|
نعود إلى نقاش مطالب مصر العروبية التي أوردنها في السابق كما يلي :مغربة الإدارة وتعريبها، وتحقيق وحدة وطنية في إطار قيام الجمهورية العربية الثانية كما هي واردة في الميثاق الثوري الذي يحمل شعار الثورة الناصرية (الوحدة-العدالة-الحرية) والذي صدر من مصر باسم »جبهة النهضة المغربية«، ونسب إلى مولاي محند وإلى حركة التحرير والاصلاح الريفية. وللتعليق على مزاعم مصر وعلى هذا النسب اللاشرعي، أشير في البداية إلى أن مطلب مغربة الإدارة وتعريبها ليس هو مطلب المصريين فقط، بل هو مطلب المخزن والحركة اللاوطنية أيضا، لكنه ليس هو مطلب الحركة الريفية الثورية ولا علاقة له إطلاقا بمطالب شعب الريف الذي كان يطالب بتمزيغ الريف واستعمال اللغة الريفية الأمازيغية في جميع مؤسسات الريف وإدارته. وعلينا أن نتذكر هنا أن من ضمن الأسباب الرئيسية التي كانت وراء انتفاضة الريف في نهاية سنة 1958، بغض النظر عن أعمال الجور التي كان يرتكبها رجال الإدارة الحزبيون ضد أبناء المنطقة، كان بسبب استيلاء الأطر الحزبية العربية الأندلسية على إدارات ومؤسسات الريف، وناتجة لتحريم وحظر استعمال اللغة الريفية الأمازيغية أو الحديث بها في كل هذه الؤسسات والإدارات المسلوبة من شعب الريف الأمازيغي وفرض مكانها العربية الأجنبية غير المرغوب بها في المنطقة الريفية. هذا في الوقت الذي كان فيه أهالي الريف لا يتحدثون بها، وبالتالي لا يستطعون أن يتفاهموا مع المحتلين الجدد للريف أو الاستعماريين كما كانوا يسمون آنذاك من طرف الريفيين، الذين كانوا يفرضون عليهم الحديث بالعربية المستعمرة غير المفهومة في جميع المناطق الأمازيغوفونية. هذا بالاضافة إلى أنه تم إقصاء أبناء الريف من ولوج إلى العمل بوظائف إدارات الريف المسلوبة منهم وما بالك بوظائف إدارات خارج بلاد الريف، بعد أن تم إقصاء اللغات المتداولة في الريف وهي اللغة الريفية الأمازيغية و الإسبانية وحظر استعمالهما في جميع و ظائف وأسلاك الدولة، وبالتالي كان من الطبيعي جدا أن يتم إقصاء أمازيغ الريف من وظائف والقطاعات المتواجدة بالريف، ما دام أنهم أولا أمازيغ وثانيا لا يتحدثون بالعربية وكونهم بالتالي لا يستطيعون أن يتفاهموا مع المخزنيين والحزبيين الداخليين. وفي علاقة بهذا الموضوع يقول الاستقلالي محمد العلمي »إن الإضطرابات التي وقعت في أواخر عام 1958 ترجع إلى نقاط الضعف في الإدارة الريفية... وكذلك إلى حد ما نتيجة للإدارة المعقدة وللصعوبات في الاتصال برجال القبائل« (139). طبعا كون الاستقلاليين الحزبين لا يجيدون الحديث بالأمازيغية كان من الطبيعي جدا أن يجدوا صعوبة الاتصال بكبار رجال الريف الذين لا يتحدثون سوى الريفية والإسبانية آنذاك كما هو معروف، وما دام أنهم يرفضون تدريسها ولا يريدون تعليمها لأن الأمازيغية بالنسبة إليهم »لهجة رعاة وقوم سذج لا لهجة تحرر يتداولها أناس صقلهم العلم وهذبهم الرقى وطبعتهم المدينة كما هو الشأن لناطقين بالعربيةK« كما عبر عن ذلك بدون خجل ولا وجل زعيم حزب الشورى والاستقلال حسن الوزاني. (140). ومما لاشك فيه أن عدم استفادة سكان الريف من وظائف إدارية بالريف، وطغيان العربية بجانب الفرنسية في جميع مؤسسات الريف، وأهالي الريف لا يتحدثون العربية والفرنسية الأجنبيتين الاستعماريتين، ويضاف