للوطن
وانتهاك للحقوق... ومن يكون وطنه الحقيقي خارج الوطن، في بلد العروبة كفلسطين
والعراق وأرض الكنانة، فمن الطبيعي أن يكون تعامله مع الوطن كمجرد وسيلة للاغتناء
الغير المشروع وجمع الثروة وإشباع أنانيته البدائية على حساب كرامة الوطن الذي
يزيده دوْسا واحتقارا عندما يختلس أمواله باسم "الوطنية" والولاء للوطن.
لا يجب أن نفهم أن نهب الوطن، الذي (النهب) نعنيه هنا، مقصور على الحالات الجنائية
المعروفة للاختلاس والفساد وتحويل المال العام. بل يشمل، وهذا هو الأدهى والأخطر،
الحالات "المشروعة" التي ينظمها ويحميها القانون، مثل الرواتب الخيالية لصنف من
خدام المخزن؛ والمبالغ الكبيرة التي يتقاضاها الوزراء بعددهم الضخم؛ وأجور
البرلمانيين التي يحصلون عليها كنوع من المكافأة على مشاركتهم في المسرحية العبثية
"للديمقراطية الحسنية" (لا زال كل شيء يشتغل في مغرب "العهد الجديد" بناء على الإرث
السياسي للحسن الثاني) وتزكيتهم لها؛ وتوزيع رخص الإثراء بلا سبب، كريع وهبة، على
المقربين والزبناء ذوي الامتياز الخاص؛ والاستوزار بحقائب فارغة من أية مهمة لكنها
مملوءة في آخر كل شهر بالمال المأخوذ من جيوب المواطنين؛ وشراء أراضي الدولة
والأوقاف بأثمان رمزية تقل عن واحد على خمسين من القيمة الحقيقية لتلك الأراضي؛
ومنح المناصب الحكومية والسامية ذات الرواتب المرتفعة لذوي القربى والأصهار
والمنتمين للعائلة، خصوصا عندما تكون عائلة فاسية... هذا النوع من النهب للوطن يدخل
في إطار النهب "القانوني" الذي تحميه تشريعات الدولة التي وضعها المستفيدون من ذلك
النهب بأنفسهم لأنفسهم.
وقد رأينا كيف كان التطاحن على أشده من أجل الحصول على "كعكة" وزارية في حكومة عباس
الفاسي، بشكل يجعلنا نخجل أن ننتمي إلى مغرب يحكمه وزراء تعاملوا مع "تاوزيريت"
كضرع لاحتلاب ثروة مضمونة وغنى مأمون وتقاعد مكفول ومريح، بلا تعب ولا سبب. والمقزز
أكثر أن هذا التطاحن على الضرع الحكومي كان باسم "خدمة" الوطن، أي نهبه بطرق
"قانونية" و"مشروعة"، كما سبقت الإشارة. ولأن مصاصي ضرع الوطن كثيرون، فقد كان لا
بد من رفع عدد الوزراء إلى ذلك الحد المضحك لينال كل واحد حصته من الضرع قبل أن يجف
وييبس من كثرة المص والرضاع.
لنفرض أن أجور البرلمانيين لا تتجاوز خمسة عشر ألف درهم، ورواتب الوزراء لا تزيد عن
العشرين ألفا (وهي أجور كبيرة جدا مقارنة مع مستوى المعيشة بالمغرب). فهل كانت
الانتخابات البرلمانية ستعرف كل ذلك الفساد والارتشاء وبيع وشراء الأصوات؟ وهل كانت
المفاوضات حول تشكيل حكومة عباس الفاسي ستعرف كل ذلك التطاحن والصراع حول المناصب
الوزارية بين مختلف الأحزاب؟ وهل كانت هذه الحكومة ستتكون من أكثر من ثلاثة وثلاثين
وزيرا؟ هذا السؤال يبيّن أن المصالح الشخصية والمنافع المالية، ولا شيء غير المصالح
الشخصية والمنافع المالية، هي التي تفسر سعار الرغبة في الحصول على مقعد برلماني
وكرسي حكومي. أما ما يدعيه المعنيون من رغبتهم في "خدمة" الوطن، فليس ألا تبولا على
هذا الوطن باستعماله كوسيلة للاغتناء وقضاء المآرب الشخصية. وهذا ما وعاه الحكم
المخزني جيدا. لهذا فهو يعرف كيف يوفر الفرص "المشروعة" والمغرية لنهب الوطن قصد
احتواء الناهبين، خصوصا إذا كانوا من "المعارضة"، في الجوقة المصفقة للمخزن
وإدماجهم في خدمته وإعادة إنتاج نظامه وسلطته. هذه هي "وطنية" الوعي الإيديولوجي:
خدمة السلطة المخزنية مقابل نهب "مشروع" ومباح للوطن.