إلى ذلك الإدماج القسري والتعسفي لبلاد الريف مع الداخل بدون ضمانات ومصالح يستفيد منه شعب الريف الأمازيغي، كان كل هذا بطبيعة الحال وراء انتفاضة الريف في نهاية سنة 1958. يقول دوجلاس آي شفورد في كتابه »التطورات السياسية في المملكة المغربية« حول هذا الموضوع: »تعتبر تجربة الاندماج مع الشمال هامة لا إذا نظرنا إليها كمشكلة تواجه إعادة تنظيم الإدارة فحسب، بل أيضا كسبب لقيام الثورات في الشمال في أواخر 1958« (141). وما يهمنا نحن في هذا السياق أو ما نود أن نصل إليه هو أن مطلب مغربة الإدارة وتعريبها ليس من مطالب الريفيين وإنما من مخيلات واختراعات المصريين. أحيل القارئ هنا إلى تقرير مخزني هو الثاني من نوعه بعد تقرير أحمد اليزيدي، الذي كان قد أعده عبد الرحمن أنكاي مدير الديوان الملكي آنذاك بعد أن كلفه محمد الخامس بتحقيق رسمي ثان عن الأوضاع الصعبة والحرجة التي كانت تشهدها منطقة الريف الغاضبة. يصف تقرير أنكاي وبكثير من الدراية والاطلاع على المشاكل التي كان يعاني منها الريف سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ويعترف أنكاي في تحقيقه بأن أسباب انتفاضة الريف في أواخر 1958 ولاسيما في الحسيمة والناظور كانت »نتيجة إدماجهما بالجنوب وبسبب أخطاء موظفي إدارة البادية« (142)، ونفس الشيء يذهب إليه ناطق باسم القصر الملكي آنذاك حين قال في تلك الفترة بأن »فوائد الاستقلال لم توزع على أبنائه (ولاسيما في الناظور والحسيمة) بنفس المقدار الذي ناله أهل المنطقة الجنوبية« (143)، طبعا أهل منطقة جنوب الريف في محور فاس- الرباط-سلا-الدار البيضاء، أما المنطقة الأمازيغية في جنوب المغرب فقد عانت هي بدورها من التهميش والإقصاء إضافة إلى فرض لغات أجنبية فيها غير اللغة الأمازيغية الأصلية كما هو الشأن في بلاد الريف، وكون سكان هذه المناطق الأمازيغوفونية لا يفهمون هذه اللغات الأجنبية اللاوطنية، وبالتالي خلقت لدى أهالي الريف على وجه الخصوص -طبعا حسب التقرير- إحساسا بالإهمال والدونية والإقصاء الذي لحق بالمنطقة منذ سنة 1956، وأنهم لم يكونوا مشاركين في تسيير منطقتهم ما بعد سنة 1956. يقول التقرير بأن السنوات الثلاث الأولى للاستقلال قد تركت لدى القبائل الريفية شعورا بأنهم »لم يكونوا مشاركين في الإدارة العامة للبلاد« (144)، ثم يضيف التقرير في فقرة بالغة الدلالة ألح فيها عبد الرحمن أنكاي: »على الحاجة إلى الإداريين "الأمناء العادلين" الذين يفهمون رجال القبائل والمنتمين إلى نفس منطقتهم إذا كان ذلك بالإمكان« (145)، وهذا يعزز التقارير الواردة آنذاك القائلة »بأن كثيرين من الإداريين قد أرسلوا إلى المناطق دون أن تكون لهم أية معرفة باللهجة المحلية البربرية أو بالعادات« (146)، هذا وقد ختم عبد الرحمان أنكاي تحقيقه بأن أوصى وطلب من الأحزاب السياسية »بأن تتوقف عن التدخل في الإدارة أو في مسائل القضاء« (147) ثم أقترح على موظفي الإدارة في الريف أن يتركوا الانتماء إلى الأحزاب. كان هذا ما يتعلق بتقرير البعثة المخزنية الذي كان يجريه عبد الرحمن أنكاي في منطقة الريف مع كبار زعماء الريف، والذي كان ميس ن رحاج سلام يرفض استقباله كما تفيد ذلك مجلة الاكسبريس التي أجرت معه حوارا صحافيا في تلك الفترة، وقد كتبت تقول في عدد فاتح يناير سنة 1959 تحت عنوان »الريف يتحرك« ما يلي: »حينما زارت اللجنة الملكية منطقته، رفض أن يطلب مقابلة معها، وقال إذاك: "إن الملك يعرف جيدا ما نريده"«، وتتمة لما جاء في جريدة الاكسبريس كتبت جريدة العلم لسان حزب الاستقلال في عدد 9 دجنبر 1958 تقول: »استقبل صاحب الجلالة صباح أمس اللجنة الملكية المكلفة بالبحث في نواحي الشمال بالريف. وقد شرح أعضاء اللجنة نتائج مهمتهم وقدم له السيد أنجاي رئيس اللجنة عرضا مفصلا عن مختلف الجهات والقبائل التي زارتها اللجنة في نواحي تازة والحسيمة والناظور وبين الخطوط الرئيسية للمشاكل الموضوعية بتلك النواحي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وتؤكد اللجنة بأن القلق العام مخيم على تلك النواحي كما أن الإحساس بشعور الإهمال الذي لحقهم منذ استقلال المغرب إذ هم لا يشاركون بصفة فعالة في تسيير شؤون مناطقهم«. إن مثل هذه التقارير الواردة آنذاك تخبرنا بشكل واضح وصريح بأن أسباب انتفاضة الريف في نهاية سنة 1958 كانت نتيجة لتواجد واستيلاء الأطر العربية الحزبية على إدارات ومقاليد الحكم في الريف، ونتيجة إقصاء الأمازيغية واستعمال مكانها العربية الأجنبية، هذا في الوقت الذي كان فيه السواد الأعظم من شعب الريف الأمازيغي إذاك لا يتحدث سوى الأمازيغة ولم يكن يتقن الحديث بالعربية أو الفرنسية المفروضتين علينا بالقوة حتى يومنا هذا. وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الحقائق والمعطيات لا تحتاج لأي شرح ولا تفسير للرد على الذين يدعون ويزعمون في القاهرة بأن سكان الريف والحركة الريفية الثورية كانوا يطالبون بمغربة الإدارة وتعريبها، كما أن البعثات الريفية كانت قد سبقت أن قدمت إلى القصر عدة اقتراحات تطالب فيها »بضرورة أن يغادر الموظفون الحزبيون إدارات الريف، وأن يعملوا فيها أبناء المنطقة الذين يفهمون لغة السكان« مقابل أن يعملوا على إيقاف الثورة الريفية الأمازيغية التي كانت تنتشر في كل بقاع الريف. وفي علاقة بهذا الموضوع يقول دوغلاس آي أشفورد: »وقد انتشر السخط انتشارا واسعا وبدت تلك الظاهرة عندما استقبل الملك بعثة كبيرة من رجال قبائل المنطقة الريفية (كان ذلك أثناء الخطاب المخزني الذي وجهه محمد الخامس إلى الريف وإلى المناطق الأمازيغية الأخرى الثائرة، والذي أذاعه النظام المخزني عدة مرات بالأمازيغية أثناء التحري الذي كان يجريه أحمد اليزيدي في بلاد الريف) وكان القصر يخشى دون شك انتشار أعمال عنف أكثر خطرا أثناء الاحتفالات القادمة بمناسبة ذكرى اعتلاء الملك العرش. وأبدى رجال القبائل استياءهم من أعمال الجور التي كان يرتكبها رجال الإدارة المحليون، وأبدوا سخطهم لقلة تعيين عدد من أفراد قبائلهم في الوظائف. وأبدى من كان من رجال التحرير المتمرسين في الحرب أعضاء هذه البعثة أنهم لم ينالوا الحظوة اللائقة بهم لدى الحكومة « (148). ومما لا شك فيه أن كل هذه التقارير والمعطيات الواردة أعلاه لا يوجد فيها ولو دليل واحد يوحي أو يدل على أن ثوار الريف كانوا يطالبون بتعريب الإدارة كما يدعيه المصريون، الذين في حقيقة الأمر هم من كانوا يطالبون بتعريب الإدارة في المنطقة الأمازيغية علاوة على الحركة اللاوطنية والمخزن المغربي، ولسنا نبالغ إذا جزمنا هنا أن شعب الريف الأمازيغي