ومن المفاهيم التي يروجها كذلك الوعي الإيديولوجي الزائف بالمغرب، مفهوم "الحداثة"
الذي يتكرر على لسان كل مسؤول ويتردد في خطاب كل زعيم حزب. ويعني هذا المفهوم، ليس
العقلانية والعلم والديموقراطية والقانون والحرية والتقدم... كما في الغرب، بل يعني
استعمال منتجات الحداثة (مثل الكمبيوتر، الأنترنيت، الفديو، التلفزيون، الهاتف
المحمول...) لترسيخ ونشر وإنتاج وإعادة إنتاج فكر وتفكير القرون الوسطي المضاد على
طول الخط لفكرة الحداثة. ألا يخجلون من الكلام عن "الحداثة" و"المغرب الحداثي" وهم
في نفس الوقت يمنعونك من التعبير عن رأيك باسم "المقدسات"؟ كيف تستقيم فكرة الحداثة
مع وجود "مقدسات" تشكل العائق الحقيقي أمام ظهور حداثة حقيقية؟ يفرضون على أبنائك
مقررات مدرسية تتحدث عن عذاب القبر، وتحضهم على الجهاد في غير المسلمين باعتبارهم
كفارا معادين للإسلام، وتعلمهم أن كل تجديد وإبداع ضلالة جزاء صاحبه جهنم، وأن
المرأة عورة ينبغي حجبها اتقاء لشر عورتها... ويسمون ذلك "حداثة"، وينعتون أنفسهم
بـ"الحداثيين"! يحمكون بطرق تيوقراطية وأساليب استبدادية فردية ،ويسمون ذلك
بـ"المشروع الحداثي" للمغرب.
وبجانب عبارة "لحداثة"، و"المغرب الحداثي" المكرورة إلى حد الملل، هناك كذلك عبارة
"الديموقراطية" التي تعني، ليس الحق والقانون والعدل والمساواة بين المواطنين
ومحاسبة الحكام عن أخطائهم وجرائمهم المالية، بل تعني تدعيم وترسيخ الحكم المخزني
ذي الطبيعة الاستبدادية المناقضة للحكم الديموقراطي، والذي لا يسأل فيه الحكام ولا
يحاسبون لأنهم مقدسون. أما "التعددية السياسية" المتمثلة في وجود أحزاب سياسية
كثيرة، والتي (التعددية) يتبجح بها حاملو الوعي الإيديولوجي ويستشهدون بها كدليل
على توفر الديموقراطية التي "ينعم" بها المغاربة، فهي تعني بالفعل كثرة وتعددا في
الأحزاب السياسية، ولكن من أجل دعم أوسع ومتعدد للحكم المخزني الفردي المنافي لكل
ديمقراطية حقيقية.
هذا الوعي الإيديولوجي الزائف، بكل مضامينه الثقافية والسياسية والاقتصادية، هو
الذي جعل المغرب يصبح في مؤخرة الدول في ما يخص التقدم والتنمية حسب التصنيف الدولي
الأخير. الشيء الوحيد الذي يتقدم فيه المغرب هو مجال الرشوة والفساد. هذا الوعي
الإيديولوجي هو الذي يفسر كذلك لماذا أدار المغرب ظهره لمراكز الحضارة الحديثة
بأوروبا التي لا تبعد عنه سوى بأقل من خمسة عشر كيلومترا، ليولي وجهه شطر "الربع
الخالي" من أية حداثة وديمقراطية رغم أنه يبعد عنه بأكثر من ستة آلاف من
الكيلومترات. وهو الذي جعل المغرب يتحول إلى واحد من أكبر منتجي ومصدري الانتحاريين
والإرهابيين.