في تلك الفترة كان يطالب بترييف الإدارة المحلية وتمزيغها وليس مغربة الإدارة وتعريبها، ولهذا نؤكد مرة أخرى أن أذناب عبد الناصر هم الذين حرروا مطالب العروبية في ميثاق »جبهة النهضة المغربية «ونسبوها إلى حركة التحرير والإصلاح الريفية التي يتزعمها ميس ن رحاج سلام أمزيان. تقول مجلة الإكسبريس في عدد فاتح يناير سنة 1959 »كانت "حركة التحرير والتطهير الريفي" تحت قيادة شاب متعلم، ديناميكي ونشيط. أشهرهم كان مقره في مكان يتم الوصول إليه بعد ساعات كثيرة من المشي في المنعرجات الجبلية. إنه سلام أمزيان البالغ من العمر 33 سنة، درس الرياضيات في فاس، يتكلم العربية بطلاقة، الإسبانية والفرنسية، لكنه كان يفضل الحديث بالريفية. هو الذي حرر ميثاق مطالب الجماهير ووجهه مباشرة إلى الملك«. فمن خلال هذا نتساءل وفي نفس الوقت نرد على مزاعم المصريين، هل الذي كان يفضل الحديث بلغة أمه الأمازيغية كان يطالب بتعريب لسانه وتعريب إدارة منطقته؟ وهل الحركة الريفية هي الجبهة المغربية؟ طبعا سيكون الجواب بالنفي. وإزاء كل هذا لا نفهم كيف وصل المصريون إلى إصدار الملف المطلبي الذي يضم حوالي 30 نقطة في ميثاق ثوري نسب إلى الريف، مع العلم أن الوثيقة الوحيدة التي تشهد على برنامج الثوار هي وثيقة مطالب الجماهير الريفية التي قدمها ميس ن رحاج سلام إلى السلطان محمد الخامس، وهي مطالب تدور كلها حول الحكم والاستقلال الذاتي، وتنم عن قومية ريفية أمازيغية مضادة للقومية العربية. وهذه المطالب معروفة حتى يومنا هذا عند أهالي الريف الذين لازالوا على قيد الحياة وعاشوا الثورة الريفية الأمازيغية عن قرب. وانطلاقا من كل ما سبق ذكره، يمكننا أن نستنج بعد ذلك أن مطلب مغربة الإدارة وتعريبها هو مطلب مصري ريفوبي بالدرجة الأولى مواز لنفس مطلب المخزن والحركة اللاوطنية، وبالتالي نستبعد أن يكون من عند مولاي محند، فمن غير المعقول أن ينسب إلى زعيم الريف مولاي محند وثوار الريف لا يتبنونه ويرفضونه، وحتى إذا افترضنا واعتقدنا أن مولاي محند كان ينادي ويطالب فعلا بهذا المطلب العنصري الريفوبي، فإننا من جهة أخرى نرجح أن يكون ذلك من غير إرادته وخارج عن قناعته وتحت ضغوطات وتأثيرات عروبية فرضت عليه بمصر انطلاقا من القيادة الناصرية، في مقابل أن تبقى هذه الأخيرة تدعم الثورة الريفية طبعا بالكلام المعسول الديماغوجي. وما يؤكد قولنا هذا أيضا، هو أنه في أواخر سنة 1958 وبداية سنة 1959، أي في زمن الصحوة الريفية والشعور القومي الريفي كان جل زعماء ورموز حركة الريف ينادون ويطالبون بمطلب حكم الريف من طرف الريفيين، وهو كما يبدو مطلبا بعيد المدى والطموح ويناقض إلى حد ما مغربة بلاد الريف، ومن ثم سيناقض ويعارض بدون شك مطلب مغربة الإدارة وتعريبها، الذي يقصد هنا بالدرجة الأولى إدارة الريف، وبالتالي فإن هذا المطلب الأخير هو مطلب مستبعد جدا أن يكون قد صدر من ثوار الريف، ونفس الشيء يقال عن هذين المطلبين المنسوبين إلى حركة التحرير والإصلاح الريفية، أي تحقيق وحدة وطنية والعمل على إحياء الجمهورية الثانية باسم الجمهورية المغربية، وبخصوص المطلب الأخير لا نفهم كيف وصل المصريون إلى أن أطلقوا عليه الجمهورية الثانية ونستغرب من ذلك أكثر إذا كانوا قد قصدوا بالجمهورية الأولى -طبعا العربية بالنسبة إليهم- هي الجمهورية الريفية الأمازيغية التي كانت مستقلة عن بلاد المخزن المغربي. صحيح أن ثوار الريف في نهاية سنة 1958 وبداية سنة 1959 لم يكونوا يطالبون بمغربة ومخزنة الريف وتوحيد إدارته مع إدارة المخزن، وإنما كانوا يريدون استقلال المنطقة الريفية كلها عن بلاد المخزن المغربي لأسباب شتى سنعود إلى ذكر أهمها بعد قليل، حيث كان لحركة التحرير والإصلاح الريفية مشروع سياسي كبير وهام جدا يتجلى في إحياء الجمهورية الريفية الأمازيغية الثانية لأسباب وعوامل، هناك أولا عودة وحضور شبح الجمهورية الريفية الأمازيغية التي أسسها مولاي محند في أذهان ومخيلات الريفيين، وهناك أيضا العلاقة التاريخية السوداء والمتوترة دائما بين منطقة الريف ومنطقة المخزن، بحيث لم ير الريفيون من المخزن سوى الشر وكثرة الضرائب والجبايات علاوة على الأعمال الإجرامية و الإرهابية المتتالية والمتكررة منذ أن ظهر هذا الأخطبوط المخزني على الساحة و بالضبط في سنة 1640. ولعل من يتأمل سجل هذا التاريخ الدموي الأسود للمخزن في منطقة الريف منذ قرون طويلة، الذي سنتطرق إليه بعد حين، هذا التاريخ الذي كان حاضرا إذاك في الذاكرة الجماعية عند أهالي الريف، سيجد أن مطالبة سكان الريف بالاستقلال عن الكيان المخزني أو مراكش سابقا، ليس بأمر غريب أو أنه أتى و جاء من باب الصدفة بل كان أمرا ملحا ومطلوبا جدا من قبل شعب الريف الأمازيغي. يقول أحد حكماء أوربا من القرن العشرين »بقدر ما تريد أمة أن تكشف مستقبلها، بقدر ما يجب عليها أن تعمق الحفر عن ماضيها«. فتطورات الأحداث المتسارعة في الريف التي جاءت نتيجة هذا الماضي الأسود الأليم الذي لم يرد منه المخزن المغربي أن ينتهي حتى يومنا هذا من خلال ـ على سبيل المثال ـ الأحداث المؤلمة في تماسينت والإقصاء الممنهج والمتعمد للهوية الوطنية الأمازيغية من مؤسسات الدولة، كان هذا الماضي الأسود الأمازيغوفوبي الحاضر لحد اليوم هو السبب الرئيسي في جعل الثورة الأمازيغية في الريف في نهاية الخمسينات تتجه نحو الانفصال والاستقلال عن المغرب. ولكي نوضح ونبين للقارئ مدى رغبة الريفيين آنذاك في المطالبة والإلحاح على تحقيق الاستقلال عن المخزن المغربي، سنستعرض هنا كرونولوجيا الأحداث المخزنية الدموية بالريف والعلاقة المتوترة وغير الطبيعية بين بلاد الريف وبلاد المخزن انطلاقا من بداية القرن التاسع عشر إلى غاية سنة 1959، حتى نستطيع أن نفهم أكثر لماذا أراد الريفيون في سنة 1959 الاستقلال عن المخزن وحتى نفهم ونعرف في الوقت نفسه بعضا من جوانب تاريخنا المنسي، غير الذي يروج له المخزن، هذا التاريخ الذي يحاول المخزن بكل الوسائل والطرق إقباره وتحريفه وتشويه صفحاته، يقول أحد حكماء أوربا وفلاسفة القرن التاسع عشر »إن الذين لا يعرفون تاريخهم لمحكوم عليهم بإعادته وتكراره«، وبطبيعة الحال لا يمكننا أن نستعرض هنا جميع الأعمال الإجرامية التي قام بها المخزن في بلاد الريف، هذا البلد الذي كان تاريخيا قائم بالذات مستقلا عن بلاد المخزن من الناحية الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية، وبودنا أن نسجل هنا ما فهمناه من جرمان عياش على أن الريف »منذ ألف سنة على الأقل، لم يسبق له أن خضع للمخزن« (149). (يتبع في العدد القادم)
|
|