كيف يمكن التخلص من هذا الوعي الإيديولوجي، المدمر للبلاد والمهلك للذات المغربية،
والقضاء عليه؟
بالعودة طبعا إلى الأمازيغية. ولكن كيف ذلك؟ خصوصا أن هذا الوعي الإيديولوجي أصبح
مصدرا للربح الاقتصادي وللسلطة السياسية لدى الطبقة السياسية، وبالتالي أصبحت
مصلحتها مرتبطة باستمرار وبقاء هذا الوعي الزائف الذي تعمل على نشره والحفاظ عليه
إلى درجة يمكن القول معها إن هذا الوعي قد دمر نهائيا جوانب هامة من الذاكرة
الجماعية الأمازيغية، المجسدة للوعي السليم، الوعي الطبيعي المنبثق من الأرض
والتاريخ والجغرافية والمحيط المادي والطبيعي للإنسان الأمازيغي.
ماذا يقي من هذه الذاكرة الجماعية؟ بقي منها طبعا ما بقي من الأمازيغية: شيء من
"أحيدوس"، وقليل من "أحواش" وذكريات من "رالا بويا". أما الحكايات الشعبية،
والأمثال، والتاريخ، والملاحم الشعرية، والأساطير والمعتقدات والعادات، والقيم
الأمازيغية، وإزرفان والوشم والأسماء الأمازيغية... فكل ذلك دمره وأعدمه الوعي
الإيديولوجي الزائف. لكن بقيت اللغة الأمازيغية كذاكرة تختزن، ولو بشكل غير مباشر،
تجارب الإنسان الأمازيغي وعلاقته بمحيطه الطبيعي والاجتماعي، وتبرز خصوصيته
الثقافية وتميزه الهوياتي. ولهذا لا نستغرب إذا كان الوعي الإيديولوجي يبذل قصارى
جهده لمحاربة اللغة الأمازيغية والقضاء عليها نهائيا منذ ما يزيد عن نصف قرن، لأن
هذه اللغة هي التي تذكّر بوجود ذاكرة جماعية أمازيغية، والتي يمكن من خلالها
(اللغة) استعادة هذه الذاكرة الجماعية الأمازيغية كاملة. كيف ذلك مرة أخرى؟
أولا، كيف تم تدمير الذاكرة الجماعية الأمازيغية واستبدالها بوعي إيديولوجي زائف
وكاذب؟ تم ذلك بفضل السلطة السياسية التي أصبحت في أيدي حكام عروبيين يتبنون ذلك
الوعي الإيديولوجي، ويعملون، بالتالي، على فرضه ونشره من خلال المدرسة والإعلام
والإدارة والمحكمة والحزب والنقابة...، وكل ما يخدم التعريب، المصدر الأول للوعي
الإيديولوجي المضاد للذاكرة الجماعية الأمازيغية المعبرة عن الوعي الجماعي السليم
والطبيعي.
إذن استعادة هذه الذاكرة، كهوية ولغة وثقافة وتاريخ وتجارب وفنون وقيم... يتطلب أن
تصبح السلطة السياسية، التي عربت المغرب، أمازيغية، ليس عرقيا وإثنيا، بل هوية
وانتماء. فعندما يكون الحكم أمازيغيا، سيعمل تلقائيا على استعادة الذاكرة الجماعية
الأمازيغية وبنائها من جديد، لأن المغرب سيكون قد أصبح دولة أمازيغية، بسلطة
أمازيغية وشعب أمازيغي. آنذاك ستتم المصالحة بين التاريخ والجغرافيا، بين الأرض
والإنسان، بين الوطن والمواطن، بين المجتمع والسلطة، بين الشعب والدولة. لكن الوصول
إلى سلطة سياسية أمازيغية، بدولة أمازيغية، ليس أمرا سهلا، بل يتطلب كفاحا يتجاوز
ما هو ثقافي ولغوي إلى ما هو سياسي بشكل واضح وصريح، مع الانتقال من مطالب ثقافية
إلى مطالب سياسية صريحة وواضحة كذلك، تتمثل في إقامة دولة أمازيغية على الأرض
الأمازيغية.
|